القسم الثاني: التحذير الشرعي من بعض ما في كتب
* ومما يجب الحذر منه ما جاء في كتاب “إحياء علوم الدين” ونصه [1]: “وفي الحديث من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل” اهـ، وهذا كذب على الرسول فإن الرسول لا يقول: “من قال أنا مؤمن فهو كافر”، ولا يقول: “من قال أنا عالم فهو جاهل”، بل اشتهر حديث عند الصوفية وهو حديث حارثة بن مالك أن الرسول عليه السلام لقيه ذات يوم فقال له: “كيف أصبحتَ يا حارثة” قال: “انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة” قال: “عزَفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربي بارزًا وكأني بأهل الجنة يتزاورون فيها وكأني بأهل النار يتعاوَون فيها” قال: “عرفتَ فالزم عبدٌ نوَّرَ الله الإيمانَ في قلبه”.
وهذا الحديث متادوَل بين الصوفية [2] وفيه أن الرسول لم ينكر على حارثة قوله: “أصبحت مؤمنًا حقًّا” فكيف هذا الحديث الذي فيه ضد ما عليه الصوفية وغيرهم، هذا تكفير للمسلم بغير سبب وهذا أمر عظيم لأن فيه إخراج المسلم من الإسلام من غير سبب. وإن كان راو من رواة هذا الحديث [3] يعني حديث حارثة ضعيفًا ضفعًا خفيفًا، وهو في فضائل الأعمال يُعمل به وهذا مقرر عند المحدثين، ومعناه صحيح، بل قول المؤمن: “أنا مؤمن” مما عُلم من الدين جوازه بالضرورة، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما ما فيه –يعني الإحياء- في موضع ءاخر من قوله [4]: “إن الصحيح أن الرسول لم ير ربه ليلة المعراج” فهو قولٌ قال به بعض الصحابة، وهو خلاف المشهور بل الصحيح المشهور أن الرسول رأى ربه ليلة المعراج.
وقد ذكر العلماء أن كتاب “الإحياء” لا يعتمد عليه في الحديث لذكره في كتابه المذكور جملة من الأحاديث الموضوعة وهي نحو ثلاثمائة حديث. قاله تاج الدين السبكي وسردها في بعض مؤلفاته فلتنظر طبقات الشافعية الكبرى له [5].
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني ما نصه [6]: “قال الإمام العلامة عمر بن محمد الإشبيلي الأشعري رضي الله عنه في كتابه المسمى بلحن العوام: “وليُحذر من العمل بمواضع من كتاب الإحياء للغزالي ومن كتاب النفخ والتسوية له وغير ذلك من كتب الفقه فإنها إما مدسوسة عليه أو وضعها أوائل أمره ثم رجع عنها كما ذكره في كتابه المنقذ من الضلال” اهـ.
* ومما يجب التحذير منه ما في كتاب “جواهر البحار” المنسوب للشيخ يوسف النبهاني المتوفى في بيروت في منتصف القرن الرابع عشر الهجري فإن فيه أن من أسماء الرسول “الله” نقلاً عن عبد الكريم الجيلي، ذُكر هذا الكلام في هذا الكتاب من غير رد إلا أنه أتبعه بكلمة خفيفة وهي: “ظاهر هذا لا يخفى على الشيخ عبد الكريم”، وعبارة النبهاني التي ساقها في هذا الكتاب: “ومن جواهر الإمام العارف بالله عبد الكريم الجيلي أن من أسمائه صلى الله عليه وسلم: الله والرحمن والقدوس” اهـ، وهذا لا يجوز نقله وذكره إلا على وجه الرد والإبطال، فلو لم يكن في هذا الكتاب إلا هذا لكفاه في التحذير منه.
* وكذلك ما ذكره في كتاب له سماه “سعادة الدارين” نقلاً عن شيخ من الحضارمة ولعله ذكر أنه في المنام سأل الرسول أن يحدثه بحديث لم يحدث به غيره فذكر له أن من شرب البُن يكون له كذا وكذا كأنه قال تستغفر له الملائكة ما دامت رائحته في فمه أو كلمة نحوها.
وفي الاستخارة بتعديد هذه الكلمات: “الله، محمد، علي، أبو جهل” وذلك بأن يُمسك السبحة من غير أن يعد ويقول: الله. محمد. علي. أبو جهل فإن صادف ءاخر ذلك المقدار من السبحة لفظ الجلالة نجحت الحاجة بزعمه، وإن وقف عند اسم محمد كذلك نجحت الحاجة، وإن وقف عند اسم علي كذلك الحاجة ناجحة، وإن وقف عند اسم أبي جهل فهذه الحاجة غير ناجحة فيُعرض عنها ولو ظهر له فيها ربح كبير وفائدة كبيرة، وكل هذا باطل يجب التحذير منه، وهذه أشد فسادًا من المذكورة قبل لأن هذا من قبيل الكهانة والكهانة من المحرمات من الكبائر.
* ومما يجب التحذير منه ما في كتاب “بغية المسترشدين” لعبد الرحمن باعلوي الحضرمي من أنه لا يجوز تزوّج غير الشريف بالشريفة إلا أن يُخشى منها الفساد، وهذا الكلام مخالف لإجماع علماء الإسلام، ويكفي في ذلك تزويج سيدنا عمر رضي الله عنه بأم كلثوم بنت سيدنا علي أخت الحسن والحسين رضي الله عنهم [7]. وتحريم هذا كفر لأنه معلوم من الدين بالضرورة جواز زواج غير الشريف بالشريفة، ولم ينكره أحد غيره في هذه القرون الأربعة عشر بين المسلمين.
* ومما يجب التحذير منه ما في كتاب “تحفة المحتاج لشرح المنهاج” من “أن الولي إذا قال أنا الله وأوَّل بتأويل مقبول لا يُحكم بكفره”.
قلت: قوله “أنا الله” لا تأويل له بل هو كفر صريح، فأي إنسان يقول عن نفسه أنا الله فهو كافر إلا أنه إذا خرج هذا الكلام من ولي مجذوب في حال غيبته لا يُكفّر لأن الولي في حال الغيبة غيرُ مكلف وحكمه حكم المجنون حتى يعود إلى صحوته.
وصاحب هذا الكتاب هو ابن حجر الهيتمي قال في غير كتابه هذا نقلاً عن إمام الحرمين: “من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كُفِّر ظاهرًا وباطنًا”، أراد إمام الحرمين التورية البعيدة أما التورية القريبة وتسمى التأويل القريب فإنه يدفع الكفر عن قائله، فلو كان هذا الكلام يقبل التأويل لم يبق كلام كفري لا يقبل التأويل وفي ذلك تعطيل أحكام الردة.
قال الشيخ يوسف الأدربيلي في كتابه أنوار أعمال الأبرار [8] في كتاب الردة ما نصه: “ومن قال أنا الله مازحًا كفر” اهـ، وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: وهو الصواب، بعد أن سرد أقوالاً من نطق بها يكفر ما نصه [9]: “أو قال: أنا الله ولو مازحًا” اهـ، هذا هو الصواب فإن ابن حجر الهيتمي وافق في كتابه هذا عبارة كتاب الأنوار التي ليس فيها ذكر هذا التأويل الباطل، فما انفرد به ابن حجر في تحفة المحتاج من التأويل باطل لا يلتفت إليه ومن عمل به فهو كافر، وإني لا أجزم بأن هذا الكلام من ابن حجر إذ يحتمل أنه دس من بعض النساخ.
وقد حصل من بعض الدجالين في حلب الذين يدّعون التصوف والولاية أنه كان يدخل على جماعة ويقول: “لا إله إلا أنا رب العالمين أغفرُ الذنوب” ليوهم الناس أنه من أهل مرتبة خاصة، وهذا مغرور لم يدر أنه كَفَرَ. وقد قال صاحب كتاب أنوار أعمال الأبرار ومؤلفه قبل ابن حجر في كتاب الردة: “من قال أنا الله مازحًا كفر”، وقال الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في فتاويه: “لو كنتً حاكمًا لضربتُ عنق من سمعته يقول لا موجود إلا الله”، وما قُتل الحلاج إلا لأنه قال: “أنا الحق” أي أنا الله لأن الحق اسم من أسماء الله فكفّره القاضي أبو عمر المالكي في بغداد ونفذ الخليفة حكمه فقُطعت يداه ورجلاه ثم قُطعت رقبته ثم أُحرقت جثته ورُمي رماده في نهر دجلة، وكان للحلاج أتباع اتبعوه في الضلال فنكّل الخليفة المقتدر بالله العباسي رحمه الله هذا التنكيل الشديد حتى يرتدع أتباعه لكن بعض أتباعه بقي على العناد فإنهم افتروا وقالوا في اليوم الثاني من قتل الحلاج: “إنه ظهر لنا عيانًا وقال: أتزعمون كما يزعم هؤلاء البقر أني قُتلت وصُلبت إنما قُتل شبهي”، وافترى بقوله: “إن دم الحلاج جرى على الأرضِ فكتب لا إله إلا الله الحلاج ولي الله” وهذا لم يحصل.
والحلاج ذكره أبو عبد الرحمن الحافظ السلمي الصوفي في كتاب طبقات الصوفية فقال رضي الله عنه [10]: أكثر الصوفية نفوه –أي أنكروا الحلاج- واعتد به أربعة وذكرهم بأسمائهم منهم أبو عبد الله بن خفيف.
وذكر الخطيب البغدادي [11] أن الحلاج جاء إلى الجنيد مرة فسأله عن شئ فلم يجبه وقال: “إنه مدع”، وقال الحافظ أبو بكر الخطيب الغدادي إن الجنيد رضي الله عنه قال للحلاج: “لقد فتحتَ في الإسلام ثغرةً لا يسدها إلا رأسك”.
وقال بعض العلماء إن الحلاج كان غائب العقل فلم يكفروه، وقال بعض الصوفية: إن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه اعتبره سكران غائب العقل، وأما سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه فقال عن الحلاج: “لو كان على الحق ما قال أنا الحق”.
فمن أراد الاطلاع الواسع في أمر الحلاج فليطالع عنه كتاب “تاريخ بغداد” للحافظ الخطيب البغدادي فإنه نقل عن ابن الحلاج في أبيه أمورًا شنيعة، وليطالع كتاب “طبقات الصوفية” لأبي عبد الرحمن السلمي الصوي نفوا الحلاج ولم يعدوه منهم، وقول الجنيد رضي الله عنه للحلاج: “لقد فتحتَ في الإسلام ثغرة لا يسدها إلى رأسك” من جملة فراسته وهي كرامة له لأن الحلاج بقتله خفت الفتنة التي هو سببها.
أما أنا فأقول ولله الحمد: نحن مع الصوفية الحقيقية الجنيد رضي الله عنه ومن سار على قدمه، قال رضي الله عنه: “التصوف صفاء المعاملة مع الله” اهـ، وقال: “ما أخذنا التصوف بالقال والقيل ولكن أخذناه بالجوع والسهر وترك المألوفات والمستحسنات”، وقال رضي الله عنه: “الطريق إلى الله مسدودة إلا على المقتفين ءاثار رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وكلام الإمام الجنيد يُبطل قول بعض الناس الذين يدّعون التصوف ولم يفهموا حقيقة التصوف إذا كُلموا بحق يخالف هواهم: “نحن أهل الباطن وأنتم أهل الظاهر فلا نتفق”، وهؤلاء خطر طبير على الناس لأنه كلما أنكر عليهم منكر بحق يعرضون بقولهم هذا: “أنتم أهل الظاهر ونحن أهل الباطن فلا نتفق”، إنا لله وإنا إليه راجعون.
* ومما يجب الحذر منه بعض ما ذكره البيجوري في “شرح جوهرة التوحيد” [12] وهو قوله: “ينبغي للمريض أن يقول ءاه لأنه ورد أنه من أسماء الله” وهذا باطل مردود وذلك لما ثبت عن النبي في قول “ءاه ءاه” عند التثاؤب فقد روى الترمذي وابن المنذر في كتابه “الأوسط” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [13]: “العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، وإذا قال ءاه ءاه فإن الشيطان يضحك من جوفه”، والحديث عند الترمذي بلفظ: “فإنما ذلك من الشيطان يضحك منه”.
