الأحد ديسمبر 7, 2025

كلام الله تعالى (2)

 

     الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

     أما بعد ففى كتاب الأسماء والصفات للبيهقى قال البخارى حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة فأما القرءان المبين المثبت فى المصاحف المسطور فى الكتب والموعى فى القلوب فهو كلام الله تعالى ليس بخلق اهـ [ذكره البخارى فى كتاب خلق أفعال العباد].

     لا شك الحرف والصوت معنى من معانى البشر مخلوق لله فلا يجوز عقلا ولا شرعا أن يكون الله يتكلم بحروف وأصوات إما بلغة العرب وإما بلغة غيرها كالسريانية لأنه لو كان كذلك لكان مثلنا. الإمام أبو جعفر الطحاوى يقول ومن وصف الله بمعنى من معانى البشر فقد كفر اهـ وهو قال هذا بيانا لما كان عليه أهل السنة من السلف وهو من السلف ليس رأيه الخاص. ثم عبارة البخارى هذه كثير من الأشاعرة والماتريدية يذكرونها فى كتبهم وليس مرادهم أن صفة الله التى هى صفة الكلام الذاتية تحل فى قلوب المؤمنين أو فى أسطر المصاحف لأن انتقال الصفة عن الموصوف لا يعقل لا يصح عقلا ولا سيما صفة الله تبارك وتعالى الأزلى الأبدى لأن صفاته يجب أن تكون أزلية أبدية بأزلية الذات وأبديته. وهناك ما يقرب هذا للفهم وهو أن الإنسان إذا كتب لفظ الجلالة الله وقيل ما هذا يقال الله ولا يفهم من ذلك أن ذات الله المقدس هو هذه الأحرف أشكال الحروف الألف واللام واللام والألف اللينة التى تلفظ ولا تكتب والهاء إنما الذى يفهم من هذا أن هذه الأشكال عبارة عن الذات المقدس. أما الذى يعتقد أن الله يتكلم كما نحن نتكلم يأتى أولا بالباء ثم السين ثم الميم إلى ءاخر حروف بسم الله الرحمٰن الرحيم هذا يلزم منه حدوث الذات لأن ما يقوم به صفة حادثة فهو حادث.

     وهذا من جملة التنزيه الذى يدل عليه قوله تعالى فى سورة الشورى ﴿ليس كمثله شىء﴾. هذه الجملة مع وجازتها وقلة حروفها فيها التنزيه الكلى لله تعالى، كأن هذه الجملة هى تفاصيل ما يذكره أهل السنة والجماعة أن الله تعالى ليس ذا لون ليس ذا حد ومساحة ليس ذا تطور ليس ذا انفعال ليس ذا تأثر إلى ءاخر ما هنالك من أمثلة التنزيه. وهذا ما أطبق عليه الماتريدية والأشاعرة وهما أهل السنة لأن الإمام أبا منصور الماتريدى وأبا الحسن الأشعرى إنما شهرا بالانتساب إليهما لأنهما قررا عقائد أهل السنة بالبراهين العقلية والنقلية مع رد شبه المخالفين وتشكيكاتهم من معتزلة ومشبة ومن شابههم.

     وقد ألف ابن مكى قصيدة لصلاح الدين الأيوبى فسميت القصيدة الصلاحية يصرح فيها مؤلفها بأن كلام الله الذاتى لا يجوز أن يكون أصواتا وحروفا. ثم صلاح الدين قرر تدريسها للكبار والصغار. هو صلاح الدين كان عالما له إلمام بعلم الحديث كان يحضر مجالس علم الحديث التى تروى فيها الأحاديث بالأسانيد وحفظ القرءان الكريم وحفظ التنبيه فى الفقه الشافعى وحفظ كتاب الحماسة.

     أما أناس من الحنابلة فقد قالوا إن الله تعالى يتكلم بصوت قديم أزلى أبدى وهذا أمر غير معقول.

     وكل ما يوهم خلاف هذا أى يوهم أن كلام الله الذاتى الأزلى يجوز أن يكون أصواتا وحروفا من النصوص فهو يؤول بأن المراد منه الكلام اللفظى المنزل الذى هو بلغة عربية كالقرءان أو لغة سريانية كالإنجيل أو لغة عبرانية كالتوراة.

