الإثنين ديسمبر 8, 2025

معاصي اللسان

   قال المؤلف رحمه الله: (فصل) ومن معاصي اللسان الغيبة وهي ذكرك أخاك المسلم بما يكرهه مما فيه في خلفه.

   الشرح أن من محرمات اللسان الغيبة قال الله تعالى ﴿ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا﴾ [سورة الحجرات/12] وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه وفيه مبالغات منها الاستفهام الذي معناه التقرير. ولما قررهم بأن أحدًا منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله ﴿فكرهتموه﴾ أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين.

   وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة» قالوا الله ورسوله أعلم، قال «ذكرك أخاك بما يكره» قال أفرأيت [بمعنى أخبرني] إن كان في أخي ما أقول، قال «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته»

   والغيبة هي ذكرك أخاك المسلم الحي أو الميت بما يكرهه لو سمع، سواء كان مما يتعلق ببدنه أو نسبه أو ثوبه أو داره أو خلقه كأن يقول: فلان قصير، أو أحول، أو أبوه دباغ أو إسكاف، أو فلان سيء الخلق أو قليل الأدب، أو لا يرى لأحد حقا عليه، أو لا يرى لأحد فضلًا، أو كثير النوم، أو كثير الأكل، أو طويل الذيل أو قصيره [الذيل ءاخر كل شىء، وذيل الثوب والإزار ما جر منه إذا أسبل]، أو وسخ الثياب، أو داره رثة، أو ولده فلان قليل التربية، أو فلان تحكمه زوجته، أو قليلة النظافة، ونحو ذلك من كل ما يعلم أنه يكرهه لو بلغه، وبعض ما مر قد يذكر في غير الحالات التي يكره الشخص ذكره بها فإنه قد يذكر رثاثة بيت الشخص مدحًا له بالزهد والقناعة بالقليل وخشونة العيش فما ذكر هي الغيبة المحرمة. وقد اختلف كلام العلماء فيها فمنهم من اعتبرها كبيرةً ومنهم من اعتبرها صغيرةً، والصواب التفصيل في ذلك فإن كانت الغيبة لأهل الصلاح والتقوى فتلك لا شك كبيرة وأما لغيرهم فلا يطلق القول بكونها كبيرةً، وما نقل عن القرطبي من أنها كبيرة بالإجماع فغير سديد، لكن المسلم الفاسق إذا اغتيب إلى حد الإفحاش كبيرة كأن يبالغ في ذكر مساوئه على غير وجه التحذير، بل لمجرد التفكه وعلى ذلك يحمل حديث: «إن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم» رواه أبو داود [في سننه]، فإن هذه الاستطالة كبيرة بل من أشد الكبائر لوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أربى الربا أي أنها في شدة إثمها كأشد الربا. وليس من الغيبة أن يقال هذا الفندق أحلى من هذا الفندق أو طعامه ألذ أو هذا أنظف من هذا أو هذا الدكان الثياب التي عنده أحلى من الدكان الآخر أو هذا سعره أرخص من هذا لأن الشخص لا يتأذى من هذا لو سمع، لكن لا يحب، فمجرد الإخبار ليس حرامًا.

   وليس من الغيبة أن يقال هذا سعره مرتفع أكثر من سعر فلان أو بضاعة فلان أحسن من بضاعة فلان أو حملة فلان للحج أحسن من حملة فلان، أو فلان أعلم من فلان، لأن العبرة بما يكرهه ذوو الطبع السليم. وكذلك ليس من الغيبة المحرمة أن يتكلم على جماعة كثيرين غير محصورين كأن يقول العشيرة الفلانية فيهم الخصلة الفلانية ولم يكن واحد منهم حاضرًا في المجلس بحيث يتأذى من ذلك، أما إن كان واحد منهم في المجلس فقيل أمامه عشيرتك خبيثة فهذا حرام لأن فيه إيذاءً له.

   وأما أن يقول عن محصورين معروفين بعينهم كلامًا فيه ذم فهو غيبة محرمة.

   وأما من تكلم عن شخص في خلفه بما يكره دون ذكر اسمه ودون أن يعرف السامعون من المقصود فليس حرامًا.

   وكما تحرم الغيبة يحرم السكوت عليها مع القدرة على النهي وترك مفارقة المغتاب إن كان لا ينتهي مع القدرة على ذلك.

   وقد تكون الغيبة جائزةً بل واجبةً وذلك في التحذير من ذي فسق عملي أو بدعة اعتقادية من البدع التي هي دون الكفر، كالتحذير من التاجر الذي يغش في معاملاته أو تحذير صاحب العمل من عامله الذي يخونه، وكالتحذير من المتصدرين للإفتاء أو التدريس أو القراءة مع عدم الأهلية فهذه الغيبة واجبة. ومن الجهل بأمور الدين استنكار بعض الناس التحذير من العامل الذي يخون صاحب العمل احتجاجًا بقولهم إن هذا قطع الرزق على الغير، فهؤلاء يؤثرون مراعاة جانب العبد على مراعاة شريعة الله.

   ومن الغيبة الواجبة تحذير من يريد أن يصادق إنسانًا في معاملة دنيوية أو دينية إذا علم الشخص أن هذا الذي يريد مصادقته يدخل عليه ضررًا بمصادقته فالسكوت في مثل هذا عن التحذير حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المرء على دين خليله [والمراد بالدين في الحديث العمل والحال] فلينظر أحدكم من يخالل» [أخرجه أبو داود في سننه] أي المرء يقتدى به بأفعاله وخصاله معناه انتقوا من تتخذونه صاحبًا فمن كان ينفعكم في دينكم فعليكم بمصادقته ومن كان لا ينفعكم في دينكم بل يضركم فابتعدوا منه ولا تصادقوه. وقد قسم بعض الفقهاء الأسباب التي تبيح الغيبة إلى ستة جمعها في بيت واحد قال: [الوافر]

تظلم واستعن واستفت حذر                  وعرف واذكرن فسق المجاهر

   فمن ظلمه شخص فشكاه للحاكم ليأخذ له حقه منه يجوز له ذلك. ومن أراد إزالة منكر من المنكرات يفعله شخص فاستعان بشخص يعينه على ذلك يجوز له ذلك، ومن شكا مسلمًا اختلف معه في قضية ليأخذ الفتوى من العالم التقي مثلًا يجوز له ذلك ومعنى حذر أي حذر ممن يضر الناس في دينهم ودنياهم فهذا ليس حرامًا بل يجب التحذير من الذي يغش الناس في دينهم أو في أمور دنياهم عند القدرة على ذلك، ومن أراد أن يعرف شخصًا ليعرف فقال فلان الأعرج مثلًا لا بقصد ذمه إنما لبيان الشخص المعين في هذا الغرض الصحيح يجوز له ذلك. وكذلك الذي يجاهر بفسقه يجوز ذكره بما فيه مما يكره لزجره عن فسقه لا بقصد التفكه بذكره.

   قال الحافظ النووي: «اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب:

الأول التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم أي يرفع ظلامته إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلان بكذا.

   الثاني الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.

   الثالث الاستفتاء فيقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين ومع ذلك فالتعيين جائز كما سيأتي بيانه في حديث هند إن شاء الله تعالى.

   الرابع تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة.

   ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة إن اقتضت النصيحة ذلك.

   ومنها إذا رأى متفقهًا يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.

   ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحًا لها وإما بأن يكون فاسقًا أو مغفلًا ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.