ولم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع أن ءاه اسم من أسماء الله وإنما الذي ورد بإسناد تالف ساقط ما رواه الرافعي في “تاريخ قزوين” أن عائشة رضي الله عنها قالت: “دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي مريض يئن فقال: دعوه يئن فإن الأنين اسم من أسماء الله”، والأنين ألفاظ عدة نحو عشرين كلمة سردها الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح القاموس [14] وعدّ من ألفاظ الأنين: “أوَّه، وءاوُوه، وأوُّوه، وءاوياه، وأوَّتاه، وأوَّاه كشداد، وءاه، وأه، وءاهِ بكسر الهاء” ثم قال: “فهن اثنتان وعشرون لغة كل ذلك كلمة تقال عند الشكاية أو التوجع والتحزن” اهـ.
ثم إن علماء اللغة لم يذكر واحد منهم أن واحدًا من هذه الألفاظ اسم من أسماء الله، فكيف خصوا هؤلاء الذين يذكرون هذا اللفظ إذا عملوا حضرة ذكر عند وقوفهم وقيامهم متماسكين بالأيدي واهتزازهم مع التثني والتكسر “ءاه” من بين الكلمات العديدة!!. والمذكور في هذا الحديث الموضوع لفظ الأنين وليس لفظ “ءاه” فمقتضى احتجاجهم بهذا الحديث الموضوع أن يكون ءاه، وءواه، وأوّتاه وغيرها أن يكون كل هذا اسم من أسماء الله، ولا يقولون بذلك إنما يقولون عن ءاه بفتح الهمزة ممدودة وإسكان الهاء فقط.
يكفي دليلاً على عدم كونه اسمًا لله اتفاق المذاهب الأربعة على أن الأنين يبطل الصلاة.
وأما قول العزيزي [15] شارح الجامع الصغير عند إيراد السيوطي هذا الحديث: “دعوه يئن فإن الأنين من أسماء الله”: “قال الشيخ: حديث حصن لغيره” اهـ، فلا معنى له لأن شيخ العزيزي هو محمد حجازي الشعراني لا ذكر له ولا للعزيزي في طبقات المحدثين، أما كتاب “الجامع الصغير” فليس من الكتب التي جُردت للصحيح والحسن وفيه الكثير من الصحيح والكثير من الحسن والكثير من الضعيف وفيه من الموضوع قليل.
وقد حكم بوضع حديث الأنين المحدث الحافظ أحمد بن الصديق الغماري في كتاب “المغير على الجامع الصغير” [16]، وأفرد له رسالة مستقلة.
ثم إن إدخال “ءاه” في حال الذكر عند الشاذلية شئ استحدثه شاذلية فاس وليس من عند الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، قال ذلك شيخ الشاذلية في المدينة المنورة الشيخ محمد ظافر المدني رحمه الله في رسالة له.
وقد ظن بعض جهلة المتصوفة أن معنى “أواه” أن إبراهيم كان يذكر بآه وهذا غير صحيح، فإن الأواه من يُظهر خشية الله تعالى كما ذكر الراغب الأصفهاني في المفردات، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: “الأواه: الرحيم” رواه ابن أبي حاتم [17] بإسناد حسن.
وفي هذه الحاشية مما يجب التحذير منه أعني حاشية البيجوري أبيات عزاها للغزالي [18] وليست من كلام الغزالي، ءاخرها كلام هو خلاف عقيدة أهل السنة وهو هذا البيت:
وهو فوقَ الفوقِ لا فوقَ له *** وهو في كلّ النواحي لا يزول
فهذه الجملة “وهو في كل النواحي لا يزول” خلاف عقيدة أهل السنة فإن أهل السنة يعتقدون أن الله موجود بلا مكان ولا جهة لأنه كان قبل المكان والجهة موجودًا وبعد خلق المكان والجهة لم يزل موجودًا بلا جهة ولا مكان.
وأما الشطر الأول فهو: “وهو فوق الفوق لا فوق له” إن أريد به الفوقية الحسية فهو إثبات الجهة والمكان لله، وإن أريد به فوقية القدرة والقهر فلا ينافي العقيدة لكنه ليس من كلام أهل السنة، والمذكور في القرءان {وهُوَ القاهِرُ فوقَ عِبادِهِ} [سورة الأنعام/18] وقد فُسِّر بأنه قاهر، وهو فوق عباده فوقية القدرة لا فوقية الجهة والحس لأن وصف الله بالتحيز في الجهة والمكان والفوقية الحسية تشبيه له بخلقه، لأن الخلق قسم منه متحيز في جهة فوق كالعرش والملائكة الحافين من حوله، وقسم منه متحيز في جهة تحت كالبشر والجن والبهائم والله تعالى لا يشبه شيئًا من خلقه ولا يتصف بشئ من صفات خلقه إنما حروف أسمائه وصفاته موافقة لأسماء خلقه وصفاتهم، فالله موجود بذاته أي وجوده أزلي ليس حادثًا ليس غيرُه أوجده، وأما العالم فيقال موجود بإيجاد الله تعالى له، فوجود العالم وجود ثابت ليس ذاتيًا بل حادث بقدرة الله، الله تعالى هو أخرج العالم من العدم فجعله موجودًا، فهذا الكتاب بإيراده لهذا البيت هدم عقيدة أهل السنة.
ومما يُحذر مما في هذا الكتاب قوله: “إن الصحيح أن المعتزلة لا يُكفَّرون” اهـ، والمعتزلة هم الذين يقولون: “إن الله كان قادرًا على أن يخلق حركات العباد وسكونهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها ولما أعطاهم القدرة عليها صار عاجزًا”، فكيف لا يُكفَّر هؤلاء مع نسبتهم العجز إلى الله؟!.
وقولهم هذا ثابت عنهم ذكره الإمام أبو منصور الماتريدي في كتاب “التوحيد” [19]، وذكره الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي الأشعري في كتابه “التبصرة الشرقية” [20]، وإمام الحرمين في كتاب الإرشاد [21]، والإمام أبو سعيد المتولي في كتابه “الغنية” [22]، والإمام أبو الحسن شيث بن إبراهيم المالكي في كتابه “حز الغلاصم في إفحام المخاصم” [23]، وقد قال الحافظ الفقيه اللغوي الحنفي محمد مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين [24]: “لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة” أي لقولهم بأن العبد يخلق أفعاله، وكذلك قال أبو منصور البغدادي: “إن أصحابنا مجمعون على تكفير المعتزلة”، ومراده من ثبت عنه القول بهذه المقالة التي هي أصل عقيدتهم “إن العبد يخلق أفعاله بقدرة أعطاه الله إياها استقلالاً”.
وقد أجاد الكلام في هذه المسألة الحافظ الفقيه سراج الدين عمر البلقيني فأفاد أن قول الشافعي: “أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية” بأن مراد الشافعي من لم تثبت بين أهل الأهواء في حقه قضية معينة تقتضي كفره، يعني أن الشافعي لا يقول بقبول شهادة من ثبتت في حقه قضية معينة تقتضي كفره من أهل الأهواء أي المعتزلة وغيرهم ممن خالفوا أهل السنة في العقيدة.
وبهذا الذي ذُكر يُعلم أن بعض الشافعية أساؤوا التعبير في كتاب صلاة الجماعة بقولهم: “يصح القدوة بالبدعي الذي لا تؤدي بدعته إلى كفر” مع التمثيل لذلك بالمعتزلة.
ومعنى كلام البلقيني أن المعتزلة وغيرهم من أهل الأهواء قسم منهم لا يقولون بمقالاتهم التي تؤدي إلى الكفر إنما يقولون ببعض مقالاتهم التي لا تقتضي التكفير، لأن المعتزلة لهم مقالات عديدة وأشدها فسادًا قولهم: “إن العبد يخلق أفعاله بقدرة أعطاه الله إياها استقلالاً”، ومن مقالاتهم التي لا يكفر من شاركهم فيها عدم رؤية الله للمؤمنين في الجنة، وقولهم بخلود مرتكب الكبيرة إذا مات بلا توبة، وقولهم بنفي الشفاعة لأهل الكبائر فإن هذه المقالات من كان متأولاً فيها لا يُكفَّر.
تنبيه: المعتزلي الذي ثبت في حقه قضية يَكفُر بها كُفِّرَ لا محالة أما الذي لم يثبت في حقه قضية مكفرة غير أنه ينتسب إليهم فلا يكفر، وهذا مراد الشافعي رضي الله عنه في قوله: “أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية” كما قال الحافظ الفقيه الشافعي سراج الدين البلقيني في حاشيته على روضة النووي رادًّا على قول النووي: “إنه يجوز الاقتداء بالمعتزلة لأن المسلمين لم يزالوا يصححون الزواج منهم والموارثة” فقال البلقيني: “الصواب عدم صحة الاقتداء بهم” أي لصلاة الجماعة، وقال: إن أكابر أصحاب الشافعي على خلاف ما قال النووي اهـ. وذكر الإمام عبد القاهر بن طاهر البغدادي اتفاق أصحاب الشافعي على عدم صحة الاقتداء بالمعتزلة، فعلم أن المذهب عدم صحة الاقتداء بهم لا ما ذكره النووي وأمثاله.
واحتج البلقيني بقول الشافعي لحفص الفرد المعتزلي: “لقد كفرت بالله العظيم” فإن الشافعي ناظره على قوله: “القرءان مخلوق” ورد تأويل من أوَّل قول الشافعي لحفص الفرد بكفران النعمة، وهذا هو المتعين لحمل كلام الشافعي لحفص أنه أراد أنه كَفَرَ كُفر جحود، ويدل على ذلك أن عبد الرحمن بن أبي حاتم روى هذه الحكاية عن الربيع بن سليمان المرادي وكان حضر مناظرة الشافعي لحفص أن الربيع قال: قطعه الشافعي وكفَّره” وقال: إن حفصًا قال: أراد الشافعي قتلي.
وتكفير الشافعي حفصًا بقوله: “القرءان مخلوق” لأن المعتزلي إذا قال القرءان مخلوق يريد بذلك أن الله تعالى ليس له كلام قائم بذاته إلا كلامًا يخلقه في خلقه، فكلام الله عندهم هو كلامٌ يخلقه الله بألسنة جبريل وغيره من ألفاظ القرءان وما سمعه موسى من الشجرة، أما لو كان يعتقد أن القرءان بمعنى اللفظ المنزل مخلوق وهو عبارة عن كلام الله الذاتي الذي ليس حرفًا وصوتًا لم يكفره الشافعي لأن هذا معتقد أهل السنة فإنهم ينزهون الله عن أن يكون متكلمًا بحرف وصوت كما يتكلم الخلق، ويرون القرءان عبارة عن كلام الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا لا عين كلامه، ومع ذلك يحرمون إطلاق هذه الكلمة “القرءان مخلوق” لأنها توهم أن كلام الله الذي هو صفة ذاته مخلوق.
فائدة: أما الخليفة المعتصم بالله الذي أيد المعتزلة في هذا اللفظ وعذب الناس الممتنعين من قول القرءان مخلوق كالإمام أحمد فإنه سلط عليه مائة وخمسين جلادًا ضربوه في ليلة واحدة ومع هذا لم يكفره بل خاطبه بقوله: “يا أمير المؤمنين” فإنه لم يوافقهم في نفي الكلام الذي هو صفة من صفات الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ككلام الخلق، فهو أي المعتصم وأخواه اللذان أيدا هذه العبارة لم يكونا موافقين للمعتزلة في نفي صفة الكلام عن الله فلهذا الخلفاء الثلاثة لا يكفرون بقولهم: “القرءان مخلوق” لأنهم أرادوا اللفظ المتلو وإلا فهم يعتقدون أن الله له كلام قائم بذاته ليس ككلام المخلوقين بالحرف والصوت، فالحرف والصوت مخلوقان حادثان والله منزه عن كل صفة حادثة لأنه لو كان تقوم به صفة حادثة لكان مخلوقًا، أليس من أكبر دلائل حدوث العالم أنه تقوم به صفة حادثة والصوت حادث لا محال، فمن احتج بقول الإمام أحمد للخليفة المعتصم بالله: “يا أمير المؤمنين” لترك تكفير المعتزلة فقد زاغ عن الصواب.
