فصل في بيان الفرق بين الرسول والنبيّ
ومما يجب ردُّه قول بعضهم: “إن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه” وهذا بعض المتأخرين قاله ولم يقله أحد من المتقدمين بل فسّره المتقدمون بأن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يأت بنسخ بعض شرع من قبله من الأنبياء وأن الرسول والنبي كلاهما مأمور بالتبليغ، فكيف يُعقل أن يكون النبي غير مأمور بالتبليغ والله تعالى يقول: {وما أرْسَلنا مِن قَبْلِكَ من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تَمَنَّى ألقَى الشيطانُ في أمْنِيَّتِهِ} [سورة الحج/52] فإنها تدلُّ على أن كلاًّ من النبي والرسول مأمور بالتبليغ. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ على كل من استطاع من أفراد المكلفين وذلك في حقّ الأنبياء أوْكد، فكيفَ يُقالُ بعدَ هذا إن النبي لم يؤمر بتبليغ ما أنزل عليه. ولا يُغترّ بوجود هذا في القسم الأول من تفسير الجلالين الذي هو للسيوطي.
قال المفسر ناصر الدين البيضاوي في تفسيره [1] ما نصه: “الرسول من بعثه الله بشريعة مجدّدة يدعو الناس إليها، والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام” اهـ.
وقال العلامة كمال الدين البياضي الحنفي في إشارات المرام [2] ما نصه: “فالنبي إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحي إليه، وكذا الرسول،
[1] أنوار التنزيل وأسرار التأويل [4/57].
[2] إشارات المرام من عبارات الإمام [ص/311].
فهو المراد هنا، ولذا اقتصر على الأنبياء” اهـ، وقال في موضع ءاخر من كتابه المذكور [1]: “الثالثة: أن الرسول من جاء بشرع مبتدإ، والنبي من لم يأت به وإن أمر بالإبلاغ كما في شرح التأويلات الماتريدية”، إلى أن قال: “واختاره المحققون وصرّح به البيضاوي في سورة الحج” اهـ.
وقال عصرينا الحافظ أحمد الغماري [2] ما نصه: “الفرق بين النبي والرسول دقيق وقد خفي على كثير من الناس، والمشهور في كتب المتكلمين في الفرق بينهما أن الرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي إنسان أوحي إليه بشرع فلم يؤمر بتبليغه، وهذا كلام جاهل بالسنة والأخبار بل وبصريح القرءان، فإن قول الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلكَ من رسولٍ ولا نبي} [سورة الحج/52] صريح في إرسالهما حقًّا، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة” [3]، والأخبار والأحاديث التي فيها فأوحى الله إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان العابد أو للملك الفلاني أو للقرية الفلانية لا تكاد تنحصر وهذا هو الإرسال، والذي عندنا أن الرسول يفارق النبي في ثلاثة أمور” اهـ. ثم قال: “الثالثة: أن الرسول يبعث بشريعة مستقلة والنبي يبعث بتقرير شريعة من قبله” اهـ.
ومما يدل أيضًا على ذلك قولُ الله تعالى: {وما أرسلنا في قريةٍ من نبيٍّ} [سورة الأعراف/94] الآية أليس هذا الإرسال المذكور في هذه الآية هو إرسالة تبليغ ودعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى،
[1] المرجع السابق [ص/333].
[2] جؤنة العطار [ص/40-41].
[3] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الصلاة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا”.
وكيف يوفق بين هذه الآية وبين قولهم: “إن النبي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه؟ والله تعالى قال: {وما أرْسَلنا في قريةٍ من نذيرٍ إلا قالَ مُتْرَفُوها إنَّا بِما أُرْسِلْتُم بهِ كافِرونَ} [سورة سبإ/34]، وقال تعالى: {وكمْ أرسَلْنا من نبيٍّ في الأوَّلِينَ* وما يأتِيهم من نبيٍّ إلا كانوا بهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [سورة الزخرف/6-7]، نسأل الله تعالى التوفيق من الزلل إنه على كل شئ قدير.
قال المناوي في مقدمة فيض القدير [1] ما نصه: “والرسول والنبي طال فيما بينهما من النسبة الكلام، والمحققون كما قال ابن الهمام كالعضد والتفتازاني والشريف الجرجاني على ترادفهما لا فارق إلا الكتاب” اهـ، ثم قال: “وقال في المقاصد: النبي إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحي إليه، قال وكذا الرسول، قال الكمال بن أبي شريف: هذا ينبئ عن اختياره للقول بترادفهما.
وفي شرح العقائد بعد ما ذكر أنه لا يُقتصر على عدد في تسمية الأنبياء ما نصه: وكلهم كانوا مبلغين عن الله تعالى لأن هذا معنى النبوة والرسالة، قال الكمال بن أبي شريف: هذا مبني على أن الرسول والنبي بمعنى واحد. وقال الإمام الرازي في تفسيره: ولا معنى للنبوة والرسالة إلا أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وفي المواقف وشرحه في السمعيات: النبي من قال له الله تعالى أرسلتك إلى قوم كذا أو إلى الناس جميعًا أو بلغهم عني أو نحوه، ولا يشترط في الإرسال شرط.
وفيه في شرح الديباجة: الرسول نبي معه كتاب، والنبي غير الرسول من لا كتاب معه بل أمر بمتابعة شرع من قبله كيوشع. قال
[1] فيض القدير [1/15-16].
