الإثنين ديسمبر 8, 2025

معاصي البدن

 

   قال المؤلف رحمه الله: (فصل) ومن معاصي البدن عقوق الوالدين.

   الشرح أن من معاصي البدن أي من المعاصي التي لا تلزم جارحةً من الجوارح عقوق الوالدين أو أحدهما وإن علا ولو مع وجود أقرب منه، قال بعض الشافعية في ضبطه: هو ما يتأذى به الوالدان أو أحدهما تأذيًا ليس بالهين في العرف. ومن عقوق الوالدين الذي هو من الكبائر ترك الشخص النفقة الواجبة عليهما إن كانا فقيرين أما إن كانا مكتفيين فلا يجب الإنفاق عليهما لكن ينفق عليهما من باب البر والإحسان إليهما، فيسن له أن يعطيهما ما يحبانه، بل يسن أن يطيعهما في كل شىء إلا في معصية الله، حتى في المكروهات إذا أطاع أبويه يكون له ذلك رفعة درجة عند الله.

   قال الفقهاء إذا أمر أحد الوالدين الولد أن يأكل طعامًا فيه شبهة أي ليس حرامًا مؤكدًا يأكل لأجل خاطرهما ثم من غير علمهما يتقايؤه وقالوا إذا أمر أحد الوالدين ولده بفعل مباح أو تركه وكان يغتم قلب الوالد أو الوالدة إن خالفهما يجب عليه أن يطيعهما في ذلك.

   قال أهل العلم يشرع أن يطيع الولد والديه في المباح والمكروه لكن لا يجب طاعتهما في كل مباح بل يجب أن يطيعهما في كل ما في تركه يحصل لهما غم بسببه وإلا لا يكون واجبًا، فإذا طلب أحد الوالدين من الولد أن لا يسافر وكان سفره بلا ضرورة وجب عليه ترك ذلك السفر إذا كان يغتم بسفره. وإذا أراد الأب منع ولده من الخروج من البيت بدون إذنه فإن كان خروجه يسبب للأب غما شديدًا بحيث يحصل له انهيار أو شبه ذلك عندئذ لا يجوز له الخروج بدون إذنه بل يكون خروجه من الكبائر، فدرجة المعصية في ذلك على حسب الإيذاء الذي يحصل للوالد. فإذا خرج الولد البالغ بدون رضى والديه بحيث يغتمان من ذلك فعليه بكل خطوة سيئة [لا مجرد الكراهية من غير اغتمام] أما إن كان لضرورة فيجوز خروجه.

   وإذا طلب الأب أو الأم من الابن شيئًا مباحًا كغسل الصحون أو ترتيب الغرفة أو تسخين الطعام أو عمل الشاي وما أشبه ذلك ولم يفعل فإن كان يغتم قلب الوالد أو الوالدة إن لم يفعل حرام عليه أن لا يفعل.

   قال الله تعالى ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولًا كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا﴾ [سورة الإسراء]. أمر الله عباده أمرًا مقطوعًا به بأن لا يعبدوا إلا إياه وأمر بالإحسان للوالدين والإحسان هو البر والإكرام، قال ابن عباس »لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار» وقال عروة »لا تمتنع عن شىء أحباه».

   وقد نهى الله تعالى عباده في هذه الآية عن قول أف للوالدين لما فيه من الإيذاء لهما فلو طلبا منه أن يشتري لهما غرضًا مثلًا أو أن يعمل الشاي لهما أو أن يغسل الصحون فقال لهما أف جادا غير مازح فقد وقع في كبيرة، أما إن امتنع فقط ولم يقل لهما أف فإن كانا يتأذيان بذلك يكون معصيةً وأما إن كانا لا يتأذيان من امتناعه من ذلك فلا يكون معصيةً. وكلمة أف صوت يدل على التضجر وأصلها نفخك الشىء يسقط عليك من تراب ورماد، وللمكان تريد إماطة الأذى عنه فقيلت لكل مستثقل.

   ﴿ولا تنهرهما﴾ ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك، والنهي والنهر أخوان.

   ﴿وقل لهما قولًا كريمًا﴾ أي لينًا لطيفًا أحسن ما تجد كما يقتضيه حسن الأدب أو هو أن يقول يا أبتاه يا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب معهما.

   وفائدة ﴿عندك﴾ أنهما إذا صارا كلا [أي ثقلًا] على ولدهما ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه وذلك أشق عليه، فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أف فضلًا عما يزيد عليه، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها.

   ﴿واخفض لهما جناح الذل من الرحمة﴾ أي ألن لهما جانبك متذللًا لهما من فرط رحمتك إياهما وعطفك عليهما ولكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، وخفض الجناح عبارة عن السكون وترك التصعب والإباء، أي ارفق بهما ولا تغلظ عليهما.

   ﴿وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا﴾ أي مثل رحمتهما إياي في صغري حتى ربياني، أي ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاءً لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك، والدعاء مختص بالأبوين المسلمين.

   وروى الحاكم والطبراني والبيهقي في شعبه مرفوعًا »رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما«. وعن بهز ابن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال قلت يا رسول الله من أبر؟ قال »أمك« قلت ثم من؟ قال »أمك« قلت ثم من؟ قال »أمك« قلت ثم من؟ قال »أباك ثم الأقرب فالأقرب «أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه. فيفهم من هذا الحديث تقديم الأم على الأب في البر فلو طلبت الأم من ولدها شيئًا وطلب الأب خلافه وكان بحيث لو أطاع أحدهما يغضب الآخر يقدم الأم على الأب في هذه الحالة.

   وإنما حض رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا على بر الأم ثلاثًا وعلى بر الأب مرةً لعنائها وشفقتها مع ما تقاسيه من حمل وطلق وولادة ورضاعة وسهر ليل. وقد رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلًا يحمل أمه على ظهره وهو يطوف بها حول الكعبة فقال يا ابن عمر أتراني وفيتها حقها، قال »ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن قد أحسنت والله يثيبك على القليل كثيرًا«.

   وقد قال بعض العلماء بوجوب الاستغفار للأبوين المسلمين في العمر مرةً، ثم الزيادة على ذلك قربة عظيمة، وليس شرطًا أن يكون هذا الاستغفار بعد وفاتهما.

   فالولد إن استغفر لوالديه بعد موتهما ينتفع والداه بهذا الاستغفار حتى إنهما يلحقهما ثواب كبير فيعجبان من أي شىء جاءهما هذا الثواب فيقول لهما الملك »هذا من استغفار ولدكما لكما بعدكما«.  

   وإن قال أحد الوالدين لولده طلق زوجتك لأنهما لا يحبان زوجته مع أنها لا تؤذيهما يسن له أن يطيعهما في ذلك ولا يجب عليه، أما إن كانت تؤذيهما بالشتم والضرب ونحو ذلك أو كانت معروفةً بالفسق كالزنى وكان إن لم يطلقها يحصل لهما غم شديد بسبب ذلك يجب عليه أن يطلقها.

   وأما إن أمره أحد والديه بأن يتزوج فلانة وكان لا يرغب بالزواج منها يبين لهما السبب في ذلك ولا يجب عليه أن يتزوجها لمجرد أنهما أمراه بذلك ويكرهان عدم طاعتهما في ذلك من غير أن يحصل لهما غم. أما إن كان يحصل لهما غم شديد إن لم يتزوجها فإن قيل يجب عليه أن يتزوجها فلا بأس.

   وإن أراد أن يتزوج واحدةً وهما لا يريدان أن يتزوجها فإن كان يحصل لهما اغتمام شديد إن فعل لا يجوز له أن يتزوجها.

   وأما حديث: »الجنة تحت أقدام الأمهات« فهو ضعيف [قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في اتحاف السادة المتقين: »إسناده ضعيف وفيه من لا يعرف«] ومعناه ببر الأمهات تنال الجنة.

   وفي فتاوى الإمام الفقيه الحافظ شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني ما نصه »مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل به المقصود، إذ الناس أغراضهم تحملهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفًا ولا سيما إذا كان قصدهم تنقيص شخص أو أذاه فلا بد من مثال ينسج على منواله، وهو أنه مثلًا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو بحبسه فهل يكون ذلك عقوقًا أم لا؟ أجاب: هذا الموضع صرح فيه بعض العلماء الأكابر بعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنًا فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إلى أحد الوالدين إلى الكبائر، أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك، أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد، أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب، أو من وقيعة في العرض لها وقع.

   وبيان هذا الضابط أن قولنا »أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا« فمثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم والضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كان كبيرةً.

   وخرج بقولنا »أن يؤذي« ما لو أخذ فلسًا أو شيئًا يسيرًا من مال أحد والديه فإنه لا يكون كبيرةً وإن كان لو أخذ من مال غير والديه بغير طريق معتبر كان حرامًا من الكبائر لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو، فإن أخذ مالًا كثيرًا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرةً في حق الأجنبي فكذلك يكون كبيرةً هنا، وإنما الضابط فيما يكون حرامًا صغيرةً بالنسبة إلى غير الوالدين.

   وخرج بقولنا »بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا« إذا طالب أحد الوالدين بما له عليه فإنه إذا طالبه به أو رفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه فإنه لا يكون من العقوق لأنه ليس بحرام في حق الأجنبي وإنما يكون العقوق بما يؤذي أحد الوالدين مما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا وهذا ليس بموجود هنا فافهم ذلك فإنه من النفائس.

   وأما الحبس فإن فرعنا على جواز حبس الولد الوالدين كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق، وإن فرعنا على منع حبسه كما هو المصحح عند ءاخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيبه إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقا إذا كان يعتقد الوجه الأول، فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لإعسار ونحوه، فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والديه حيث لا يجوز كان حرامًا.

   وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شىء، وقد جاء بعض ولد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي من والده في اجتياح ماله وحضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك عقوقًا ولا نهى الولد عن الشكوى المذكورة [أخرجه سعيد بن منصور في سننه]. وأما إذا نهر الولد أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير والديه وكان محرمًا كان في حق أحد والديه كبيرةً.

   وقولنا: »أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل فيه الخوف على الولد« إلى ءاخره أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك أو أحد الوالدين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال» أحي والداك؟ «قال نعم، قال »ففيهما فجاهد« [أخرجه البخاري في صحيحه]، وفي رواية» ارجع إليهما ففيهما المجاهدة« [أخرجه البيهقي في سننه]، وفي رواية: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال »ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما« [أخرجه أبو داود في سننه]، في إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه. وروى أبو سعيد الخدري أن رجلًا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال يا رسول الله إني قد هاجرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» قد هجرت الشرك ولكنه الجهاد هل لك أحد باليمن؟« قال: أبواي، قال» أذنا لك؟«، قال: لا، قال »فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما« رواه أبو داود [في سننه] ولفظه أن رجلًا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال »هل لك من أحد في اليمن؟« وساق ما تقدم، وفي إسناده دراج أبو السمح المصري عبد الرحمٰن بن سمعان ضعفه أبو حاتم وغيره ووثقه يحيى« اهـ.

   فلو كان الجهاد الذي دعي له الولد إلى أرض بعيدة ما كان المسلمون فيها قبل هذا فهنا لا يجوز للولد أن يخرج بدون إذن أبويه لأن الجهاد في هذه الحال فرض كفاية. أما إذا كان الكفار دخلوا إلى بلاد المسلمين فهنا لا يتوقف مشروعية جهاد الولد على إذن الأبوين، رضيا أو لم يرضيا يجوز له أن يتوجه إلى القتال بل يجب عليه حينئذ.

   قال في الفتاوى: وقولنا »ما لم يتهم الوالد في ذلك« أخرجنا به ما إذا كان الوالد كافرًا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدًا.

   وقولنا »وأن يخالفه في سفر« إلى ءاخره أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة، وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب بحر حيث يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه يقتضي أنه لا يجب الاستئذان، ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدًا.

   وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافًا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب أو إرشاد أستاذ ونحو ذلك، فإن لم يتوقع شيئًا من ذلك احتاج إلى استئذان.

   وأما سفره وغيبته طويلًا لفائدة مما ذكر فهذا يمنع منه عند حصول الضرر والتلهف، ومتى كان هناك خوف من سفر في بادية مخطرة فإنه يجب الاستئذان، وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره يضيع الواجب فللوالد المنع كصاحب الدين الحال بالنسبة إلى يوم السفر وبالنسبة إلى غيره فيه تضييع ما يقوم به الكفاية ولا كذلك في الدين، وأما إذا كان الولد بسفره تحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف في سفره تهمةً فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى.

   وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الوالد فيه ضرر بالكلية وإنما هو إرشاد للولد فإذا فعل ما يخالف ذلك لم يكن عقوقًا وموافقة الوالد أولى«. انتهى كلام البلقيني.

   وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال» ثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث ورجلة النساء« رواه البيهقي [في السنن الكبرى] أي لا يدخل هؤلاء الثلاثة الجنة مع الأولين إن لم يتوبوا وأما إن تابوا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» التائب من الذنب كمن لا ذنب له «رواه ابن ماجه [في سننه]. وأخرج البخاري ومسلم [في صحيحيهما] من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» من الكبائر شتم الرجل والديه« قيل: وهل يسب الرجل والديه؟ قال »نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه«.

   وروى الحاكم [في المستدرك] بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال »كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه «يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة، وقد قيل إنه في طرابلس الشام ضرب رجل أمه برجله فأصابه داء الفيل في رجله تضخمت رجله كالفيل وتشققت وصار يطلع منها رائحة كريهة جدا.

   وقال عليه الصلاة والسلام »ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده «رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد. وهذا معناه إن دعا عليه بحق أما إن دعا عليه بغير حق فلا يضره ذلك، فليحذر من اعتقاد بعض الناس أن غضب الأم والأب من غضب الله على الإطلاق، أما إن غضبا عليه بحق فهذا دليل غضب الله عليه أي أن الله يعاقبه على ذلك، فمن أراد النجاح والفلاح فليبر أبويه فإن من بر أبويه تكون عاقبته حميدةً فبر الوالدين بركة في الدنيا والآخرة.

   وقد ورد في الحديث الصحيح: »بروا ءاباءكم يبركم أبناؤكم «رواه الطبراني في الأوسط وغيره ومعناه في الغالب هكذا يكون وليس بالكلية.

   ومن بر الوالدين أن يبر من كان أبوه يحبه بعد وفاة أبيه بالزيارة والإحسان، كذلك من كانت تحبه أمه بعد وفاتها أن يصلهم ويحسن إليهم ويزورهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم »إن من أبر البر أن يبر الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي« أي بعد أن يموت. والحديث رواه مسلم وغيره بقريب من هذا اللفظ. ومن بر الوالدين زيارتهما بعد موتهما.

   قال المؤلف رحمه الله: والفرار من الزحف وهو أن يفر من بين المقاتلين في سبيل الله بعد حضور موضع المعركة.

   الشرح من جملة معاصي البدن الفرار من الزحف وهو من الكبائر إجماعًا قال الشافعي رضي الله عنه [في الأم] »إذا غزا المسلمون ولقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا أي أن يفروا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف لقتال أو التحيز إلى فئة« اهـ. ومعنى قول الشافعي إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة أي تراجعوا لمصلحة القتال أو انحازوا إلى فئة أخرى ليتقووا بها. هذا في الحال التي يكون فيها مع المسلمين سلاح أما إذا لم يكن معهم سلاح إلا الشىء الخفيف والكفار معهم سلاح يهلك المسلمين إن ثبتوا أمامهم فيجوز لهم الفرار.

   قال الفقهاء من المذاهب الأربعة: إذا خاف المسلمون الهلاك جاز لهم مصالحة الكفار ولو بدفع المال لهم وذلك لأنه لا خير في إقدام المسلمين على القتال إن علموا أنهم لا ينكون بالعدو أي لا يؤثرون وقد قال صلى الله عليه وسلم »لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه« قيل: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال »يتعرض من البلاء لما لا يطيق« رواه الترمذي [في سننه] وفيه دليل على أن المخاطرة بالنفس المحمودة هي التي يحصل من ورائها نفع. أما إن كان في مستطاع المسلمين الجهاد فقد قال الفقهاء لا يجوز إخلاء سنة من الغزو كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث. أما الآيات فمنها قوله تعالى ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله﴾ [سورة التوبة/29] وقوله تعالى ﴿وقاتلوا المشركين كآفةً كما يقاتلونكم كآفةً﴾ [سورة التوبة/36] وقوله تعالى ﴿كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾ [سورة البقرة/216] وقوله تعالى ﴿تقاتلونهم أو يسلمون﴾ [سورة الفتح/16] وقوله تعالى ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ [سورة الأنفال/39] فرض عليكم أن تقاتلوهم حتى لا يفتنوكم عن دينكم، وليكون الدين كله لله أي ينتشر الإسلام. أي انشروا الإسلام بقدر وسعكم لأنه رحمة للناس وبه ينجو الإنسان من الخلود في النار.