واحتج البلقيني رحمه الله لقوله “إن الشافعي ما أراد بقوله لحفص لقد كفرت بالله العظيم كفران النعمة” بأن الدليل الخاص مقدم على الدليل العام، فقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات كون أحد الدليلين خاصًّا والآخر عامًا. وبيان ذلك أنه ثبت عنه قوله: “أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية”، وقوله لحفص: “لقد كفرتَ بالله العظيم” مريدًا به كفران الجحود لكن الأول مؤول بما مر ذكره من أنه أراد بذلك من لم تثبت عليه قضية معينة تقتضي كفره من بين أهل الأهواء.
والحاصل أن أهل الأهواء وهم المبتدعون في الاعتقاد من خوارج ومعتزلة وجهمية ونجارية وجبرية ومرجئة وغيرهم يكفر من ثبت في حقه قضية معينة تقتضي كفره، وأما من لم تثبت قضية معينة تقتضي كفره فلا يكفر فإن المعتزلة ليس كل فرد منهم يعتقد كل ما يعتقده الآخر بل فيهم من يقول بخلق القرءان ولا يقول بخلق العبد أفعاله، وفيهم من لا يعتقد إلا تكفير مرتكب الكبيرة ولا يعتقد أن العبد هو خالق أعماله، لا يعتقد أن الله ليس له كلام قائم بذاته.
* ومما يجب الحذر منه مقالة في كتاب “المسايرة” وكتاب “التحرير” اللذين هما للكمال بن الهمام والعبارة هي: “أن العبد يخلق شيئًا واحدًا من سائر أفعاله وتروكه وهو العزم المصمم” وهذا عين عقيدة المعتزلة أن العبد يخلق أفعاله لكن الفرق بين هذه المقالة ومقالة المعتزلة أن المعتزلة عمَّموا فقالوا: “كل أفعال العباد والبهائم والحشرات الاختيارية بخلق المخلوقات ليست بخلق الله” وهذا خلاف مذهب أهل السنة أنه لا يخلق أحد شيئًا أي لا يخرجه من العدم إلى الوجود إلا الله، لا يستثنى عندهم شئ مما يفعله العباد بإرادة منهم. وقد صرح الإمام أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه والإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي بأن ذلك شرك. وهذا الكلام المذكور على ما في نسخة من كتاب “المسايرة” وكتاب “التحرير” ويحتمل أن لا يكون هذا في أصل المؤلف الكمال بن الهمام، فيحتمل أن يكون مدسوسًا عليه لأنه معروف بالتحقيق.
* ومما يجب التحذير منه ما وجدناه في نسخ مطبوعة من كتاب “رد المحتار على الدر المختار” في كتاب الطهارة من أنه يجوز كتابة الفاتحة بالدم والبول إن عُلم منه شفاء، والظن بالشيخ ابن عابدين أنه بريء من هذا لأنه مذكور في كتاب الجنازة من هذا الكتاب ما ينقض هذا من المنع من كتابة “يس” و”الكهف” ونحوهما على الكفن خوفًا من صديد الميت قال وقد وأفتى ابن الصلاح بأنه لا يجوز أن يكتب على الكفن يس والكهف ونحوهما خوفًا من صديد الميت اهـ، ثم قال فالأسماء المعظمة باقية على حالها فلا يجوز تعريضها للنجاسة اهـ، ثم قال “وقدمنا قبيل باب المياه عن الفتح أنه تكره كتابة القرءان وأسماء الله تعالى على الدراهم والمحاريب والجدران وما يفرش وما ذاك إلا لاحترامه وخشية وطئه ونحوه مما فيه إهانة فالمنع هنا بالألولى إلخ”، ولأنه نقل في ثَبَتِهِ عن شيخه العقاد أنه قال: “ولا يجوز كتابتها –يعني الآية- بدم الرعاف كما يفعله بعض الجهال لأن الدم نجس فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى” اهـ.
واللائق بالشيخ ابن عابدين ما نقله عن شيخه العقاد وهو الموافق لقول الله تعالى: {ومَن يُعَظِّم شعائِرَ اللهِ فإنَّها من تقوى القلوب} [سورة الحج/32]، فوجب التحذير من تلك المقالة ولا يبعد أن تكون مدسوسة على ابن عابدين، ويحتمل أن يكون أوردها مع تزييفها فأسقط بعض الناسخين التزييف ونقلها بدونه فلا يجوز نسبتها إلى ابن عابدين.
* ومما يجب الحذر منه مواضع في تفسير الجلالين وأشدها فسادًا ما في تفسير سورة الحج فإنه مذكور فيه أن الرسول كان يقرأ سورة النجم بمجلس من قريش فلما بلغ {أفَرَءَيتُمُ اللاتَ والعُزَّى* ومَنَواةَ الثالثةَ الأخرى} [سورة النجم/19-20] ألقى الشيطان على لسانه من غير علمه “تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى” فقرأ هذه الكلمات ففرح المشركون وكانوا بالقرب منه مع المسلمين وقالوا: ما ذكر ءالهتنا بخير قبل اليوم، فجاء فجاء جبريل وقال له: هذا ليس من القرءان، فحزن رسول الله وأنزل الله الآية التي في سورة الحج تسلية له {وما أرسَلنا من قبلِكَ من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تَمَنَّى ألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِهِ} [سورة الحج/52]. وهذه الرواية غير صحيحة وحصور قراءة شئ غير القرءان على ظن أنه قرءان مستحيل على الرسول فهو معصوم من ذلك، وقد استفظع الفخر الرازي هذا التفسير وقال من اعتقد هذا كفر.
والتفسير الصحيح أن كلاًّ من الأنبياء كان يقرأ على قومه ثم الشيطان يلقي إلى الناس كلامًا غير الذي يقرءونه ليفتنهم فينسخ الله ما يلقي الشيطان ويثبت ما يقرءونه.
والموضع الثاني الذي يجب الحذر منه في هذا التفسير ما ذكر في تفسير الآية: {ولقدْ هَمَّتْ بهِ وهمَّ بها لولا أن رَّءَا بُرهانَ ربِِّهِ} [سورة يوسف/24] فإنه مذكور أن يوسف عليه السلام هم بها أي قصد الزنا بها وهذا غلط شنيع يخالف نزاهة الأنبياء فيستحيل على نبي من الأنبياء قصد الزنا كما يستحيل عليه فعله، وإنما المعنى أن يوسف عليه السلام أراد أن يدفعها عنه والمرأة أرادت أن تدفعه ليزني بها إذا ألقته على الأرض، وهذا التفسير لهمه وهمّها أحسن تفسير ألهمه بعض علماء المغرب، ذكره صاحب المعيار.
والموضع الثالث في تفسير الجلالين هو تفسير قوله تعالى: {فلمَّا ءاتاهُما صالحًا جعَلا لهُ شُركاء} [سورة الأعراف/190] في النصف الأول من هذا التفسير يقول المفسر إن ءادم وحواء وافقا إبليس في أمره لهما بتسمية المولود الذي يأتيهما “عبد الحارث” وهذا لا يليق بآدم أن ينخدع للشيطان إلى حد الإشراك، ويستحيل ذلك على نبي من الأنبياء أن يشرك بالله قبل النبوة وبعدها، والمعنى الصحيح لهذه الآية أن الأب والأم من ذرية ءادم وحواء بعضهم أشركوا بدل أن يشكروا الله بطاعته ويدل ءاخر الآية على ذلك وهو قوله تعالى: {فتَعالى اللهُ عمَّا يُشرِكون} [سورة الأعراف/190].
والموضع الرابع هو تفسير النعجة المذكورة في ءاية: {إنَّ هذا أخي لهُ تسعٌ وتسعونَ نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقالَ أكْفِلنيها وعزَّني في الخطابِ} [سورة ص/23] يقول المفسر: “لتنبيه داود عليه السلام على ما وقع منه وكان له تسع وتسعون امرأة وطلب امرأة شخص ليس له غيرها وتزوجها ودخل بها”، ثم فسر قوله تعالى: {وظنَّ داودُ أنَّما فتَنَّاهُ} [سورة ص/24] فقال: “أوقعناه في بلية بمحبته تلك المرأة”، فقد أساء المفسر بقوله إن النعجة هي امرأة شخص أُعجب بها داود فعمل حيلة فأرسل زوجها للغزو ليُقتل هناك ثم يأخذها داود وهذا لا يليق بمنصب النبوة، والتفسير الصحيح أن النعجة في هذه الآية هي النعجة الحقيقية وليس المراد بها امرأة، وأما استغفار داود عليه السلام فكان لأجل أنه حكم قبل سؤال الخصم على ما قاله بعض المفسرين.
* ومثله مما يجب التحذير منه كتاب “قصص الأنبياء” للثعالبي ففيه مثل هذه المواضع وزيادة عليها من قصص أخرى مفتراة لا أصل لها كالقصة التي تروى أن الدود كان يتناثر من جسد أيوب عليه السلام في مرضه فصار يردها إلى جسده ويقول لها: “كلي فقد جعلني الله طعامك”، وأن أيوب على زعمه تقطع لحمه وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشًا، نعوذ بالله تعالى من الضلال، فقد أجمع علماء الإسلام على أن أنبياء الله هم صفوة خلق الله علماء حكماء معصومون بعصمة الله فيستحيل على أحدهم أن يضر نفسه لأن حفظ النفس مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء وأجمع عليه العقلاء، ويستحيل عليهم أيضًا الأمراض المنفرة التي تنفر الناس عنهم، وهذه القصة لا تجوز في حق نبي من أنبياء الله وهي كذب، وهي مذكورة أيضًا في بعض التفاسير الغير المعتمدة.
* ومما يجب التحذير منه عبارات في الكتاب المسمى “مكتوبات الإمام الرباني” منسوب للشيخ أحمد الفاروقي السرهندي ففيها ما لا يليق بالشيخ.
ومن هذه المواضع أن أهل الأهواء معذورون، وفي هذا الكلام تهوين أمرهم، وفي موضع ءاخر التصريح بأنهم ضالون وهذا تناقض، وأهل الأهواء من خالف أهل السنة في العقيدة مع الانتساب للإسلام كالخوارج.
وفيه أن مقاتلي علي رضي الله عنه من الصحابة لا ملامة عليهم، وهذا لا يليق بمثل الشيخ الفاروقي أن يقول هذا، كيف وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم بايع الصحابة على أن لا ينازعوا الأمر أهله وقال: “إلا أن تروا كفرًا بوَاحًا”، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم [25]، وقال عليه الصلاة والسلام [26]: “من ءاذى عليًّا فقد ءاذاني” وقال [27]: “من سب عليًَّا فقد سبني” وأي إيذاء قتاله رضي الله عنه.
قال المناوي في شرح الجامع الصغير ممزوجًا بالمتن ما نصه [28]: “[ويح عمار] بالجر على الإضافة وهو ابن ياسر [تقتله الفئة الباغية] قال القاضي في شرح المصابيح: يريد به معاوية وقومه اهـ، وهذا صريح غفي بغي طائفة معاوية الذين قتلوا عمارًا في وقعة صفين وأن الحق مع علي، وهو من الإخبار بالمغيبات [يدعوهم] أي عمار يدعو الفئة وهم أصحاب معاوية الذين قتلوه في وقعة صفين في الزمان المستقبل [إلى الجنة] أي إلى سببها وهو طاعة الإمام الحق [ويدعونه إلى] سبب [النار] وهو عصيانه ومقاتلته. قالوا: وقد وقع ذلك في يوم صفين دعاهم فيه إلى الإمام الحق ودعوه إلى النار فقتلوه، فهو معجزة للمصطفى وعلَمٌ من أعلام نبوته. وإن قول بعضهم: المراد أهل مكة الذين عذبوه أول الإسلام فقد تعقبوه بالرد، قال القرطبي: وهذا الحديث من أثبت الأحاديث وأصحها، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال: إنما قتله من أخرجه فأجابه علي: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، قال ابن دحية: وهذا من علي إلزام مفحم لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها، وقال الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة: أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين أن عليًّا مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له لكن لا يكفرون ببغيهم، وقال الإمام أبو منصور في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السنة: أجمعوا أن عليًَّا مصيب في قتاله أهل الجمل طلحة والزبير وعائشة بالبصرة وأهل صفين معاوية وعسكره اهـ.
تتمة: في الروض الأنُف أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه: رأيتُ الليلة كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل نجوم قال عمر: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر قال: كنتَ مع الآية الممحوة اذهب ولا تعمل لي عملاً أبدًا، فعزله فقتل يوم صفين مع معاوية واسمه حابس بن سعد” انتهى كلام المناوي.