   الخامس أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلمًا وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب ءاخر مما ذكرناه.

   السادس التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.

   فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة» اهـ.

   ومن الجهل القبيح قول بعض الناس حينما تنكر عليهم الغيبة «إني أقول هذا في وجهه» كأنهم يظنون أن ما في الشخص المغتاب لا بأس إذا اغتيب به، وهؤلاء لم يعلموا تعريف الرسول للغيبة بقوله «ذكرك أخاك بما يكره» قيل أرأيت يا رسول الله إن كان في أخي ما أقول، قال «إن كان فيه فقد اغتبته» إلى ءاخر الحديث رواه مسلم [في صحيحه] وأبو داود [في سننه].

   أما ذكر المسلم في وجهه بما يكره فهو إيذاء وإيذاء المسلم حرام.

   والغيبة قد تكون بالتصريح أو التعريض أو الكتابة، ومن التعريض الذي هو غيبة أن تقول إذا سئلت عن شخص مسلم «الله لا يبتلينا» مريدًا أنه مبتلًى بما يكره، وكذلك أن تقول إذا ذكر شخص مسلم «الله يصلحنا» مريدًا به التعريض بأنه ليس على حالة طيبة أو تقول «أصلحه الله»، أما إن لم يرد التعريض إلا الدعاء الخالص فلا إثم فيه.

   قال المؤلف رحمه الله: والنميمة وهي نقل القول للإفساد.

   الشرح أن النميمة من الكبائر وهي نقل القول من شخص إلى شخص أو من قوم إلى قوم وهي من جملة معاصي اللسان لأنها قول يراد به التفريق بين اثنين بما يتضمن الإفساد والقطيعة بينهما أو العداوة، ويعبر عنها بعبارة أخرى وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد بينهم، يقول لهذا فلان قال فيك كذا ويقول لذاك فلان قال فيك كذا حتى يتقاتلا أو يتعاديا للإفساد بينهما. والنميمة أشد إثمًا من الغيبة. قال الله تبارك وتعالى ﴿هماز مشآء بنميم﴾ [سورة القلم/11] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة قتات» رواه البخاري، والقتات النمام. قال العلماء معنى قوله عليه السلام «لا يدخل الجنة قتات» لا يدخل مع الأولين بل يدخلها بعد أن يقاسي ما يقاسي من أهوال الآخرة هذا إن جازاه الله ولم يعف عنه. وهي والغيبة وعدم التنزه من البول أكثر أسباب عذاب القبر. وأما قوله تعالى ﴿والفتنة أشد من القتل﴾ [سورة البقرة/191] فمعناه الشرك أشد من القتل وليس معناه أن مجرد الإفساد بين اثنين أشد من قتل المسلم ظلمًا بل الذي يعتقد ذلك يكفر والعياذ بالله لأنه من المعلوم من الدين عند الخاصة والعامة أن قتل المسلم أكبر الذنوب بعد الكفر على الإطلاق ومن أنكر هذا فهو مرتد لا عذر له.

   قال المؤلف رحمه الله: والتحريش من غير نقل قول ولو بين البهائم

   الشرح أن من جملة معاصي اللسان التي هي من الكبائر التحريش بالحث على فعل محرم لإيقاع الفتنة بين اثنين، وكذلك التحريش بين الكبشين مثلًا أو بين الديكين من دون قول بل باليد ونحوها.

   قال المؤلف رحمه الله: والكذب وهو الإخبار بخلاف الواقع

   الشرح من معاصي اللسان الكذب وهو عند أهل الحق الإخبار بالشىء على خلاف الواقع عمدًا أي مع العلم بأن خبره هذا على خلاف الواقع فإن لم يكن مع العلم بذلك فليس كذبًا محرمًا، وهو حرام بالإجماع سواء كان على وجه الجد أو على وجه المزح ولو لم يكن فيه إضرار بأحد كما ورد مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقوفًا على بعض الصحابة «لا يصلح الكذب في جد ولا في هزل» [أخرجه البيهقي في شعب الإيـمان] وورد في الصحيح «إياك والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا» [أخرجه مسلم في صحيحه] ومعنى قوله عليه السلام «يهدي إلى الفجور» أي هو وسيلة إلى ذلك. وما أكثر من هلك باستعمال الكذب في الهزل والمزح، وأشد ما يكون من ذلك إذا كان يتضمن تحليل حرام أو تحريـم حلال أو ترويع مسلم يظن أنه صدق، ومن ذلك رجل كان بين أصدقائه في مكان فأقبل أعمى فقال: قال الله تعالى (إذا رأيت الأعمى فكبه إنك لست أكرم من ربه) قاله لإضحاك الحاضرين لأن هذا وما أشبهه عند هؤلاء السفهاء الجاهلين بالدين من الطرف ولم يدر هذا ومن كان معه أن هذا يتضمن كذبًا على الله بجعل ما ليس من القرءان قرءانًا وهو متضمن تحليل الحرام المعلوم من الدين بالضرورة حرمته لأنه لا يجهل حكم هذا الفعل مسلم أنه حرام مهما بلغ في الجهل.

ويجوز الكذب إذا كان للتوصل لمصلحة مباحة منع منها ولا يتوصل إليها إلا بالكذب بشرط أن لا يلحق الضرر بغيره، أما أن يورط غيره فليس له حق. وكذلك يجوز الكذب للضرورة لإنقاذ نفسه أو مسلم غيره من ضرر، بل قد يكون الكذب واجبًا كما لو سأل إنسان عن مسلم ليضربه أو ليصادر ماله ظلمًا مثلًا ولو صدقه الجواب لتوصل إلى ذلك فيجب عليه الكذب في هذه الحال لأنه إن لم يكذب يكون ضر ذلك الرجل، وله ثواب إن كذب لإنقاذ المسلم من الضرر.

   ويجوز للرجل أن يكذب على زوجته ليطيب خاطرها إن كانت نافرةً منه نفور نشوز حتى تعود إلى طاعته.

   ويجوز الكذب للإصلاح بين مسلمين حصل بينهما تنافر، وكذا الكذب للإصلاح بين زوجين حصل بينهما تنافر بأن يقول لهذا فلان قال عنك كذا من المدح وللآخر يقول مثل ذلك مع أن ذلك في الحقيقة لم يحصل ويدل على ذلك حديث البخاري عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا»

   ويجوز أن يكذب الشخص ليستر على نفسه كأن كان يشرب الخمر ثم تاب فإذا سأله شخص هل كنت تشرب الخمر فقال لا ليستر على نفسه خوفًا من أن يشيع ذلك الشخص الخبر هنا وهنا وهنا. وكذلك إذا كان هناك حاكم يقيم الحدود فخاف أن يبلغه الخبر فيقيم عليه الحد، أما إذا قال أنا ما كنت أشرب الخمر من غير سبب من الأسباب فهو كذب محرم.

   وكما تقدم فإن الكذب لا يصلح لا في الجد ولا في المزح لا مع الكبير ولا مع الصغير وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعد الرجل صبيه ثم لا يوفيه ما وعده به. وأما ما يسميه بعضهم كذبةً بيضاء فهو باطل يجب تحذير الناس منه وهم يعنون بقولهم هذا أن هذا الكذب لا يسبب ضررًا للناس. ويدخل في ذلك ما يسميه بعض الناس كذبة نيسان فإن هذا مما يجب تحذير الناس منه.

   وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا» رواه الطبراني [في المعجم الكبير] فأفهمنا عليه الصلاة والسلام أنه يمزح ولكنه لا يقول إلا الصدق والحق من غير أن يؤذي أحدًا.