   وقوله تعالى ﴿يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم﴾ [سورة التوبة/73].

   وأما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم» أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله« وهذا الحديث متواتر رواه خمسة عشر صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

   وقوله صلى الله عليه وسلم »أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم« [رواه البخاري في صحيحه].

   وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الراية لعلي رضي الله عنه وقال: »سر ولا تلتفت«، فسار علي فقال من غير أن يلتفت يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال الرسول: »سر على رسلك، قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم«.

   وروى البخاري [في صحيحه] عن المغيرة بن شعبة أنه قال لملك الكفار حين غزا الصحابة العجم: »فأمرنا نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية«.

   وقد نص فقهاء المذاهب الأربعة على وجوب الجهاد ففي كتاب الكافي لابن قدامة الحنبلي ما نصه »وأقل ما يفعل (الجهاد) مرةً في كل عام«.

   وفي »المغني« له ما نصه »ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم، إما أن يكونوا جندًا لهم دواوين من أجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعًا بحيث إذا قصدوا العدو حصلت المنعة بهم«.

   وفي حاشية ابن عابدين الحنفي على »شرح تنوير الأبصار« ما نصه: »هو فرض كفاية ابتداءً قال الشارح وإن لم يبدؤونا« اهـ.

   وفي كتاب »التاج والإكليل شرح مختصر خليل« لأبي عبد الله بن يوسف بن أبي القاسم العبدري المالكي الشهير بالمواق المتوفى سنة ثمانمائة وسبعة وتسعين ما نصه: »وإنما يقاتل الكفار على الدين ليدخلوا من الكفر إلى الإسلام لا على الغلبة فينبغي للمجاهد أن يعقد نيته أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا«.

   ثم قال »وفي الكافي فرض على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرةً ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم«.

   وأما المذهب الشافعي ففي كتاب »روضة الطالبين« للنووي ما نصه »قد يكون أي الجهاد فرض كفاية وقد يتعين ثم قال وأقله مرة واحدة في كل سنة فإن زاد فهو أفضل. ثم قال: ولا يجوز إخلاء سنة عن جهاد إلا لضرورة بأن يكون في المسلمين ضعف وفي الكفار كثرة ويخاف من ابتدائهم الاستئصال ثم نقل عن إمام الحرمين ما نقله عن الأصوليين أن الجهاد لا يختص بمرة في السنة ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة، وما ذكره الفقهاء حملوه على العادة الغالبة أنه لا يتمكن منه في السنة أكثر من مرة« اهـ.

   فبهذا يظهر فساد قول سيد قطب الذي حرف معاني بعض الآيات وقال إن الجهاد شرع للدفاع عن النفس فقط مستدلا بقول الله تعالى ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين﴾ [سورة البقرة/193] فقال [في تفسيره المسمى في ظلال القرءان] إن معنى ﴿فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين﴾ أي إن انتهوا عن الحيلولة بيننا وبين الدعوة إلى الإسلام لا يجوز لنا أن نقاتلهم.

   والآية معناها إن انتهوا عن كفرهم فلا تقاتلوهم كما نص على ذلك علماء التفسير [انظر جامع البيان والجامع لأحكام القرءان وتفسير النسفي] وفي تفسير سيد قطب هذا سد لباب الجهاد.

   ولو كان الأمر كما يقول ما انتشر الإسلام في الشرق والغرب فرسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بنفسه سبع عشر غزوةً أو تسع عشر والبعوث والسرايا التي أرسلها للجهاد نحو ستين، والصحابة بعده استمروا في الجهاد حتى وصلوا في أيام عثمان إلى الصين شرقًا وإلى طنجة غربًا كل هذا في ظرف خمسة وعشرين سنةً. ومعلوم أنهم لم يصلوا إلا بالجهاد، فلو كان الأمر كما يقول المحرفون ما توسع الإسلام.

   فالمقصود الأصلي من الجهاد حفظ دين الإسلام على المسلمين حتى لا يفتنهم الكفار، ولنشر دين الله، ولإنقاذ الكفار من الخلود الأبدي في النار رحمةً بهم.

   ثم وافق سيد قطب في تفسيره الفاسد هذا أناس من أهل هذا العصر كيوسف القرضاوي ومحمد سعيد رمضان البوطي وفيصل مولوي وسيد سابق وسعاد ميبر وعمرو خالد وغيرهم.

   فإن قالوا أليس الله قال ﴿لا إكراه في الدين﴾ [سورة البقرة/256] وقال ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله﴾ [سورة يونس] قلنا قوله تعالى ﴿لا إكراه في الدين﴾ فيه أقوال منها أن هذه الآية نزلت في بدء الأمر قبل أن يأتي الإذن بالقتال لأنه في ذلك الوقت كان الرسول ممنوعًا من الدفاع عن نفسه وعن أتباعه بالجهاد لأنهم كانوا ضعفاء، ثم بعد ثلاث عشرة سنةً جاءه الإذن بالقتال قال الله تعالى ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير﴾ [سورة الحج/39] فنسخت تلك الآية بهذه الآية وءايات القتال الأخرى فمعنى الآية ﴿لا إكراه في الدين﴾ لا تكرهوا أحدًا على الدخول في الإسلام بالقتال حتى يأتيكم الإذن، ثم جاءهم الإذن بالقتال فنسخت هذه الآية بآيات القتال، وقال بعضهم في ءاية ﴿لا إكراه في الدين﴾ أي أنت يا محمد لا تستطيع أن تكره قلوبهم على الإيـمان. وقال بعضهم أي ليس لك أن تكره الذين يدفعون الجزية ما داموا يدفعون الجزية ويخضعون لسلطة الإسلام أي يلتزمون الشروط.

   وأما قوله تعالى ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله﴾ فقال القاضي ابن عطية الإشبيلي في تفسيره في سورة يونس (ج3/ ص145) ما نصه »المعنى أن هذا الذي تقدم إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم ولو شاء الله لكان الجميع مؤمنًا، فلا تأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك وادع ولا عليك فالأمر محتوم، أفتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيـمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره« اهـ. فتبين أن معنى الآية أن الرسول عليه السلام ليس عليه أن يكره القلوب لأن القلب أمره مخفي فليس على الرسول أن يكره الناس حتى تصير قلوبهم مؤمنةً لأن هذا لا يملكه الرسول وليس في استطاعته إنما الذي في استطاعته صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الإسلام ويقاتلهم على ذلك إلى أن يسلموا بأن يتشهدوا أو إلى أن يدفعوا الجزية إن عدلوا إلى الجزية فهذا الذي كلفه الرسول لأن هذا عمل الظاهر. فظهر بهذا أنه لم يقل أحد من أهل العلم إن معنى الآية يدل على حرية الرأي والفكر وإن الكافر لا يكره على الدخول في الإسلام.

   فنحن إن رأينا مسلمًا يريد الانتحار بأن يرمي بنفسه من شاهق جبل أو بأن يرمي نفسه في البحر ليغرق أو بأن يرمي بنفسه في النار ليحترق نسعى لإنقاذه من الهلاك فبالأولى أن نسعى لإنقاذ الكافر من الكفر الذي يؤدي به إلى الخلود في نار جهنم إن مات عليه.

   وأولى ما ذكر في تفسير ﴿لا إكراه في الدين﴾ القول بأن المعنى لا تستطيعون أن تكرهوا القلوب حتى تصير مؤمنةً ويؤيد ذلك قوله ﴿قد تبين الرشد من الغي﴾ أي أن الرسول بلغ وبين طريق الإسلام الذي هو الرشد فمن سمع وقبل تبليغه فقد اهتدى أي نجا من الضلال.

   قال المؤلف رحمه الله: وقطيعة الرحم.

   الشرح أن من معاصي البدن قطيعة الرحم وهي من الكبائر بالإجماع، وهي تحصل بإيحاش قلوب الأرحام وتنفيرها إما بترك الإحسان بالمال في حال الحاجة النازلة بهم أو ترك الزيارة بلا عذر والعذر كأن يفقد ما كان يصلهم به من المال، أو يجده لكنه يحتاجه لما هو أولى بصرفه فيه منهم. والمراد بالرحم الأقارب من جهة أبيه وأمه كالجدات والأجداد وكالخالات والعمات وأولادهن والأخوال والأعمام وأولادهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم »ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من وصل رحمه إذا قطعت« ففي هذا الحديث إيذان بأن صلة الرجل رحمه التي لا تصله أفضل من صلته رحمه التي تصله لأن ذلك من حسن الخلق الذي حض الشرع عليه حضا بالغًا وهذا الحديث رواه البخاري [في صحيحه] والترمذي [في سننه] وقال الترمذي: حديث حسن صحيح ورواه أبو داود [في سننه] وأحمد [في مسنده].

   وقطيعة الرحم تكون بأن يؤذيهم أو لا يزورهم فتستوحش قلوبهم منه أو هم فقراء محتاجون وهو معه مال زائد عن حاجته ويستطيع مساعدتهم ومع ذلك يتركهم. قال الله تعالى ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام﴾ [سورة النساء/1] أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها. وقال تعالى ﴿والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار﴾ [سورة الرعد/25]. وقال سبحانه وتعالى ﴿فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم﴾ [سورة محمد].

   وروى البخاري [في صحيحه] والطبراني [في الكبير] والبزار [في مسنده] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال »من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه«، وروى البخاري [في صحيحه] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ في أثره فليصل رحمه« ومعنى ينسأ في أثره أي يطول في عمره، وروى البخاري ومسلم [في صحيحيهما] من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم »لا يدخل الجنة قاطع« يعني قاطع رحم أي لا يدخلها مع الأولين.

   واعلم أن رحمك إن كان بحيث تستطيع أن تزوره فلا بد أن تزوره ولا يكفي أن ترسل السلام إليه من غير أن تزوره، إنما لوقت من الزمن يكفي إرسال السلام له أما أن يبقيا في بلد واحد ثم لا يزوره في السنة ولا في السنتين ولا في الثلاث سنوات مع إمكانه أن يزوره فهذه قطيعة الرحم. فإن كان أرحام الشخص كثرةً فدعاهم للطعام عنده مثلًا واجتمع بهم وزارهم في الأفراح والأحزان فإن كان ذلك يرضيهم يكفي ذلك وإلا فلا بد من زيارتهم في بيوتهم.

   أما إن كان ذلك الرحم لا يحب دخول هذا القريب بيته ولا يرضى وكان هذا القريب يعلم أنه لا يرضى فليس عليه أن يدخل لأنه لا يرضى، لكن بقي أن يرسل إليه السلام أو يرسل إليه رسالةً إلا أن يكون له عذر وأما إن كان رحمه هذا يحب دخوله بيته وقعوده عنده فلا يكفي إرسال السلام للمدة الطويلة، أما للمدة القصيرة فيكفي، فإذا زار القريب قريبه في أحد العيدين وزاره في الأفراح والأحزان لا يعتبر ذلك قطيعةً هذا في حال لم يكن للشخص عذر، أما إن كان له عذر كأن كان في بلد بعيدة ولا يسهل عليه أن يذهب لزيارة أقربائه ولو غاب خمس سنين أو نحو ذلك وهو يرسل لهم سلامًا من وقت إلى وقت ما عليه شىء. ولو زار قريبه فلم يجده يترك له ورقةً على باب البيت أنا فلان جئت لزيارتك فلم أجدك يكفي ذلك.

   ومن الأعذار في عدم زيارة الرحم أن يكون سمع من قريبه هذا ردةً كسب الله أو الأنبياء أو الملائكة أو الاستهزاء بالقرءان وما أشبه ذلك فإن هذا لا صلة له.

   وكذا يجوز له قطعه إن كان فاسقًا يشرب الخمر أو يترك الصلاة أو يزني وما أشبه ذلك ولكن هذا لا يقطعه إلا بعد إعلامه بالسبب ليزجره عن مثل هذه الأفعال. وإن كانت رحمه من النساء حاسرةً فله عذر في عدم زيارتها إن كانت لا تستر عورتها عند زيارته لها لكن بعد إعلامها بالسبب.

   روى البخاري [في صحيحه] من حديث أنس بن مالك أن رسول الله قال: »من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه «وينسأ له في أثره أن يطول عمره.

   وأخرج القضاعي في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »صلة الرحم تزيد في العمر« يعني كان في علم الله تعالى أنه لولا هذه الصلة ما كان عمره كذا، ولكنه علم أنه يصل رحمه فيكون عمره أزيد من ذلك، فيكون المعلوم المحكوم أنه يصل رحمه ويعيش إلى هذه المدة. معناه علم الله لا يتغير الله عالم في الأزل أن هذا الإنسان يكون حاله كذا وكذا، الله كتب في اللوح المحفوظ أن هذا الإنسان يعيش إلى كذا إن وصل رحمه وأن يعيش إلى كذا أي أقل من ذلك إن لم يصل والله يعلم أنه يصل أو لا يصل فلا يكون إلا ما علم الله من العمر.

   وروى البيهقي في كتاب »القضاء والقدر« من حديث علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم »من سره أن يمد الله في عمره ويوسع له رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه«.

   وقطيعة الرحم من أسباب تعجيل العذاب في الدنيا قبل الآخرة. فقد روى أحمد [في مسنده] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال »ما من ذنب أجدر بأن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم« والبغي معناه الاعتداء على الناس.

   قال المؤلف رحمه الله: وإيذاء الجار ولو كافرًا له أمان أذًى ظاهرًا.

   الشرح أن من معاصي البدن إيذاء الجار ولو كافرًا له أمان إيذاءً ظاهرًا ويحصل ذلك بأن يشرف على حرمه أو يبني ما يؤذيه مما لا يسوغ شرعًا، أما الاسترسال في سبه وضربه بغير سبب شرعي فأشد وزرًا بحيث إن الأذى القليل لغير الجار كثير بالنسبة إليه، فينبغي الإحسان إلى الجار والصبر على أذاه وبذل المعروف له، وروي عن سهل التستري أنه كان له جار مجوسي فانفتح خلاء المجوسي إلى دار سهل فأقام سهل مدةً ينحي في الليل ما يجتمع من القذر في بيته حتى مرض فدعا المجوسي واعتذر منه [فيه تأليف لذلك المجوسي وتقريب له] بأنه يخشى أن ورثته لا يتحملون ذلك الأذى كما كان يتحمله فيخاصمون المجوسي فتعجب المجوسي من صبره على هذا الأذى العظيم ثم قال له: تعاونني بذلك هذه المدة الطويلة وأنا على ديني مد يدك لأسلم فمد يده فأسلم ثم مات سهل رضي الله عنه. فأهل الذمة والمعاهدون والمؤمنون لا يجوز إيذاؤهم والمعاهدون هم الذين عاهدهم أي هادنهم الخليفة أو سلطان المسلمين الذي يحكم ناحيةً، فإن نقضوا العهد جاز قتلهم وفي الحديث: »من أمن رجلًا على دمه ثم قتله فأنا بريء منه ولو كان المقتول كافرًا «رواه ابن حبان [انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان] ولا يقتل المسلم بالكافر المؤمن ولكن يعزر وعليه ثلث دية المسلم إن لم يكن مجوسيا أو وثنيا وإلا فثلث خمس ديته وكفارة ظهار. وأكثر مدة الأمان للكافر أربعة أشهر كأن يقول له لا تخف أو أنت في أماني فإن أمنه حرم عليه قتله وكذلك على من علم من المسلمين بأنه مؤمن بشرط أن لا يكون في تأمينه ضرر على المسلمين كأن يكون جاسوسًا.

   وإذا قال الكافر لمسلم دخل بلاد الكفار أنت في أماني حرم على المسلم قتله وأخذ ماله وكذلك إذا أعطوه تأشيرة الدخول إلى بلادهم ولو إلى عشر سنين أو أكثر لأن هذا من جملة العهد ففي الحديث» لا إيـمان لمن لا عهد له «رواه أحمد وابن حبان. أي لا يكون كامل الإيـمان من نقض العهد.

   قال المؤلف رحمه الله: وخضب الشعر بالسواد وأجازه بعض الأئمة إذا لم يكن يؤدي إلى الغش والتلبيس.

   الشرح أن من معاصي البدن الخضب بالسواد أي دهن الشعر وصبغه بالأسود. وهو حرام للرجل والمرأة على القول المختار في المذهب الشافعي إلا للجهاد وأجازه بعض الأئمة إذا لم يكن يؤدي إلى الغش والتلبيس كأن كان عنده عبد مملوك يريد أن يبيعه وهو شائب فسود له شعره حتى يدفع له فيه ثمن أكثر، أو شابت المرأة فسودت شعرها حتى يخطبها الرجال، وقال بعض الشافعية يجوز للمرأة أن تخضب بالسواد بإذن زوجها. أما المرأة الخلية أي العزباء فأمرها شديد فلا يجوز لها أن تخضب بالسواد لما فيه من الغش والتلبيس. وأما خضب الشعر بالأصفر والأحمر فللرجال فيه ثواب وللمتزوجة إذا أمرها زوجها كذلك.

