سُورَةُ التَّكْوِيرِ
مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَهِيَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ءَايَةً
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: »مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيَقْرَأْ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾« صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ.
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَهَبَ نُورُهَا وَأَظْلَمَتْ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تُجْمَعُ الشَّمْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تُلَفُّ وَيُرْمَى بِهَا.
﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ أَيْ تَنَاثَرَتْ وَتَسَاقَطَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا ضَوْءٌ.
﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ أَيْ قُلِعَتْ مِنَ الأَرْضِ ثُمَّ سُوِّيَتْ بِهَا كَمَا خُلِقَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَيْسَ عَلَيْهَا جَبَلٌ وَلا فِيهَا وَادٍ.
﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ الْعِشَارُ: جَمْعُ عُشَرَاءَ وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا مِنْ وَقْتِ الْحَمْلِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَهُوَ اسْمُهَا إِلَى أَنْ تَضَعَ لِتَمَامِ السَّنَةِ، وَهِيَ أَنْفَسُ مَا يَكُونُ عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَعَزُّهَا عَلَيْهِمْ، فَيَتْرُكُونَهَا مُهْمَلَةً بِلا رَاعٍ وَلا حَالِبٍ لِمَا دَاهَاهُمْ مِنَ الأُمُورِ، وَهَذَا قُبَيْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ حَيْثُ لا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ. وَمَعْنَى »عُطِّلَتْ« سُيِّبَتْ وَأُهْمِلَتْ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْهَا بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ.
﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ أَيْ جُمِعَتْ بَعْدَ الْبَعْثِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُحْشَرُ الْوُحُوشُ غَدًا، أَيْ تُجْمَعُ حَتَّى يُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ تُرَدُّ تُرَابًا، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ ضَرْبِ الْمَثَلِ لإِظْهَارِ الْعَدْلِ وَإِلَّا فَلا تَكْلِيفَ عَلَى الْبَهَائِمِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ لَهَا أَرْوَاحٌ.
﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: يَذْهَبُ مَاؤُهَا فَلا يَبْقَى قَطْرَةٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ مُعَلَّقًا، وَقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ﴿سُجِّرَتْ﴾ أَيْ أُوقِدَتْ فَاشْتَعَلَتْ نَارًا، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُمَا.
﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَعَالِيقِهِ عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: »وَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ«.
﴿وَإِذَا الْمَوْءُودةُ سُئِلَتْ﴾ وَهِيَ الْجَارِيَةُ تُدْفَنُ وَهِيَ حَيَّةٌ وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ بِنْتًا دَفَنَهَا حَيَّةً إِمَّا خَوْفًا مِنَ السَّبِيِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَإِمَّا خَشْيَةَ الْفَقْرِ وَالإِمْلاقِ، وَكَانَ ذَوُو الشَّرَفِ مِنْهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ هَذَا وَيَمْنَعُونَ مِنْهُ، وَكَانَ صَعْصَعَةُ جَدُّ الْفَرَزْدَقِ يَشْتَرِيهِنَّ مِنْ ءَابَائِهِنَّ، فَجَاءَ الإِسْلامُ وَقَدْ أَحْيَا سَبْعِينَ مَوْءُودَةً. وَسُؤَالُهَا إِنَّمَا هُوَ لِتَبْكِيتِ وَائِدِهَا وَتَوْبِيخِهِ. وَالتَّبْكِيتُ هو التَّقْرِيعُ وَالتَّعْنِيفُ.
﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا تُخَاطَبُ بِهِ وَجَوَابُهَا أَنْ تَقُولَ: بِلا ذَنْبٍ، فَيَكُونَ أَعْظَمَ فِي الْبَلِيَّةِ وَظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَى قَاتِلِهَا.
﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ يَعْنِي صُحُفَ الأَعْمَالِ الَّتِي كَتَبَتْ فِيهَا الْمَلائِكَةُ مَا فَعَلَ أَهْلُهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ تُطْوَى بِالْمَوْتِ وَتُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقِفُ كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى صَحِيفَتِهِ فَيَعْلَمُ مَا فِيهَا فَيَقُولُ: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/49]، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ.
﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ قَالَ الزَّجَاجُ: قُلِعَتْ كَمَا يُقْلَعُ سَقْفُ الْبَيْتِ، وَالْكَشْطُ الْقَلْعُ عَنْ شِدَّةِ الْتِزَاقٍ.
﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ﴾ أَيْ أُوقِدَتِ النَّارُ إِيقَادًا شَدِيدًا، وَالسَّعَرُ: الْتِهَابُ النَّارِ وَشِدَّةُ إِضْرَامِهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : »أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ«. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ أَيْ قُرِّبَتْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَتَأْوِيلُهُ أَيْ قَرُبَ دُخُولُهُمْ فِيهَا وَنَظَرُهُمْ إِلَيْهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُقَرَّبُونَ مِنْهَا وَلا تَزُولُ عَنْ مَوْضِعِهَا، وَالآيَاتُ الَّتِي سَتَأْتِي هِيَ جَوَابُ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا.
﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ﴾ أَيْ عَلِمَتْ كُلُّ نَفْسٍ فَكَلِمَةُ »نَفْسٍ« نَكِرَةٌ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، مَا أَحْضَرَتْهُ فِي صَحَائِفِهَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ عَمَلٍ سَيِّءٍ قَبِيحٍ تَسْتَحِقُّ بِهِ دُخُولَ النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ »لا« زَائِدَةٌ وَالْمَعْنَى أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، وَالْخُنَّسُ: جَمْعُ خَانِسٍ وَخَانِسَةٍ، وَخَنَسَ عَنْهُ: تَأَخَّرَ، قَالَ الْحَافِظُ: »قَوْلُهُ – أَيِ الْبُخَارِيّ – (وَالْخُنَّسُ تَخْنِسُ فِي مَجْرَاهَا تَرْجِعُ وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ)، قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ وَهِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ تَخْنُسُ فِي مَجْرَاهَا تَرْجِعُ، وَتَكْنِسُ تَسْتَتِرُ فِي بُيُوتِهَا كَمَا تَكْنِسُ الظِّبَاءُ فِي الْمَغَايِرِ وَهِيَ الْكِنَاسُ، قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالنُّجُومِ الْخَمْسَةِ: بَهْرَام – وَهُوَ الْمَرِّيخُ – وَزُحَلُ، وعُطَارِدُ، والزُّهْرَةُ، وَالْمُشْتَرِي« اهـ، ثُمَّ قَالَ : »وَرَوَى سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هُنَّ الْكَوَاكِبُ تَكْنِسُ بِاللَّيْلِ وَتَخْنُسُ بِالنَّهَارِ فَلا تُرَى« اهـ. وَقَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: »وَخُنُوسُهَا اسْتِخْفَاؤُهَا بِالنَّهَارِ« اهـ، وَقَالَ: »وَالْخُنُوسُ: الِانْقِبَاضُ وَالِاسْتِخْفَاءُ« اهـ.
﴿الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ الكُنَّسُ: جَمْعُ كَانِسٍ وَكَانِسَةٍ، وَالْكَانِسُ مِنَ الْوَحْشِ مَا دَخَلَ فِي كِنَاسِهِ وَهُوَ الْغُصْنُ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ كَالظَّبْيِّ وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَوَارِي النُّجُومُ، وَالكُنَّسُ الَّتِي تَغِيبُ.
﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ قَالَ الْخَلِيلُ: أَقْسَمَ بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ، وَ﴿عَسْعَسَ﴾ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ فَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ.
﴿وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾ الصُّبْحُ: الْفَجْرُ وَهُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَ﴿إِذَا تَنَفَّسَ﴾ إِذَا امْتَدَّ ضَوْؤُهُ، وَهَذَا قَسَمٌ وَجَوَابُهُ هُوَ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريِمٍ﴾. ﴿إنَّهُ﴾ أَيِ الْقُرْءَان وَ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريِمٍ﴾ إِلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وَهُوَ عَزِيزٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ جِبْرِيلُ أُضِيفَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْقُرْءَانِ لِنُزُولِهِ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ أَيْ شَدِيدِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَا يُكَلَّفُ بِهِ لا يَعْجِزُ عَنْهُ وَلا يَضْعُفُ، وَقَدْ بَلَغَ مِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ قَلَعَ قُرَى ءَالِ لُوطٍ وَقَلَبَهَا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ذُو مَرْتَبَةٍ رَفِيعَةٍ وَشَرَفٍ عَظِيمٍ.
﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ أَيْ أَنَّ جِبْرِيلَ مُطَاعٌ تُطِيعُهُ الْمَلائِكَةُ، وَقَوْلُهُ: ﴿ثَمَّ﴾ أَيْ فِي السَّمَوَاتِ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَ»ثَمَّ« بِالْفَتْحِ اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ أَمِينٌ بِمَعْنَى مَأْمُون كَمَا يُقَالُ: قَتِيلٌ بِمَعْنَى مَقْتُول، أَيْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: »ثُمَّ« بِضَمِّ الثَّاءِ.
﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ﴾ هَذَا عَطْفٌ عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ وَالْمُرَادُ بِصَاحِبُكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَلَيْسَ مُحَمَّدٌ مَجْنُونًا حَتَّى يُتَّهَمَ فِي قَوْلِهِ كَمَا يَزْعُمُ الْكَفَرَةُ بُهْتَانًا بَلْ هُوَ صَادِقٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ خَيْرًا، وَالْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي أَلَمَّتْ بِهِ الْجِنُّ أَوْ أَصَابَهُ نَقْصٌ أَوْ عِلَّةٌ فِي دِمَاغِهِ فَسُتِرَ عَقْلُهُ، وَسُمِّيَ الْمَجْنُونُ مَجْنُونًا لِاسْتِتَارِ عَقْلِهِ.
﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ﴾ أَيْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَالْمُرَادُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ نَاحِيَةُ مَشْرِقِ الشَّمْسِ.
﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ أَيْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَبْخَلُ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.
﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ أَيْ وَمَا الْقُرْءَانُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ تُرْجَمُ بِالشُّهُبِ يُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا زَعَمَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَرَجِيمٌ بِمَعْنَى مَرْجُومٍ نَحْوُ قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ وَمَجْرُوحٍ.
﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾ هُوَ اسْتِضْلالٌ لِلْكُفَّارِ حَيْثُ نَسَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً إِلَى الْجُنُونِ وَمَرَّةً إِلَى الْكَهَانَةِ وَمَرَّةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ لِتَارِكِ الْجَادَّةِ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَالْمَعْنَى فَأَيُّ طَرِيقٍ أَهْدَى لَكُمْ وَأَرْشَدُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟!
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ: أَيْ مَا الْقُرْءَانُ إِلَّا عِظَةٌ لِلْخَلْقِ.
﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ أَيْ أَنَّ الْقُرْءَانُ ذِكْرٌ وَعِظَةٌ لِمَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ بِالدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ فَيَنْتَفِعُ بِالْذِكْرِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذَا الذِّكْرِ.
ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ لِلِاسْتِقَامَةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ وَمَا تَشَاءُونَ الِاسْتِقَامَةَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تِلْكَ الْمَشِيئَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي التَّوْفِيقِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَصَّصَ تَعَالَى مَنْ شَاءَ الِاسْتِقَامَةَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا وَتَنْبِيهًا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: »إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ لا يَعْمَلُ الْعَبْدُ خَيْرًا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلا شَرًّا إِلَّا بِخِذْلانِهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/ 111]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ يُونُس/ 100]، وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [سُورَةَ الْقَصَص/ 55] وَالآيُ فِي هَذَا كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ الأَخْبَارُ، وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بِالإِسْلامِ وَأَضَلَّ بِالْكُفْرِ« اهـ. وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَيْ مَالِكُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ فَهُوَ مَالِكٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَخَالِقٌ لَهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/ 96]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : »إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَانِعُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ«، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/ 110] فَتَقْلِيبُ اللَّهِ أَفْئِدَةَ الْعِبَادِ فِيهِ دِلالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَتَقْلِيبُ اللَّهِ أَبْصَارَ الْعِبَادِ فِيهِ دِلالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَضْلًا مِنْهُ وَكَرَمًا وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَدْلًا؛ فَمَنْ جَعَلَ الْمَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ لا لِرَبِّ الْعِبَادِ فَقَدْ كَفَرَ وَضَلَّ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ جَاءُوا يُجَادِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [سُورَةَ الْقَمَر].
وَعَلَى تَكْفِيرِهِمْ لِقَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ نَصَّ الْقُرْءَانُ الْكَريِمُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الَّذِينَ لا يُعْتَبَرُ مُخَالِفُهُمْ وَذَلِكَ لِثُبُوتِ حَدِيثِ »الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ« رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ تَكْفِيرَهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ عَمَّنْ لا يُحْصَى مِنَ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَعَلَى تَكْفِيرِهِمْ نَصَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالأَشْعَرِيُّ وَالْمَاتِرِيدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلا يَجُوزُ الشَكُّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/ 16] وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/ 96].
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿لِمَنْ شَآءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ذَاكَ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/ 29]. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق وَأَبُو الْمُتَوَكِّل وَأَبُو عِمْرَان »وَمَا يَشَاءُونَ« بِالْيَاءِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.