   وما يروى من أن امرأةً عجوزًا جاءت إلى رسول الله فقال لها قولًا ظاهره يوهم أن العجوز لا تدخل الجنة فمعناه أن الرسول لم يقصد أن تتوهم ذلك إنما أراد أن ينبهها على أمر هو حق واقع وهو أن النساء المؤمنات عندما يدخلن الجنة لا يكن بصورة العجوز بل يدخلن وهن شابات [هذا الحديث لم يثبت ولا ينبغي روايته].

   ثم إن الكذب إذا لم يكن فيه إضرار بمسلم ولا تكذيب للشرع فهو من المحرمات الصغائر وإلا فهو من الكبائر. والذي يظن أن الكذب في المزح جائز غلط غلطًا كبيرًا بل هو كفر إلا أن يكون نحو قريب عهد بإسلام.

   وقد روى البيهقي في كتاب الآداب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» فأفهمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ضامن وكافل لمن ترك المراء وإن كان محقا أي لمن ترك الجدال الذي لا يعود لمصلحة في الدين أي لا يعود إلى إحقاق الحق ولا إبطال الباطل إنما مجرد مجادلة في الأمور التافهة ونزاع بأن يعطيه الله بيتًا في ربض الجنة أي أطرافها، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه، وحسن الخلق هو أن يعمل المعروف مع الذي يعرف له إحسانه والذي لا يعرف له إحسانه وأن يتحمل أذى الناس أي يصبر على أذى الناس وأن يكف أذاه عن الناس.

   قال المؤلف رحمه الله: واليمين الكاذبة.

   الشرح أن من معاصي اللسان اليمين الكاذبة وهي من الكبائر لأن الحلف بالله تبارك وتعالى بخلاف الواقع بذكر اسمه أو صفة من صفاته كقول وحياة الله أو والقرءان أو وعلم الله أو وقدرة الله أو وعظمة الله أو وعزة الله [الذي يقول وعزة الله يمينه ثبت لأن عزة الله صفة من صفاته] أو نحو ذلك من صفاته تهاون في تعظيم الله تعالى. ولا يجوز أن يقال وحياة القرءان لأن القرءان لا يوصف بالحياة ولا بالموت.

   روى مسلم من حديث أبي أمامة الحارثي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة» [هذا إن كان مسلمًا لا يخلد في النار لكن إن مات بلا توبة يستحق العذاب الشديد ولا يدخل الجنة مع الأولين] فقال له رجل وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله قال «وإن كان قضيبًا من أراك».

   وروى أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على منبري هذا بيمين ءاثمه تبوأ مقعده من النار».

   وأما الحلف بغير الله فقد حرمه الإمام أحمد وقال الإمام الشافعي إنه مكروه كراهةً شديدةً هذا إذا لم يعظم المحلوف به كتعظيمه لله، فإن عظمه كتعظيمه لله فقد أشرك وهذا معنى حديث: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [رواه أبو داود في سننه والترمذي في سننه].

   قال المؤلف رحمه الله: وألفاظ القذف وهي كثيرة حاصلها كل كلمة تنسب إنسانًا أو واحدًا من قرابته إلى الزنى فهي قذف لمن نسب إليه إما صريحًا مطلقًا أو كنايةً بنية.

   الشرح أن من جملة معاصي اللسان الكلام الذي يقذف أي يرمى به شخص إلى الزنى ونحوه. والقذف إن كان بنسبة صريح الزنى كأن يقول في رجل فلان زان، أو في امرأة فلانة زانية، وكذلك قوله: فلان لاط بفلان، أو لاط به فلان، أو فلان لائط، سواء نوى أو لم ينو يوجب الحد على القاذف، وإن كان كنايةً بأن يكون اللفظ غير صريح كأن يقول لشخص يا خبيث، أو يا فاجر، أو يا فاسق ونوى القذف كان قذفًا موجبًا للحد أيضًا.

أما إن كان تعريضًا فقط كقوله لشخص بنية الذم والطعن فيه يا ابن الحلال، أو أما أنا فلست بزان، أو لست ابن زانية يعرض بذلك إلى أن المقول له ليس ابن حلال أو أنه زان أو أن أمه زانية ونحو ذلك فهذا غير موجب للحد لأنه ليس صريحًا في القذف ولا كنايةً، ولكن كل ذلك من الكبائر يستحق صاحبه التعزير.

   قال المؤلف رحمه الله: ويحد القاذف الحر ثمانين جلدةً والرقيق نصفها.

   الشرح أن الله تبارك وتعالى أنزل في شرعه حكم القاذف فالقاذف إما أن يكون حرا أو عبدًا ولو مبعضا أو أم ولد أو مكاتبًا فالحر حده ثمانون جلدةً بسوط، والعبد حده نصف ذلك وهو أربعون جلدةً، وهذا الحكم مجمع عليه. ومعنى المبعض هو من بعضه حر وبعضه مملوك وذلك بأن يكون العبد مشتركًا بين اثنين مالكين له فيعتق أحدهما نصيبه ويكون فقيرًا فإن العتق لا يسري إلى كل العبد بل عتق نصفه فقط، وأما أم الولد فهي المرأة المملوكة التي أولدها سيدها فهذه أيضًا مملوكة ما دام سيدها حيا فإن مات سيدها صارت حرةً، وأما المكاتب فهو الرقيق الذي اتفق مع سيده على أن يدفع كذا من المال ليتحرر بدفع ذلك المبلغ وما لم يدفع المبلغ كله فهو مملوك فإذا دفع صار حرا، فهؤلاء الأرقاء المملوكون حدهم إذا قذفوا نصف حد الحر.

   تنبيه مما كثر ابتلاء الناس به من المعاصي قول الإنسان لخادمه يا مخنث، أو لخادمته أو زوجته يا قحبة، وللصغير يا ابن القحبة أو يا ولد الزنى، أو نحو ذلك، وكل ذلك من الكبائر المهلكات، ولو على وجه المزح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» [أي المهلكات] قيل وما هن يا رسول الله؟ قال «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات [أي الحرائر العفيفات من النساء اللاتي أحصن فروجهن أي حفظنها عن الحرام] المؤمنات» رواه مسلم [في صحيحه]، والمحصنات الغافلات الحرائر العفيفات اللاتي لم يمسهن الزنى ولا تعرف عليهن الفاحشة.

   وقذف المسلم المحصن بالزنى يوجب الحد إلا في حق الوالد إن قذف ولده فلا يحد لكنه حرام.

   قال المؤلف رحمه الله: ومنها سب الصحابة.

   الشرح من معاصي اللسان سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن سبهم جملةً كفر فالذي يقول الصحابة لا فضل لهم مستخفا بهم يكفر، والذي يقول الصحابة لا يؤتمنون في نقل الشريعة يكفر، لأننا لم نعرف الشريعة إلا بواسطتهم لأننا لم ندرك الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذي يخون الصحابة جملةً يكفر، فإن القرءان من طريقهم وصل إلينا، وأمور الدين المنقولة عن الرسول كلها من طريقهم وصلت إلينا. قال الله تعالى ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ [سورة التوبة/100] هؤلاء هم أولياء الصحابة وسب أحدهم أعظم إثمًا وأشد ذنبًا من سب غيره. وأما سب بعض الذين بالغوا في الفسق من الصحابة لسبب شرعي فجائز [كأن يقال هؤلاء بغاة أو ظلموا]، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لصحابي قال في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى «بئس الخطيب أنت» وذلك لأنه جمع بين الله ورسوله في ضمير واحد وقال له «قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» [أخرجه مسلم في صحيحه] فلم يسكت عن هذا الأمر الخفيف الذي هو مكروه فقط.