   قال المؤلف رحمه الله: وتشبه الرجال بالنساء وعكسه أي بما هو خاص بأحد الجنسين في الملبس وغيره.

   الشرح من معاصي البدن التي هي من الكبائر تشبه الرجال بالنساء في المشي أو في الكلام أو في اللباس لكن تشبه النساء بالرجال أشد إثمًا ولا ينظر إلى الغلبة فما كان خاصا بأحد الصنفين من الزي فهو حرام على الصنف الآخر وما لا فلا.

   روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.

   وروى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل.

   فتشبه الرجال بالنساء الذي هو حرام وتشبه النساء بالرجال الذي هو حرام هو فيما كان خاصا في الأصل بأحد الفريقين دون الآخر، أما ما كان يستعمله الفريقان ولو غلب في أحدهما لا يكون تشبهًا إن لبسه الآخر، هذه القاعدة وليس للعرف دخل في هذا، وقال بعض الشافعية تعتبر عادة الناحية فالناحية التي يختص النساء فيها بزي دون الرجال يحرم على أهل تلك الناحية من الرجال لبسه وكذلك العكس.

   فلا يجوز للأهل أن يلبسوا الصبي ثياب البنات ولا العكس ويمنع الصبي من ذلك إن فعله.

   ومما يحرم التشبه بالكفار وهو من الكبائر فيحرم التشبه بهم في الزينة واللباس ونحو ذلك ومن ذلك وضع الحلق في الفرج والسرة واللسان. وكذلك يحرم التشبه بالفجار أي الفساق كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم »من تشبه بقوم فهو منهم« رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما.

   وقال عليه الصلاة والسلام: »ائتزروا وتسرولوا وخالفوا أهل الكتاب« رواه الإمام أحمد [في مسنده]، معناه أحيانًا البسوا الإزار وأحيانًا البسوا السروال وخالفوا أهل الكتاب لأن أهل الكتاب ما كانوا يلبسون إلا السروال، فإذا عمل الكفار زيا من الثياب أو غيرها وشاع بينهم فهذا يحرم على المسلمين لبسه، أما ما عمله الكفار وشاع بينهم وبين المسلمين ابتداءً فلا يحرم على المسلمين لبسه.

   الرسول عليه السلام كان بعيدًا من التشبه بالكفار حتى إنه كان يصوم السبت والأحد مخالفةً للكفار لأن اليهود عيدهم السبت والنصارى عيدهم الأحد قال عليه الصلاة والسلام» إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد مخالفتهم« رواه البيهقي في السنن.

   قال المؤلف رحمه الله: وإسبال الثوب للخيلاء أي إنزاله عن الكعب للفخر.

   الشرح أن من معاصي البدن تطويل الثوب للخيلاء أي الكبر ويكون ذلك بإرسال الإزار إلى أسفل من الكعبين، فإنزال الإزار إلى ما تحت الكعبين حرام من الكبائر إن كان للبطر وإلا كان مكروهًا والطريقة المستحسنة شرعًا أن يكون الإزار ونحوه إلى نصف الساقين لحديث أبي داود» إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه« [أخرجه أبو داود في سننه].

   وأما المرأة فتسدل ثوبها ذراعًا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم »من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة« [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما] فقالت أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن قال» يرخين شبرًا «قالت إذن تنكشف أقدامهن قال» فيرخينه ذراعًا لا يزدن« رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.

   قال المؤلف رحمه الله: والحناء في اليدين والرجلين للرجل بلا حاجة.

   الشرح أن من معاصي البدن استعمال الحناء أي الخضاب به في اليدين والرجلين للرجل بلا حاجة إليه وذلك لما فيه من التشبه بالنساء أما إن كان لحاجة كأن قال له طبيب ثقة أن يفعل ذلك للتداوي فيجوز، فخرج بالرجل المرأة فإن كان لإحرام استحب لها الخضاب سواء كانت متزوجةً أو غير متزوجة شابةً أو عجوزًا، وإذا خضبت عمت اليدين بالخضاب أي بلا نقش وتطريف، قال بعض الشافعية: يسن لغير المحرمة أيضًا إن كانت حليلةً أي متزوجةً وإلا كره. والنقش هو التنقيط وهو غير الوشم، أما الوشم يكون بغرز الجلد بالإبرة حتى يطلع الدم ثم يذر عليه الكحل الأسود أو شىء أخضر حتى يدخل هذا ويختلط بالدم فيبقى لونه. أما النقش على الجلد فيكون بدون غرز بإبرة بل يكون على ظاهر الجلد فإذا غسل الجسم ذهب. وأما التطريف فهو وضع الحناء على أطراف الأصابع فقط. قال الإمام أحمد لتغمس غمسًا.

   قال المؤلف رحمه الله: وقطع الفرض بلا عذر.

   الشرح من معاصي البدن قطع الفرض أي الأداء والقضاء ولو كان موسعًا معناه لو كان الوقت واسعًا بحيث يستطيع أن يصلي مثلًا ضمن الوقت إن قطع هذه، فلا يجوز بعد أن أحرم بها أن يقطعها سواء كان الوقت واسعًا أو ضيقًا لقوله تعالى ﴿ولا تبطلوا أعمالكم﴾ [سورة محمد/33]. من أحرم بالفرض من صلاة أو صيام أو حج لا يجوز له أن يقطعه بدون عذر، وكذلك الاعتكاف المنذور وأما إذا كان لعذر فلا يحرم. ويجوز قطع صلاة الفرض إذا كان دخل في صلاته منفردًا ثم رأى جماعةً مشروعةً لأنه يسن في هذه الحال أن يقلب فرضه نفلًا مطلقًا ويسلم من ركعتين أو ركعة، ولا يحرم قطع النفل من صلاة أو صوم أو اعتكاف لأنه لا يجب إلا بالنذر قال صلى الله عليه وسلم» الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر« [أخرجه البيهقي في سننه]، ويقاس بالصوم غيره لكن يكره الخروج منه بغير عذر، ويسن قضاؤه إن خرج منه بعذر خروجًا من الخلاف، نعم يجوز قطع الصلاة لإنقاذ غريق أو طفل من الوقوع في نار أو السقوط في مهواة بل يجب ذلك إن كان الغريق معصومًا.

   قال المؤلف رحمه الله: وقطع نفل الحج والعمرة.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر قطع نفل الحج والعمرة وذلك لأنه بالشروع فيه يصير واجبًا فيجب إتمامه لأنه كفرضه نيةً وكفارةً وغيرهما، ويتصور التطوع في الحج في الأرقاء والصبيان.

   ونص الغزالي وغيره من الشافعية على عدم وجوب إتمام فرض الكفاية كما لا يجب ابتداؤه عينًا وذلك كالعلم الشرعي غير العيني فإن طالبه إذا شرع فيه لا يجب عليه أن يدوم فيه وإن أنس من نفسه النجابة إلى أن يصل إلى مرتبة الفتوى [هذا في حال وجود المفتي في البلد وإلا فيجب على بعض أهل البلد] لأنه ليس خصلةً واحدةً بخلاف النسك أي الحج والعمرة، وأما صلاة الجنازة والجهاد وكذلك دفن الميت وتكفينه وحمله وغسله فيجب إتمامها بالشروع فيها لئلا تهتك حرمة الميت وتكسر قلوب المسلمين، وقال بعض الشافعية: يحرم قطع فرض الكفاية مطلقًا كالعيني ولو قلنا بجواز قطع العلم الكفائي اهـ لكن القول المعتمد أنه يجوز قطع فرض الكفاية بعد الدخول فيه إلا الجهاد والحج ونحوهما لأن الجهاد حتى في الحال التي يكون فيها فرض كفاية فإن كان بعد التقاء الزحفين أي الجيشين ليس له أن يرجع لأنه إن رجع تنكسر قلوب المسلمين لرجوعه وتضعف هممهم فليس له أن يرجع إلا أن مرض مرضًا يمنع وجوب الجهاد عليه أو عمي أو عرج فإنه يجوز له أن يرجع على المشهور من المذهب لأنه لا يمكنه الجهاد مع المرض والعمى والعرج.

   قال المؤلف رحمه الله: ومحاكاة المؤمن استهزاءً به.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر محاكاة المؤمن أي تقليده في قول أو فعل أو إشارة على وجه الاستهزاء به، قال الله تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيـمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون﴾ [سورة الحجرات/11] أي لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه ذنبه بمن لم يستر عليه ولا ذو حسب بلئيم الحسب وأشباه ذلك مما يتنقصه به، عسى أن يكون عند الله خيرًا منه والقوم اسم للرجال دون النساء ولذلك قال »ولا نساء من نساء«، وتلمزوا بمعنى تعيبوا، والمعنى لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾ [سورة الحجرات/11] أي لا تتداعوا بها والألقاب جمع لقب وهو اسم يدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمي به.

   وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال أحدها تعيير التائب بسيئات قد كان عملها، والثاني: تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإسلام كقوله لليهودي إذا أسلم يا يهودي [هذه الكلمة إن أراد بها تكفيره كفر وإن كان يفهم منها يا من كنت يهوديا لا يكفر] وهذان القولان مرويان عن ابن عباس رضي الله عنهما. والثالث: أنه تسميته بالأعمال السيئة كقوله يا زاني يا سارق يا فاسق [وهو ليس كذلك]. والرابع: قول الرجل للرجل: يا كافر يا منافق، وهو مروي عن عكرمة.

   قال أهل العلم والمراد بهذه الألقاب ما يكرهه المنادى به أو يعد ذما له فأما الألقاب التي تكسب حمدًا وتكون صدقًا فلا تكره كما قيل لأبي بكر رضي الله عنه عتيق ولعمر فاروق ولعثمان ذو النورين ولعلي أبو تراب ولخالد سيف الله ونحو ذلك. ﴿بئس الاسم الفسوق﴾ [سورة الحجرات/11] أي تسميته فاسقًا أو كافرًا وقد ءامن. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى ﴿بئس الاسم الفسوق بعد الإيـمان﴾ [سورة الحجرات/11] من لقب أخاه وسخر به فهو فاسق. وقد تكون المحاكاة بالضحك على كلامه إذا تخبط فيه وغلط أو على صنعته وقبح صورته أو على مشيه إن كان به عرج فتقليده في ذلك لإضحاك الناس عليه حرام.

   قال المؤلف رحمه الله: والتجسس على عورات الناس.

   الشرح أن من معاصي البدن التجسس على عورات الناس أي التطلع على عوراتهم والتتبع لها قال تعالى ﴿ولا تجسسوا﴾ [سورة الحجرات/12]، والتجسس والتحسس بمعنًى واحد، قال صلى الله عليه وسلم» لا تجسسوا ولا تنافسوا [ولا تنافسوا أي في محاولة الغلبة على أمر الدنيا] ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا« رواه الشيخان [في صحيحيهما]. فمعنى الآية لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطلع عليه إذ ستره الله. فالتجسس على عورات الناس معناه البحث عن عيوب الناس وعوراتهم أي أن يفتش عما لا يريد الناس الاطلاع عليه أي عن مساوئ الناس لا عن محاسنهم، يريد أن يعرف عنهم القبيح من القول أو الفعل فيسأل عنه الناس أو يبحث عنه بنفسه من دون سؤال.

   وقد روى الحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» من رأى عورةً فسترها كان كمن أحيا موؤودةً من قبرها« فهذا الحديث الصحيح [صححه الحاكم ووافقه الذهبي] فيه أن من رأى عورة مسلم فسترها أي لم يبثها بين الناس بل أخفاها فله أجر شبيه بأجر من أحيا موؤودةً أي أنقذ بنتًا مولودةً دفنت وهي حية كما كان جاهلية العرب يفعلون.

   الرسول صلى الله عليه وسلم شبه هذا الذي يرى عورةً لمسلم أي ما يعاب عليه ويستحى منه أن يطلع عليه الناس إن رءاها فسترها بأجر هذا الإنسان الذي رأى موؤودةً فأنقذها قبل أن تموت. وقد حصل في زمان سيدنا عمر رضي الله عنه قصة فيها دليل على مشروعية الستر على المسلم وهي أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له يا أمير المؤمنين إني كنت وأدت بنتًا لي في الجاهلية أي قبل أن أسلم ثم أخرجتها قبل أن تموت ثم أدركنا الإسلام فأسلمت ونحن أسلمنا ثم ارتكبت حدا من حدود الله أي زنت قبل أن تتزوج فأخذت شفرةً لتذبح نفسها أي من عظم ما وقعت فيه من الفضيحة فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها أي بعض عروق العنق من الجانبين فداويناها، ثم تابت توبةً حسنةً ثم خطبت إلينا من قوم فأخبرت ببعض ما جرى لها حتى يقدموا على إتمام خطبتها أو يفسخوا ويتركوها [هو على زعمه فعل ذلك لئلا يغشهم وظن بنفسه أنه بذلك ينصحهم]، فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه أنت تبث ما ستره الله لئن أخبرت بذلك أحدًا لأجعلنك نكالًا يتحدث به أهل الأمصار معناه لئن عدت بعد هذا إلى إفشاء هذه العورة التي سبقت لابنتك فتحدثت بها لأجعلنك عبرةً للناس بعقوبة أنزلها بك يتحدث بها أهل المدن فيؤخذ من هذه القصة حكمان شرعيان أحدهما أن الإنسان بعد أن يتوب لا يجوز ذكره بالعار والعيب الذي سبق له، والآخر أن هذه البنت لو لم تكن تابت كان حقا على أبيها إذا خطبت إليه أن يتكلم فيها وإن سكت هو وغيره ممن علم بالحادثة يكونون غاشين.

   قال المؤلف رحمه الله: والوشم.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر الوشم وهو غرز الجلد بالإبرة حتى يخرج الدم ثم يذر على المحل نحو نيلة ليزرق أو يسود وذلك لحديث الصحيحين »لعن رسول الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة «ورجح بعض الشافعية في النمص ونحوه الحل بإذن الزوج فإن مات زوجها حرم عليها فعله بعد ذلك. وقال بعضهم إنما يحرم النمص إذا كان على وجه فيه تشبه بالفاجرات مؤولين للحديث على هذا المعنى، وذلك كالتي تنتف شعر الحاجب كله ثم ترسمه رسمًا بنوع من الألوان فهذا حرام عند الجميع. فلذلك لا ينبغي التسرع إلى تكفير من استحل النمص إن تأول الحديث. وأما قص شعرات الحاجب الطويلة التي منظرها مزعج أو التي تؤذي العين فيجوز ولا يعد ذلك من النمص المحرم. ومن كان حاجباه متصلين لا يجوز له فتحهما بالنتف.

   وأما إزالة شعر جسم المرأة الذي ينبت على ساقيها ويديها ونحو ذلك فمطلوب ولو بالنتف بل قالوا يستحب لها إزالته وكذا ما ينبت على شاربها أو لحيتها وأما الشعر النابت على وجنتي الرجل فاختلف العلماء في جواز إزالته بالنتف.

   وقال بعض العلماء في تفسير النمص: هو الأخذ من شعور الوجه بنتف أو غيره وقال بعضهم النتف فقط أي لغير ما ينبت للمرأة على شاربها أو على ذقنها بل قالوا هذا يستحب إزالته للمرأة.

   ومما يحرم أيضًا على المرأة برد أسنانها بالمبرد للتفريق بينها للحسن لحديث »لعن الله المتفلجات من النساء« رواه مسلم وأما إن فعلت ذلك بإذن الزوج فيجوز لأن هذا الحديث من العام المخصوص. ويحرم الوصل بشعر نجس أو شعر ءادمي مطلقًا. أما شعر غيرها من النساء فلا يجوز لها وضعه على رأسها. وكذا إن وصلت شعرها بشعر نفسها.

   وأما وشم البهيمة لتمييزها عن غيرها فيجوز في غير الوجه لحديث »ولا يسم أحد الوجه« رواه عبد الرزاق الصنعاني.

   قال المؤلف رحمه الله: وهجر المسلم فوق ثلاث إلا لعذر شرعي.

   الشرح أن من معاصي البدن هجر المسلم أخاه المسلم فوق ثلاث إذا كان بغير عذر شرعي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام« [أخرجه مسلم في صحيحه]، فأفهم هذا الحديث أن إثم الهجر يرتفع بالسلام. وأما العذر الذي يبيح الهجر فكأن يكون هجره لفسق فيه بترك صلاة أو شرب خمر أو نحو ذلك فإنه يجوز هجره حتى يتوب ولو إلى الممات بعد إعلامه بسبب الهجر لأنه قد لا يفهم سبب الهجر.

   قال المؤلف رحمه الله: ومجالسة المبتدع أو الفاسق للإيناس له على فسقه.

