الخميس نوفمبر 21, 2024

سُورَةُ الْمُدَّثِرِ

مَكِّيَّةٌ وَهِىَ سِتٌّ وَخَمْسُونَ ءَايَةً

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ

 

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِى وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِى جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَّا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

 

   أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِى صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »جَاوَرْتُ بِحِرَاءَ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِىَ نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِىَ فَنُودِيتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا فَرَفَعْتُ رَأْسِى فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِى جَاءَنِى بِحِرَاءَ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ دَثِّرُونِى فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾«.

   ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ هُوَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى الْمُتَلَفِّفُ بِثِيَابِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْىِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

   وَقَرَأَ أُبَىُّ بنُ كَعْبٍ وَأَبُو عِمْرَانَ وَالأَعْمَشُ »الْمُتَدَثِّرُ« بِإِظْهَارِ التَّاءِ.

   ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ أَىْ حَذِّرْ قَوْمَكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.

 

   ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أَىْ عَظِّمْهُ وَتَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ بِتَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَىْ مَعْرِفَةُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مِنَ النَّقَائِصِ فَإِنَّ مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ لَمْ يُعَظِّمْهُ.

   ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ أَىْ طَهِّرْ ثِيَابَكَ مِنَ النَّجَاسَاتِ لِأَنَّ طَهَارَةَ الثِّيَابِ شَرْطٌ فِى صِحَّةِ الصَّلاةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

   ﴿والرُّجْزَ﴾ أَىِ الأَوْثَانَ وَالأَصْنَامَ ﴿فَاهْجُرْ﴾ أَىِ اتْرُكْ، وَلا يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ تَلَبُّسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

   وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَعَاصِمٌ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ »وَالرُّجْزَ« بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، قَالَ الزَّجَاجُ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ.

   ﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ أَىْ لا تُعْطِ عَطِيَّةً تَلْتَمِسُ بِهَا أَفْضَلَ مِنْهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذَا النَّهْىُ خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَشْرَفِ الآدَابِ وَأَجَلِّ الأَخْلاقِ وَأَبَاحَهُ لِأُمَّتِهِ وَقِيلَ لا تُعْظِّمَ عَمَلَكَ فِى عَيْنِكَ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

   ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ أَىِ اصْبِرْ عَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى أَدَاءِ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَلَى أَذَى الْكُفَّارِ.

   ﴿فَإِذَا نُقِرَ﴾ أَىْ نُفِخَ ﴿فِى النَّاقُورِ﴾ أَىِ الصُّورِ وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِى يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ.

   ﴿فَذَلِكَ﴾ أَىْ وَقْتُ النَّفْخِ فِى الصُّورِ ﴿يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَدِيدٌ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.

   ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾ أَىْ غَيْرُ سَهْلٍ وَلا هَيِّنٍ.

   ﴿ذَرْنِى﴾ أَىْ دَعْنِي وَهِىَ كَلِمَةُ وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ ﴿وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ الْمَعْنَى كِلْ إِلَى اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ أَمْرَ الَّذِى خَلَقَهُ اللَّهُ وَحْدَهُ لا مَالَ لَهُ وَلا وَلَدَ ثُمَّ أَعْطَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَعْطَاهُ وَهُوَ الْوَلِيدُ بنُ الْمُغِيرَةِ وَكَانَ يُسَمَّى الْوَحِيدَ فِى قَوْمِهِ وَإِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ.

   قَالَ ابْنُ الْجَوْزِىِّ »هَذَهِ نَزَلَتْ فِى الْوَلِيدِ بنِ الْمُغِيرَةِ وَالْمَعْنَى خَلِّ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فَإِنِّى أَتَوَلَّى هَلاكَهُ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِآيَةِ السَّيْفِ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ

   أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَعِيدٌ فَلا وَجْهَ لِلنَّسْخِ.

   وَالثَّانِى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَءَايَةَ السَّيْفِ مَدَنِيَّةٌ وَالْوَلِيدُ هَلَكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ ءَايَةِ السَّيْفِ« اهـ.

   وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا عَمِّ إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَتَعَرَّضَ لَنَا قِبَلَهُ قَالَ لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّى مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا قَالَ فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ فَقَالَ وَمَاذَا أَقُولُ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ مِنِّى وَلا بَرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدِهِ مِنِّى وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِى يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلاهُ مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ قَالَ لا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ قَالَ فَدَعْنِى حَتَّى أُفَكِّرَ فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ ﴿ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾، قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ »إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِىِّ« وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى نَحْوَهُ.

   ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا﴾كَثِيرًا وَاسِعًا مُتَّصِلًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالضُّرُوعِ وَالتِّجَارَةِ وَأَعْطَيْتُهُ مَالًا مَمْدُودًا وَهُوَ كَانَ لَهُ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَالْعَبِيدِ وَالْجَوَارِى وَالإِبِلِ وَالْحُجُورِ وَهِىَ الأُنْثَى مِنَ الْخَيْلِ.

   ﴿وَبَنِينَ﴾ وَكَانُوا عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَلاثَةٌ ﴿شُهُودًا﴾ أَىْ حُضُورًا مَعَهُ بِمَكَّةَ يَتَمَتَّعُ بِلِقَائِهِمْ لا يَحْتَاجُونَ إِلَى سَفَرٍ لِطَلَبِ الْمَعَاشِ وَلا يَحْتَاجُ أَنْ يُرْسِلَهُمْ فِى مَصَالِحِهِ لِكَثْرَةِ خَدَمِهِ.

   ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ أَىْ بَسَطْتُ لَهُ فِى الْعَيْشِ بَسْطًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَّعْتُ لَهُ مَا بَيْنَ الْيَمَنِ وَالشَّامِ.

   ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ أَىْ أَنَّ الْوَلِيدَ بنَ الْمُغِيرَةِ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ عَلَى مَا أَعْطَيْتُهُ.

   ﴿كَلَّا﴾ أَىْ لَيْسَ يَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ كُفْرِهِ بِالنِّعَمِ ﴿إِنَّهٌ﴾ يَعْنِى الْوَلِيدَ ﴿كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾ أَىْ مُعَانِدًا لِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ.

   ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا﴾ أَىْ سَأُكَلِّفُهُ مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ لا رَاحَةَ لَهُ مِنْهَا.

   ﴿إِنَّهُ﴾ يَعْنِى الْوَلِيدَ ﴿فَكَّرَ﴾ فِى مَا تَخَيَّلَ طَعْنًا فِى الْقُرْءَانِ ﴿وَقَدَّرَ﴾ فِى نَفْسِهِ مَا يَقُولُ فِى مُحَمَّدٍ وَالْقُرْءَانِ.

   ﴿فَقُتِلَ﴾ أَىْ لُعِنَ الْوَلِيدُ بنُ الْمُغِيرَةِ ﴿كَيْفَ قَدَّرَ﴾ مَا لا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ وَمَا لا يَسُوغُ أَنْ يُقَدِّرَهُ عَاقِلٌ.

   ﴿ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ كَرَّرَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَتَقْبِيحِ مَا فَكَّرَ بِهِ.

   ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ أَىْ فَكَّرَ ثَانِيًا بِأَىِّ شَىْءٍ يَدْفَعُ الْقُرْءَانَ وَيَرُدُّهُ.

   ﴿ثُمَّ عَبَسَ﴾ أَىْ قَطَّبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فِى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿وَبَسَرَ﴾ أَىْ كَلَحَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ.

   ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ﴾ عَنِ الإِيمَانِ ﴿وَاسْتَكَبَرَ﴾ أَىْ تَكَبَّرَ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

   ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا﴾ أَىْ قَالَ مَا هَذَا الَّذِى أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾ أَىْ يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ أَىْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا سِحْرٌ يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ وَيَنْقُلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ السَّحَرَةِ قَبْلَهُ وَالسِّحْرُ الْخَدِيعَةُ.

   ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ وَزَعَمَ هَذَا الْمُعَانِدُ أَنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ مَا هُوَ إِلَّا كَلامُ الْبَشَرِ لَيْسَ بِكَلامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

   ﴿سَأُصْلِيهِ﴾ أَىْ سَأُدْخِلُهُ ﴿سَقَرَ﴾ أَىْ جَهَنَّمَ وَسَقَرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ.

   ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ﴾ هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِى وَصْفِهَا أَىْ وَمَا أَعْلَمَكَ أَىُّ شَىْءٍ هِىَ وَهِىَ كَلِمَةُ تَعْظِيمٍ لِهَوْلِهَا وَشِدَّتِهَا.