   فإن قيل أليس اتفق المحدثون على أن الصحابة عدول فالجواب أن المحدثين قالوا بعدالة الصحابة كلهم في رواية الحديث لأن الواحد منهم لا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على معنى أنهم كلهم أتقياء صالحون فقد صح في الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وغيرهما أن الرسول قال في رجل من أهل الصفة يقال له كركرة لما مات فوجدوا في شملته دينارين [والشملة هي نوع من الثياب] فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «كيتان من نار» وفضل أهل الصفة معروف، فهذا لإخفائه دينارين عن الناس وإظهار الفاقة قال الرسول فيه ما قال ومع ذلك فله فضل باعتبار أنه من أهل الصفة وهل يطلق على هذا أنه عدل بالمعنى المشهور الذي هو من سلم من الكبائر والإصرار على الصغائر.

   ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع أحد من أصحابي في ذنب ولا يعذب أحد منهم في قبره بل جاء في الحديث الصحيح ما يدل على خلاف هذا فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله إذ جاءه سهم عائر [أي الذي لا يدرى من رماه] حتى أصاب العبد فقال الناس هنيئًا له الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا». وكان في الصحابة من شرب الخمر مرات عديدةً ثم أقيم عليه الحد كل مرة [أخرجه البخاري في صحيحه]، وكان فيهم من أقيم عليه حد الزنى [أخرجه مسلم في صحيحه].

   وكان فيهم من قذف عائشة فأقام الرسول عليهم الحد [أخرجه أبو داود في سننه]، وهناك غير هذا مما صح من الحديث في هذا المعنى.

   وأما حديث البخاري الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» فهذا الحديث لا يريد به الرسول كل من لقيه مؤمنًا به، إنما يعني به السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كالعشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، وذلك أن سبب الحديث أن خالد بن الوليد سب عبد الرحمٰن بن عوف رضي الله عنهما فأراد رسول الله أن يبين أن أولئك الذين عبد الرحمٰن بن عوف من طبقتهم في الفضل لا يلحق بهم من ليس من طبقتهم كخالد فإنه ليس من السابقين الأولين لأن إسلامه كان بعد الحديبية وهذا مع ما لخالد من الفضل حتى سماه رسول الله سيفًا من سيوف الله [أخرجه البخاري في صحيحه] ومع ذلك مرتبته بعيدة عن اللحاق بهم، ومن يورد هذا الحديث في حق كل صحابي فمنشؤه الجهل بمراتب الصحابة وبالحديث المذكور.
   ولا يعطي هذا الحديث ونحوه أن لا يذكر أي فرد منهم إلا بخير بل حكم التحذير الشرعي لا بد منه فلذلك ضمن علماء الحديث كتبهم التي ألفوها في الحديث إيراد أحاديث كالتي فيها ذم مدعم وكركرة ولو كان لا يجوز انتقاد الصحابي في أي شىء من الأشياء ما ذكروا هذه الأحاديث وأمثالها كحديث «لا أشبع الله بطنه» في معاوية رواه مسلم، وكحديث قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في أبي جهم ومعاوية وكان أراد كل منهما أن يتزوجها: «أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه [أي ضراب للنساء] وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة» رواه مسلم [في صحيحه].

   وفي العادة الجارية بين الناس لا يحب الشخص أن يذكر بأنه ضراب للنساء.

   وأما حديث ابن حبان والترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «الله الله في أصحابي لا تسبوا أصحابي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن سبهم فقد سبني» فهو محمول على من سب الصحابة جملةً فيكون كافرًا وعلى من سب بعضًا منهم بغير سبب شرعي فيكون وقع في معصية كبيرة.

   وأما قول بعض من شرح حديث «لا أشبع الله بطنه» إنه مدح ودعاء لمعاوية فلا معنى له، كيف يكون كثرة الأكل دعاءً له وقد قال الرسول: «المؤمن يأكل في معًى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» رواه البخاري [في صحيحه] وقال «ما ملأ ابن ءادم وعاءً شرا له من بطنه بحسب [أي يكفيه] ابن ءادم لقيمات يقمن صلبه» رواه الترمذي [في سننه].

   فالحاصل الذي تلخص من هذا أن سب الصحابة على الإجمال كفر وأما سب فرد من الأفراد منهم إن كان تقيا فهو معصية كبيرة وأما إن لم يكن تقيا فذكره بذلك لسبب شرعي جائز.

   قصة غريبة روى ابن بشكوال عن بعض العلماء أنه قال كنت باليمن فوجدت ناسًا مجتمعين على رجل وقيل لي هذا رجل كان يؤمنا في شهر رمضان في مسجد صنعاء وكان حسن الصوت فقرأ إن الله وملائكته يصلون على علي النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه، فضربه الجذام والبرص والصمم والعمى وأقعد مكانه اهـ، وهذا كان يطعن في الصحابة حتى حرف الآية فأثبت النبوة لسيدنا علي رضي الله عنه.

   وليس من سب الصحابة القول إن مقاتلي علي كلهم بغاة لأن هذا مما صرح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين، وقال ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه فقد روى البيهقي في كتاب الاعتقاد عن محمد بن إسحاق أنه قال: الذي عهدت عليه مشايخنا أن من نازع أمير المؤمنين عليا في إمارته باغ، وعلى ذلك محمد بن إدريس اهـ يعني الشافعي، وقد قال الإمام المحدث الشافعي عبد الكريـم الرافعي: «ثبت أن أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة» نقل عنه ذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير وأقره وارتضاه. وروى البيهقي في السنن الكبرى وابن أبي شيبة في مصنفه عن عمار بن ياسر أنه قال «لا تقولوا كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا وظلموا» يعني بأهل الشام المقاتلين لأمير المؤمنين علي في وقعة صفين، ومعلوم من هو عمار هو أحد الثلاثة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة» الحديث [أخرجه الترمذي في سننه]، وقال فيه: «عمار ملئ إيـمانًا إلى مشاشه» [أخرجه النسائي في سننه، ومعنى مشاشه: رءوس عظامه كالركبتين والمرفقين والمنكبين]، فكيف يترك كلامه ويؤخذ بقول من قال «كلتا الطائفتين معذورون أو مأجورون»، وكيف يقول هذا منصف وقد جاء ذلك في الحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ويح عمار [معناه تعطف على عمار كأن الرسول يقول يا حزني على عمار] تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» رواه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الصلاة وفي كتاب الجهاد والسير، ورواه ابن حبان [في صحيحه] في موضعين.