   الشرح أن من معاصي البدن مجالسة المبتدع أو الفاسق لإيناسه على فعله المنكر، والمراد بالمبتدع المبتدع بدعةً اعتقاديةً أي من ليس على عقيدة أهل السنة، وأما الفاسق فهو متعاطي الكبيرة كشارب الخمر، وهذا أيضًا يقيد بعدم العذر فإن جالسهم الشخص لحاجة له فيجوز. المبتدع في الاعتقاد إما كافر وإما مسلم فاسق الذين يعتقدون أن أبا بكر وعمر وعثمان ظلموا عليا بالتقدم في الخلافة هؤلاء مسلمون عصاة أما المعتزلة والمرجئة والمشبهة كهؤلاء الوهابية فهم كفار كذلك الخوارج كفار وقال بعض أهل السنة الخوارج قسمان قسم كفار وقسم غير كفار بل فساق، والمعتزلي إذا كان لا يقول العبد يخلق أفعاله بل يقول الله لا يرى في الآخرة فلا يكفر لمجرد ذلك أما المبتدع بدعةً عمليةً من البدع السيئة فهم قسمان قسم فساق وقسم لا يفسقون بل يكون حكمهم حكم مرتكب الكراهة. الفاسق المبتدع بدعةً عمليةً هو كالذي يكتب على تأليفه أو صنعته التي ابتكرها حقوق الطبع محفوظة لأجل أن يقاضي من طبع ذلك الكتاب أو عمل تلك الصنعة بغير إذنه ليغرمه قانونًا أو ليحبسه فهذه البدعة لم تكن بين المسلمين إلا منذ نحو مائة سنة أو أقل. ما كان المسلمون يعرفون هذه البدعة إنما أخذوها من الأوروبيين والمبتدع إذا أطلق في عرف الفقهاء فهو المبتدع بدعةً اعتقاديةً وكان بلغ عددهم فيما مضى اثنتين وسبعين فرقةً واليوم كثير منها لا يوجد.

   بعض الشافعية يقولون تكره الصلاة خلف المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وبعضهم يمثل بالمعتزلة وهذا غلط المعتزلي لا تصح الصلاة خلفه لأنه كافر، الشافعي صرح بذلك، فهؤلاء المتأخرون من الشافعية خالفوا ما كان عليه الشافعي وكبار أصحابه فلا تعتمدوا عليهم في هذه المسئلة كبعض شروح منهاج الطالبين وشرح منهج الطلاب ونهاية المحتاج.

   قال المؤلف رحمه الله: ولبس الذهب والفضة والحرير أو ما أكثره وزنًا منه للرجل البالغ إلا خاتم الفضة.

   الشرح أن من معاصي البدن لبس الذهب مطلقًا والفضة غير الخاتم منها ولبس الحرير الخالص أو ما أكثره وزنًا منه للرجل البالغ، وأما خاتم الفضة فجائز للرجل لأنه صلى الله عليه وسلم لبسه، وخرج بالرجل المرأة لأنه يجوز لها الذهب والفضة ولو اتخذت منهما ثوبًا إذا لم يكن منها على وجه البطر والفخر. روى أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها« [أخرجه الترمذي في سننه وقال: »حديث حسن صحيح« اهـ، والنسائي في سننه]. والحكمة من تحريم لبس الذهب للرجال أن الذهب معروف عند طبقات الناس كلهم فإذا رأى الفقير رجلًا يلبسه ينكسر خاطره، وأما الحرير فهو ينافي الشهامة التي هي مطلوبة للرجال.

   ومن استعمال الحرير المحرم التدثر به أي التلفف به واتخاذه سترًا، ويحل التسجيف به بقدر العادة أي جعل الحرير في طرف الثوب وجعل الطراز منه على الكم إذا كان بقدر أربعة أصابع لا أكثر، وكذلك كيس المصحف، ولا يجوز تزيين الوسائد والبيوت والمشاهد أي القبور بحرير أو مصور، والمراد بالمصور ما فيه صورة ذي روح أو صليب ولو لامرأة ويكره بغيرهما.

   روى البخاري ومسلم [في صحيحيهما] عن عمر رضي الله عنه قال» نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع«.

   وروى البخاري ومسلم [في صحيحيهما] من حديث أنس رضي الله عنه» أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمٰن بن عوف والزبير في قميص الحرير في سفر من حكة كانت بهما«.

   وقد اختلف في جواز إلباس الذهب والفضة للصبي إلى البلوغ [كما ذكر النووي في المجموع وقال إن الصحيح جوازه].

   قال المؤلف رحمه الله: والخلوة بالأجنبية بحيث لا يراهما ثالث يستحى منه من ذكر أو أنثى.

   الشرح أن من معاصي البدن الخلوة بالأجنبية بأن لم يكن معهما محرم لأحدهما بصير فلا يكفي الأعمى، ويشترط أن يكون ذلك الثالث بحيث يستحى منه وتكفي امرأة أخرى كذلك ولا زوج لتلك الأجنبية، وذلك إذا لم تكن ضرورة، وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لا يدخلن أحدكم على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان« والمغيبة – بضم الميم وكسر الغين – المرأة التي زوجها غائب، فالصحيح جواز خلوة رجلين فأكثر بامرأة أجنبية بشرط الثقة. وما ذكر في شرح مسلم وغيره من بعض كتب الشافعية من تحريـم خلوة رجلين بامرأة فخلاف الصواب لمخالفته هذا الحديث ولمخالفته حديث »ولا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما« رواه الترمذي [في سننه] وصححه. معناه يشتغل بهما حتى يوقعهما في الحرام لأنه تلك الساعة يقوى عليهما وحديث ابن عباس أن النبي شرط في بيعة النساء أن لا يعصينه في معروف وقال» إنما أنبئكن عما نهيتن عن أن تعصينني فيه لا تخلون بالرجال وحدانًا« الحديث أخرجه ابن جرير فإنه نص في أن الحرمة تكون إذا انفرد أجنبي بأجنبية. ونص المالكية كالشيخ خليل في مختصره على أن التعدد يمنع الخلوة المحرمة [عبارته شاملة لخلوة رجلين بامرأة وخلوة امرأتين برجل].

   فائدة في كتاب التوسط للأذرعي عن القفال: لو دخلت امرأة المسجد على رجل لم يكن خلوة لأنه يدخله كل أحد، قال بعضهم: وإنما يتجه ذلك في مسجد مطروق لا ينقطع طارقوه عادةً، ومثله في ذلك الطريق وغيره المطروق كذلك بخلاف ما ليس مطروقًا كذلك. انتهى. قال الشبراملسي: ويؤخذ منه أن المدار في الخلوة على اجتماع لا تؤمن معه الريبة (أي التهمة والشك) عادةً بخلاف ما لو قطع بانتفائها في العادة فلا يعد خلوةً. انتهى.

   قاعدة يعرف منها الخلوة المحرمة لو كان في الدار حجرة فسكنها الرجل أو المرأة الأجنبيان وسكن الآخر الحجرة الأخرى من الدار فإن اتحدت المرافق وهي ما يرتفق به فيها كمطبخ ومستراح ومصب ماء ومرقى سطح ونحو ذلك اشترط محرم لها مميز ذكر أو أنثى يستحى منه كابن تسع سنين مثلًا أما ابن سبع سنين فلا يمنع الخلوة إلا إذا كان ذكيا قوي الانتباه يدرك طرق الريبة ولا يحتال عليه بسهولة أو محرم له مميز بصير أنثى أو زوجة له أو امرأة أجنبية إن وسعتهما الدار وإلا وجب انتقالها أو انتقاله، وكذلك يجوز له أن يساكن مطلقته مع وجود الرجل الثقة على القول المعتمد لأن القول الصحيح أن التعدد من جهة الرجال أو الإناث يمنع الخلوة المحرمة. وهذا الكلام المذكور في حجرتين يفهم منه أنه إذا لم يكن في الدار إلا البيت والصفة [وهي مكان مظلل ولكن ليس له جدار يقوم عليه] أنه لا يجوز له أن يساكنها ولو مع محرم لأنها لا تتميز من المسكن بموضع، نعم إن بني بينهما حائل وبقي لها ما يليق بها سكنًى جاز، وإن لم تتحد المرافق بل اختصت كل من الحجرتين بمرافق فلا يشترط نحو محرم، ولكن ينبغي أن يغلق ويسمر ما بينهما من باب وأن لا يكون ممر إحداهما يمر به على الأخرى، وسفل وعلو كدار وحجرة فيما ذكر فيهما.

   قال المؤلف رحمه الله: وسفر المرأة بغير نحو محرم.

   الشرح أن من معاصي البدن سفر المرأة بغير نحو محرم، وقد ورد النهي عن ذلك ففي بعض أحاديث النهي عنه ذكر مسيرة ثلاثة أيام، وفي بعضها ذكر مسيرة يومين، وفي بعضها ذكر مسيرة يوم وفي بعضها ذكر بريد والبريد مسيرة نصف يوم. وذلك يدل على أن المقصود تحريم ما يسمى سفرًا على المرأة بدون المحرم أو الزوج ولو لم يكن إلى مسافة القصر. وذلك بشرط أن لا تكون ضرورة للسفر، فأما إذا كان ضرورة بأن كانت مهاجرةً من دار الكفر إلى دار الإسلام أو كان سفرها لحج الفرض أو عمرة الفرض أو لتعلم العلم الضروري إذا لم تجد في بلدها من يعلمها ونحو ذلك فإنه جائز. وأجاز الإمام أبو حنيفة رحمه الله أن تسافر المرأة مسيرة يوم بدون محرم. وأجاز الإمام أحمد سفر المرأة بدون محرم إذا كان مع جمع من النسوة الثقات.

   قال المؤلف رحمه الله: واستخدام الحر كرهًا.

   الشرح أن من جملة معاصي البدن استخدام الحر كرهًا أي قهرًا وذلك بأن يسترق الحر ويستعبده أو يقهره على عمل لنفسه أو لغيره كالعمل في الزراعة وحراثة الأرض أو البناء أو البيع والشراء، أما العبد المملوك الذي هو ملك لك فلك أن تقهره على العمل الذي يطيقه.

   قال المؤلف رحمه الله: ومعاداة الولي.

   الشرح أن من معاصي البدن معاداة ولي من أولياء الله تعالى والولي هو المؤمن المستقيم بطاعة الله أي المؤدي للواجبات والمجتنب للمحرمات والمكثر من النوافل وهذا التفسير يؤخذ من قول الله تعالى ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾ [سورة الأحقاف/13] الآية، لأن الاستقامة هي لزوم طاعة الله تعالى، ومن حديث أبي هريرة المروي في البخاري وغيره» من عادى لي وليا فقد ءاذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشىء أحب إلي مما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه«، فإذا كان هذا في حق كل ولي فكيف معاداة خواص الأولياء الصديقين المقربين الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. ومعنى ءاذنته بالحرب أعلمه أني محارب له.

   قال المؤلف رحمه الله: والإعانة على المعصية.

   الشرح أن من جملة معاصي البدن الإعانة على المعصية وذلك لقول الله تعالى ﴿ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾ [سورة المائدة/2] فالآية دليل لتحريم معاونة شخص لشخص في معصية الله كحمل إنسان ذكر أو أنثى إلى محل يعبد فيه غير الله لمشاركة المشركين وموافقتهم لعبادة ذلك الصنم وذلك كفر أو لما دون ذلك، وغير ذلك من كل ما هو معاونة في المعصية كائنةً ما كانت كأن يأخذ الرجل زوجته الكتابية إلى الكنيسة أو يعطيها ما تستعين به على ذلك وهو يعلم أنها ذاهبة لفعل الكفر أو قول الكفر فإنه يكفر لقوله تعالى ﴿ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾. ويفهم من هذه الآية أنه لا يجوز إعانة الظالم على ظلمه ولو كان قريبًا لك لقوله عليه الصلاة والسلام »ليس منا من دعا إلى عصبية« رواه أبو داود [في سننه] ولوصفه للعصبية بأنها منتنة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام »انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا« رواه البخاري [في صحيحه] والبيهقي [في سننه] وغيرهما فمعنى نصره إن كان ظالمًا منعه عن الظلم ونهيه عنه، وإن كان مظلومًا فبدفع الظلم عنه. وليحذر مما قاله بعض متأخري المالكية أن الرجل له أن يأخذ أبويه الكافرين إلى الكنيسة وجعل هذا من البر للوالدين وهذا كفر صريح. قال الشافعي رضي الله عنه: »وله – أي الزوج – منعها – أي زوجته إذا كانت كتابيةً – من الكنيسة والخروج إلى الأعياد وغير ذلك مما تريد الخروج إليه، إذا كان له منع المسلمة إتيان المسجد وهو حق كان له في النصرانية منع إتيان الكنيسة لأنه باطل« اهـ.

   قال المؤلف رحمه الله: وترويج الزائف.

   الشرح أن من معاصي البدن ترويج الزائف كترويج العملة الزائفة، أو طلي النحاس بالذهب لإيهام الناس أنه ذهب وبيعه على أنه كذلك ونحو ذلك. وذلك داخل في الغش وأكل أموال الناس بالباطل، ومن ذلك ما يفعله من يشتغلون بالكيمياء لأن أغلبهم لا يحسنونها فلا تخلو أعمالهم من غش وذلك تغرير بالناس وأكل أموالهم بالباطل، فلذلك صار حال هؤلاء لا تحمد لهم ءاثار وعاقبة أمرهم المحق.

   قال المؤلف رحمه الله: واستعمال أواني الذهب والفضة واتخاذها.

   الشرح أن من معاصي البدن استعمال أواني الذهب والفضة واتخاذها. فأما الاستعمال فهو بالأكل في أوانيهما أو الشرب ونحوهما وكاستعمال سبحة من فضة أو مفتاح أو نحو ذلك كقلم من ذهب وهو من الكبائر. أما ما طلي طلاءً خفيفًا بحيث لا يتقاطر منه شىء إن عرض على النار فلا يحرم. وأما الاتخاذ فهو اقتناء أوانيهما بلا استعمال فهو حرام ولو لم يكن في قلب مقتنيه قصد الاستعمال وقال بعضهم إن اتخاذه لغير الاستعمال جائز كأن اتخذه للزينة أو للقنية للمستقبل حتى يبيعوه وينتفعوا به. فإن كان الاقتناء لزينة البيت فخرًا وبطرًا فهو أشد إثمًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» إن الذي يأكل ويشرب في ءانية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم« رواه مسلم [في صحيحه] وذلك إذا لم يكن هناك ضرورة أو عذر لنحو استعمال الذهب أو الفضة للتداوي بنحو الميل منهما فإنه يحل بقول طبيب عدل إن الاكتحال بمرود ذهب أو فضة ينفع لعلاج العين المحتاجة. وكذا يجوز تركيب سن من ذهب لمن قلع سنه ويجوز لمن ذهبت أسنانه أن يركب جسرًا من ذهب ولو وجد غيره. وكذا يجوز لمن قطع أنفه أن يركب أنفًا من ذهب. ويجوز استعمال غير الذهب والفضة من الأواني حتى الجواهر النفيسة كالياقوت واللؤلؤ إلا إذا كان للكبر.

   قال المؤلف رحمه الله: وترك الفرض أو فعله مع ترك ركن أو شرط أو مع فعل مبطل له لأن التلبس بالعبادة الفاسدة حرام وترك الجمعة مع وجوبها عليه وإن صلى الظهر، وترك نحو أهل قرية الجماعات في المكتوبات.

   الشرح أن من معاصي البدن ترك الفرض من صلاة أو غيرها وفعله صورةً مع الإخلال بركن أو شرط أو مع فعل مبطل له قال الله تعالى فيمن يتهاون بالصلاة فيخرجها عن وقتها ﴿فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾ [سورة الماعون] والويل هو شدة العذاب وقد توعد الله تعالى بالعذاب الشديد من يتهاونون بالصلاة بأن يؤخروها عمدًا حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى بلا عذر.

   وكذلك ترك الجمعة بلا عذر في حق من وجبت عليه وإن صلى الظهر بدلها.

   وكذلك ترك نحو أهل بلد أي مدينة أو قرية صغيرة الجماعة في المكتوبات الخمس قال صلى الله عليه وسلم» ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان« (أي غلب عليهم) رواه أبو داود [في سننه].

   وقد اختلف العلماء في صلاة الجماعة هل هي فرض عين أو فرض كفاية، فالجمهور على أنها فرض كفاية وذلك مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وقال أحمد في الرواية المشهورة عنه إنها فرض عين، وعلى كل حال فتركها دليل على التهاون بالدين وذلك فيمن ليس له عذر فقد شهر عن مالك أنه ترك زمانًا الخروج للجماعة والجمعة لعذر عنده.

   قال المؤلف رحمه الله: وتأخير الفرض عن وقته بغير عذر.

   الشرح أن من معاصي البدن تأخير الفرض عن وقته بغير عذر وإنما أعيد هذا ذكرًا مع العلم مما سبق لتأكيد الاهتمام بالفرض ومزيد التنفير عن الترك، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال »من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر« وروي ذلك مرفوعًا لكنه لم يثبت إسنادًا. وأما التأخير بعذر فلا إثم على فاعله، والعذر إما سفر مبيح للجمع بين صلاتين، أو مطر بشرطه وهو الجمع تقديـمًا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء لمن يصلي جماعةً تهوينًا عليه من مشقة العود للصلاة الثانية إلى المسجد. ومن الأعذار أيضًا المرض فقد ذكر الشافعي في بعض كتبه ذلك وإن لم يشتهر عنه اشتهارًا كالسفر، وعند أحمد يجوز الجمع بين صلاتين لكل عذر يبيح ترك الجماعة والجمعة وهي كثيرة.

   قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وهو أحد أصحاب الوجوه أي الذين لهم حق الاستنباط من نصوص صاحب المذهب: يجوز تعمد السبب المسقط للجمعة، ذكره صاحب الإنصاف المرداوي الحنبلي. ولكنه إن استطاع إزالة العذر يجب عليه إزالته والذهاب إلى الجمعة. ومن الأعذار كون رائحة قدميه كريهةً جدا يعجز عن إزالتها فإن هذا يتأذى منه المصلون فله عذر بعدم ذهابه.

   قال المؤلف رحمه الله: ورمي الصيد بالمثقل المذفف أي بالشىء الذي يقتل بثقله كالحجر.

   الشرح أن من معاصي البدن رمي الصيد بالمثقل المذفف، وعد هذا من معاصي البدن لأنه يشترك فيه غير اليد معها، والمثقل هو – بضم الميم وفتح المثلثة وتشديد القاف المفتوحة – ما يقتل بثقله كالصخرة، وأما المذفف فهو المسرع لإزهاق الروح، وعلى هذا فما يقتل بالرصاص الذي عرف استعماله للصيد ميتة إلا أن يدرك وفيه حياة مستقرة أي حركة اختيارية أو نحوها فيذكى بالسكين أو نحوها مما له حد، ومذهب الإمام عبد الرحمٰن الأوزاعي لأنه مجتهد كالشافعي ومالك أنه يجوز الصيد ببندق الرصاص بشرط التسمية قبل الرمي عند كل صيد. فإن أدرك هذا الصيد حيا فلا بد من ذبحه عنده أيضًا فإن ترك يموت من غير ذبح لم يحل عنده.

   مسألة لا يحل الحيوان المقدور عليه ولو وحشيا إلا بالقطع المحض من مسلم أو كتابي ذمي أو غير ذمي لجميع الحلقوم والمريء أي مجرى النفس ومجرى الطعام والشراب مع استقرار الحياة في الابتداء بمحدد أي بما يقتل بحده غير العظم، وعلامة استقرار الحياة أن تشتد حركته بعد الذبح ويتدفق دمه.

   قال المؤلف رحمه الله: واتخاذ الحيوان غرضًا.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر اتخاذ الحيوان غرضًا أي هدفًا كالشىء الذي ينصب ليصيبوه بالرماية من نحو القرطاس كما يفعل ذلك بعض الشباب للهو أو لتعلم الرماية. والقرطاس قطعة من جلد تنصب للرمي.

   قال المؤلف رحمه الله: وعدم ملازمة المعتدة للمسكن بغير عذر، وترك الإحداد على الزوج.

   الشرح أن من معاصي البدن ترك الزوجة المتوفى عنها زوجها الإحداد على زوجها، والإحداد هو التزام ترك الزينة إلى انتهاء أربعة أشهر وعشرة أيام بالأشهر القمرية للحائل وللحامل حتى تضع حملها، ولا يختص الإحداد بلون واحد من الثياب بل يجوز الأبيض والأسود والأصفر والأحمر وغير ذلك إذا لم تكن ثياب زينة، ويحرم من الأسود ما كان ثياب زينة. ويكون الإحداد بترك الزينة والطيب، ويدخل في الزينة دهن الرأس بالأدهان والزيت لأنها تجمل الشكل. أما الدهن الذي لا يزينها إنما ينفع جسدها فيجوز لها أن تدهن به. ويحرم عليها أن تخضب شعرها بما فيه زينة لها، وأما قص شعرها فيجوز إذا لم يكن على وجه الزينة. فالإحداد هو الانكفاف عن الزينة تحزنًا على الموت الذي فرق بين المرأة وزوجها لأن في ذلك مساعدةً لها على الاستعداد لمصالح الآخرة. ومن جملة ما في العدة من الحكم حفظ ماء الزوج لأنه قد يكون في رحمها نطفة انعقدت، ومن ذلك التفرغ في هذه المدة لعمل الآخرة كما أن أصحاب الخلوات يتفرغون لعبادة الله في خلواتهم، لأنها لو لم تلتزم العدة في البيت وكانت تتجول قد تقع في فتنة فيزني بها شخص فيختلط الماءان ماء زوجها وماء الذي زنى بها ولا يعرف من أيهما انعقد الولد. وليس من الإحداد الواجب عليها ترك مكالمة الرجال غير المحارم أو ترك كشف وجهها في البيت أمام الرجال غير المحارم فهذا ليس مما يدخل في الإحداد الشرعي إنما هذه عادة أضافها بعض الناس ونسبها إلى شرع الله وهي ليست من شرع الله، فلينشر ذلك لأن كثيرًا من الناس يجهلون ذلك ويعتقدون أنه من الإحداد الشرعي وذلك تحريف للدين. ويحرم الزيادة على هذه المدة المشروعة في الإحداد، ويحرم على غير الزوجة من النساء الزيادة على ثلاثة أيام في الإحداد ولا يجوز للمتزوجة أن تحد على غير زوجها بدون إذن الزوج.

   وكذلك لا يجوز للرجال أن يلبسوا خرقةً سوداء إحدادًا. ونص بعض الشافعية على تحريم الإحداد على الرجال مطلقًا لكن يجوز لهم التحزن. وليس الإحداد من المسائل المجمع عليها لخلاف الحسن البصري. أما العدة فمجمع عليها لورود النص عليها.

   ولا يجوز للمحدة أن تبيت خارج بيتها لكن يجوز لها أن تخرج لتستأنس ببعض جاراتها ولو كن في البناء المجاور ثم تعود إلى البيت للمبيت، وكذا يجوز لها الخروج لحاجة كشراء طعام ونحو ذلك إن كانت لا تجد من يكفيها ومن يقضي لها حاجتها. وإن كان عندها بستان يحتاج لقطع النخيل وليس عندها من يعينها فيجوز لها أن تذهب إليه للعمل فيه. وكذا إن كان لها غزل واحتاجت لبيعه يجوز لها أن تخرج لبيعه إن كانت محتاجةً للخروج لذلك.

   قال المؤلف رحمه الله: وتنجيس المسجد وتقذيره ولو بطاهر.

   الشرح أن من معاصي البدن تنجيس المسجد وتقذيره ولو بطاهر فيحرم تنجيسه بالنجاسة وكذلك تقذيره بغير النجاسة كالبزاق والمخاط لأن حفظ المسجد من ذلك من تعظيم شعائر الله وأما من يلطخ المسجد بالقاذورات والنجاسات استخفافًا بالمسجد لأنه مكان الصلاة فذلك ردة كما ذكر الفقهاء. قال الله تعالى ﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾ [سورة الحج/32]، ومن تعظيمها تطييبها فقد جرت العادة في المدينة بتبخير مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالعود كل جمعة وذلك من القربات إلى الله.

   ومما يحرم رمي قشر البزر في أرض المسجد أو رمي الأظافر في أرض المسجد أو أن يترك الشخص فتات الخبز في أرض المسجد على الحصر والسجاجيد بحيث يلصق بجبهة المصلي عند سجوده ورجله عند القيام أو السير وثوبه عند القعود. فكل ما يؤذي المصلين لا يجوز رميه في أرض المسجد. ويختلف الحال بين المسجد المفروش بالحصى ونحوه وبين المسجد المفروش بالحجارة المملسة التي عليها بسط فالأولى يجوز البصق عليها بنية أن يدفنها فيما بعد أما أن يبصق بدون نية أن يدفن هذا البصاق فهو حرام فقد ثبت عن الرسول أنه بصق في مسجده ثم دفنها بقدمه اليسرى وعلى هذا يحمل حديث» البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها« رواه البخاري [في صحيحه].

   فالمساجد أحب البقاع إلى الله تعالى لأنها بنيت لعبادة الله فكانت الصلاة المفروضة فيها أفضل من الصلاة في البيوت، أما النفل في البيت فهو أفضل وأعظم ثوابًا منه في المسجد.

   أما المكث في المسجد لمن نوى الاعتكاف فيه لو مدةً يسيرةً ساعةً أو أقل منها يكون له فيه ثواب الاعتكاف ولو ظل تلك المدة ساكتًا وإن كان يتلو قرءانًا أو يسبح أو يمجد الله تعالى بالتهليل أو التكبير أو التحميد كان أعظم أجرًا. ومن أحكام المساجد كراهة البيع والشراء فيها فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال» إذا رأيتم من يبيع في المسجد أو يبتاع فقولوا له لا بارك الله لك« [أخرجه الترمذي في سننه].

   أما ما تدعو الضرورة إليه فلا كراهة في ذلك كالذي كان يحصل في المسجد الحرام من أن السقائين يدورون على الناس فيسقونهم من ماء زمزم أو غيره فيعطونهم شيئًا من المال، فإن ذلك لا كراهة فيه لأن الحاجة إلى ذلك شديدة وذلك لأن الحر الشديد يضطر الإنسان إلى أن يشرب وهو في مكانه شيئًا يهدئ به عطشه لأنه لم يكن يتيسر لهم الخروج بسهولة من المسجد للشرب.

   وكذلك ما كان يحصل في مسجد الرسول بالمدينة في موسم الزيارة فإن ذلك لا كراهة فيه.

   ومن أحكام المساجد جواز المبيت فيها للغريب ولغيره فقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يبيت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه أحد ذلك، كان ينام في المحل الذي يصلى فيه. وأما الحديث في المسجد بحديث الدنيا الذي ليس فيه معصية كغيبة المسلم فيجوز ولا يذهب شيئًا من الثواب، وقد وضع الكذابون حديثين على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أصل لهما أحدهما: الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب [قال الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في إتحاف السادة: »قال الحافظ العراقي: لم أقف له على أصل« اهـ]. هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه فاسد لأن الكلام في المسجد حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما ليس ذكرًا لله تعالى ولا تعليم علم ففي صحيح البخاري أن اثنين من الصحابة كان أحدهما له دين على الآخر فتقاضاه صاحب الدين حتى ارتفعت أصواتهما وصاحب الدين اسمه كعب بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الدين »يا كعب« وأشار له إشارةً أن يسقط عنه نصف الدين. والشاهد في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما كلامهما في المسجد في أمر من أمور دنياهم ومن هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره نأخذ حجةً على جواز الكلام في المسجد بأمور الدنيا وأن ذلك ليس بحرام إنما الحرام ما كان حرامًا من الكلام في غير المسجد إلا إذا كان هذا الكلام يحصل به تشويش على مصل أو على قارئ، فإن كان في المسجد تال يتلو القرءان أو مصل حرم التكلم بجانبه بحيث يتشوش القارئ أو المصلي، وهذا يشمل ما إذا كان الكلام الذي يشوش على المصلي أو القارئ مذاكرةً في العلم أو ذكرًا أو غير ذلك فإن ذلك حرام. فمن دخل المسجد فوجد مصليًا أو تاليًا يتلو القرءان حرم عليه أن يشوش عليه سواء كان بكلام عادي دنيوي أو بتلاوة فمن أراد تلاوةً فليتل بحيث لا يشوش على ذلك التالي وبحيث لا يشوش على ذلك المصلي.

   وأما الحديث الثاني الذي هو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو »من تكلم في المسجد بكلام الدنيا أحبط الله أعماله أربعين سنةً« [قال الصغاني بأنه موضوع].

   فقد ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يكون في المسجد مع جمع من أصحابه بالليل وكانوا يتذاكرون ما حصل في الجاهلية أي قبل دخولهم في الإسلام من أحوال الناس وأعمالهم فيضحكون والرسول يتبسم ففي هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي وصححه والحديث الذي قبله دليل على أن الكلام في المسجد بما ليس من الكلام المحرم والضحك ليس بحرام ولا يحبط العمل بل ذلك جائز.

   وأما الكلام المحرم فإن حصل في المسجد فيكون أفحش منه فيما إذا حصل في خارج المسجد كما أن المعاصي من الصائم أفحش منها في غير حال الصيام.

   ومن أحكام المساجد أنه يجوز فيها الجلوس محتبيًا أو متربعًا وكل كيفيات الجلوس جائزة في المسجد وكذلك الاستلقاء ولو مد رجليه إلى جهة القبلة، فيجب زجر الجهال الذين يحرمون مد الرجلين في المسجد إلى جهة القبلة فإن تحريم ذلك فساد وضلال إذ لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن ذلك. إنما المنهي عنه هو مد الرجلين إلى المصحف أو إلى كتاب علم شرعي أو إلى اسم من أسماء الله تعالى إن كان قريبًا. أما إذا كان المصحف مرتفعًا بمحاذاة الرجل الممدودة فإن ذلك ليس بحرام. وكذلك إن كان في خزانة لا يظهر حجم المصحف منها ولو لم يكن موضع المصحف ضمن الخزانة عاليًا مرتفعًا.

   ثم من أحكام المساجد التي هي مستحبة تنظيفها وتطييبها أي جعل الطيب فيها بالتبخير بالبخور الطيب كاللبان أو العود الذي كان رسول الله يتبخر به، وكان مسجد رسول الله يبخر به من عهد عمر بن الخطاب إلى يومنا هذا كل جمعة بلا انقطاع، وهذه السنة مفقودة في كثير من المساجد فمن أحياها يكون داخلًا في حديث ابن ماجه [في سننه] »من أحيا سنةً أميتت بعدي كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شىء«.

   قال المؤلف رحمه الله: والتهاون بالحج بعد الاستطاعة إلى أن يموت.

   الشرح أن من معاصي البدن تأخير أداء الحج بعد حصول الاستطاعة إلى أن يموت قبل أن يحج قال الله تعالى ﴿وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين﴾ [سورة المنافقون/10] جاء عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿فأصدق﴾ أي أزكي ﴿وأكن من الصالحين﴾ أي أحج.

   ووجوب الحج وإن كان على التراخي عند الإمام الشافعي وءاخرين من الأئمة لكنه إذا تساهل المستطيع حتى مات قبل أن يحج فإنه يحكم عليه بالفسق وإن لم يغلب على ظنه الموت قبل ذلك. وكذلك كل فرض موسع بمدة العمر كقضاء الصلاة الفائتة بعذر فإنه يأثم بترك القضاء إلى أن يموت.

   قال المؤلف رحمه الله: والاستدانة لمن لا يرجو وفاءً لدينه من جهة ظاهرة ولم يعلم دائنه بذلك.

   الشرح أن من معاصي البدن الاستدانة للذي ليس بحالة الاضطرار إن كان لا يرجو وفاءً للدين الذي يستدينه من جهة ظاهرة إذا لم يعلم دائنه بذلك أي لم يعلم بحاله أي لا يرجو لهذا الدين وفاءً من جهة ظاهرة أي ليس عنده ملك ولا مهنة يستغلها لرد الدين، فإن كان يرجو له وفاءً من جهة ظاهرة فلا حرج عليه، وكذلك إن كان دائنه يعلم بحاله ومع ذلك أقرضه فلا حرج عليه. فمن استدان لسبب مباح وهو يرجو الوفاء من جهة ظاهرة واستمر به العجز إلى الموت، ومن أتلف شيئًا خطأً وعجز عن غرامته حتى مات فلا عقوبة عليه في الآخرة لأن هذه ليست مظلمةً كما ذكر السبكي.

   قال المؤلف رحمه الله: وعدم إنظار المعسر.

   الشرح أن من معاصي البدن ترك الدائن إنظار المعسر أي العاجز عن قضاء ما عليه مع علمه بإعساره فيحرم عليه ملازمته أو حبسه. ويحرم عليه مطالبته مع علمه بعجزه كأن يقول له الآن تعطيني مالي. روى مسلم [في صحيحه] من حديث أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله في ظله [أي في ظل العرش] يوم لا ظل إلا ظله« فالذي يكتسب هذه المثوبة فهو من الفائزين.

   قال المؤلف رحمه الله: وبذل المال في معصية.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر بذل المال في معصية من معاصي الله تعالى كبيرةً كانت أو صغيرةً، ومن ذلك ما يبذل للمغنيات والمغنين أجرةً، فإن أخذوا ذلك على وجه المشارطة والاتفاق السابق فلا يحل لهم ولا يملكونه فيكون أكل مال حرام وإن أعطوا المال بغير مشارطة ولا اتفاق سابق حل لهم الانتفاع بذلك المال. وأما أخذ الأجرة على تعليم القرءان ونحوه فيجوز وإن اعتبر أخذ الأجرة وسيلةً يتقوى بها على الطاعة فله ثواب وكذلك الذي يعلم علم الدين، أما إن كان همه المال بتعليمه فلا ثواب له وكذلك الذي يذهب للحج للتجارة إن كان قصده الأصلي التجارة فلا ثواب له أما إن حركه للذهاب الثواب وكان قصده من التجارة الاستعانة بها فله ثواب.

