سُورَةُ التَّكَاثُرِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانِ ءَايَاتٍ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ (8)
قِيلَ إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلانٍ وَبَنُوا فُلانٍ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلانٍ فَأَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضَلالًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «التَّكَاثُرُ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا، أَيْ شَغَلَكُمُ الْمُبَاهَاةُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ وَالتَّفَاخُرُ بِالْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَالتَّشَاغُلُ بِالْمَعَاشِ وَالتِّجَارَةِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو عِمْرَانَ أَأَلْهَاكُم بِهَمْزَتَيْنِ مَقْصُورَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَقَرَأَتْ عَائِشَةُ ءَالْهَاكُمُ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَمْدُودَةٍ اسْتِفْهَامًا أَيْضًا.
﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ أَيْ مُفْتَخِرِينَ بِالأَمْوَاتِ تَزُورُونَ الْمَقَابِرَ وَتَعُدُّوُنَ مَنْ فِيهَا مِنْ مَوْتَاكُمْ تَكَاثُرًا وَتَفَاخُرًا، وَقِيلَ حَتَّى أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ وَأَنْتُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ حَضَرْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ زُوَّارًا تَرْجِعُونَ مِنْهَا إِلَى مَنَازِلِكُمْ فِي الْجَنَّةِ أَوْ فِي النَّارِ كَرُجُوعِ الزَّائِرِ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ ءاَدَمَ مَالِي مَالِي» قَالَ «وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ ءاَدَمَ مِنْ مَالِكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ».
﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾: ﴿كَلَّا﴾ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ، ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ هَذَا إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْمَوْتُ.
﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ هَذَا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ وَتَكْرَارُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ.
﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ أَعَادَ ﴿كَلَّا﴾ وَهُوَ زَجْرٌ وَتَنْبِيهٌ، وَالْمَعْنَى: لَوْ تَعْلَمُونَ الأَمْرَ عِلْمًا يَقِينًا لَشَغَلَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ عَنِ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ.
﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ أَيِ النَّارَ، وَهَذَا وَعِيدٌ ءَاخَرُ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَسَمِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ وَجَبَتْ لَهُمُ النَّارُ».
﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ أَيْ مُشَاهَدَةً فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ نَفْسُ الْيَقِينِ لِأَنَّ عَيْنَ الشَّىْءِ ذَاتُهُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ فِيهِ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاهُ» وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».
﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ﴾ الظَّاهِرُ الْعُمُومُ فِي النَّعِيمِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُتَلَذَّذُ بِهِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ وَمَفْرَشٍ وَمَرْكَبٍ، وَالأَمْنُ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ الْعَذْبُ وَصِحَّةُ الأَبْدَانِ وَالْفَرَاغُ وَكُلُّ شَىْءٍ مِنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا فَالْكَافِرُ يُسْأَلُ تَوْبِيخًا إِذْ لَمْ يَشْكِرِ الْمُنْعِمَ وَلَمْ يُوَحِّدْهُ، وَالْمُؤْمِنُ يُسْأَلُ عَنْ شُكْرِهَا وَالشُّكْرُ أَنْ لا يَعْصِيَهُ بِنِعَمِهِ.