   ورواية الطبراني فيها زيادة وهي «ويح عمار تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الحق». وهذه الرواية تهدم على الذين فسروا الباغية بالطالبة تبعًا لابن تيمية لأنه من خبثه وشدة عناده قال معناه الطالبة. ومن قال إن قول النبي صلى الله عليه وسلم «تقتله الفئة الباغية» ليس فيه ذم فهو مخالف لما كان عليه علي ومعاوية كلاهما لأن كلا منهما اتهم الآخر بأن هذا الحديث منطبق عليه ودفعه عن نفسه وما ذاك إلا لما فيه من ذم لتلك الفئة. فقد حكم الرسول على أن كل الذين قاتلوا عليا مع معاوية بغاة ولا يستثنى أحد منهم وهذا ذم وأي ذم، فمن قال لأحدهم كان باغيًا لا يكون قوله من باب سب الصحابة لأنه أخبر بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من تاب منهم محا الله ذنبه ومن لم يتب فأمره إلى الله إن شاء يعذبه وإن شاء يعفو عنه. ومن بينهم رجل شهد حجة الوداع مع رسول الله وقتل عمارًا ثم صار يقول عندما يأتي باب معاوية وغيره من بني أمية قاتل عمار في الباب يتبجح بقتله عمارًا وهو سمع الرسول في حجة الوداع وهو يقول «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» [أخرجه البخاري في صحيحه]، علماء الحديث الذين ذكروه ووصفوه بهذا هل يكونون سبوا الصحابة؟! وهؤلاء الذين يقولون عمن يذكر مثل ذلك إنهم يسبون الصحابة فليعدوا الجواب ليوم القيامة.

   وقال العلامة اللغوي ابن منظور في «لسان العرب» ما نصه: «والبغي التعدي وبغى الرجل علينا بغيًا عدل عن الحق واستطال» اهـ. ثم قال: «وقال الأزهري والبغي الظلم والفساد» اهـ. ثم قال: والفئة الباغية هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: «ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية»» اهـ.

   وروى ابن أبي شيبة في مصنفه فقال ما نصه: «حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك في قوله تعالى ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ [سورة الحجرات/9] قال بالسيف، قلت فما قتلاهم قال شهداء مرزوقون قال قلت فما حال الأخرى أهل البغي من قتل منهم قال إلى النار» اهـ.

   وقال القرطبي في حديث «ويح عمار»: «وهو أي هذا الحديث من أثبت الأحاديث كما تقدم ولما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده قال إنما قتله من أخرجه، ولو كان حديثًا فيه شك لرده معاوية وأنكره وأكذب ناقله وزوره، وقد أجاب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذًا قتل حمزة حين أخرجه، قال ابن دحية وهذا من علي إلزام مفحم لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها» انتهى كلام القرطبي.

   قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه: «ودل حديث «تقتل عمارًا الفئة الباغية» على أن عليا كان المصيب في تلك الحرب لأن أصحاب معاوية قتلوه، وقال القرطبي في تفسيره ما نصه فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليا رضي الله عنه كان إمامًا، وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح» اهـ.

   وقال ملا علي القاري في شرح المشكاة ما نصه: «تقتلك الفئة الباغية» – أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان.

   وقال المناوي في شرح الجامع الصغير ما نصه: «ويح عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية» قال البيضاوي يريد به معاوية وقومه «يدعوهم إلى الجنة» أي إلى سببها وهو طاعة الإمام الحق «ويدعونه إلى» سبب «النار» وهو عصيانه ومقاتلته وقد وقع ذلك يوم صفين دعاهم فيه إلى الإمام ودعوه إلى النار وقتلوه» اهـ.

   وقال في موضع ءاخر من شرحه على الجامع الصغير ما نصه ««ويح عمار» بالجر على الإضافة وهو ابن ياسر «تقتله الفئة الباغية» قال القاضي في شرح المصابيح يريد به معاوية وقومه» اهـ.

   وهذا صريح في بغي طائفة معاوية الذين قتلوا عمارًا في وقعة صفين وأن الحق مع علي وهو من الإخبار بالمغيبات.

   وقد نقل الفقيه المتكلم أحد رءوس الأشاعرة القدماء ابن فورك في كتاب «مقالات الأشعري» كلام أبي الحسن الأشعري في أمر المخالفين لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال ما نصه: وكان أي الأشعري يقول في أمر الخارجين عليه والمنكرين لإمامته إنهم كلهم كانوا على الخطإ فيما فعلوا اهـ. وعند أبي الحسن الأشعري الخطأ معناه المعصية.

   وقال: وكذلك كان يقول في حرب معاوية إنه كان باجتهاد منه وإن ذلك كان خطأً وباطلًا ومنكرًا وبغيًا على معنى أنه خروج عن إمام عادل فأما خطأ طلحة والزبير فكان يقول إنه وقع مغفورًا للخبر الثابت عن النبي أنه حكم لهما بالجنة فيما روي في خبر بشارة عشرة من أصحابه بالجنة فذكر فيهم طلحة والزبير، وأما خطأ من لم يبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في أمره فإنه مجوز غفرانه والعفو عنه اهـ.

   وهذا نص صريح من شيخ أهل السنة أبي الحسن الأشعري بأن كل مقاتلي علي عصوا وأن طلحة والزبير تابا من ذلك جزمًا وأما الآخرون فهم تحت المشيئة يجوز أن يغفر الله لمن شاء منهم. فبعد هذا لا يسوغ لأشعري أن يخالف كلام الإمام فيقول إن معاوية وجيشه غير ءاثمين مع الاعتراف بأنهم بغاة.

   وأما من قال: إنهم مأجورون فأبعد من الحق. وفي تعبير الإمام الأشعري عن حرب معاوية بأنه باطل ومنكر وبغي الحكم بأن ذلك معصية. وكلامه هذا بعيد عن كلام أولئك الذين قالوا إن عمل هؤلاء الذين قاتلوا عليا يدخل تحت حديث «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» لأن الاجتهاد الذي نص عليه الحديث هو الاجتهاد الذي يكون فيما لم يرد فيه نص صريح، ومسئلة مقاتلة الإمام الراشد كعلي معلوم حرمتها من عدة أحاديث كحديث [البخاري في صحيحه] «من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتةً جاهليةً» رواه مسلم وغيره. وحديث «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» رواه مسلم.

   فالخطأ الذي أورده الإمام الأشعري من القسم الأول فإنه أراد أن هؤلاء عصوا بدليل قوله في طلحة والزبير «إنهما تابا» فلا يشتبه عليك الأمر يا طالب العلم. ومما يدل على أن مراد الأشعري بتعبيره بالخطإ المعصية ما نقله عنه الفقيه ابن فورك في كتاب «مقالات الأشعري» ونصه «فصل ءاخر في إبانة مذهبه في أسماء الذنوب والمعاصي وقوله في الصغائر والكبائر: اعلم أنه كان يقول أي الأشعري إن معنى معصية الله سبحانه مخالفة أمره، وأن كل معصية ذنب وخطأ وخلاف لأمر الله تعالى» اهـ.

   وقد قال الكمال بن الهمام في شرحه للهداية إن معاوية جائر وذلك في كتاب الشهادات من كتابه «فتح القدير» ومثله قال صاحب الهداية المرغيناني وهما من مشاهير الحنفية. فلو اطلع على كلامهما الذين ينتقدوننا لسكتوا عن انتقادنا عندما نبين للناس أن معاوية ومن كانوا معه في قتال علي ءاثمون ظالمون.

   وأما من يعارض حديث «ويح عمار» المتواتر بمثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا» [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]، فهو بعيد من التحقيق بعدًا كبيرًا، وهذا الحديث لم يثبت فكيف يحتج به في معارضة حديث ثابت متواتر فقد روى حديث «ويح عمار» أربعة وعشرون صحابيا.