     والكلام المنزل يطلق عليه كلام الله، اللفظ المنزل يسمى كذلك لأنه عبارة عن كلام الله الذاتى. الكلام الذاتى يقال له كلام الله وهذا اللفظ المنزل يقال له كلام الله. وما روى عن الإمام أحمد أنه قال من قال لفظى بالقرءان مخلوق فهو جهمى ما ثبت لكن أحمد كان يكره أن يقال لفظى بالقرءان مخلوق وكان يكره أن يقول لفظى بالقرءان غير مخلوق، وهذا يدل على أن الاعتقاد الذى وقر فى قلبه هو أن كلام الله الذاتى ليس حرفا ولا صوتا. وإنما كره ذلك لأنه قد يتطرق أفهام بعض الناس من عبارة لفظى بالقرءان مخلوق إلى أن القرءان مخلوق مطلقا وهذا هو المحظور وإلا فأى عاقل يشك بأن قول الرجل بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى الأخير أى عاقل يشك أنه مخلوق، لفظ الشخص بالقرءان من يشك أنه مخلوق، أليس هو الشخص القارئ مخلوقا ثم قراءته حادثة كانت بعد عدم ثم تنقضى، من يشك أن هذا مخلوق، فأحمد لا ينزل فى قلة العقل إلى هذا الحد. أحمد أصلا لا ينكر هذا الكلام لمعناه إنما أراد أن يسد التطرق إلى القول بخلق القرءان.

     ومعنى عبارة الطحاوى منه بدا بلا كيفية قولا اهـ أى باعتبار تكلم الله به أى بالقرءان ليس حرفا ولا صوتا ولا فيه تقديم وتأخير. لو كان كلامه تعالى بحرف وصوت كلفظ جبريل وسيدنا محمد ما احتاج إلى أن يقول بلا كيفية، فليفسروا أى المشبة معنى بلا كيفية لأن اللفظ لا يشك أن له كيفية وإنما أراد بقوله منه بدا بلا كيفية قولا أى باعتبار تكلم الله به [أى باعتبار كونه صفة الله تعالى] أى بالقرءان ليس حرفا ولا صوتا ولا فيه تقديم وتأخير. ثم قوله بعد ذلك كلام الله تعالى بالحقيقة معناه الحقيقة الشرعية لأن الحقيقة حقيقة لغوية وحقيقة عقلية وحقيقة شرعية.

     وما روى عن أحمد القرءان حيث يصرف غير مخلوق اهـ معناه لا يعبر عنه بمخلوق ولو اعتقد المعتقد أن اللفظ المنزل مخلوق لله ولكنهم يتحاشون النطق بعبارة القرءان مخلوق لأنه يخشى أن يوهم أنه يريد الكلام الذاتى.

     لو كان الله تعالى يقرأ القرءان كما يقرأه سيدنا جبريل وسيدنا محمد لم يكن معنى لقوله تعالى فى سورة القيامة ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرءانه﴾ لأنه لا يصح أن يكون معناها أن الله يقرأ القرءان على سيدنا محمد كما يقرأ الأستاذ على تلميذه، يسمعه الحروف على تعاقب، يبدأ بشىء ثم ينقضى ثم يبدأ بشىء ثم ينقضى إلى الأخير وإنما معنى ﴿فإذا قرأناه﴾ أى إذا قرأه جبريل عليك بأمرنا.

     ومعنى ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون[سورة يس] أحد أمرين الأول أنه إذا شئنا وجود شىء يكون بلا كلفة ولا مشقة علينا، ولفظ كن خفيف على لسان العبد فعبر الله تعالى فى القرءان بهذه العبارة للدلالة على أن الله تعالى يوجد مراداته بلا كلفة ولا مشقة لأن هذه الكلمة ما فيها كلفة ومشقة على العباد إذا نطقوا بها. والمعنى الثانى أن كن عبارة عن الحكم الأزلى بوجود الشىء يقال له الحكم التكوينى [أى أن الله يخلق الخلق بالحكم الأزلى بوجوده أى أن الله يخلق العالم بحكمه الأزلى والحكم كلام أزلى فى حق الله ليس كلاما مركبا من حروف وأصوات].

     هو بعض الناس يؤثر عليهم عندما يرون أن فلانا قال يتكلم متى شاء وكيفما شاء كما يروى عن بعض السلف فيقصر فهمه عن إدراك المقصود فيفسر هذه العبارة بأن الله ينطق يتكلم بكلامه الذاتى يبدأ به ثم يختم ثم يبدأ به ثم يختم كما يفعل البشر، وهذا عين التشبيه. وإنما معنى يتكلم متى شاء وكيفما شاء أى باللفظ المنزل، معناه ينزل اللفظ الذى هو عبارة عن كلامه الذاتى.

     الذى رزقه الله الفهم الصحيح يكتفى بقوله تعالى ﴿ليس كمثله شىء لأن هذا تنزيه مطلق. كذلك الذى يقول إن الله تعالى تكلم تكلما ذاتيا بالعربية يلزم منه أن يكون الله عربى اللغة، والعربية حادثة، وكذلك إذا قال هو ذاته تكلم تكلما ذاتيا بالسريانية يكون جعل الله سريانى اللغة، وكذلك العبرانية. هذا الاعتقاد ضلال. جعلوا الله سريانيا وعربيا وعبرانيا. ما هذا. أليس هذا دليل الحدوث.