   قال المؤلف رحمه الله: والاستهانة بالمصحف وبكل علم شرعي، وتمكين الصبي المميز منه.

   الشرح أن من معاصي البدن الاستهانة بالمصحف أي فعل ما يشعر بترك تعظيمه، وكذلك فعل ذلك بعلم شرعي ككتب الفقه والحديث والتفسير وكذلك الورقة الواحدة التي فيها قرءان أو علم شرعي وذلك كأن يتوسده بغير عذر، وكذلك داخل فيما ذكر تمكين الصبي المميز المحدث من المصحف ولو حدثًا أصغر لغير حاجة دراسته وحمله للتعلم فيه ونقله إلى موضع التعلم. وأما ما يعتبر استخفافًا بذلك فإنه معدود من أسباب الردة كدوسه عمدًا ولو لتصفيف النسخ في المطابع أو المكاتب أو نحو ذلك من الأغراض. واعلم أن بعض اللغويين جعل الاستهانة مرادفةً للاستخفاف واستعملها بعض الفقهاء لما هو أقل من الاستخفاف.

   قال المؤلف رحمه الله: وتغيير منار الأرض أي تغيير الحد الفاصل بين ملكه وملك غيره، والتصرف في الشارع بما لا يجوز.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر تغيير حدود الأرض بأن يدخل من حدود جاره شيئًا في حد أرضه لحديث مسلم [في صحيحه]» لعن الله من غير منار الأرض« وكذلك يحرم اتخاذ أرض الغير طريقًا، أما المرور في أرض الغير كالبستان والمزرعة فلا يحرم إذا ظن الرضى ولم تصر بذلك طريقًا ولم يكن فيها زرع يضره المرور.

   ومن ذلك التصرف في الشارع بما لا يجوز فعله فيه مما يضر بالمارة كأن يبني شيئًا ليجلس عليه في الشارع أو ليضع عليه أغراضه ليبيعها أما إن جلس في طرف الشارع وبسط سجادةً وجلس عليها ليبيع أغراضه فيجوز، إنما الحرام أن يبني شيئًا مرتفعًا في الشارع. وكذلك لا يجوز التصرف في الطريق غير النافذ بدون إذن أهله كأن يجلس فيه ويضع فيه أغراضًا، فهذا الطريق دخوله والجلوس فيه حرام إلا لأهله الذين لهم فيه بيوت أو من أذنوا، والطريق غير النافذ هو الطريق الفرعي الذي يتفرع من الشارع العام وفي جانبيه بيوت كثيرة أو قليلة وطرفه الآخر مسدود.

   وكذلك لا يجوز أن يأخذ الشخص شيئًا من الطريق العام ويدخله في أرضه، وكذلك الجدار المشترك لا يجوز التصرف فيه بغير إذن الشريك بما يضر شريكه.

   قال المؤلف رحمه الله: واستعمال المعار في غير المأذون له فيه أو زاد على المدة المأذون له فيها أو أعاره لغيره.

   الشرح أن من معاصي البدن استعمال الشىء الذي هو عارية في غير ما أذن له فيه، وكذلك الزيادة على المدة المأذون له فيها إن كانت المدة مقيدةً كأن قدر له سنةً فاستعمله بعد انقضائها، وكذلك إعارته للغير بلا إذن من المالك في ذلك فالمستعير إن أعار غيره بإذن المعير فتلفت بيد الثاني يضمن الثاني وإن أعارها بغير إذن المعير يضمن هو.

   قال المؤلف رحمه الله: وتحجير المباح كالمرعى والاحتطاب من الموات والملح من معدنه والنقدين وغيرهما أي أن يستبد بهذه الأشياء ويمنع الناس من رعي مواشيهم، والماء للشرب من المستخلف وهو الذي إذا أخذ منه شىء يخلفه غيره.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر تحجير المباح أي منع الناس من الأشياء المباحة لهم على العموم والخصوص كشواطئ الأنهار والبحار وكالمرعى الذي في أرض ليس ملكًا لأحد والاحتطاب أي أخذ الحطب من أرض الموات، وكذلك الشوارع والمساجد والربط أي الأماكن الموقوفة للفقراء مثلًا فلا يجوز لبعضهم تحجير ذلك على غيره من المستحقين، وكذلك المعادن الباطنة والظاهرة كأن يمنعهم من أخذ الملح من معدنه وذلك مثل ما لو منع إنسان إنسانًا عن ملكه الخاص فهذا مثل الغصب المعروف بين الناس، وكذلك المنع من الشرب من الماء الذي إذا أخذ منه شىء يخلفه غيره، وكذلك المنع من الانتفاع بالنار التي اتقدت في المباح من الحطب فلا يجوز الاستبداد بها بمنع الغير من الانتفاع بها، روى أبو داود [في سننه] وغيره »المسلمون شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار«، والمراد بالماء فيما ذكر الماء الذي لم يحزه الشخص أي لم يحتوه في إنائه ونحوه وأما ما حيز في ذلك فهو ملك خاص للذي حازه. ويحرم تحجير شواطئ الأنهار والبحار بقدر ما تعود الناس الانتفاع بالجلوس والاستراحة فيه ونحو ذلك مما يحتاجه الشخص من نحو المرور مع دابته.

   قال المؤلف رحمه الله: واستعمال اللقطة قبل التعريف بشروطه.

   الشرح أن من معاصي البدن استعمال اللقطة وهي ما ضاع من مالكه بسقوط أو غفلة أو نحو ذلك في نحو الشارع كالمسجد والبحر مما لا يعرف مالكه قبل أن يتملكه بشرطه وهو أن يعرفه سنةً بنية أن يتملكه إن لم يظهر صاحبه، فإذا عرفه سنةً حل له أن يتصرف فيه بنية أن يغرم لصاحبه إذا ظهر فإن اختار التملك قال بلفظه تملكت. والتعريف للقطة يكون على أبواب المساجد عقيب الصلوات، وفي الأسواق لأنها مظنة اجتماع الناس ولا يعرف في داخل المسجد، ويعرفها في الموضع الذي وجدها فيه أكثر لأن طلب الشىء في موضع ضياعه أكثر، فإن أكلها قبل أن يعرف فكأنه سرق سرقةً فأكلها فهذا ذنبه كبير لكن إن كانت اللقطة مما يتلف بسرعة يبيعها ويحفظ ثمنها لصاحبها إن خشي عليها التلف عنده. أما إن وجد صنمًا من ذهب أو نحو ذلك فهذا لا يعرف عنه إنما يكسره ولا يعطيه لمسلم ولا لكافر قبل ذلك. وأما ما يجده الشخص في بيته أو دكانه أو سيارته أو بستانه مما ليس له فهذا يحفظه ولا يتصرف فيه حتى ييأس من معرفة صاحبه فإن يئس من معرفة صاحبه كأن مضى عليه عشر سنين ولم يجد صاحبه ولا عرف طريقًا للوصول إلى معرفته عندئذ يتصدق به على فقير إن شاء ويقول في نفسه ثوابه لصاحبه إن كان مسلمًا، فإن ظهر صاحبه يومًا ما يقول له إن كنت تريد الثواب وإلا أغرم لك فإن قال لا أريد الثواب يغرم له.

   قال المؤلف رحمه الله: والجلوس مع مشاهدة المنكر إذا لم يعذر.

   الشرح أن من معاصي البدن الجلوس في محل فيه منكر من المحرمات مع العلم بوجود المنكر في ذلك المكان إذا لم يكن معذورًا في جلوسه فيه بأن أمكنه أن يغير ذلك المنكر بنفسه أو بغيره فلم يفعل، وكذلك إن أمكنه أن يفارق المكان فلم يفعل.

   فائدة في حواشي الروضة للبلقيني ما نصه »قوله – يعني النووي – ومنها أن لا يكون هناك منكر كشرب الخمر والملاهي، فإن كان نظر إن كان الشخص ممن إذا حضر رفع المنكر فليحضر إجابةً للدعوة وإزالةً للمنكر، وإلا فوجهان:

   أحدهما: الأولى أن لا يحضر ويجوز أن يحضر ولا يستمع ولكن ينكر بقلبه، كما لو كان يضرب المنكر في جواره ولا يمكن منه التحول وإن بلغه الضرب وعلى هذا جرى العراقيون.

   والثاني: وهو الصحيح يحرم الحضور لأنه كالرضا بالمنكر وإقراره. زاد – يعني النووي – الوجه الأول غلط ولا يثبت عن كل العراقيين وإنما قاله بعضهم وهو خطأ ولا يغتر بجلالة صاحب التنبيه ونحوه ممن ذكره. انتهى كلام النووي.
   قال البلقيني: ما ذكره المصنف (أي النووي في روضته) في زيادته ليس بصحيح، قوله »الوجه الأول غلط« ممنوع بل هو ظاهر نص الشافعي في الأم ومختصر المزني قال في الأم في باب الوليمة بعد الأشربة »وإذا دعي الرجل إلى الوليمة وفيها المعصية من المسكر أو ما أشبه ذلك من المعاصي الظاهرة نهاهم فإن نحوا ذلك عنه وإلا لم أحب له أن يجلس، وإن علم قبل أن ذلك عندهم فلا أحب له أن يجيب ولا يدخل مع المعصية«، وقال في مختصر المزني »وإذا كان فيها المعصية من المسكر أو الخمر أو ما أشبهه« فذكر نحو ما في الأم وقال في ءاخره »لم أحب له أن يجيب«. وقوله: ولا يغتر إلى ءاخره يقال له: ولا تغتر أنت بمجرد ما تقر به نفسك مما ذكر أن الغلط كلام إمامك والأئمة الأكابر من أصحابه« انتهى كلام البلقيني. ومعنى كلام الشافعي لم أحب له أن يجلس أنه يكره ذهابه لكن لا يحرمه، وإنما قالوا ذلك في وليمة العرس لأنها في الأصل واجبة التلبية أما في غير الوليمة فلا يذهب فيفهم من كلام العلماء أنهم اختلفوا في جلوس الشخص في مكان فيه منكر فقال بعضهم يخرج من ذلك المكان ولا يجلس، وقال بعضهم يجلس لكن لا بنية أن يؤنس هؤلاء الذين يرتكبون شرب الخمر ونحو ذلك، هذا إن كان لا يعلم ابتداءً بوجود المنكر في هذا المكان وإنما علم بعد حضوره أما إن علم ابتداءً بوجود المنكر فلا يذهب.

   قال المؤلف رحمه الله: والتطفل في الولائم وهو الدخول بغير إذن أو أدخلوه حياءً.

   الشرح أن من معاصي البدن أن يحضر الولائم التي لم يدع إليها أو دعي إليها استحياءً من الناس أو أدخل حياءً لما رواه ابن حبان [في صحيحه] »لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه« وهذا الحديث فيه تحذير بليغ من استعمال مال المسلم القليل والكثير والجليل والحقير بغير طيب نفس صاحبه حتى مجرد دخول ملك مسلم بغير رضاه لا يجوز.

   قال المؤلف رحمه الله: وعدم التسوية بين الزوجات في النفقة والمبيت. وأما التفضيل في المحبة القلبية والميل فليس بمعصية.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر ترك العدل بين الزوجات كأن يرجح واحدةً من الزوجتين أو الزوجات على غيرها ظلمًا في النفقة [أما ما كان فوق النفقة الواجبة فلا يجب عليه التسوية فيه بين زوجاته، فلو خص إحداهن بحلي مثلًا دون غيرها لم يأثم] أو المبيت، وليس عليه أن يسوي بين الزوجات في غير ذلك كالمحبة القلبية والجماع وإعطاء الهدايا لأن الله تبارك وتعالى لم يفرض على الزوج التسوية بينهن في كل شىء وليس من مستطاع الزوج أن يسوي بينهن في كل شىء قال الله تعالى ﴿ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة﴾ [سورة النساء/129] فتبين أن ما يعصي الزوج بتركه التسوية في القسم أي المبيت والنفقة، فإذا أدى النفقة الواجبة عليه للجميع وأعطى القسم أي المبيت لكل بالعدل فليس عليه أن يسوي فيما وراء ذلك لأن من ذلك ما لا يستطيعه الشخص كالمحبة القلبية، وكذلك لا يستطيع الشخص أن يسوي بين زوجاته في الجماع، لكن ليس معنى هذا أنه يجامع بعضًا ولا يجامع بعضًا بالمرة لأن ترك جماع الزوجة بالمرة إيحاش لها فلو امتنع من جماع إحدى زوجتيه أو زوجاته لا يلزم بالجماع إن كان جامع مرةً وليس لها أن تطالبه على أنه إن لم يفعل يطلقها ولا يلزمه الحاكم بذلك.

   قال المؤلف رحمه الله: وخروج المرأة إن كانت تمر على الرجال الأجانب بقصد التعرض لهم.

   الشرح أن من معاصي البدن خروج المرأة متعطرةً أو غير متعطرة متزينةً أو غير متزينة متسترةً بالستر الواجب أو لم تكن كذلك إن قصدت بخروجها أن تفتن الرجال أي تستميلهم للمعصية، وأما إذا خرجت متعطرةً أو متزينةً ساترةً ما يجب عليها ستره من بدنها ولم يكن قصدها ذلك فليس في ذلك أكثر من الكراهة التنزيهية أي أنها لا تعصي، والدليل على ذلك أنهم أي الشافعية [وكذا عند غيرهم] ذكروا في مناسك الحج أنه يسن التطيب للذكر والأنثى للإحرام للحج والعمرة بدليل ما ثبت عند أبي داود [في سننه] من حديث عائشة، وبدليل حديث ابن حبان [في صحيحه] عن أبي موسى الأشعري »أيما امرأة خرجت متعطرةً فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية« وشرح الحديث أن المرأة التي تقصد بخروجها متطيبةً استمالة الرجال إليها أي للفاحشة أو لما دون ذلك من الاستمتاع المحرم فهي زانية أي شبه زانية لأن فعلها هذا مقدمة للزنى، وليس المعنى أن إثمها كإثم الزانية الزنى الحقيقي الموجب للحد فإن ذلك من أكبر الكبائر. وقوله صلى الله عليه وسلم »وكل عين زانية« أي أغلب الناس يقعون في معصية زنى العين إلا النادر وليس معناه الحكم على جميع الأفراد. وما دون ذلك مما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بزنى العين وزنى اللسان إلى سائر ما ذكر هناك فيما رواه الشيخان [البخاري ومسلم في صحيحيهما] من حديث أبي هريرة فإنها صغائر بلا خلاف بين العلماء.

   وأما حديث مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا« فهذا الحديث صحيح ومعناه أنه يكره لها ذلك، فالمجتهدون هم الذين يعرفون هل هذا النهي للتحريم أم للتكريه أم للأفضلية، ومما يدل على أنه ليس كل نهي للتحريم الحديث الذي رواه ابن حبان [في صحيحه] والترمذي [في سننه] وهو حديث صحيح» لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي« فقد ورد النهي في هذا الحديث عن أمرين وليس المراد به التحريم.

   وكذلك روى ابن حبان أن رسول الله قال: »إذا صلى أحدكم الفريضة فلا يصلي في مكانه النفل حتى يتكلم أو ينتقل« فهل يقول أحد إنه يحرم أن يصلي النفل في مكانه من غير أن يتكلم. فمجرد وجود صفة النهي في حديث ليس دليلًا على التحريم بل قد يكون النهي للتكريه، وقد يكون لبيان أنه خلاف الأولى، ومعرفة ذلك من وظيفة المجتهد أئمة الفقه والحديث قالوا مكروه خروج المرأة متطيبةً إلا إذا قصدت بخروجها التعرض للرجال، البيهقي وغيره قالوا مكروه خروج المرأة إلى المسجد بالزينة الفاخرة أو الطيب، فليس لأحد بعد هذا كلام لمحاولة التحريم المطلق. وكذلك رواية »إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبًا« كل هذا محمول على التكريه ليس على التحريم، فنحن مع الأئمة في التكريه إلا في الحالة الخاصة وهي حالة التعرض للرجال، وأما من قال غير ذلك فهو شاذ من الشاذين، وأمر الزينة قاسوه على الطيب، الشيخ زكريا الأنصاري في شرح روض الطالب يصرح أن المرأة يكره لها الذهاب إلى المسجد بالزينة الفاخرة ولا يحرم ذلك عليها.

   فإن قالوا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث» ليجدوا ريحها «هذه اللام هي لام العاقبة يقال لهم لام العاقبة تذكر من باب المجاز كما قال ابن السمعاني في كتابه القواطع في الأصول، والمجاز لا يرتكب إلا بدليل لأن الأصل في اللام التعليل، فلا تخرج عن ذلك إلا بدليل كما في الآية ﴿فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنًا﴾ [سورة القصص]. يقال جئت لأقرأ أي لكي أقرأ تعلل سبب المجيء، قال ابن هشام في شذور الذهب وغيره: لام العاقبة هي التي ما بعدها نقيض لمقتضى ما قبلها كقوله تعالى ﴿فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنًا﴾ لأن مقتضى التقاط ءال فرعون له أن يكون لهم نصيرًا ولكن العاقبة أنه كان لهم عدوا وحزنًا، فجاء مقتضى ما قبل اللام مناقضًا لما بعدها، وهذا لا يتأتى في حديث» أيما امرأة خرجت متعطرةً فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية«، لأن وجود الريح منها في هذه الحالة ليس مناقضًا لخروجها متعطرةً.