   فلا يعد ذكر ما جاء في هذا الحديث سبا للصحابة إلا من بعد عن التحقيق العلمي فليتفطن لذلك. إنما سب الصحابة الذي ينطبق عليه حكم الكبيرة هو مثل ما كان يفعله بنو أمية من سب سيدنا علي على المنابر كانوا يلعنونه ويطعنون فيه وفيمن والاه أي قاتل معه حتى إن بعض حكام بني أمية أرسل رجلًا في أول سنة أربعين من الجبارين إلى اليمن والحجاز ليؤذي من كان في طاعة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ويضطهدهم فانتقم الله منه بأنه أصابه الخرف وفساد العقل حتى مات وهو على هذه الحال.

   وشرح مثل هذا الحديث من جملة تبليغ العلم لأن المحدثين دونوه في كتبهم، وما دونوه إلا ليفهم الناس معناه ويعملوا بمقتضاه. وماذا يقول هؤلاء الذين ينتقدون ذكر ما ورد في معاوية ومن معه ممن قاتلوا عليا بما هو الواقع إذا رأوا نص الكمال بن الهمام والمرغيناني أيعتبرون ذلك سبا للصحابة أم يسكتون وماذا يقول هؤلاء إذا اطلعوا على ما أورده الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق من أن أبا مسلم الخولاني رضي الله عنه دخل على معاوية فقال له السلام عليك يا أجير فقال له بعض من معه قل السلام عليك يا أمير المؤمنين فأعاد مقالته الأولى فقال معاوية هو يعرف ما يقول هل يرون هذا من أبي مسلم رضي الله عنه سبا للصحابة.

   وقال الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة «وأجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين على أن عليا كرم الله وجهه مصيب في قتاله لأهل صفين كما قالوا بإصابته في قتال أصحاب الجمل وقالوا أيضًا بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم» اهـ.

   قال المؤلف رحمه الله: وشهادة الزور.

   الشرح من معاصي اللسان شهادة الزور، والزور الكذب وشهادة الزور من أكبر الكبائر قال صلى الله عليه وسلم: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» أي شبهت به وليس المراد أنها تنقل فاعلها عن الدين. والحديث رواه أبو داود [في سننه] والبيهقي [في السنن الكبرى]. فمن شهد بأن لفلان على فلان مالًا مثلًا زورًا وكذبًا إرضاءً لصديقه أو قريبه وقع في ذنب من أكبر الكبائر.

   قال المؤلف رحمه الله: ومطل الغني أي تأخير دفع الدين مع غناه أي مقدرته.

   الشرح مطل الغني من جملة معاصي اللسان التي هي من الكبائر لأنه يتضمن الوعد بالقول بالوفاء ثم يخلف، روى أبو داود في سننه «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته» معنى الحديث أن لي الواجد أي مماطلة الغني القادر على الدفع يحل عرضه وعقوبته أي يحل أن يذكر بين الناس بالمطل وسوء المعاملة ويحل عقوبته بالحبس والضرب ونحوهما، فإن الحاكم يفعل به ذلك زجرًا له وحثا له وإرغامًا على دفع الحق لصاحبه.

   قال المؤلف رحمه الله: والشتم واللعن.

   الشرح من معاصي اللسان شتم المسلم أي سبه والشتم مرادف للسب، روى البخاري [في صحيحه] أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» أي أن سب المسلم من الكبائر بدليل تسميته فسوقًا، وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتاله لفظ الكفر لأنه شبيه بالكفر لا يعني أنه ينقل عن الملة لأن الله تعالى سمى كلتا الطائفتين المتقاتلتين مؤمنين قال تعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ [سورة الحجرات/9] الآية.

   وأما اللعن فمعناه الطرد من الخير، ولعن المسلم من الكبائر ومعناه سب الشخص بالدعاء عليه كأن يقول لعنك الله أو لعنة الله عليك، أو أنت ملعون أو أنت من أهل لعنة الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن المسلم كقتله» [أخرجه البيهقي في سننه]. ثم إن الشافعية اختلفوا فقال بعضهم يجوز لعن العاصي المعين مسلمًا كان أو كافرًا إذا كان لسبب شرعي، كأن يكون غشاشًا ظالمًا لا يرحم يتيمًا ولا منكوبًا بل يأكل حقهم لأجل أن يتبجح بالإسراف والتبذير، ولا يكون لعنه بقصد التفكه بذكر عيوب الناس بل بقصد ردعه وزجره وتحذير غيره من أن يفعل مثل فعله، فمن رأى مسلمًا فاسقًا كبائع خمر فلعنه لا لزجره ولا لزجر الناس عن أن يفعلوا مثل فعله من غير أن يسمعه أحد لا يجوز ومن استحل هذا يكفر إلا أن يكون مثل قريب عهد بإسلام لأن هذا ليس إنكار المنكر وقال بعض لا يجوز لعن المعين ولو كان كافرًا إلا من علم موته على الكفر أي كإبليس وفرعون وقارون وهامان وأبي جهل وأشباههم، فقال بالقول الأول قائلون من الشافعية وقال بالقول الثاني قائلون منهم، ولكن القول الصحيح هو القول بالجواز لأدلة متعددة كحديث الشيخين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إنما أنا بشر فأيما مسلم سببته أو جلدته أو لعنته [الرسول إذا لعن شخصًا أو سبه أو جلده يكون ذلك بحق] فاجعل ذلك له زكاةً وقربةً تقربه بها يوم القيامة»، أي فاجعل ذلك له كفارةً وأجرًا. فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشترط لجواز لعن الشخص أن يكون ممن علم موته على الكفر بطريق الوحي أو بالنص، أما بالوحي فبالنسبة له وأما النص فبالنسبة لأمته فلا حجة في القول الآخر. وقد أجاز أحمد بن حنبل لعن يزيد بن معاوية [نقله ابن الجوزي في كتابه الباز الأشهب]. وقد لعن زين العابدين رضي الله عنه المختار بن أبي عبيد الثقفي بين الركن والمقام. وأما اللعن بالوصف بلا تعيين فالكل متفقون على جوازه كأن يقول قائل لعنة الله على الكاذبين أو الغشاشين أو الظالمين أو الكافرين أو أكلة الربا أو نحو ذلك. وأما الكافر الذمي فلا يجوز لعنه وسبه بحيث يتأذى إن كان ملتزمًا الشروط التي منها أن لا يسب الرسول أو القرءان ولا يظهر بيع كتبهم بين المسلمين وغير ذلك من الشروط فإن خالف ذلك فسب الرسول خرج من العهد. وكذلك لا يجوز سب الكافر الحربي إن خشينا أن يسب الله أو الأنبياء أو دين الإسلام قال الله تعالى ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم﴾ [سورة الأنعام/108].

   قال المؤلف رحمه الله: والاستهزاء بالمسلم وكل كلام مؤذ له.

   الشرح من معاصي اللسان الاستهزاء بالمسلم أي تحقيره وكذلك كل كلام مؤذ للمسلم أي إذا كان بغير حق وأما إذا كان الكلام الذي فيه إيذاء للمسلم بحق شرعي فلا بأس بذلك، وفي حكم الكلام المؤذي الفعل والإشارة اللذان يتضمنان ذلك.

   وأما قول الوالد لولده ولو كان بالغًا يا حمار لتأديبه فيجوز فيكون كأنه قال له يا بليد وكذلك إن قال له يا غبي يا قليل الأدب إن كان فيه تلك الصفات. وكذلك يجوز له ضربه لتأديبه ضربًا غير مبرح.

   قال المؤلف رحمه الله: والكذب على الله وعلى رسوله.

   الشرح من جملة معاصي اللسان الكذب على الله سبحانه وتعالى وكذا الكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف في أن ذلك من الكبائر قال الله تعالى ﴿ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة﴾ [سورة الزمر/60]، وأما الكذب على الرسول فقد جاء فيه زجر بليغ وذلك قوله صلى الله عليه وسلم «إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» [أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه].