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة حابس بن سعد ما نصه [29]: “ونقل بعض أهل العلم بالأخبار أن عمر قال له: إني أريد أن أوليك قضاء حمص فذكر قصة في رؤياه اقتتال الشمس والقمر وأنه كان مع القمر وأن عمر قال له: كنتَ مع الآية الممحوة لا تلي لي عملاً” اهـ.
والشيخ الفاروقي أشعري وقد قال الإمام أبو الحسن الأشعري: إن الذين قاتلوا عليًّا من الصحابة ءاثمون حتى طلحة والزبير وعائشة وقال: لكن هؤلاء ذنبهم مغفور لأجل البشارة النبوية، وأما غيرهم فمُجَوَّزٌ غفرانه [30] أي أنهم ءاثمون يجوز أن يعذب الله من شاء منهم ويجوز أن يغفر لمن شاء. وهذه المسئلة لم يختلف فيها الإمامان أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي، على أنه يصح أن يقال: كل أشعري ماتريدي وكل ماتريدي أشعري لأنه لا خلاف بين الفريقين في أصول العقيدة إنما الخلاف بينهما في فروع مسائل العقيدة.
ثم إن هذا الكلام موجود في النسخ المترجمة إلى العربية، وأصل الكتاب كان بالفارسية، ولعل المترجم أدخل في الكتاب ما ليس من كلام الشيخ.
* ومما يجب التحذير منه عبارة في كتاب اسمه “الشيخ عبد القادر الجيلاني الإمام الزاهد القدوة” لعبد الرزاق الكيلاني فإن مؤلفه يقول فيه ما نصه [31]: “يقول الشيخ عبد القادر عن صفة الشيخ المرشد: لا يجوز للشيخ أن يجلس على سجادة النهاية ويتقلد بسيف العناية حتى يكمل فيه اثنتا عشرة خصلة اثنتان من صفات الله تعالى وهما: أن يكون الشيخ ستارًّا غفَّارًا” اهـ.
نقول: الشيخ عبد القادر رضي الله عنه بريء من مثل هذه الألفاظ، كيف لا وقد اتفق أهل السنة على أن صفات الله تعالى أزلية أبدية لا تنتقل إلى غيره، فمن ادعى ذلك كفر وذلك لأن الله تعالى موجود أزلي لم يسبقه عدم، أبدي لا يلحقه فناء، وصفاته كذلك، فيستحيل أن يتصف العبد بصفة الرب.
* ومما يجب التحذير منه ما شاع في بعض الكتب وعم عند بعض الناس أن أبا طالب يُخفف عنه العذاب، وهذا باطل مخالف للقرءان لقوله تعالى: {ولا يُخفَّفُ عنهم من عذابها} [سورة فاطر/36]، ومخالف للحديث الصحيح الذي رواه البخاري [32] وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إن عذاب أبي طالب في قدميه يغلي منه دماغ رأسه” فليس في الحديث تعرض للتخفيف عنه.
ويؤيد أنه لا يُخفف عنه قوله صلى الله عليه وسلم: “ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار” [33]، فالقول بأنه يخفف عنه تقوُّل بلا علم وبلا دليل.
* ومما ينبغي التنبه له ما ذُكر في بعض الكتب أنه لا يجوز لعن المسلم المعيَّن، والجواب: أن هذه المسئلة اختُلِفَ فيها فقال قائلون بالتحريم، وقال قائلون بإجازته، والصواب جواز لعن المسلم الفاسق وذلك لحديث [34]: “إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح”، وحديث مسلم [35]: “من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه”، فإن في هذين الحديثين لعنٌ معينٌ، ولحديث مسلم [36] أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى حمارًا قد وُسِمَ في وجهه فقال: “لعن الله من فعل هذا”، ولحديث حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من ءاذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم” رواه الطبراني بإسناد حسن [37].
فإن قيل: هذه الأحاديث لا تعطي اللعن للشخص المعين فالجواب: أن فيه التعيين وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديثين الأولين أن الملائكة تلعنه، وفي الثالث لعن من وسم وجه الحمار وهذا عائد إلى الشخص الذي فعل ذلك الفعل فهذا فيه الرخصة باللعن لمعيّن.
أما القول الأول فهو ضعيف، وممن قال به أبو حامد الغزالي وتبعه بعض الشافعية وغيرهم، أما أصحاب القول الثاني ممن أجاز لعن المسلم المعين فهم مشاهير أهل العلم كالحافظ ابن الجوزي من الحنابلة، والحافظ الفقيه سراج الدين البلقيني الشافعي وخلق غيرهما، وهو القول الصحيح الموافق للنصوص.
ومما يؤيد هذا القول ما جاء عن الإمام علي زين العابدين رضي الله عنه أنه لعن المختار بن أبي عبيد الثقفي عند باب الكعبة، وأجاز الإمام الجليل الورع الثقة أحمد بن حنبل لعن يزيد.
وخلاصة القول أنه يجوز لعن المسلم الفاسق المعين بنية التحذير أو ردعه أي زجره عن ذلك الفعل أو القول، أما لعنه للتفكه بذكر مساوئه فهذا حرام عند الجميع مهما كان غشاشًا أو ظالمًا فلا تجوز غيبته بذكر عيوبه، وهذا لا يختلف فيه الفريقان.
وأما حديث [38]: “لعن المسلم كقتله” فهو محمول على اللعن من غير سبب شرعي، فلا تنافي بين الأحاديث التي أوردناها، وكلها صحيحة بلا خلاف.
وقد غلا بعض الناس فحرم لعن الكافر المعين محتجًا بأننا لا نعلم عاقبته هل يُسلم فيموت مسلمًا أم لا، وهذا لا دليل عليه صريح يحتج به.
* ومما يجب التحذير منه ما في كتاب حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب من قوله [39]: “والضأن لا ينقص بل يزيد وأكله كما قال بعض المشايخ فرض عين مرة وبعدها يصير فرض كفاية” اهـ، وهذا واضح البطلان فإنه لا يجب على الإنسان أكل لحم من اللحوم لا مرة ولا أكثر من ذلك في كل العمر.
* ومما يجب إنكاره ما ذكره بعض الشافعية في كتبهم من أن نبيًّا من الأنبياء نظر إلى قومه فاستكثرهم مُعجبًا بهم فمات في يوم واحد سبعون ألفًا منهم فشكى إلى الله تعالى فأوحى الله إليه: “أنتَ عِنتَهم”، وهذا فيه نسبة ما لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم منزهون عن أن يصيبوا أحدًا بالعين لأن الإصابة بالعين تكون مع الحسد ويتبعها الشيطان وقد ورد ذلك في حديث ثابت ولفظه: “إن العين حق يحضرها الشيطان وحسد ابن ءادم” [40].
* ومما يجب التحذير منه مواضع في كتاب الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي ففيه رده على من أنكر قصة هاروت وماروت الباطلة، وأورد فيه حديث جابر الموضوع من غير تبيين أن هذا الحديث موضوع.
وفيه نسبة القول المكذوب على الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وهو: “قدمي هذه على رقبة كل ولي” وأطال النفَس بإثبات نسبتها إليه ولا صحة لها كما قدمنا، والعجب كيف صحح ابن حجر نسبتها إليه وهي كلمة التعالي والترفع والأولياء أكثر الناس أدبًا مع الله وتواضعًا بعد الأنبياء، وهذه ليست من باب التحدث بنعمة الله.
وفيه ذكر تحريم لعن المسلم المعين، وكل هذه المسائل قد ذكرناها في هذا الكتاب مع إيراد أدلة ردها فلتراجع في مواضعها.
ومما يحذر منه في هذا الكتاب ما ذكره من أن الصحيح أن إبليس كان من الملائكة، قلنا: هذا خلاف الصحيح وهو مردود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خُلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار” [41]، وقد أخبر الله عز وجل أن إبليس لمّا أبى أن يسجد لآدم عليه السلام قال: {أناْ خيرٌ منهُ خلقتني من نارٍ وخلقتهُ من طينٍ} [سورة ص/76]، ثم الملائكة لا يعصون الله تعالى ما أمرهم كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم في القرءان فقال: {عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعصونَ الله ما أمرهم ويفعلونَ ما يُؤمَرون} [سورة التحريم/6] وهذا عام في كل فرد منهم، فوجبت لهم العصمة من المعاصي فلا نخرج عن ذلك لأجل قول يخالف صريح الكتاب والسنة.
ثم من العجب أن ابن حجر ذكر هذا القول مع أنه ذكر قبله في مطلب قصة هاروت وماروت ما نصه: “كما أن إبليس لم يكن من الملائكة وإنما كان بينهم وهو من الجن”.
وفي هذا الكتاب أيضًا مذكور أن الإنسان ينبغي عليه أن يُعرض عن مطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي رضي الله عنه بكل وجه أمكنه، وفي الصحيفة التي تليها يقول بأنها جائزة مطالعتها بل مستحبة، قلنا: بل يحرم إلا على من يميز بين ما فيها من الصواب وغيره، وقد قدمنا القول في التحذير من الدس الذي في كتب الشيخ محي الدين وأن اليهود وضعوا فيه مثل هذه الدسائس، وأن الشيخ رضي الله عنه بريء من مثل هذا.
ومن أبشع ما في هذا الكتاب مما يجب الحذر منه قول ابن حجر أن المعتمد عنده عدم تكفير المجسم أي معتقد أن الله جسم ولو قال إن الله جسم كالأجسام، وجعل ابن حجر هذا القول مذهب الشافعية، وقوله هذا باطل ونسبته هذا الحكم للشافعية غير صحيح فقد قال النووي في شرح المهذب بتكفير المجسم، وقال الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه النوادر: “من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وهو كافر به”، وقال الإمام أبو سعيد المتولي وهو أحد أكابر أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي [42]: “إن قالوا: نحن نريد بقولنا جسم أنه موجود ولا نريد التأليف، قلنا: هذه التسمية في اللغة ليس كما ذكرتم وهي مُنبئة عن المستحيل فلمَ أطلقتم ذلك من غير ورود سمع، وما الفصل بينكم وبين من يسميه جسدًا ويريد به الوجود وإن كان يُخالف مقتضى اللغة. قال أبو سعيد: فإن قيل: أليس يسمى نفسًا؟ قلنا: اتبعنا فيه السمع وهو قوله سبحانه: “تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسكَ} [سورة المائدة/116] ولم يرد السمع بالجسم” اهـ، وكذلك قال إمام الحرمين أحد أكابر الشافعية.
وأشد بطلانًا قوله بعدم تكفير المجسم ولو قال إن الله جسم كالأجسام وهذا القول لم يقله أحد من الشافعية، بل لا معنى لقول القائل “جسم لا كالأجسام” بل هذا تناقض وكأن قائل هذا يقول: الله جسم الله غير جسم، وقد نقل الإمام أبو الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها: “أنكر أحمد على من قال بالجسم وقال: إن الاسماء مأخوذة من الشريعة واللغة وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمكٍ وتركيب وصورة وتأليف والله خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل” انتهى بحروفه، وهذا الذي صرح به الإمام أحمد هو ما قال به الأشاعرة والماتريدية وهم أهل السنة الموافقون لأحمد وغيره من السلف في أصول المعتقد.
فبعد هذا كيف يسوغ لابن حجر أن يقول هذا الكلام وقد قال أحمد: “من قال إن الله جسم لا كالأجسام كفر” نقله الزركشي عن صاحب الخصال من الحنابلة [43]، وقال الإمام المقدم في الأصول أبو منصور البغدادي الذي قال فيه ابن حجر هذا في بعض كتبه: “وقال الإمام الكبير إمام أصحابنا” ما نصه [44]: “فأما أصحابنا فإنهم وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغلاة من الخوارج والنجارية والجهمية والمشبهة” اهـ. وقوله: “أصحابنا” يعني به الأشاعرة والشافعية لأنه رأس كبير في الأشاعرة الشافعية، وهو إمام مقدم في النقل.