   وأما قول عائشة [الذي أخرجه مسلم في صحيحه] »لو علم رسول الله ما أحدثت النساء لمنعهن من دخول المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل« فليس فيه تحريم، ولو كانت عائشة ترى التحريم لصرخت بين النساء بتحريم ذهابهن إلى المسجد، وأما ما حصل في نساء بني إسرائيل من أنهن حرم عليهن الذهاب إلى المسجد فهو لأمر أحدثنه وهو أنهن كن يتخذن خفافًا من خشب لتظهر في أعين الناس طويلةً لفتنة الرجال فحرم عليهن الذهاب إلى المساجد، فليس ذلك شرعًا لأمة محمد، إنما شرع محمد هو ما تضمنه هذا الحديث الصحيح المشهور »لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات« رواه أبو داود [في سننه]، أي غير متطيبات، وأشار بقوله تفلات إلى أنهن إذا كن تفلات أي غير متطيبات فدخولهن المساجد غير مكروه. وممن عبر بالكراهية في خروج المرأة متطيبةً لا بالتحريم شيخ المحدثين الحافظ الكبير البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى، وكذلك الفقهاء في كتبهم قالوا بكراهية ذهاب النساء إلى المسجد متطيبات أو لابسات ثيابًا فاخرةً، فهذه كتب الشافعية تصرح بذلك وكذلك غيرهم.

   وجدير بهذه المسألة أن نسوق هذا الحديث الموقوف عن عائشة فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري ما نصه: وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفًا أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ولفظه »كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلًا من خشب يستشرفن للرجال في المساجد فحرم الله عليهن المساجد وسلطت عليهن الحيضة« وهذا وإن كان موقوفًا فحكمه حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي اهـ أي كأن عائشة روت هذا عن رسول الله.

   قال المؤلف رحمه الله: والسحر.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر السحر وهو من السبع الموبقات التي ذكرها رسول الله في حديثه وهو مزاولة أفعال وأقوال خبيثة وهو أنواع منه ما يحوج إلى عمل كفري ومنه ما يحوج إلى كفر قولي فالأول كالسجود للشمس أو السجود لإبليس ومنه ما يحوج إلى تعظيم الشيطان بغير ذلك، فما يحوج إلى الكفر ولا يحصل إلا بالكفر فهو كفر. وما لا يحوج إلى الكفر فهو كبيرة. وقد أطلق بعض العلماء تحريم تعلمه وفصل بعض في ذلك فقال إن كان تعلمه وتعليمه لا يحوج إلى الكفر ولا إلى تعاطي محرم جاز ذلك بشرط أن لا يكون القصد تطبيقه بالعمل وإلا فتحريمه متفق عليه ومن استحل ذلك كفر. وقول بعض الناس إن رسول الله قال تعلموا السحر ولا تعملوا به كذب على رسول الله، والسحر سواء كان للمحبة حتى يحب هذا هذه أو هذه هذا أو للتبغيض حتى يكره هذا هذه أو هذه هذا فهو حرام. وكذلك السحر لإمراض الشخص حتى يجن حرام أيضًا ومن السحر ما هو تخييل للأعين كالسحر الذي عمله سحرة فرعون لما تحدى فرعون سيدنا موسى فألقى السحرة الحبال التي في أيديهم فخيل للناس أنها حيات تسعى فألقى سيدنا موسى بعصاه فانقلبت ثعبانًا حقيقيا أكل تلك الحبال التي رماها السحرة. فالذي ينفي وجود السحر على الإطلاق فقد كذب القرءان قال الله تعالى ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله﴾ [سورة البقرة/102]. فيعلم من هذه الآية أن هاروت وماروت ملكان أمرهما الله أن ينزلا إلى الأرض ويعلما الناس السحر لا ليعملوا به بل ليعرفوا حقيقته، كانا يعلمان الناس مع التحذير، يقولان للناس نحن فتنة أي محنة وابتلاء من الله واختبار نعلمكم ولا تكفروا أي لا تعتبروا السحر حلالًا إنما تتعلمون فقط، كانوا يعلمونهم ما يكون من السحر من نوع التفريق بين اثنين متحابين، ثم الناس الذين تعلموا منهما بعضهم ما عمل بهذا السحر الذي تعلمه، وبعض الناس عملوا به وعصوا ربهم. وكان من السحر غير هذا الذي علمه هاروت وماروت للبشر، الشياطين أي كفار الجن كانت تعمل السحر وتعلمه للناس لكن بعض أنواع السحر الذي كانت الشياطين تعلمه البشر كان فيه كفر كعبادة الشمس ومنه ما فيه عبادة إبليس بالسجود له ومنه ما كان فيه غير ذلك من أنواع الكفر حتى إن منه ما تشترط الشياطين على من تعلمه لتساعده أن يبول الشخص على المصحف لأن الكفر إذا حصل من ابن ءادم فهذا عندهم أعظم شىء، يشتهون هذا اشتهاءً. ثم مما يحتالون به لترويج عمل السحر أنهم يخلطون بعض الآيات القرءانية بالسحر حتى يوهموا الناس أن القرءان له دخل في السحر، والقرءان ضد السحر، بالقرءان يفك السحر. لكن أولئك يخلطون بعض الآيات القرءانية بالسحر، يضعون كلامًا خبيثًا في الورقة ثم يكتبون قربه بعض الآيات فيظن الجاهلون من البشر أن القرءان له دخل في السحر، الشياطين بذلك تضل الناس، فمن رأى شيئًا مكتوبًا من السحر وإلى جانبه ءايات قرءانية فليعلم أن القرءان ليس له دخل إنما الشياطين أدخلت هذا لتضل الناس بأن يظنوا أن القرءان فيه سحر. سيدنا سليمان عليه السلام الكفار كانوا يقولون عنه إنه كان ملكًا من الملوك وإنه كان يعمل بالسحر وكذبوا، السحر ليس من عمل الأنبياء والأولياء إنما الشياطين كانوا مغتاظين من سيدنا سليمان عليه السلام لأن الله أعطاه سرا فكانت الشياطين تطيعه مع كفرهم من غير أن يؤمنوا كانوا يخدمونه، يعملون له أعمالًا شاقةً ومن خالفه منهم الله تعالى ينزل به عذابًا في الدنيا، لذلك كانوا مقهورين له، فلما مات كتبوا السحر ودفنوه تحت كرسيه ثم قالوا للناس بعد أن ظهر بعضهم أو عدد منهم للناس هل تدرون بم كان يحكمكم سليمان، كان يحكمكم بالسحر احفروا تحت كرسيه فحفروا فوجدوا هذا الكتاب فصدقوا أن هذا الكتاب لسليمان وضع فيه السحر فكفروا، الذين صدقوا الشياطين كفروا، لأن السحر ليس من عمل الأنبياء ولا الأولياء.

   فالحذر الحذر من الذين يقال عنهم فلان روحاني أو معه جن رحماني، احذروهم وحذروا الناس منهم، أغلب هؤلاء ضالون مفسدون يوقعون الناس في الضلال والكفر لأن الإنسان إذا اعتقد السحر حلالًا وأنه شىء حسن يكفر، لأن السحر أمر محرم من المحرمات الكبائر واستحلاله كفر.

   وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» ليس منا من تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له« رواه الطبراني في الأوسط وغيره.

   والسحر منه ما يكون بالاستعانة بالشياطين ومنه ما يكون بغير ذلك. ولا يجوز مقابلة السحر بالسحر كما يفعل بعض الجهال.

   ومن أعمال السحرة وأقوالهم الخبيثة أنهم يستنجدون بالشياطين ويتكلمون بكلام قبيح فيه تعظيم للشيطان ليعينهم على إيذاء هذا الشخص الذي يريدون إيذاءه.

   ومن الأفعال الخبيثة التي يزاولونها أنهم أحيانًا يأخذون دم الحيض ليسقوه الشخص الذي يريدون ضرره وأحيانًا يأخذون ظفر الشخص أو بعض شعره ليكون إيذاؤه أشد.

وأحيانًا يأخذون من تراب القبر لذلك. وأحيانًا يستعينون بالأرواح الأرضية من الشياطين، وأحيانًا يستنجدون بالكواكب، لأنها على زعمهم لها أرواح تساعدهم وكذلك الشمس، ثم هم أحيانًا يختارون وقتًا معينًا لعمل السحر لأن هذه الأوقات الله جعل لها خصائص لعمل الخير ولعمل الشر.

   ومن أنواع السحر سحر التسليط، يسلط على الشخص جني يمرضه وأحيانًا هذا الجني يقتله.

   ومما ينفع للتحصن من السحر أن يداوم الشخص كل صباح ومساء على قراءة المعوذات، قل أعوذ برب الناس وقل أعوذ برب الفلق وسورة الإخلاص ثلاثًا ثلاثًا.

   وأما هاروت وماروت فهما ملكان من الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وما يروى عنهما أنهما شربا الخمر ثم قتلا الطفل الذي كانت تحمله المرأة ووقعا عليها فغير صحيح.

   وما يذكره كثير من المفسرين من أهل السنة في قصة هاروت وماروت أنهما مستثنيان من عصمة الملائكة من أن الزهرة امرأة راوداها عن نفسها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الأعظم فعلماها فرفعت كوكبًا إلى السماء فهو كذب ولعله من وضع الإسرائيليين. أيضًا ما يروى أنهما رأيا امرأةً فركبت فيهما الشهوة فأرادا الوقوع بها فقالت حتى تشركا فرفضا فقالت اشربا الخمر فشربا فسكرا وقتلا الصبي وسجدا للصنم فهذا كذب هذا خرافة.

   ومما ينفع للتحصن من السحر ما رواه الإمام مالك في »الموطإ« بإسناد صحيح عن القعقاع عن كعب الأحبار رضي الله عنه أنه قال »لولا كلمات أقولهن لجعلتني اليهود حمارًا« فقيل له ما هن قال »أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شىء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ« يعني كعب الأحبار رضي الله عنه بقوله هذا أن اليهود من أسحر خلق الله تعالى أي من أكثر الناس استعمالًا للسحر فلولا أنه يقول هذا الذكر لضروه كثيرًا. وهو رضي الله عنه كان يهوديا ثم أسلم في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عنده كتب من أبيه ختمها إلا واحدًا منها وقال له اقرأ في هذا وكان والده من أحبار اليهود، قال وأخذ علي العهد بحق الوالد على الولد أن لا أفض واحدًا منها فلما ظهر الإسلام فتحتها فإذا فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم وتبشير الأنبياء به، عندها أسلم كعب. فهذا الذكر ينفع للتحصن من السحر ولفك السحر حتى لو كتب في ورقة وعلق على الصدر.

   ومما ينفع لفك السحر ورق السدر يؤتى بسبع ورقات خضر صحاح وتدق بين حجرين دقا جيدًا ثم توضع في ماء ثم يقرأ عليه ءاية الكرسي والمعوذات ثلاثًا ثلاثًا أو مرةً مرةً أو يقرأ على الورق بعد دقه وقبل وضعه في الماء ثم يشرب المصاب من هذا الماء ثلاث جرعات ويغتسل بالباقي.

   ومما ينفع لذلك أيضًا أن يؤتى بإحدى وأربعين حبة فلفل أسود ويقرأ على كل حبة سبع مرات سورة الإخلاص ثم يبخر المصاب بها.

   ومما ينفع لفك السحر بإذن الله قراءة الآية ﴿فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين﴾ [سورة يونس/81] خمسًا وعشرين مرةً، وكذا الفاتحة سبع مرات وءاية الكرسي سبع مرات، وسورة الإخلاص إحدى عشرة مرةً، وسورة الفلق إحدى عشرة مرةً، وسورة الناس إحدى عشرة مرةً تقرأ على ماء ويشرب منها المسحور.

   قال المؤلف رحمه الله: والخروج عن طاعة الإمام كالذين خرجوا على علي فقاتلوه. قال البيهقي: كل من قاتل عليا فهم بغاة وكذلك قال الشافعي قبله، ولو كان فيهم من هم من خيار الصحابة لأن الولي لا يستحيل عليه الذنب ولو كان من الكبائر.

   الشرح أن من معاصي البدن الخروج عن طاعة الإمام وقد صح حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للزبير رضي الله عنه» إنك لتقاتل عليا وأنت ظالم له« [أخرجه الحاكم في المستدرك] فلما حضر الفريقان في البصرة نادى علي الزبير فأخبره بالحديث فقال الزبير نسيت، فذهب منصرفًا لأن الله كتب له السعادة والمنزلة العالية فاقتضى ذلك أن لا يموت وهو متلبس بمعصية الخروج على علي، وكذلك طلحة ما قتل إلا وقد انصرف من الثبوت في المعسكر المضاد لعلي رضي الله عن الجميع، وذلك بعد أن ذكره سيدنا علي بالحديث »من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه«. فهذان الصحابيان الجليلان لا شك أنهما من الصديقين المقربين ومع ذلك نفذ فيهما القدر بحضورهما إلى هذا المعسكر المضاد لعلي.

   وقد روي أن شخصًا قال لعلي أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال علي: ليس الحق يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق اهـ أي ليس الحجة بالأشخاص وإنما الحجة بالشرع الذي هو الحق الذي أنزله الله ليرجع إليه وليعرف به الحق من الباطل. وحديث الزبير المذكور رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه بأكثر من طريق.

   ومن الدليل على حرمة الخروج عن طاعة الإمام ما رواه مسلم [في صحيحه] من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتةً جاهليةً« أي كأنه مات ميتةً جاهليةً شبه بالجاهليين في ميتته لعظم ذنبه.

   قال المؤلف رحمه الله: والتولي على يتيم أو مسجد أو لقضاء أو نحو ذلك مع علمه بالعجز عن القيام بتلك الوظيفة.

   الشرح أن من معاصي البدن أن يتولى الشخص الإمامة العظمى أو إمارةً دونها أو ولايةً من الولايات كالتولي على مال يتيم أو على وقف أو في وظيفة تتعلق بالمسجد أو تولي القضاء أو نحو ذلك مع علمه من نفسه بالعجز عن القيام بتلك الوظيفة على ما يجب عليه شرعًا كأن علم من نفسه الخيانة فيه أو عزم على ذلك فعندئذ يحرم عليه سؤال ذلك العمل وبالأحرى بذل المال للوصول إليه. وكذلك من لا يحسن قراءة الفاتحة لا يجوز له أن ينتصب إمامًا في مسجد ليصلي بالناس.

   قال المؤلف رحمه الله: وإيواء الظالم ومنعه ممن يريد أخذ الحق منه.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر إيواء الظالم لمناصرته ليحول بين الظالم وبين من يريد أخذ الحق منه، وقد ورد في ذلك حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه» لعن الله من ءاوى محدثًا «رواه مسلم [في صحيحه]، أي منع الظالم ممن يريد استيفاء الحق منه والمحدث هنا معناه الجاني الذي ظلم.

   قال المؤلف رحمه الله: وترويع المسلمين.

   الشرح أن من معاصي البدن التي هي من الكبائر ترويع المسلمين أي تخويفهم وإرعابهم بنوع من أنواع الترويع بنحو حديدة يشير بها إليه. روى مسلم وابن حبان [في صحيحيهما] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال »من أشار إلى أخيه بحديدة لعنته الملائكة وإن كان أخاه لأبيه وأمه«.

   قال المؤلف رحمه الله: وقطع الطريق ويحد بحسب جنايته إما بتعزير أو بقطع يد ورجل من خلاف إن لم يقتل أو بقتل وصلب أي إن قتل.

   الشرح أن من معاصي البدن قطع الطريق وذلك من الكبائر سواء حصل قتل أو أخذ مال فكيف إذا كان معه قتل أو جرح قال تعالى ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ [سورة المائدة/33] الآية، وفي ذلك إشعار بعظم ذنب قطع الطريق على المؤمنين، ويترتب عليه أحكام، فإن كانت جنايته إخافة السبيل فقط فيعزر بحبس أو تغريب أو ضرب أو غير ذلك مما يراه الإمام. وإن كانت جنايته بأخذ المال مع الإخافة بلا قتل ولا جرح فبقطع يد ورجل من خلاف بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى فإن عاد فيده اليسرى ورجله اليمنى بشرط أن يكون ذلك المال الذي يأخذه نصاب سرقة أي ربع دينار ذهب. وإن كانت جنايته بأخذ المال والقتل فعقوبته بالقتل والصلب وكيفية ذلك أن يقتل ويغسل ويكفن ويصلى عليه ثم يصلب أي يعلق على خشبة معترضة ثلاثة أيام إن لم يتغير وإلا أنزل، وقيل يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت ثم يدفن. وإن كانت جنايته القتل بلا أخذ مال فعقوبته بالقتل بلا صلب ولا يسقط هذا القتل بعفو الولي.