   ومن الكذب على الله ورسوله ما يؤدي إلى الكفر كأن ينسب إلى الله تحليل ما حرمه في شرعه، وكذلك نسبة تحريـم ما أحله الله للمؤمنين أو تحليل ما حرمه الله على المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

   قال المؤلف رحمه الله: والدعوى الباطلة.

   الشرح من جملة معاصي اللسان الدعاوى الباطلة كأن يدعي على شخص ما ليس له اعتمادًا على شهادة الزور أو على جاهه. كأن يقول فلان لي عليه كذا وهو ليس له عليه، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد شهادة الزور في أكبر الكبائر.

   قال المؤلف رحمه الله: والطلاق البدعي وهو ما كان في حال الحيض أو في طهر جامع فيه.

   الشرح من معاصي اللسان الطلاق البدعي وهو أن يطلق امرأته في طهر جامعها فيه أو في حيض أو نفاس، وذلك لأنه إضرار بالمرأة بإطالة مدة العدة بالنسبة للحيض أو النفاس إذ بقية مدة الدم لا يحسب منها، ومع حرمة ذلك فإن الطلاق فيه واقع فمن طلق طلاق البدعة يسن له أن يراجع ثم إن شاء طلق بعد طهر قبل أن يمسها أو أمسك.

   قال المؤلف رحمه الله: والظهار وهو أن يقول لزوجته أنت علي كظهر أمي أي لا أجامعك.

   الشرح من معاصي اللسان الظهار وهو أن يقول لزوجته ولو رجعيةً أنت علي كظهر أمي، وكذلك قوله أنت كيدها أو بطنها وكذلك سائر المحارم لما فيه من إيذاء للمرأة.

   وسمي ظهارًا لتشبيه الزوجة بالظهر، وإنما خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج ولذا يسمى المركوب من الإبل ونحوه ظهرًا، وهو من الكبائر ووصفه الله تعالى بأنه منكر وزور لما فيه من تشبيه الزوج زوجته بأمه في التحريم، والذي جرت عادة الجاهلية به هو أنهم كانوا يعتبرونه طلاقًا وهو ليس بطلاق.

   قال المؤلف رحمه الله: وفيه كفارة إن لم يطلق بعده فورًا وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة فإن عجز صام شهرين متتابعين فإن عجز أطعم ستين مسكينًا ستين مدا.

   الشرح يترتب على الظهار إن لم يتبعه الزوج بالطلاق فورًا الكفارة وحرمة جماعها قبل ذلك، وكفارته إحدى ثلاث خصال على الترتيب: 

   الأولى إعتاق رقبة مسلمة أي نفس مملوكة عبد أو أمة سليمة عما يخل بالعمل والكسب إخلالًا بينًا لأن القصد من إعتاقه تكميل حاله ليتفرغ لوظائف الأحرار وهو متوقف على استقلاله بكفاية نفسه، فتجزئ الرقبة الصغيرة ولو عقب الولادة، ويسن أن يكون بالغًا للخروج من الخلاف.

   الثانية صيام شهرين متتابعين وذلك إن عجز عن إعتاق الرقبة وقت الأداء وعما يصرفه فيها فاضلًا عن كفاية نفسه وكفاية من عليه مؤنته نفقةً وكسوةً وأثاثًا لا بد منه وعن دينه ولو مؤجلًا، ولو كان ذلك الممون عبدًا والعبرة بالهلال ولو نقصا عن ستين يومًا، ويجب تبييت نية الصوم عن الكفارة كل ليلة، ولا يجب في هذه النية تعيين أنها عن الظهار فلو كان على ذمة الشخص كفارتان إحداهما كفارة ظهار والأخرى كفارة قتل فصام أربعة أشهر ولم يعين أنها كفارة ظهار فإنه يجزئ فإن بدأ بالصيام أثناء شهر بأن لم ينو أول ليلة من الشهر الهلالي كمل الأول ثلاثين من الثالث، وينقطع التتابع بفوات يوم من الشهرين. [ولو لعذر]

   الثالثة إطعام ستين مسكينًا أو فقيرًا كل مسكين مدا مما يصح دفعه عن زكاة الفطرة فلا يصح دفعها لواحد بعينه كل يوم ويصح أن يجمع الستين في ءان واحد ويضعها بينهم فيملكهم، فإذا قال لهم ملكتكم هذا الطعام فخذوه فقبلوا صح، ولا يجزئ هذا الإطعام إلا عند العجز عن الصوم أو عن تتابعه لهرم أي كبر سن أو مرض لا يرجى برؤه أو لحقه بالصوم مشقة لا تحتمل عادةً أو خاف زيادة مرضه أو نحو ذلك.

   قال المؤلف رحمه الله: ومنها اللحن في القرءان بما يخل بالمعنى، أو الإعراب وإن لم يخل بالمعنى.

   الشرح من معاصي اللسان اللحن في قراءة القرءان ولو كان لا يخل بالمعنى ولم يغيره لكن تعمده، كالذي يقول الحمد لله بضم اللام بدل كسرها فإن هذا لا يغير المعنى لكن حرام. ويشاركه في الإثم المستمع إن قدر على رده وإن لم يقدر منعه من القراءة، فإنه يجب تصحيح القراءة إلى الحد الذي يسلم فيه من تغيير الإعراب والحرف ومن قطع الكلمة بعضها عن بعض وجوبًا عينيا بالنسبة للفاتحة ووجوبًا كفائيًا بالنسبة لغيرها، فيجب صرف جميع الوقت الذي يمكنه لتحصيل تصحيح الفاتحة فإن قصر عصى ولزمه القضاء لصلوات المدة التي أمكنه التعلم فيها فلم يتعلم، وأما اللحن الذي يغير المعنى فهو كالذي يقرأ أنعمت بالضم بدل أنعمت. وكالذي يقول «إن الله بريء من المشركين ورسوله» بجر رسوله فإن هذا يفسد المعنى لأن معناه أن الله بريء من المشركين ومن الرسول فمن قرأها بالجر مع فهم المعنى فقد كفر إلا من قرأ بالرواية الشاذة وهي الجر على وجه القسم أي وأقسم برسوله فإنه لا يكفر لكن لا تجوز القراءة بها. أما القراءة الصحيحة فهي بضم لام رسول فيكون المعنى أن الرسول أيضًا بريء من المشركين. قال العلماء «القراءة سنة متبعة» فلا يجوز للمرء أن يتفنن فيها بزيادة حرف أو تغيير حرف ولو أتى بالمعنى الذي يوافق معنى الآية، أما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيجوز روايته بالمعنى وهذا أمر شائع بين المسلمين حتى الصحابة ما كانوا ملتزمين أن يرووا حديث رسول الله باللفظ الذي خرج من فمه بل كانوا يستجيزون أن يرووا بالمعنى، إنما الضرر هو تغيير المعنى وعلى هذا كان أكثر المحدثين ومن هنا منشأ رواية الحديث بعدة ألفاظ. أما القرءان أنزل لتحدي المعارضين أي لإعجاز الكفار الذين كانوا يكذبون رسول الله فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ولا بمثل سورة منه مع أنه كان عصرًا بلغت فيه البلاغة والفصاحة القمة، فمع أن القرءان أنزل بلسان عربي لا يجوز تلاوته بحسب المعنى مع ترك اللفظ المتلقى عن رسول الله، أما إذا كان الشخص لا يحفظ الآية فقال ورد في القرءان ما معناه كذا وكذا فهذا جائز ولا نقول قال الله تعالى كذا وكذا ثم نورد ألفاظًا ليست من ألفاظ القرءان [مع إرادة أن هذا هو اللفظ المنزل المكتوب في المصاحف أما إن أورد ألفاظًا ليست من ألفاظ القرءان لكن بمعناها فقال «قال الله تعالى» وأوردها لا على أنها عين اللفظ المنزل المكتوب في المصاحف فيجوز وذلك مثل قول حسان بن ثابت: وقال الله قد أرسلت عبدًا يقول **** الحق وليس به خفاء يعني قوله تعالى ﴿إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا﴾]. وأما الحديث القدسي فيجوز روايته بالمعنى، والفرق بينه وبين القرءان أن القرءان يتعبد بتلاوته لو لم يقرأه الشخص للحفظ أو لتعليم الناس أما الحديث القدسي إذا لم يكن لذلك لا يتعبد به.