فقد ظهر أن ابن حجر غلا غلوًا كبيرًا، فأي تشبيه وأي تجسيم أصرح من قول: “إن الله جسم كالأجسام” سبحانك هذا بهتان عظيم، وما الذي دعاه إلى هذه الفرية وليس هو مخالطًا للمجسمة لأنه عاش في مكة فما باله يراعيهم بما انعقد الإجماع على إبطاله، فقوله هذا بترك تكفير من يقول: “الله جسم كالأجسام” موافق للوهابية الذين قال بعض أئمتهم في مكة المكرمة: “إن الله ينزل كنزولي هذا” وكان ينزل من درج وهذا حصل قبل سبعين عامًا من حفيد محمد بن عبد الوهاب وهو عبد الله بن حسن، فأين هو من قوله تعالى: {ليسَ كمثلهِ شئ} [سورة الشورى/11] وقوله تعالى: {فلا تضربوا للهِ الأمثال} [سورة النحل/74].
ومثل قول ابن حجر هذا ذكر الشرقاوي [45] في حاشيته على تحفة الطلاب بشرح تنقيح اللباب فليُحذر.
وشبيه هذا محاولة ابن حجر الهيتمي تأويل قول الحلاج: “أنا الحق” وادعى أنه لا يكفر في قوله هذا إن كان في صحو وإن كان في غيبة، وكذا تأويله القول المنسوب لأبي يزيد البسطامي: “سبحاني سبحاني” وذلك في مطلب في معنى قول الحلاج أنا الحق وقول أبي يزيد: سبحاني سبحاني، والجواب: إجازة قول هذا في حال الصحو والغيبة للولي كفرٌ ما قال به أحد من أهل العلم بل تفرد به هذا المؤلف ابن حجر، وعلى فرض أن هذا كلامه فهو كفر لأنه لا فرق في شريعة الله بين الولي وغيره في تجنب الألفاظ التي فيها خلاف الشرع، فإن شرع الله واحد للأولياء وغيرهم، والأولياء أشد تمسكًا بالشرع من غيرهم، فألفاظ الكفر كفر على كل أحد من الخلق.
وهذه الفتوى التي في هذا الكتاب تدعو الناس إلى الكفر والعياذ بالله تعالى بدعوى تأويل كل لفظ سواء كان صريحًا في الكفر أم لا، وقد قدمنا أن ابن حجر ذكر في شرح منهاج الطالبين في كتاب الردة أن الولي إذا قال: “أنا الله” وأوَّل ذلك بتأويل مقبول لا يُكفَّر، وبقوله هذا وأمثاله فتح ابن لملاحدة المتصوفة بابًا للتجرئ على قولهم بالحلول والوحدة المطلقة كالفرقة المنحرفة من الشاذلية اليشرطية القائلين بالعقيدتين عقيدة الوحدة المطلقة وعقيدة الحلول، فقد وجدنا بعضهم قال لشخص: أنت الله، وهذا الجدار الله، ووجدنا بعض النساء منهم تقول: يدي هذه فيها الله ولولا ذلك كيف تتحرك، وقال بعضهم وكان طرق باب صديقه فقيل: من؟ فقال: الله، وقال بعض منهم: أنا جزء من الله.
فأين ابن حجر من كلام سيد الطائفة الصوفية الجنيد رضي الله عنه في الحلاج: “لقد فتحت في الإسلام ثغرة لا يسدها إلا رأسك”، وقوله حين دخل عليه الحلاج ءاخر مرة فسأله سؤالاً فلم يجبه الجنيد وقال: “مدعي”، نقل ذلك الحافظ الخطيب البغدادي الشافعي في تاريخ بغداد، فتحققت فيه فراسة الجنيد فإنه قُتل بعد مقالة الجنيد هذه بنحو ثمانية أعوام فانطفأت فتنته بقتله، فما أعظم هذه الفراسة. أليس كان الأولى بابن حجر أن يقتدي بكلام سيد الطائفة الصوفية وهو على زعمه يدافع عن الصوفية.
وفي هذا الكتاب أيضًا مما يجب التحذير منه القول المنسوب لعبد الله بن المبارك أنه قال: “غبار نعل فرس معاوية أفضل من مائة مثل عمر بن عبد العزيز” قال المحدث الحافظ أبو الفضل أحمد الغماري: إن هذه المقالة كذب أي لا تصح عن عبد الله بن المبارك ولا عن غيره، وهذه الحكاية جديرة بالتكذيب لأنها مخالفة للقرءان والحديث، لأن الفضل عند الله تعالى بالتقوى قال تعالى: {إنَّ أكرمَكُم عندَ اللهِ أتقاكُم} [سورة الحجرات/13] فالتقي من غير الصحابة أفضل من غير التقي من الصحابة، وليس كل الصحابة أتقياء بل فيهم من قال الرسول فيه [46]: “هو في النار” فقد كان معه خادم عبد ملك له في غزوة من الغزوات أصابه سهم فمات فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “هو في النار” ثم ظهر أنه سرق شملة من الغنيمة، وهذا الصحابي كان موكلاً بثقَل الرسول أي متاعه في غزوة الجهاد، وفيهم أيضًا من زنا فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم الحد بالجلد لأنه كان شابًا لم يتزوج، وفيهم من زنا وهو محصن فأقام عليه الحد بالرجم بالحجارة.
ثم معاوية وإن كان ممن كتب الوحي فلا يجعله ذلك في مقام أكابر الصحابة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ثم إنه يدخل تحت حديث: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون مُلكٌ عضوض” رواه الإمام أحمد [47] وحسنه الحافظ ابن حجر والحافظ أبو زرعة ولي الدين العراقي، وعند أحمد من حديث حذيفة [48]: “ثم تكون ملكًا عاضًّا” وفي رواية [49]: “عضوضًا”، ومعنى العضوض الشديد الظلم.
أما عمر بن عبد العزيز فهو أفضل بني أمية بعد سيدنا عثمان رضي الله عنهما فكيف يقال: إن غبار نعل فرس معاوية في الجهاد أفضل من مثل مائة عمر بن عبد العزيز، وإنما هذه المقالة من بعض من أفرط في التعصب لبني أمية، ولا يوجد في الخلفاء الذين استخلفوا من بني أمية معاوية ومن معه خليفة راشد إلا عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
ويرد ذلك أيضًا حديث: “إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا” صححه ابن حبان [50]، ويرده أيضًا حديث [51]: “إن المؤمن أعظم حرمة من الكعبة” فإذا كان المؤمن حرمته أي درجته أعظم من الكعبة فكيف يكون ذلك الغبار أفضل من عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد.
فتبين أن ما قاله بعض العلماء: “إن كل فرد من الصحابة أفضل ممن جاء بعدهم من الأمة” باطل لمخالفته الآية المذكورة والأحاديث الثلاثة.
وهذه المقالة ليست مذكورة فقط في كتاب الفتاوى الحديثية لابن حجر بل موجودة في بعض الكتب فلتُحذر وليحذر هذا الكتاب أعني الفتاوى الحديثية لأنه يخشى أن يطلع عليه بعض الناس فيعتقدونه، وقد قيل: “زلةُ العالمِ زلةُ العالَمِ”.
* ومما يجب التحذير منه ما هو مذكور في كتاب “الاقتصاد في الاعتقاد” للغزالي [52] من إطالة النفس في ترك تكفير هذه الفرق المنتسبة إلى الإسلام مع اعتقادهم في الله المانع لمعرفته تعالى بدعوى أن كل الفرق اجتهدوا فهذا خلاف ما أجمع عليه الأشاعرة القدماء، فقد نقل الإمام أبو منصور البغدادي إجماعهم على تكفير المجسم فلا التفات إلى ما في هذا الكتاب من ترك نكفير هؤلاء، وثبت عن الإمام أبي الحسن الأشعري أنه قال: “المجسم غير عارف بالله فهو كافر به”، كذلك في المعتزلة وغيرهم، فدفعُ التكفير عنهم يؤدي إلى إبطال الشريعة.
وفي أثناء الكلام الذي طال فيه النفس في هذا الكتاب مخالفة الأئمة فقد ثبت عن الشافعي تكفير حفص الفرد لاعتقاده أن القرءان هو هذا اللفظ المقروء وليس لله كلام سواه سوى لفظه وما يخلقه من الكلام في المخلوق كما هو اعتقاد المعتزلة فإنهم مطبقون على أن الله ليس له كلام صفة لذاته إنما هو متكلم بما يخلقه في غيره فإذا كان هذا كفرًا عنده فكيف من يعتقد أن الله جسم متحيز في جهة ومكان يتحرك ويسكن وينزل ويصعد، وأن له أضراسًا ولهوات كما قال بعض المشبهة.
فإن قال قائل: إن الغزالي وافق كتاب المقالات المنسوبة للأشعري لما فيها من ترك تكفير هؤلاء الفرق من المجسمة والمعتزلة والمرجئة والجبرية والنجارية وبقية الفرق المدعية للإسلام مع مخالفتها لأهل السنة فالجواب: إن هذه المقالات غير صحيحة النسبة إلى الإمام أبي الحسن فالعبرة بما ينقله عنه الذين كانوا قريبين من عصره كأبي منصور البغدادي فإنه تلميذ أبي الحسن الباهلي الذي هو تلميذ الأشعري، فخطرٌ عظيم الأخذ بهذا الكلام في هذا الكتاب الذي سماه الاقتصاد.
ثم إن هذا مخالف لكلام من هم متقاربون في العصر كأبي سعيد المتولي فإنه صرح بتكفير من يعتقد في الله الاتصال والانفصال وهذا اعتقاد المجسم ونقله عنه النووي في روضة الطالبين وأقره، ثم هذا الكلام مخالف أيضًا لمن هم أقدم من الأشعري ومنهم سيدنا علي رضي الله عنه فقد قال: “من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود” فهذا صريح منه في تكفير المجسم كالوهابية وأسلافهم.
والعجب من هذا الكلام المذكور في الاقتصاد في الاعتقاد من تركهم تكفير المعتزلة القائلين بأن الله تعالى كان قادرًا على خلق حركات العباد وسكونهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها وبعد أن أعطاهم القدرة عليها صار عاجزًا، وهذا ثابت أنه من عقيدة المعتزلة ذكره الإمام أبو منصور الماتريدي، وإمام الحرمين، وأبو سعيد المتولي، وأبو الحسن شيث بن إبراهيم.
قال الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه “التبصرة البغدادية” ما نصه [53]: “وقالوا –يعني الأشاعرة- بتكفير الخوارج في تكفيرهم عليًّا وأصحابه وفي تكفيرهم أصحاب الذنوب” اهـ، وفي هذا بيان أن الأشاعرة يكفرون أهل الأهواء، وهذا ينقض ما قرره الغزالي وأمثاله ممن جاء بعد أبي منصور فإن أبا منصور توفي سنة أربعمائة وتسعة وعشرين والغزالي توفي سنة خمسمائة وخمس، فالعبرة بما كان عليه قدماء الأشاعرة لا بما خالف فيه المخالفون.
ثم إن من فرق المشبهة البيانية يتبعون بيان بن سِمعان التميمي يقولون: إن الله يفنى ولا يبقى إلا وجهه، ومنهم فرقة تعتقد أن لله أعضاء بعدد حروف الهجاء وصورها والهاء صورة الفرج، ومنهم من يعتقدون أن الله نور أسود، ومنهم من يعتقدون أن الله نور يتلألأ، ومنهم الهشامية يقولون: إن الله بقدر سبعة أشبار بشبر نفسه، وهؤلاء كلهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلون إلى الكعبة فكيف يجوز ترك تكفيرهم وقد وصلوا في التشبيه إلى هذا الحد اعتبارًا لهم من أهل القبلة، وكيف يحكم لهم بالإسلام وهم لا يعرفون الله.
فائدة: قال في كتاب المعيار المعرب للوانشريسي [54] وسئل سيدي أحمد بن عيسى فقيه بحاية عمن نشأ بين ظهراني المسلمين وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويصوم إلا أنه لا يعرف ما انطوت عليه الكلمة العليا فيما يعتقده لعدم معرفته بها، إذ اعتقاد شئ فرع المعرفة به، كالذي يقول لا أدري ما الله ورسوله ولا أدري من هو الأخير منهما أو لا أفرق بينهما أو غير ذلك من كلام لا يمكن معه معرفة الوحدانية ولا الرسالة، وإنما يقول سمعت الناس يقولون هذه الكلمة فقلتها ولا أدري المعنى الذي انطوت عليه ولا أتصور صحته ولا فساده ولا أدري ما أعتقدُ في ذلك بوجه ولا أعبّر عنه بلساني ولا غيره، لأن التعبير عن الشئ فرع المعرفة به وأنا لا أعرفه. فهل يُكتفى في إيمانه بمجرد النطق بالشهادتين والصلاة والصيام وغير ذلك من أركان الإسلام ويعذر بجهل معنى الكلمة؟ أو لا بد من معرفة المعنى الذي انطوت عليه الكلمة العليا من الوحدانية والرسالة وإلا لم يكن مؤمنًا.