   وأما أعوان القطاع فيعزرون كما هو حكم من فعل معصيةً ليس فيها حد، فيفعل الإمام بهم ما يرى من التعزير إما حبس وإما ضرب وإما غير ذلك.

   قال المؤلف رحمه الله: ومنها عدم الوفاء بالنذر.

   الشرح أن من معاصي البدن ترك الوفاء بالنذر [قال العلامة المحدث عبد الله الهرري: أنا لا أرى هذا من الكبائر] سواء كان النذر نذر تبرر وهو الذي ينذر بلا تعليق بشىء مما هو قربة، أو نذرًا مع التعليق على حصول مرغوب كحدوث نعمة أو زوال نقمة، أو نذر لجاج واللجاج هو الخصومة كأن يقول إن كلمت فلانًا فلله علي عتق أو صوم أو صلاة مثلًا فهو مخير بين فعل ما التزمه وبين كفارة اليمين. ونذر اللجاج مكروه لا يحبه الله. أما النذر الذي مدح الله تعالى الوفاء به فهو النذر الذي يكون تقربًا إلى الله من غير تعليق بشىء.

   وشرط النذر الذي يجب الوفاء به هو أن يكون المنذور قربةً غير واجبة فلا ينعقد نذر القربة الواجبة كالصلوات الخمس، ولا نذر ترك المعصية كشرب الخمر وفيه تفاصيل مذكورة في كتب الفقه المطولة والمبسوطة.

   فمن نذر صلاةً فيكفيه أن يصلي ركعةً [لأن أقل ما يتقرب به من الصلاة إلى الله ركعة الوتر فإذا لم يعين العدد إنما نذر أن يصلي لله نفلًا إن شاء يصلي ركعةً أو ركعتين أو أكثر، والصيام كذلك إن لم يحدد في نذره يكفي صوم يوم فإن حدد يأتي بالعدد الذي ذكره]، ومن نذر صومًا يكفيه صوم يوم. ومن نذر أن يذبح خروفًا ليتصدق به ولم يحدد كم عمر هذا الخروف يذبح خروفًا عمره سنةً أو أسقط مقدم أسنانه وليس للناذر أن يأكل من نذره الذي نذره ولا أن يطعم أولاده الأطفال منه لا يطعم إلا الفقراء الذين ليس لهم عليه نفقة.

   فعلم من ذلك أنه لا يصح نذر معصية كشرب خمر ولا نذر مباح أي ما يستوي فعله وتركه فلا يلزم الفعل أي الوفاء به لأنه ليس قربةً [من نذر أن يأكل التمر لا يثبت لأنه ليس قربةً إلى الله لا هو معصية ولا هو سنة لا يثبت نذره مثل الذي ينذر أن يشرب الشاي أو أن لا يشربه هذا لا يثبت لأن شرب الشاي ليس فيه ثواب. أما من نذر شرب ماء زمزم يثبت نذره]. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم »من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه« رواه البخاري [في صحيحه].

   وقد يكون النذر شركًا وكفرًا كما لو نذر شخص لولي أو ولية تقربًا إلى ذلك الولي أو تلك الولية ليس بنية التقرب إلى الله تعالى بل النذر لهما بنية أن هذا الولي أو هذه الولية يقضي الحاجات ويفرج الكربات ناسيًا الله تعالى، ما خطر بباله التقرب إلى الله، فهذا النذر فاسد وباطل وكفر. وأما النذر للأولياء من أهل القبور كالأوزاعي والسيدة زينب فإن كان هذا النذر بنية التقرب إلى الله بالتصدق عن روح الأوزاعي مع رجاء أن يقضي الله حاجته ببركة هذا الخير الذي فعله فلا بأس فإن كان النذر خروفًا ينوي أنه يطعم لحمه للفقراء الذين هناك أو الخادم الذي يرعى المقام تقربًا إلى الله مع نية أن يقضي الله حاجته فإن هذا لا بأس به، وأما إذا كان لم يخطر بباله التقرب إلى الله إلا تعظيم هذا الولي فلا يصح هذا النذر. وكثير من الناس نذرهم باطل لأنه لا يخطر ببالهم التقرب إلى الله بالتصدق عن روح هذا الولي إلا تعظيم هذه البقعة باعتقادهم أن لها خصوصيةً في دفع المكروه وجلب المنفعة، وهذا النذر شبيه بعبادة الأوثان.

   ومن نذر شيئًا تقربًا إلى الله تعالى ثم نسي ما هو ينتظر حتى يتذكر. وكذلك من شك هل نذر قراءة القرءان أو التهليل مائة مرة مثلًا ينتظر حتى يتذكر. وأما من شك هل نذر صلاة مائة ركعة أو ألف ركعة فيفعل الأقل ولا يلزمه الأكثر.
   ثم إن تنفيذ النذر على التراخي وليس شرطًا أن يكون على الفور إلا أن حدد وقتًا ففي الوقت الذي حدده. ومن نذر أن يتصدق بشىء من المال ثم مات قبل أن يفعل، أهله يخرجون من تركته وينفذون هذا النذر لأن هذا صار دين الله، كالذي وجبت عليه الزكاة فلم يزك، فيجب قضاؤه.

   وأما ما ورد في الحديث الذي رواه البخاري [في صحيحه] من أن النبي نهى عن النذر وقال »إن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخر« قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه »قال ابن الأثير في النهاية: تكرر النهي عن النذر في الحديث هو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصيةً فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعًا ولا يصرف عنهم ضرا ولا يغير قضاءً فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدره الله لكم أو تصرفوا به عنكم ما قدره عليكم فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم عليكم، انتهى كلامه ونسبه بعض شراح المصابيح للخطابي وأصله من كلام أبي عبيد فيما نقله ابن المنذر في كتابه الكبير فقال كان أبو عبيد يقول وجه النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثمًا ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يتهاون به فيفرط في الوفاء به ويترك الوفاء به ويترك القيام به، ثم استدل بما ورد من الحث على الوفاء به في الكتاب والسنة وإلى ذلك أشار المازري بقوله ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر والحض على الوفاء به قال وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي القربة مستثقلًا لها لما صارت عليه ضربة لازب [واللازب أيضًا الثابت تقول صار الشىء ضربة لازب وهو أفصح من اللازم] وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم ينذر القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية التقرب قال ويشير إلى هذا التأويل قوله »إنه لا يأتي بخير« وقوله» إنه لا يقرب من ابن ءادم شيئًا لم يكن الله قدره له «وهذا كالنص على هذا التعليل اهـ.

  والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازاة وزاد القاضي عياض ويقال إن الإخبار بذلك وقع على سبيل الإعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة قال ومحصل مذهب مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤبدًا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيب نفس ومن غير خالص النية فحينئذ يكره، قال وهذا أحد محتملات قوله »لا يأتي بخير« أي أن عقباه لا تحمد وقد يتعذر الوفاء به.

   وقد يكون معناه لا يكون سببًا لخير لم يقدر، كما في الحديث وبهذا الاحتمال الأخير صدر ابن دقيق العيد كلامه فقال يحتمل أن تكون الباء للسببية كأنه قال لا يأتي بسبب خير في نفس الناذر وطبعه في طلب القربة والطاعة من غير عوض يحصل له وإن كان يترتب عليه خير وهو فعل الطاعة التي نذرها لكن سبب ذلك الخير حصول غرضه.

   وقال النووي معنى قوله: »لا يأتي بخير« أنه لا يرد شيئًا من القدر كما بينته الروايات الأخرى.

   تنبيه قوله لا يأتي كذا للأكثر ووقع في بعض النسخ لا يأت بغير ياء وليس بلحن لأنه قد سمع نظيره من كلام العرب وقال الخطابي في الإعلام هذا باب من العلم غريب وهو أن ينهى عن فعل شىء حتى إذا فعل كان واجبًا، وقد ذكره أكثر الشافعية ونقله أبو علي السنجي عن نص الشافعي أن النذر مكروه [أي في غير نذر التبرر] لثبوت النهي عنه وكذا نقل عن المالكية وجزم به عنهم ابن دقيق العيد وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم والجزم عن الشافعية بالكراهة قال واحتجوا بأنه ليس طاعةً محضةً لأنه لم يقصد به خالص القربة وإنما قصد أن ينفع نفسه أو يدفع عنها ضررًا بما التزمه، وجزم الحنابلة بالكراهة وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم وتوقف بعضهم في صحتها وقال الترمذي بعد أن ترجم كراهة النذر وأورد حديث أبي هريرة ثم قال وفي الباب عن ابن عمر العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر.

   وقال ابن المبارك معنى الكراهة في النذر في الطاعة وفي المعصية فإن نذر الرجل في الطاعة فوفى به فله فيه أجر ويكره له النذر قال ابن دقيق العيد وفيه إشكال على القواعد فإنه تقتضي أن الوسيلة إلى الطاعة طاعة كما أن الوسيلة إلى المعصية معصية، والنذر وسيلة إلى التزام القربة فيلزم أن يكون قربةً إلا أن الحديث دل على الكراهة ثم أشار إلى التفرقة بين نذر المجازاة فحمل النهي عليه وبين نذر الابتداء فهو قربة محضة.

   وقال ابن أبي الدم في »شرح الوسيط« القياس استحبابه والمختار أنه خلاف الأولى وليس بمكروه كذا قال ونوزع بأن خلاف الأولى ما اندرج في عموم نهي والمكروه ما نهي عنه بخصوصه وقد ثبت النهي عن النذر بخصوصه فيكون مكروهًا. وإني لأتعجب ممن انطلق لسانه بأنه ليس بمكروه مع ثبوت الصريح عنه فأقل درجاته أن يكون مكروهًا كراهة تنزيه وممن بنى على استحبابه النووي في »شرح المهذب« فقال إن الأصح أن التلفظ بالنذر في الصلاة لا يبطلها لأنها مناجاة لله فأشبه الدعاء اهـ وإذا ثبت النهي عن الشىء مطلقًا فترك فعله داخل الصلاة أولى فكيف يكون مستحبا، وأحسن ما يحمل عليه كلام هؤلاء نذر التبرر المحض بأن يقول لله علي أن أفعل كذا أو لأفعلنه [لا] على المجازاة.

   وقد حمل بعضهم النهي على من علم من حاله عدم القيام بما التزمه، حكاه شيخنا في شرح الترمذي، ولما نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعية كراهة النذر، وعن القاضي حسين والمتولي بعده والغزالي أنه مستحب لأن الله أثنى على من وفى به ولأنه وسيلة إلى القربة فيكون قربةً، قال يمكن أن يتوسط فيقال الذي دل الخبر على كراهته نذر المجازاة، وأما نذر التبرر فهو قربة محضة لأن للناذر فيه غرضًا صحيحًا وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب وهو فوق ثواب التطوع اهـ.

   وجزم القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال هذا النهي محله أن يقول مثلًا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكور على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله» وإنما يستخرج به من البخيل« ما لم يكن البخيل يخرجه. قال وينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض أو أن الله يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر وإليهما الإشارة بقوله في الحديث أيضًا [أخرجه مسلم في صحيحه] »فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئًا« اهـ.

   ثم قال ابن حجر: »ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة وقال الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرمًا، والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك اهـ.

   وهو تفصيل حسن ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى ﴿يوفون بالنذر﴾ [سورة الإنسان/7] قال كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ومما افترض عليهم فسماهم الله أبرارًا وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة وكأن البخاري رمز في الترجمة إلى الجمع بين الآية والحديث بذلك وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور» البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي« أخرجه النسائي [في عمل اليوم والليلة] وصححه ابن حبان أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي.

   ثم نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله صلى الله عليه وسلم »من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه «[رواه البخاري في صحيحه] ولم يفرق بين المعلق وغيره. انتهى.

   والاتفاق الذي ذكره مسلم لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر« اهـ.

   قال المؤلف رحمه الله: والوصال في الصوم وهو أن يصوم يومين فأكثر بلا تناول مفطر.

   الشرح أن من معاصي البدن أن يصوم يومين فأكثر من غير تناول مطعوم عمدًا بلا عذر. ويستثنى من هذا رسول الله فإنه كان يجوز له الوصال في الصوم لحديث البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال فقال رجل من المسلمين فإنك تواصل يا رسول الله فقال: »وأيكم مثلي أبيت يطعمني ربي ويسقيني« معناه يجعل في قوة الطاعم الشارب من غير أن ءاكل وهذا مؤقت لأنه كان يجوع أليس شد الحجر على بطنه من الجوع في بعض الحالات.

   قال المؤلف رحمه الله: وأخذ مجلس غيره أو زحمته المؤذية أو أخذ نوبته.

   الشرح أن من معاصي البدن أن يأخذ مجلس غيره ولو كان ذميا إذا سبق إليه سواء كان من شارع أو غيره لأنه يجوز للذمي الوقوف في الشارع ولو وسطه والجلوس به لاستراحة أو معاملة مثلًا إن اتسع ولم يضيق بذلك على المارة كأن كان يبيع أو يشتري، سواء كان بإذن الإمام أي الخليفة أو لا، ولكن إن نشأ من نحو وقوفه ضرر يؤمر بقضاء حاجته والانصراف.

   وللجالس في الشارع أن يظلل بما لا يضر ويختص بمحل أمتعته ومعامليه وليس لغيره إزعاجه منه، ولا يجوز أيضًا لغيره زحمته المؤذية له فيه ولو بغير الجلوس فله منع واقف منع رؤيته أي رؤية الناس له أو وصول معامليه إليه لا من قعد لبيع مثل متاعه إذا لم يزحمه فيما يختص به أي فليس له أن يمنع شخصًا ءاخر قعد ليبيع مثل متاعه إن لم يزاحمه على محله.

   فائدة روى مسلم في الصحيح» من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به« فعلم من ذلك أن السابق لمحل من المسجد وغيره من الأماكن العامة لصلاة أحق به حتى يفارقه [وهذا الحكم في المسجد ونحوه لا في مكان مملوك لإنسان كبيته فإنه يقعد فيه من يشاء حيث يشاء]، فإن فارقه لعذر كتجديد وضوء وإجابة داع وقضاء حاجة ونوى العودة لم يبطل حقه نعم إذا أقيمت الصلاة فالوجه أي القول الصحيح سد الصف ولا عبرة بوضع سجادته قبل حضوره فلغيره تنحيتها، ويحرم فرشها خلف المقام في مكة وفي الروضة المكرمة لأن فيه تحجير المحل الفاضل، وكذا يحرم الجلوس خلف المقام لغير دعاء مطلوب وصلاة سنة الطواف إن احتاج غيره للصلاة فيه أما إن لم يكن هناك من يريد أن يقف هناك فيجوز له أن يطيل في قراءة القرءان والصلاة. وأما من أخذ مجلس غيره في بيت شخص في أثناء مجلس علم يعطى في هذا البيت فليس حرامًا إلا أن كان صاحب البيت لا يرضى بذلك. ومثل ذلك إذا كان شخص يملك فرنًا للخبز ونحوه فله أن يقدم من شاء في البيع ويؤخر من شاء.

   والسابق إلى موضع من رباط مسبل ليسكنه وتحقق فيه شرط ساكنيه أحق به إن أذن له الناظر أي ناظر الوقف ما لم يعرض عنه أو تطل غيبته وإلا فمن بعده أحق به.

   والسابق إلى معدن ظاهر أو باطن مباح لم يتسع أحق به، فإن جاء اثنان معًا أقرع بينهما ولا يقدم الأحق إلا بقدر حاجته عرفًا بالنسبة لأمثاله لأنه مشترك بين الناس كالماء، فإن زاد عليها أو طال مقامه وضيق على غيره أزعج لشدة الحاجة وعموم النيل بخلاف مقاعد السوق لأنها عامة.

   وأما المياه المباحة كالأنهار فالناس فيها سواء وتقدم حاجة بهيمة لاستعمال على حاجة زرع، وإذا أراد قوم سقي أراضيهم من ماء مباح فإما أن يتسع فيسقي كل إنسان منهم متى شاء أو لا يتسع فإن لم يف بهم سقى المحيي أولًا فأول، ويحرم على من وقع إحياؤه بعده أخذ نوبته فإن أحيوا معًا أو جهل السابق أقرع بينهم، وإذا لم يكن فيهم من أحيى كما إذا جاء اثنان إلى ماء مباح مرتبين وضاق عنهما قدم السابق بقدر كفايته. ومثل المياه غيرها من المعادن فلا يجوز لأحد الاستيلاء على نوبة ذي النوبة لأنه ظلم.

   تنبيه لا يجوز أخذ عوض ممن يرتفق بالشارع أي ينتفع به بنحو المعاملة وما يفعله بعضهم من بيع بعضه فسق وضلال لأن هذا حق العموم فكيف يأكل عليه شخص أجرةً أو يبيعه لغيره. قال ابن الرفعة: لا أدري بأي وجه يلقى الله تعالى من يفعل ذلك اهـ.