   ثُمَّ فَسَرَّ حَالَهَا فَقَالَ ﴿لا تُبْقِى﴾ أَىْ لا تُبْقِى عَلَى مَنْ أُلْقِىَ فِيهَا ﴿وَلا تَذَرُ﴾ غَايَةً مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا أَوْصَلَتْهُ إِلَيْهِ. فَالْكَافِرُ لا يَنْقَطِعُ عَنْهُ الْعَذَابُ فِى النَّارِ وَهِىَ مَعَ شِدَّتِهَا لا يَمُوتُ فِيهَا فَيَرْتَاحُ مِنَ الْعَذَابِ وَلا يَحْيَا حَيَاةً هَنِيئَةً بَلْ عَذَابُهُ أَبَدِىٌّ سَرْمَدِىٌّ، هَذَا مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ قَاطِبَةً بِخِلافِ مَا زَعَمَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَجَمَاعَتُهُ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَتَفْنَى النَّارُ فَإِنَّ هَذَا تَكْذِيبٌ لِلْقُرْءَانِ.

   ﴿لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ﴾ أَىْ مُغَيِّرَةٌ لِلْبَشَرَاتِ مُحْرِقَةٌ لِلْجُلُودِ مُسَوِّدَةٌ لَهَا وَقِيلَ إِنَّهُمُ الإِنْسُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

   ﴿عَلَيْهَا﴾ أَىْ عَلَى سَقَرٍ ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ مَلَكًا مِنْ خَزَنَةِ النَّارِ مَالِكٌ وَمَعَهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.

   أَخْرَجَ ابْنُ أَبِى حَاتِمٍ فِى تَفْسِيرِهِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ عَنِ الْبَرَاءِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ سَاعَتَئِذٍ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.

   وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِى حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّىِّ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُدْعَى أَبَا الأَشَدِّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لا يُهْوِلَنَّكُمُ التِّسْعَةَ عَشَرَ أَنَا أَدْفَعُ عَنْكُمْ بِمَنْكِبِى الأَيْمَنِ عَشَرَةً وَبِمَنْكِبِى الأَيْسَرِ التِّسْعَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً﴾ الآيَةَ.

   ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ﴾ أَىْ خَزَنَتَهَا ﴿إِلَّا مَلائِكَةً﴾ أَقْوِيَاءَ أَشِدَّاءَ ﴿وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ﴾ أَىْ عَدَدَهُمْ وَهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أَىْ سَبَبًا لِفِتْنَةِ الْكُفَّارِ وَفِتْنَتُهُمْ هِىَ كَوْنَهُمْ أَظْهَرُوا مُقَاوَمَتَهُمْ فِى مُغَالَبَةِ الْمَلائِكَةِ وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ يَغْلِبُوا وَاحِدًا مِنْ خَزَنَةِ النَّارِ ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ أَىْ لِيُوقِنَ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنْ هَذَا الْقُرْءَانَ هُوَ مَنْ عِنْدِ اللَّهِ إِذْ هُمْ يَجِدُونَ هَذِهِ الْعِدَّةَ فِى كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقْرَأْهَا وَلا قَرَأَهَا عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَكِنْ كِتَابُهُ يُصَدِّقُ كُتُبَ الأَنْبِيَاءِ إِذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ يَتَعَاضَدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

   ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إيمَانًا﴾ يَعْنِى مَنْ ءَامَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَزْدَادُونَ تَصْدِيقًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَدَدَ كَانَ مَوْجُودًا فِى كِتَابِهِمْ وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَفْقِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ دِرَاسَةٍ وَتَعَلُّمِ عِلْمٍ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالْوَحْىِ فَازْدَادُوا بِذَلِكَ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَلا يَرْتَابَ﴾ أَىْ وَلا يَشُكَّ وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِقَوْلِهِ ﴿لِيَسْتَيْقِنَ﴾ إِذْ إِثْبَاتُ الْيَقِينِ وَنَفْىُ الِارْتِيَابِ أَبْلَغُ وَءَاكَدُ فِى الْوَصْفِ لِسُكُونِ النَّفْسِ السُّكُونَ التَّامَّ ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ أَىْ أُعْطُوا الْكِتَابَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى أَنَّ عِدَّةَ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ أَىْ شَكٌّ أَوْ نِفَاقٌ ﴿وَالْكَافِرُونَ﴾ بِاللَّهِ مِنْ مُشْرِكِى قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ يَعْنِى بِعَدَدِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ وَمَا الْحِكْمَةُ فِى ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ ﴿كَذَلِكَ﴾ أَىْ كَمَا أَضَلَ اللَّهُ أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ الْمُنْكِرِينَ لِعَدَدِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ ﴿يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ أَىْ يَخْلُقُ اللَّهُ الضَّلالَةَ فِى قُلُوبِ مَنْ شَاءَ أَنْ يُضِلَّهَمُ ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أَىْ يَخْلُقُ اللَّهُ الِاهْتِدَاءَ فِى قُلُوبِ مَنْ شَاءَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ ﴿وَمَا يَعْلَمُ﴾ أَىْ وَمَا يَدْرِى ﴿جُنُودَ رَبِّكَ﴾ أَىْ عَدَدَهُمْ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ ﴿إِلَّا هُوَ﴾ يَعْنِى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

   رَوَى مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِى هُوَ فِى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ »يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ«.