فأجاب الحمد لله. من نشأ بين أظهر المسلمين وهو ينطق بكلمة التوحيد مع شهادة الرسول عليه السلام ويصوم ويصلي إلا أنه لا يعرف المعنى الذي انطوت عليه الكلمة الكريمة كما ذكرتم، لا يُضرب له في التوحيد بسهم ولا يفوز منه بنصيب ولا ينسب إلى إيمان ولا إسلام، بل هو من جملة الهالكين وزمرة الكافرين، وحكمه حكم المجوس في جميع أحكامه إلا في القتل فإنه لا يقتل إلا إذا امتنع من التعليم. وكذلك الطلاق إذا ظُنَّ بالمطلق أنه قصد بدعواه الجهل بمعنى الكلمة الكريمة إياحة البائن، كالرجل يبين زوجته ثم يدعي الجهل بمعنى الكلمة الكريمة أو غير ذلك مما يقتضي الكفر فيظن به أنه قصد بذلك إباحة المحظور فإنه لا يُصدَّق في دعواه ذلك ويلزمه الطلاق، إلا أن يعرف ذلك منه قبل الطلاق وهي حينئذ في عصمته على ما يعتقد ببينة عادلة أو ما يقوم مقامها. وكذلك المرأة إذا ظن بها أنها قصدت بذلك إباحة الممتنع فإنها لا تُصدَّق في دعواها ولا تحل لزوجها إلا أن يعلم ذلك منها قبل البيونة أو ما يقوم مقامها كالرجل فيما ذكر سواه. وكذلك إذا ظن بها أنها قصدت بذلك فسخ النكاح الحكم واحد والله أعلم.
وذهبت غلاة المرجئة، وهي طائفة من المبتدعة، إلى أن النطق المجرد عن المعرفة بما انطوت عليه الكلمة الكريمة مع صلاة أو صيام أو مع عدم ذلك يكفي في الإيمان ويكون للمتصف به دخول الجنان. عصمنا الله من الآراء المُغوية والفتن المحيرة وأعاذنا من حيرة الجهل وتعاطي الباطل، ورزقنا التمسك بالسنة ولزوم الطريقة المستقيمة إنه كريم منان.
وكتب بالمسألة أيضًا سيدي عبد الرحمن الواغليسي.
فأجاب الحمد لله تعالى. أسعدكم الله وسددكم وإيانا لمرضاته. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقد وصل إلى ما كتبتموه مما فهمتم من فتوى الشيخين أبي العباس بن إدريس، وأبي العباس أحمد بن عيسى فيمن يقول لا إله إلا الله ولم يدر ما انطوت عليه أن فتوى سيدي أحمد بن إدريس نصها من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن حقًّا، فمقتضى هذا الفهم من جواب الشيخ أن من نطق بالشهادة يجزئه نطقه وإن جهل معناه وما انطوت عليه الكلمة من مدلولها، فاعلم أن هذا الفهم عن الشيخ رحمه الله باطل لا يصح، فإنه يلزم منه أن من قال ذلك وهو معتقد في الإله تعالى شَبَهَ المخلوقات وصورة من صور الموجودات أن يكون مؤمنًا حقًّا، وقد وجدنا من الجهلة من هو كذلك وكتب إلينا بذلك وأشباهه. ومن اعتقد ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد نص أئمتنا على ذلك وعلى غيره مما هو كفر بإجماع، فلا يصح ذلك عن الشيخ أصلاً ولا يصح أن يُختلف في هذا أو شبهه، وفي هذا أجاب سيدي أحمد بن عيسى. وقد تحدثت أنا مع سيدي أحمد بن إدريس وذكرت له ما يقول صاحبنا فوافق عليه وقال هذا حق لا يقال غيره انتهى ما ذكره الزانشريسي.
ومما يدل على ما ذكرنا أن الزهري أفتى عبد الملك بن مروان بدماء القدرية [55] والزهري من التابعين من أهل الاجتهاد المطلق، وقال أبو منصور [56]: “وللشافعي كتابان في الكلام أحدهما في تصحيح النبوة والرد على البراهمة، والثاني في الرد على أهل الأهواء، وذكر طرفًا من هذا النوع في كتابه القياس وأشار فيه إلى رجوعه عن قبول شهادة المعتزلة وغيرهم من أهل الأهواء وقال: إن المريسي من أصحاب أبي حنيفة إنما وافق المعتزلة في القول بخلق القرءان وأكفرهم في خلق الأفعال” اهـ، وقال أيضًا [57]: “وأوجب أصحاب الشافعي ومالك وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إعادة صلاة من صلى خلف القدري والخوارج والخارجي وكل مبتدع تنافي بدعته التوحيد، وروى هشام بن عبيد الله عن محمد بن الحسن أن من صلى خلف من يقول بخلق القرءان يعيد الصلاة، وقال أبو يوسف القاضي في المعتزلة: “إنهم زنادقة، وكل من لا يجوز الصلاة خلفه لا يجوز الصلاة عليه إذا مات” اهـ.
وفي هذا الذي نقله أبو منصور إبطال ما شُهر عند بعض المتأخرين من الشافعية كالنووي في روضة الطالبين وبعض شراح منهاج الطالبين كابن حجر الهيتمي والشربيني وكتاب منهج الطلاب للشيخ زكريا الأنصاري وأمثالهم من القول بصحة الاقتداء بالمعتزلة.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه ما قاله أبو منصور [58]: “ومنهم من رأى توريث السني منهم وبناه على قول معاذ بن جبل: “إن المسلم يرث من الكافر وإن الكافر لا يرث من المسلم”، وقال: وعلى قول الشافعي يكون مال الزنديق وكل كافر ببدعة فيئًا فيه الخُمس، قال مالك: إنه فئ ولا خمس فيه” اهـ.
وقال ما نصه [59]: “أجمع أصحابنا على أنه لا يحل أكل ذبائحهم كيف نبيح ذبائح من لا يستبيح ذبائحنا” اهـ.
وقال [60]: “ولا يجوز عندنا تزويج المرأة المسلمة من واحد منهم وإن عقد العقد فالنكاح مفسوخ، وإن لم تعلم المرأة ببدعة زوجها حتى وطئها فعليها العدة ولها مهر المثل بالوطء دون المهر المسمى، والمرأة منهم إن اعتقدت اعتقادهم حرم نكاحها، وإن لم تعتقد اعتقادهم لم يحرم نكاحها لأنها مسلمة بحكم دار الإسلام، وقد شاهدنا قومًا من عوام الكرامية لا يعرفون من الجسم إلا اسمه ولا يعرفون أن خواصهم يقولون بحدوث الحوادث في ذات البارئ تعالى، فهؤلاء يحل نكاحهم والصلاة عليهم” اهـ.
وقال قبل ذلك في نفس الكتاب ما نصه [61]: “اعلم أن تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب من وجوه” اهـ.
فإن قوله بأن تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب فيه تخصيص زعمائهم من أتباعهم بالحكم وذلك لأن الأتباع قد يكونون عالمين بعض أقاويل زعمائهم التي هي غير كفر ولا يعلمون أقاويلهم التي هي كفر.
ومما يؤيد أيضًا ما قلناه ما ذكره الحافظ المجتهد الشيخ تقي الدين السبكي في أحد فتاويه ونص عبارته [62]: “وقال أبو منصور في كتابه “الأسماء والصفات”: إن الأشعري وأكثر المتكلمين قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرًا أو أدت إلى كفر كمن زعم أن معبوده صورة أو له حد أو نهاية، أو تجوز عليه الحركة أو السكون، ثم ذكر بعض أقاويل المعتزلة والكيسانية والقرامطة وقطع بكفرهم. وقال: ويجب إكفار الجهمية والنجارية قال: ولا إشكال لدي في تكفير الكرامية مجسمة خراسان في قولهم: إنه تعالى جسم له حد ونهاية من تحته، وإنه مماس لعرشه، وإنه محل الحوادث، وإنه يحدث فيه قوله وإرادته، وذكر في الطفل بين أبويه من أهل القدر والتشبيه يموت أحدهما منهم من قال هو كالمسلم وهو الذي ذهب إليه الشافعي وأبو حنيفة، وذكره عمر بن عبد العزيز في رسالته إلى أهل البصرة، وقال مالك: الاعتبار بموت الأب دون الأم، وقال ءاخرون: يعتبر حكم الطفل بإسلام الأم” اهـ.
وذكر السبكي في فتاويه هذه قبل هذا [63] “أن السلف أطبقوا ومنهم الأئمة الأربعة على تكفير القائل بخلق القرءان” اهـ، ومحل هذا القائلون بأن الله تعالى ليس له كلام إلا هذا اللفظ القرءاني وما يخلقه في خلقه كالشجرة التي رءاها موسى عليه السلام التي ذكر القرءان قصتها، وليس محل إجماعهم من قال بأن اللفظ المنزل مخلوق مع إثبات صفة الكلام لله تعالى من غير حرف ولا صوت ولا تقديم وتأخير ولا حدوثه في ذاته شيئًا بعد شئ من الأزل إلى الأبد كما يرى ابن تيمية وأتباعه من الوهابية فإنهم أخذوا بقوله إن لله إرادات قديمة النوع حادث الأفراد، وهؤلاء حكمهم كحكم المعتزلة الذين يقولون بأنه ليس لله كلام إلا ما يخلقه في خلقه وبناء على ذلك حكموا على القرءان بأنه مخلوق.
أما اعتقاد أهل السنة فإنه مخالف للفريقين فإنهم يقولون: لله تعالى كلام أزلي أبدي ليس ككلام المخلوقين وإن كلام المخلوقين بالصوت والحرف، ويعتقدون أن اللفظ القرءاني مخلوق لله تعالى ليس من تأليف جبريل ولا من تأليف رسول الله إنما جبريل أخذه من اللوح المحفوظ بأمر الله وأنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقرأه.
وأما ما ذكره السبكي من أن المتأخرين لا يكفرون المعتزلة مع الاختلاف فيه فهو خلاف الصواب، والصواب ما قاله ونقله الإمام أبو منصور، وقد اعترف السبكي بأن الأئمة الأربعة والسلف على تكفير القائل بخلق القرءان أي على الوجه المذكور.
وأما تأويل البيهقي بتكفير الشافعي حفصًا الفرد القائل بخلق القرءان على كفر النعمة مردود لأن قول الشافعي لحفص الفرد: “لقد كفرت بالله العظيم” صريح في أنه كفران الجحود الذي هو خروج عن الملة، ويؤيد ما ذكرناه من أن الحافظ البلقيني قال عن تأويل البيهقي وغيره [64]: “هذا التأويل لا يصح لأن الذي أفتى الشافعي رضي الله عنه بكفره بذلك هو حفص الفرد وقد قال: أراد الشافعي ضرب عنقي، وهذا هو الذي فهمه أصحابه الكبار وهو الحق وبه الفتوى” اهـ، وقال الزركشي في تشنيف المسامع ما نصه [65]: “وقد نص الشافعي على قبول شهادة أهل الأهواء وهو محمول على ما إذا لم يؤد إلى التكفير وإلا فلا عبرة به” اهـ، وهذا يؤكد ما قاله الحافظ البلقيني.
وأما ما في كتاب الغزالي “الاقتصاد” من أن ترك تكفير هؤلاء احتياط فالجواب: أن الاحتياط بالاعتدال ليس في عدّ فرقٍ كافرة لم يعرفوا الله مسلمين وإنما تصوروه جسمًا لا وجود له.
والقول الصواب ما قاله الغزالي في بعض كتبه: “لا تصح العبادة قبل معرفة المعبود” اهـ، وقول هذا هو اللائق به، وإني لا أستبعد أن يكون كتاب الاقتصاد دُس فيه على الغزالي ما ليس من كلامه، وما يوجد في النسخ الموجودة عندنا من هذا الكتاب لا نجزم أن الغزالي قاله أو كتبها بيده فلا نحكم على الغزالي بموجب هذا الكلام إنما نحكم على من يقول هذا.