المولى خسرو: تبع -يعني الشريف- صاحب الكشاف في تفسير الرسول، واعتراضه بأنه لا يوافق المنقول في عدد الرسل والكتب إذ الكتب نحو مائة والرسل أكثر من ثلاثمائة مدفوع بأن مراده بمن معه كتاب أن يكون مأمورًا بالدعوة إلى شريعة كتاب سواء أنزل على نفسه أو على نبي ءاخر. قال: والأقرب أن الرسول من أنزل عليه كتاب أز أمر بحكم لم يكن قبله وإن لم ينزل عليه كتاب، والنبي أعم لما في ذلك من النقص عما أورد على الأول من أنه يلزم عليه أن يكون من بعث بدون كتاب ولا متابعة من قبله خارجًا عن النبي والرسول معًا، اللهم إلا أن يقال إنه لا وجود لمثله. انتهى.
وقال الشيباني في شرح الفقه الأكبر: الرسول من بعث بشرع مجدّد، والنبي يعمه ومن بعث بتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين بين موسى وعيسى، ومن ثم شبّه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم.
ثم قال: “وقال الصفوي: اختار بعض المحققين أن الرسول نبي أتاه المَلَك وقيل جبريل بوحي لا نوم ولا إلهام، والنبي أعم، واعترض بعدم شموله لما لم يكن بواسطة كما هو ظاهر المنقول في موسى قبل نزول الملك عليه ورفعه بأنه يصدق عليه أنه أتاه في وقت لا ينجح إذ يلزم أن يكون النبي قبل البعثة رسولاً حقيقة ولا قائل به.
وقد أفاد ما قرره المحققان التفتازاني والجرجاني أن مجرد الإيحاء لا يقتضي النبوة، إنما المقتضي لها إيحاء بشرع وتكليف خاص، فخرج من بعث لتكميل نفسه كزيد بن نفيل، ومن ثم قيل ونعم ما قيل: يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي وهو باطل وإلا لزم نبوة نحو مريم وءاسية، والتزامه شاذ.
وما أورد على التفتازاني من أن قوله: النبي من بعث لتبليغ ما أوحي إليه أنه لا يشمل المبعوث إليه لتبليغ ما أوحي لغيره كما في
بني إسرائيل. أجيب بأنه مأمور بتبليغ ذلك وهو مما أوحي إليه، أو أن شرع غيره المشير إليه فيما أوحى إليه في الجملة.
ومن هذه النقول اللامعة والمباحث الجامعة عرف صحة عزو العلامة ابن الهمام القول بالترادف إلى المحققين وأن الإمام الشهاب ابن حجر قد انحرف هنا عن صوب الصواب حيث حكم على من زعم الاتحاد بالغلط، ونسب الكمال بن الهمام إلى الاسترواح في نقله والسقط، ثم قال: إن الذي في كلام أئمة الأصوليين خلاف الاتحاد، قال: رأي المحققين خلاف هؤلاء، فإن أراد أن محققي أئمة الأصوليين خلاف العضد والتفتازاني والجرجاني وأن هؤلاء ليسوا بمحقّقين فهذا شئ لا يقوله محصّل، وإن أرادهم فهذه نصوصهم قد تليت عليك، ولسنا ننازعه في أن المشهور بين الفقهاء ما ذكره الحليمي من التغاير وأن الفارق الأمر بالتبليغ إنما الملام في إقدامه على تغليط ذلك المحقق ونسبته إلى الغفول عن كلام المحققين من رأس القلم” انتهى كلام المناوي.
وقال الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في أصول الدين [1] ما نصه: “والفرق بينهما -أي النبي والرسول- أن النبي من أتاه الوحي من الله عز وجل ونزل عليه الملك بالوحي، والرسول من يأتي بشرع على الابتداء أو ينسخ بعض أحكام شريعة قبله” اهـ.
وقال القونوي النسفي في القلائد شرح العقيدة الطحاوية [2] ما نصه: “والفرق بين النبي والرسول أن الرسول من بعثه الله تعالى إلى
[1] أصول الدين [ص/154].
[2] القلائد شرح العقائد [ص/83].
قوم وأنزل عليه كتابًا أو لم ينزل لكن أمره بحكم لم يكن ذلك الحكم في دين الرسول الذي كان قبله، والنبي من لم ينزل عليه كتابًا ولم يأمره بحكم جديد بل أمره بأن يدعو الناس إلى دين الرسول الذي كان قبله” اهـ.
فائدة: قال الله تعالى: {وما أرْسَلْنا مِن قبلِكَ من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تَمَنَّى} [سورة الحج/52] الآية، فالله تعالى قال {أرسلنا}، ثم في الآية {من رسول ولا نبي} إطلاق الإرسال على النبي والرسول ويكفي هذا دليلاً على أن النبي يبلغ وعلى بطلان قول من يقول إن النبي ليس مأمورًا بالتبليغ. ثم لا معنى للإرسال بدون الأمر بالتبليغ، فالرسول والنبي كلاهما مأموران بالتبليغ إنما الفرق بينهما بما سوى ذلك كالذي ذكره الإمام عبد القاهر بن طاهر التميمي الذي قال فيه ابن حجر الهيتمي: “الإمام الكبير إمام أصحابنا”، وهذا الذي عليه المتقدمون فلا عبرة بالرأي الذي ذكره بعض المتأخرين المخالف للنص ولما قاله المتقدمون.