   ﴿وَمَا هِىَ﴾ أَىِ النَّارُ ﴿إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ﴾ أَىْ إِلَّا تَذْكِرَةً وَمَوْعِظَةً لِلنَّاسِ ذَكَّرَ بِهَا الْبَشَرَ لِيَخَافُوا وَيُطِيعُوا.

   ﴿كَلَّا﴾ أَىْ لَيْسَ الْقَوْلُ كَمَا يَقُولُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَكْفِى أَصْحَابَهُ الْمُشْرِكِينَ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ ﴿وَالْقَمَرِ﴾ أَقْسَمَ اللَّهُ بِالْقَمَرِ ﴿وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ﴾ أَىْ وَلَّى ﴿وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ﴾ أَىْ أَضَاءَ وَتَبَيَّنَ.

   وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِىُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ »إِذَا دَبَر«.

   ﴿إِنَّهَا﴾ أَىِ النَّارَ ﴿لإِحْدَى الْكُبَرِ﴾ أَىْ لإِحْدَى الأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِى لا نَظِيرَ لَهَا.

   ﴿نَذِيرًا لِلْبَشَرِ﴾ قَالَ الزَّجَّاجُ نَصْبُ »نَذِيرًا« عَلَى الْحَالِ وَالْمَعْنَى إِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ فِى حَالِ الإِنْذَارِ، قَالَ الْحَسَنُ وَاللَّهِ مَا أُنْذِرَ الْخَلائِقُ بِشَىْءٍ هُوَ أَدْهَى مِنْهَا.

   ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ هَذَا تَهْدِيدٌ وَإِعْلامٌ أَنَّ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَى الطَّاعَةِ وَالإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوزِىَ بِثَوَابٍ لا يَنْقَطِعُ وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الطَّاعَةِ وَكَذَّبَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوقِبَ عِقَابًا لا يَنْقَطِعُ.

 

   ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ أَىْ مُرْتَهَنَةٌ بِكَسْبِهَا.

   ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ وَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُمْ لا يُرْتَهَنُونَ وَقِيلَ أَصْحَابُ الْيَمِينِ الْمَلائِكَةُ وَقِيلَ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَقِيلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُخْلِصُونَ لَيْسُوا بِمُرْتَهَنِينَ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا مَا كَانَ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

   ﴿فِى جَنَّاتٍ﴾ أَىْ هُمْ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ أَىْ يَسْأَلُونَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ هُمْ فِى النَّارِ.

   ﴿عَنْ الْمُجْرِمِينَ﴾ أَىِ الْكَافِرِينَ.

   ﴿مَا سَلَكَكُمْ﴾ أَىْ أَدْخَلَكُمْ وَالْمَعْنَى أَىُّ شَىْءٍ أَدْخَلَكُمْ ﴿فِى سَقَرَ﴾ أَىْ جَهَنَّمَ وَسُؤَالُهُمْ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لَهُمْ وَتَحْقِيرٍ وَإِلَّا فَهُمْ عَالِمُونَ مَا الَّذِى أَدْخَلَهُمُ النَّارَ وَالْجَوَابُ

   ﴿قَالُوا﴾ أَىْ قَالَ الْمُجْرِمُونَ وَهُمُ الْكَافِرُونَ لَهُمْ ﴿لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ أَىِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ.

   ﴿وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ أَىْ لَمْ نَتَصَدَّقْ عَلَيْهِ.

   ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ﴾ فِى الْبَاطِلِ ﴿مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ فِيهِ.

   ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أَىْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

   ﴿حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ أَىِ الْمَوْتُ.

   ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ أَىْ لا شَفَاعَةَ لَهُمْ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ يُشْفَعُ لَهُمْ فَلا تَنْفَعُ شَفَاعَةُ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى نَفْىُ الشَّفَاعَةِ لِلْكُفَّارِ.

   ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ أَىْ فَمَا لِهَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ مَوَاعِظِ الْقُرْءَانِ مُعْرِضِينَ لا يَسْتَمِعُونَ لَهَا فَيَتَّعِظُوا وَيَعْتَبِرُوا.

ثُمَّ شَبَّهَهُمْ بِالْحُمُرِ الْمُسْتَنْفِرَةِ فِى شِدَّةِ إِعْرَاضِهِمْ وَنَفَارِهِمْ عَنِ الإِيمَانِ وَءَايَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ

   ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ أَىْ كَأَنَّ هَؤُلاءِ الْكُفَّارَ فِى فِرَارِهِمْ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿حُمُرٌ﴾ وَهِىَ الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ جَمْعُ حِمَارٍ ﴿مُّسْتَنْفِرَةٌ﴾ أَىْ نَافِرَةٌ.

   وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْفَاءِ أَرَادَ «مَذْعُورَةً« وَمَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْفَاءِ أَرَادَ »نَافِرَةً«.

   ﴿فَرَّتْ﴾ أَىْ نَفَرَتْ وَهَرَبَتْ ﴿مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ أَىْ مِنْ رُمَاةٍ يَرْمُونَهَا أَوْ مِنَ الأَسَدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ إِذَا عَايَنَتِ الأَسَدَ هَرَبَتْ فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكُونَ إِذَا سَمِعُوا النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ الْقُرْءَانَ هَرَبُوا مِنْهُ.

 

   ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ﴾ أَىْ مِنَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ عِظَاتِ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ ﴿أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا﴾ أَىْ أَرَادُوا أَنْ يُنْزَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كِتَابٌ فِيهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى فُلانِ ابْنِ فُلانٍ وَقِيلَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَلْيُصْبِحْ عِنْدَ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا صَحِيفَةٌ فِيهَا بَرَاءَتُهُ وَأَمْنُهُ مِنَ النَّارِ ﴿مُّنَشَّرَةً﴾ أَىْ مَنْشُورَةً غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ تُقْرَأُ كَالْكُتُبِ الَّتِى يُتَكَاتَبُ بِهَا أَوْ كُتُبِتْ فِى السَّمَاءِ نَزَلَتْ بِهَا الْمَلائِكَةُ سَاعَةَ كُتِبَتْ رَطْبَةً لَمْ تُطْوَ بَعْدُ وَهَذَا مِنْ زِيَادَةِ تَعَنُّتِهِمْ.

   أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّىِّ قَالَ قَالُوا لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فَلْيُصْبِحْ تَحْتَ رَأْسِ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا صَحِيفَةٌ فِيهَا بَرَاءَةٌ وَأَمَنَةٌ مِنَ النَّارِ فَنَزَلَتْ ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً﴾.

   ﴿كَلَّا﴾ أَىْ لَيْسَ يَكُونُ ذَلِكَ وَهَذَا رَدْعٌ عَمَّا أَرَادُوهُ مِنِ اقْتِرَاحِ الآيَاتِ وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ أُوتُوا صُحُفًا مُنَشَّرَةً صَدَّقُوا ﴿بَلْ لَّا يَخَافُونَ الآخِرَةَ﴾ أَىْ لا يَخَافُونَ عِقَابَ اللَّهِ وَلا يَصَدِّقُونَ بِالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَذَلِكَ الَّذِى دَعَاهُمْ إِلَى الإِعْرَاضِ عَنِ التَّذْكِرَةِ وَهَوَّنَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الِاسْتِمَاعِ لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

   ﴿كَلَّا﴾ رَدْعٌ عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ أَىْ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكُونَ فِى هَذَا الْقُرْءَانِ مِنْ أَنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ وَأَنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ وَلَكِنْ ﴿إِنَّهُ﴾ أَىِ الْقُرْءَانَ ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ أَىْ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ ذَكَّرَهُمْ بِهِ.

   ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ﴾ أَىْ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا الْقُرْءَانِ ذَكَرَهُ أَىِ اتَّعَظَ بِهِ فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ.

   ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ﴾ أَىْ وَمَا يَتَّعِظُونَ ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ أَىْ لَيْسَ يَقْدِرُونَ عَلَى الِاتِّعَاظِ وَالتَّذَكُّرِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُمْ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى﴾ أَىْ أَهْلٌ أَنْ يُتَّقَى بِأَدَاءِ مَا فَرَضَ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ ﴿وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾ أَىْ أَهْلٌ أَنْ يَغْفِرَ لِمَنْ تَابَ.