وأما ما في هذا الكتاب [66] فيمن يعتقد صحة النبوة بعد محمد فهو أبعد البعيد فإن الأمة المحمدية خواصهم وعوامهم يعتقدون أن محمدًا خاتم الأنبياء لا يأتي نبي بعده، ولا يُستثنى للحكم بكفر معتقد خلاف ذلك إلا أن يكون شخص دخل في الإسلام ولم يسمع أنه في دين الإسلام أن محمدًا ءاخر الأنبياء لا يأتي بعده نبي لأن هذا لا يُعرف إلا من طريق السمع لأن العقل لا يدل على هذا، أما صفات الله تعالى الحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام والبقاء فالعقل يدل عليه لو لم يَرد السمع بذلك، وكذلك وجود الله ووحدانيته وقدرته وقدمه ومخالفته للمخلوقات أي عدم مشابهته لها واستغناؤه عن الخلق، وأما ما سوى هذا وما يُشبهه فمنكره لعدم بلوغ الخبر إليه كمنكر أن لله يدًا ووجهًا وعينًا فهو كما قال الشافعي: إن لم تبلغه الحجة –أي من طريق النقل- لا يُكفَّر بل يُعلَّم، ويعني الشافعي رضي الله عنه أن الجاهل إذا أنكر صحة أن يُقال لله وجه لله عين لله يد فقال: لا يضاف إلى الله الوجه واليد والعين ونحو ذلك مما ورد به السمع مما لا يُدرك بالعقل والنظر يقال له ورد وصف الله باليد والوجه والعين لا على معنى الجسم بل على معنى الصفة.
وأما ما قاله ابن قتيبة بأن من جهل قدرة الله على كل شئ فشك لا يُكفَّر فهو من أبطل الباطل والقائل به كافر ومن شك في كفر القائل به كافر لأنه أنكر مت يدل العقل على ثبوته لله تعالى كما دل النقل وهو قوله تعالى: {وهوَ على كلِّ شئٍ قدير} [سورة المائدة/120]، فما توهمه ابن قتيبة وغيره من حديث [67] الرجل الذي أوصى أولاده أن يحرقوه إذا مات ويذروه في اليم وقوله: “لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا” ثم إنه لما مات جمعه الله تعالى فأعاده كما كان وسأله لم فعلت هذا قال: فعلت هذا مخافتك فغفر الله له، ظن ابن قتيبة أن معنى قوله: “لئن قدر الله عليّ” أنه كان شاكًا في قدرة الله عليه وليس معنى الحديث هذا إنما معنى الحديث لئن ضيق الله عليّ فإنه قدر يأتي بمعنى القدرة وبمعنى التضييق. وابن قتيبة هذا من المشبهة ويكفيه ضلالاً هذا أي حكمه فيمن شك في صفة من صفات الله أنه لا يكفر إن كان جاهلاً فابن قتيبة جمع ضلالتين التشبيه وحكمه لمن شك في قدرة الله على كل شئ بالإسلام فليُحذر كتابه الذي ألفه في مشكل الحديث.
ومما يؤيد ما قلناه في رد ما في كتاب الغزالي في هذه المسئلة الثانية المذكورة في كتابه الاقتصاد ما ذكره ابن عطية في تفسير قول الله تعالى: {ما كانَ محمدٌ أبا أحدٍ من رِجالِكُم ولكن رسولَ اللهِ وخاتَمَ النبيين} [سورة الأحزاب/40] ونصه [68]: “هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفًا وسلفًا متلقاة على العموم التام مقتضية نصًّا أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وما ذكره القاضي أبو الطيب في كتابه المسمى بالهداية من أن تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف، قال وما ذكره الغزالي في هذه الآية في كتابه الذي سماه بالاقتصاد إلحاد عدي وتطرُّق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوة، فالحذر الحذر منه، والله الهادي برحمته” انتهى كلام القاضي أبي الطيب.
* ومما يجب الحذر منه ما في بعض مؤلفات الشيخ عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه من العبارات الظاهرة المخالفة للشرع، ونحن نبرئ الشيخ عبد الوهاب الشعراني من مثل هذه الألفاظ ونعتبرها دسًّا عليه كما ذكر هو في ءاخر كتابه لطائف المنن ونص عبارته [69]: “وأرجو من مدد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمي هذا الكتاب من كل عدو وحاسد يدس في فواصله أو غضونه ما يخالف ظاهر الشريعة لينفر الناس عن المطالعة فيه كما فعلوا في كتابي المسمى بالبحر المورود في المواثيق والعهود، وفي مقدمة كتابي المسمى بكشف الغمة عن جميع الأمة”، ثم قال: “وإنما أخبرت الأخوان بالدس المذكور في كتبي لأني في أواخر عمري حين بلغ زمان الرياضة للنفس حدّه، فلذلك لم أخبر أصحابي بالدس أول ما علمت به” اهـ.
* ومما يجب التحذير منه ما جاء في كتاب يسمى “لطائف المنن” منسوب لابن عطاء الله الإسكندري ونظن أن مثل هذه الكلمات دست عليه ونص العبارة المذكورة فيه [70]: “وقال الجنيد: أدركت سبعين عارفًا كلهم يعبدون الله على ظن ووهم، حتى أخي أبي يزيد لو أدرك صبيًّا من صبياننا لأسلم على يديه” اهـ، وهذا الكلام باطل لا يقوله إمام الصوفية الجنيد رضي الله عنه، فكيف يغيب عن مثله قوله تعالى: {أفي اللهِ شكٌّ} [سورة إبراهيم/10]، فمقام الجنيد وأمثاله بعيد كل البعد عن مثل هذه العبارة أو عن مثل هذا الاعتقاد.
وفي هذا الكتاب أيضًا عبارة منسوبة إلى أبي يزيد وهو منها بريء وهذه العبارة هي [71]: “قال أبو يزيد: خضت بحرًا وقفت الأنبياء بساحله”، وهذا كلام ظاهر البطلان، فيه رفع لمقام أبي يزيد فوق مقام الأنبياء.
* ومما يجب التحذير منه ما ذُكر في بعض الكتب من أن النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج سمع صوتًا يشبه صوت أبي بكر الصديق وذلك لما استوحش هناك، وبعضهم يزيد فيقول: قال له هذا الصوت: “قف إن ربك يصلي” فآنسه الحق بصوت أبي بكر، وهذا كذب وافتراء لا أصل له، بل معتقد هذه الحكاية الثانية يكفر لأنه لا يجوز أن يقال عن الله إنه يصلي، بل الذي يجوز أن يقال: “إن الله يصلي على النبي” كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه.
* ومما يجب التحذير منه ما انتشر في بعض كتب التفسير والعقيدة وغيرها من الكتب من أن النبي إنسان أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ، وهذا الكلام خفي على كثير من الناس فغلطوا في هذا التعريف، وهذا الكلام لا يليق بمقام النبوة فإن كل أنبياء الله تعالى عليهم السلام مأمورون بالتبليغ، وكلهم أدوا ما أُمروا به، فالرسول والنبي يشتركان في الوحي، غير أن الرسول يوحى إليه بنسخ بعض شرع من قبله أي بنسخ بعض الأحكام التي كانت في زمن الرسول الذي قبله، أو بشرع جديد أي بأحكام لم تُنزل على من قبله من الانبياء، أما النبي غير الرسول فإنه يوحى إليه ليبلغ شرع الرسول الذي قبله.
وقد نقل التعريف على الصواب البياضي الحنفي وعزاه للمحققين، وهذا المناوي في شرح الجامع الصغير، والقونوي في شرح الطحاوية، والبيضاوي والإمام عبد القاهر بن طاهر البغدادي وغيرهم.
قال الحافظ أحمد الغماري: “والمشهور في كتب المتكلمين في الفرق بينهما أن الرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه والنبي إنسان أوحي إليه بشرع فلم يؤمر بتبليغه، وهذا كلام جاهل بالسنة والأخبار بل وبصريح القرءان فإن قول الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلكَ من رسولٍ ولا نبي} [سورة الحج/52] صريح في إرسالهما معًا اهـ وهل من معنى للإرسال من غير الأمر بالتبليغ، ثم قال الغماري: “وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم [72]: “وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة” اهـ.
* ومما يجب رده ما في كتاب “إرشاد العباد إلى سبيل الرشاد” لزين الدين المليباري ونصه [73]: “وثانيها: أن نسيان ءاية أو حرف منه ولو بالاشتغال بما هو أهم منه كتعلم العلم العيني كبيرة” اهـ، وهذا باطل مردود لأن أغلب من يحفظ القرءان لا بد أن ينسى شيئًا قليلاً منه أو كثيرًا، وقد حصل من بعض من يشتغل بالحديث فيمن قبل القرن السابع أنه نسي الحديث وحفظ القرءان، ذكر ذلك الذهبي في الميزان، وهذا حرج ولا حرج في دين الله.
وعمدة القائلين بهذا حديث ضعيف الإسناد رواه أبو داود [74] وهو: “عُرضت علي ذنوب أمتي فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورة من القرءان أو ءاية أوتيها رجل مسلم فنسيها”، على أن هذا الحديث فسره أبو يوسف القاضي بأن معنى النسيان ترك العمل، وهذا لا بأس به، لكن الحديث غير ثابت.
* ومما يجب التحذير منه ما ذكره بعض المؤلفين في كتبهم من أن الله تعالى قادر على الظلم لكن لا يفعل ذلك تفضلاً منه، ذكر ذلك ابن حجر الهيتمي في فتح المبين بشرح الأربعين ونص عبارته [75]: “وما ذكر من استحالة الظلم عليه تعالى هو قول الجمهور، وقيل: بل هو متصور منه لكنه لا يفعله عدلاً منه وتنزهًا عنه” اهـ، وذكر ذلك أيضًا ابن رجب في كتابه “جامع العلوم والحكم” ونص عبارته [76]: “وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ولكن لا يفعله تفضلاً منه وجودًا وكرمًا وإحسانًا إلى عباده” اهـ، وهذا الكلام فساده ظاهر لأن وصف الله بالقدرة على الظلم كوصفه بأنه قادر على أن يجعل لنفسه شريكًا في الألوهية وعلى إعطاء بعض خلقه علمًا كعلمه، وقد ضلل أئمة أهل السنة قائلها. روى مسلم [77] عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا”.
والعجب كيف حصل هذا في كتاب ابن حجر وابن رجب الحنبلي وغيرهما كالشرقاوي؟!.
* ومما يجب الحذير منه ما رواه بعض المحدثين كالسيوطي وغيره وشاع عند كثير من الناس وهو حديث: “الربا سبعون بابًا أهونها عند الله كالذي ينكح أمه”، وهذا الحديث لا يجوز تصحيحه والعمل به لأنه مناقض لحديث البخاري وغيره [78] عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قلت يا رسول الله أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: “أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك”، قال: قلت: ثم أي؟ قال: “أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك”، قال: قلت: ثم أي؟ قال: “أن تُزاني حليلة جارك”.
وهذا الحديث مخالف أيضًا لما تقرر في نفوس المسلمين الخواص والعوام من أن الزنا أشد الذنوب بعد الكفر والقتل ظلمًا.
ومثل هذا الحديث الحديث الآخر: “درهم ربا أشد إثمًا من ستة وثلاثين زَنية” [79]، وهذان الحديثان مما يجرئان الناس على تهوين أمر الزنا.
* ومما يجب التحذير منه ما في كتاب البحر الرائق والتجنيس وحاشية الدر المختار المسماة رد المحتار [80] من أنه يجوز كتابة الفاتحة بالدم والبول إن علم منه شفاء وهذا ردة لأن هذا تحقير بالغ للقرءان. البول أشد نجاسة من الغائط والدم حيث ورد التحذير الشديد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من التلوث به حيث قال: “استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه” [81]، وصح عنه أنه قال [82]: “إن بني إسرائيل كان فرض عليهم إذا أصاب أحدهم الثوب أو الجلد البول أن يقطع” فنهاهم صاحبهم عن ذلك فعذب في قبره، والحديثان صحيحان. أما صاحب الدر المختار وهو ابن عابدين فإني لا أشك أنه ليس من كلامه إنما هو من بعض النساخ لأنه ذكر عن شيخه العقاد في ثبته أنه حرم كتابة ءاية من القرءان بالدم للرعاف ونقل ما هو مثل هذا في كتاب الجنائز في الحاشية.
* وليحذر أيضًا من قول منسوب لأبي حنيفة وهو غير صحيح عنه ولعله مذكور في حاشية الهدهدي على الفضالي وهو أن أبا حنيفة قال: الله تعالى موجود بلا مكان وشاهد ذلك أن السمن في الحليب ولا يُعرف مكانه اهـ، فهذا كمن يقول الله تعالى موجود في المكان فليُحذر بل هذا فيه حلول، فيه أن الله حال في الأماكن كما أن السمن حال في الحليب، والعجب كيف دخلت هذه العبارة في بعض المؤلفات.
وبعض القاصرين في معرفة ما يجوز في العقل وما لا يجوز يستحسنون هذا، على زعمهم يقرّبون صحة وجود الله بلا مكان بهذا. ما أبعد كلامهم عن الحق. هذا فِرار من كفر إلى كفر.
* ومما يجب التحذير منه ما في كتاب “الزواجر عن اقتراف الكبائر” لابن حجر الهيتمي من نسبة جواز خوف الأنبياء من سوء الخاتمة لأنفسهم ونص عبارته [83]: “وروي أن نبيًّا من الأنبياء شكى إلى الله الجوع والعري فأوحى الله إليه: عبدي أما رضيت أن عصمت قلبك عن أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا، فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال: بلى قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر” اهـ.
وفيه أيضًا في موضع ءاخر قصة ثانية ظاهرة الفساد ونص عبارته [84]: “قال: فنظر رسول الله إلى جبريل وهو يبكي فقال: تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه؟ فقال: وما لي لا أبكي وأنا أحق بالبكاء لعلي أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها وما أدري لعلي أبتلى بما ابتلي به إبليس فقد كان من الملائكة” اهـ.
وهذا مما لا يخفى فساده على عوام المسلمين وخواصهم، فهو مخالف لدين الله تعالى.
* ومما يجب التحذير منه ما جاء في بعض الكتب من أن اللواط مشتق من اسم نبي الله لوط وهذا فاسد، ومما يبطله أنه يؤدي إلى أن العرب الذين كانوا قبل لوط بزمان بعيد وكان منهم نبيان هود وصالح ما كانوا يعرفون مادة اللواط وما تصرّف منه من الفعل الماضي والمضارع واسم الفاعل واسم المفعول وهذا قول بأن شرعَيهما خاليان عن حكم اللواط وتحريمه والتنفير منه وهذا بمثابة قول بأنهما كان عندهما لفظ للزنا وما تصرف منه، ويلزم من ذلك أن ءادم ما علّم أولاده من اللغة العربية ما يُحتاج إلى معرفة حكمه فلا يليق بآدم عليه السلام أن لا يكون علّم أولاده حين علّم اللغات لفظ اللواط لأن الزنا واللواط من أشد ما يُحتاج إلى التحذير منه، وكان ءادم أول لغة تكلم بها العربية فكيف يقضي حياته قبل أن يعلمهم مادة لفظ اللواط وما تصرف منه، وكذلك هود وصالح كانا عربيين وهما قبل لوط بزمان، فكيف يقال إن ءادم لم يعلم ما يُحذر به من ذلك الفعل بل علم ءادم العبارات والألفاظ التي يُحتاج إلى معرفتها كمادة القتل والنكاح وهذان مما حصل في زمانه استعماله، وأما الزنا فلم يحصل في زمانه وكذلك اللواط بل اللواط لم يحصل من البشر فعله إلا في قوم لوط.
وما أبعدَ ما يلزم من ذلك وهو أن يكون العرب لم تكن عندهم صيغة للواط قبل قوم لوط، فلا يليق بآدم عليه السلام الذي أول ما تكلم به اللغة العربية أن يكون مضى من غير أن يعلّم ذريته لفظ اللواط.
فبعد هذا لا يُصغى إلى ما قاله الليث إن الناس اشتقوا اللواط من اسم لوط، كيف وقد عصم الله الأنبياء من أن تكون أسماؤهم قبيحة ومن أن تكون أصلاً للفواحش، فمن نسب إليهم اسمًا شنيعًا بشعًا فقد انتقصهم.
وهذا القول فيه جعل اسم لوط أصلاً صدر منه لفظُ هذه الفاحشة، فلا يعتبر بنقل بعض اللغويين لهذا كابن منظور والزبيدي في شرح القاموس.
وقد زيّف النحاس والزجاج وهما من أكابر اللغويين هذا القول ونقله القرطبي في تفسيره [85] فقال ما نصه: “وقال النحاس: قال الزجاج: زعم بعض النحويين –يعني الفراء- أن لوطًا يجوز أن يكون مشتقًا من لُطتُ الحوض إذا ملسته بالطين، قال: وهذا غلط لأن الأسماء الأعجمية لا تشتق كإسحاق” ثم قال: “قال النقاش: لوط من الأسماء الأعجمية وليس من العربية” اهـ، قلت: هذا هو الصواب، وقد ذكر الفقيه المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في شرح جمع الجوامع ما نصه: “أن الأفعال مشتقة من المصادر على الصحيح، والأفعال أصل للصفات المشتقة منها فتكون المصادر أصلاً لها أيضًا” اهـ، وقد ذكر غير واحد أن أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة، ولم يذكروا اسم لوط بين هذه الأسماء، بل ورد في ذلك حديث صححه ابن حبان من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأقر الحافظ تصحيح ابن حبان.
ثم إنه لا يقاس الاشتقاق على المُعرب فالمعرب لا يسمى اشتقاقًا فهو شئ والاشتقاق شئ ءاخر فنقول في المعرب: نقل لغة أعجمية إلى العربية ولم يستعملوه على أنه عربي، فأسماء الأعيان نُقِلَ منها والعرب استعملته استعمالاً وليس هناك أنه اشتق هذا من هذا، فرق بعيد بين المعرب والاشتقاق.
فهذه المقالة باطلة شنيعة لغة وشرعًا فلا يخفى على المتأمل أن قول هؤلاء لا ينطبق على أنواع الاشتقاق الثلاثة التي بيّنها العلماء في محلها.
الهوامش:
[1] إحياء علوم الدين [2/276] بهامش إتحاف السادة المتقين.
[2] قال الحافظ الفقيه تقي الدين السبكي في بعض رسائله: “وهذا الحديث يذكره الصوفية كثيرًا وهو مشهور عندهم وإن كان في سنده ضعف من جهة يوسف بن عطية، وهو شاهد لأمرين أحدهما جواز إطلاق أنا مؤمن من غير استثناء” اهـ، نقله عنه الحافظ الزبيدي في الإتحاف [2/280].
[3] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [3/266-267]، والبزار في مسنده انظر كشف الأستار [1/26]، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [1/57]: “رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه” اهـ، وقال: “رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به” اهـ.
[4] إحياء علوم الدين [9/580] بهامش إتحاف السادة المتقين.
[5] طبقات الشافعية [6/287-389].
[6] لطائف المتن والأخلاق [ص/394].
[7] وذلك أن عمر بن الخطاب عَدَويّ وعلي بن أبي طالب هاشمي، زوّج علي عمر بنته أم كلثوم وكانت صغيرة لعلها دون عشر سنوات وهو كان في ذلك الوقت فوق الستين سنة وكان رغبة عمر التبرك بمصاهرة ذرية الرسول لأنها بنت فاطمة.
[8] أنوار أعمال الأبرار [2/490].
[9] الزواجر [ص/27].
[10] طبقات الصوفية [ص/307-308].
[11] تاريخ بغداد [8/113].
[12] انظر الكتاب [ص/157].
[13] الأوسط في السنن والإجماع [1/168]، مخطوط، وأخرجه الترمذي في سننه: كتاب الأدب: باب ما جاء إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، وأخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، وأبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب ما جاء في التثاؤب بنحوه.
[14] تاج العروس [9/376-377].
[15] السراج المنير شرح الجامع الصغير [2/287].
[16] المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير للسيوطي [ص/4].
[17] تفسير القرءان [6/1896]، قال الحافظ في فتح الباري [6/389]: “إسناده حسن”.
[18] انظر الكتاب [ص/157].
[19] التوحيد [ص/131 و277].
[20] أصول الدين [ص/135].
[21] الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد [ص/173].
[22] الغنية في أصول الدين [ص/117].
[23] حز الغلاصم [ص/45 و67].
[24] إتحاف السادة المتقين [2/135].
[25] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية.
[26] أخرجه الحاكم في المستدرك [3/122] وصححه ووافقه الذهبي.
[27] أخرجه الحاكم في المستدرك [3/121] وصححه ووافقه الذهبي.
[28] فيض القدير [6/365-366].
[29] الإصابة في تمييز الصحابة [1/272].
[30] مقالات الأشعري [ص/187-188].
[31] انظر الكتاب [ص/242].
[32] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب مناقب الأنصار: باب قصة أبي طالب.
[33] انظر المصدر السابق.
[34] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب النكاح: باب تحريم امتناعها من فراش زوجها.
[35] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب: باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم.
[36] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب اللباس والزينة: باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه.
[37] المعجم الكبير [3/179]، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [1/204]: “إسناده حسن”.
[38] أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده [4/33]، وأخرجه بنحوه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب ما يُنهى من السباب واللعن.
[39] انظر الكتاب [2/8].
[40] أخرجه أحمد في مسنده [2/439].
[41] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد والرقائق: باب في أحاديث متفرقة.
[42] الغنية في أصول الدين [ص/81].
[43] تشنيف المسامع [4/648].
[44] تفسير الأسماء والصفات [ص/191].
[45] انظر الكتاب [1/247].
[46] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد: باب القليل من الغلول.
[47] أخرجه أحمد في مسنده [5/220] بهذا اللفظ.
[48] مسند أحمد [4/273].
[49] أخرجها البيهقي في دلائل النبوة [6/340]، وأبو داود الطيالسي في مسنده [ص/31، 116].
[50] أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان [2/20].
[51] أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب حرمة دم المؤمن وماله، والطبراني في الأوسط.
[52] الاقتصاد في الاعتقاد [ص/223-224].
[53] أصول الدين [ص/292].
[54] المجلد الثاني الصحيفة الثانية والثمانين بعد الثمانمائة.
[55] أصول الدين [ص/307].
[56] أصول الدين [ص/308].
[57] اصول الدين [ص/342].
[58] أصول الدين [ص/341].
[59] أصول الدين [ص/340].
[60] أصول الدين [ص/341].
[61] أصول الدين [ص/335].
[62] فتاوى السبكي [ق/194]، مخطوط.
[63] المرجع السابق [ق/192].
[64] حواشي الروضة [1/ق/83]، مخطوط.
[65] تشنيف المسامع [ص/227].
[66] الاقتصاد في الاعتقاد [ص/225-226].
[67] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأنبياء: الباب الأخير، ومسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.
[68] تفسير ابن عطية [4/388].
[69] لطائف المنن والأخلاق [ص/696].
[70] انظر الكتاب [ص/203].
[71] انظر الكتاب [ص/203].
[72] صحيح البخاري: كتاب الصلاة: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا”.
[73] انظر الكتاب [ص/68].
[74] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة: باب في كنس المسجد، قال الحافظ في فتح الباري [9/86]: “في إسناده صعف”.
[75] انظر الكتاب [ص/191].
[76] انظر الكتاب [ص/211].
[77] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة والآداب: باب تحريم الظلم.
[78] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: باب قوله تعالى: {فلا تجعلوا للهِ أندادًا وأنتم تعلمون} [سورة البقرة/22]، وباب تفسير: {والذينَ لا يدْعونَ معَ اللهِ إلهًا ءاخرَ ولا يقتلونَ النفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِّ ولا يزنونَ ومن يفعلْ ذلكَ يلقَ أثامًا} [سورة الفرقان/68]، وكتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {يا أيها الرسولُ بلِّغ ما أُنزلَ إليكَ من ربك} [سورة المائدة/67] الآية، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، وأبو داود في سننه: كتاب الطلاق: باب في تعظيم الزنا، والترمذي في سننه: كتاب تفسير القرءان: باب ومن سورة الفرقان.
[79] أورده ابن الجوزي في الموضوعات [2/246].
[80] انظر الكتاب [1/140].
[81] أخرجه الدارقطني في سننه [1/128].
[82] أخرجه أحمد في مسنده [4/414]، والحاكم في المستدرك [1/184]، [3/466].
[83] انظر الكتاب [1/36].
[84] انظر الكتاب [2/417].
[85] تفسير القرطبي [7/243].