   وقد روى ابن حبان والحاكم والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب» وعد منهم الزائد في كتاب الله.

   والزيادة أنواع منها أن يزيد الشخص بنية أن يوهم الناس أن هذا قرءان وهو ليس من القرءان إجماعًا فهذا أشدهم إثمًا فمن زاد في القرءان شيئًا أجمع على أنه ليس من القرءان فقد كفر.

   والثاني هو من يزيد حرفًا من أجل تحسين الصوت عمدًا ليس على اعتقاد أنه من القرءان فهذا أقل إثمًا وهو من جملة عصاة المسلمين.

   والثالث هو الذي يزيد حرفًا من دون تعمد إنما جهلًا منه بالتلاوة التي أنزلت على النبي فهذا أقل إثمًا من الأولين كمن يولد حرفًا بين الهمزة والنون المشددة فيقول «إينًا» بدل «إنا» وكذلك ما يفعله بعض العجم من زيادة واو أمام حرف الغنة إذا سبقته ضمة يقولون «ماهون» لأنه ليس في لغتهم غنة وإنما هي من خصائص لغة العرب، وكذلك يزيدون ألفًا جوفيةً ويقال لها الألف اللينة بين الحرف الذي قبل النون المشددة وبين النون يقولون: «ءان لهم النار» وكل هذا حرام. وأما الإخلال بالترقيق والتفخيم وسائر المدود سوى المد الطبيعي ونحو ذلك فلا يأثم من أخل به في حال القراءة لأن في إيجاب ذلك لكل قارئ حرجًا، وقول بعض بوجوب مراعاة كل ما أجمع عليه القراء من مد وقصر وترقيق وتفخيم وإظهار ونحو ذلك فهو غير صحيح لأنه يؤدي إلى الحرج ولم يجعل الله تعالى في الدين من حرج فلذلك لم يأخذ الشيخ زكريا الأنصاري بظاهر قول ابن الجزري [رجز]

والأخذ بالتجويد حتم لازم          من لم يجود القران ءاثم [وفي نسخة صحيحة: «من لم يصحح القرءان ءاثم»].

تنبيه مما يخالف الصواب عد بعض في معاصي اللسان نسيان القرءان ولو حرفًا واحدًا بعد أن حفظه وكلامهم هذا غير صحيح، وهذا يؤدي ببعض الناس إلى الخوف من حفظ القرءان لأن أكثر الناس ينسون. والحديث الذي يعتمدون عليه في ذلك غير صحيح وهو ما رواه أبو داود «عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرءان أو ءاية أوتيها رجل ثم نسيها». ومن الدليل على عدم صحته أنه يلزم الحرج على مقتضاه فإنه لا يخلو الحفظة للقرءان غالبًا من نسيان شىء منه والله لم يجعل في الدين من حرج، وقد أبعد بعض المتأخرين من الشافعية في الشذوذ فقال: يدخل في معصية نسيانه بمجرد النقصان عن الحال التي كان عليها في الحفظ وهذا ضلال وكفر والعياذ بالله.

   قال المؤلف رحمه الله: والسؤال للغني بمال أو حرفة.

   الشرح أن من جملة معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن يسأل الشخص المكتفي بالمال أو الحرفة بأن كان مالكًا ما يكفيه لحاجاته الأصلية أو كان قادرًا على تحصيل ذلك بكسب حلال وذلك لحديث «لا تحل المسألة لغني ولا لذي مرة سوي» رواه أبو داود [في سننه] والبيهقي [في السنن الكبرى]، والمرة هي القوة أي القدرة على الاكتساب، والسوي تام الخلق. وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم» والمزعة القطعة الصغيرة من اللحم. يعني رسول الله من شحذ بغير حاجة لأنه هو المذموم وأما الشاحذ عن حاجة فلا يذم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للسائل حق ولو جاء على فرس» [أخرجه أبو داود في سننه] أي لأنه قد يكون الرجل يملك فرسًا وهو فقير ليس عنده كفايته. وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يسأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر»، ويفهم من ذلك أيضًا أنه لا يجوز للمرأة المكتفية بنفقة زوجها أن تطلب من زوجها أن يشتري لها الأشياء الثمينة كأساور الذهب ونحو ذلك إلا أن كان قال لها اطلبي مني ما شئت فلها أن تطلب منه، أما الأشياء الخفيفة المتعارف عليها أي بين النساء التقيات فهذه يجوز لها أن تطلبها كأن طلبت منه أن يشتري لها شيئًا من الحلوى، والأحسن إذا أرادت الطلب أن تقول له لو جلبت لنا كذا بدل أن تقول له اجلب لنا كذا. وكذلك يجوز لها أن تطلب منه أخذها لبعض المطاعم لأكل الطعام. وكذلك يجوز لها أن تطلب المال منه لتذهب إلى الحج لأن هذا المال طلبته لعمل فيه طاعة ليس للتنعم.

   وأما ما جرى بين الأصدقاء العادة بطلبه بعضهم من بعض فهذا لا يعد شحاذةً محرمةً كأن يقول له عندما تعود من الحج تهدينا مساويك أو زمزم أو نحو ذلك مما جرت به العادة [ليس من شيم الصالحين أن يقعدوا من غير عمل بل المعروف عنهم العمل ليكفوا أنفسهم وأهلهم فقد كان الجنيد إمام الصوفية له دكان يقعد فيه، وكان الرواس يبيع رؤوس الغنم، وكان عثمان وغيره من أكابر الصحابة يعملون بالتجارة، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجارة، وكان إدريس خياطًا، وزكريا عليه السلام نجارًا، وكل نبي من أنبياء الله رعى الغنم من غير أن يتخذوا ذلك مهنةً وهم القدوة وأعلى الناس مقامًا].

   قال المؤلف رحمه الله: والنذر بقصد حرمان الوارث.

الشرح أن من معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن ينذر الرجل نذرًا يقصد به أن يحرم وارثه فلو وقع ذلك من شخص لم يصح ذلك النذر. ومن هذا النذر الفاسد أن يقول نذرت مالي للفقراء أو لمسجد أو نحو ذلك بقصد حرمان الوارث، وكذا يحرم عليه أن يهب كل ماله بقصد حرمان الوارث وهذا أيضًا من الكبائر. أما إن كان يعلم أن ابنه هذا فاسق فاجر يبذر هذا المال إن تركه له بعد وفاته في الحرام ويفجر به فقال الأب من الآن أنا أنذر مالي للفقراء أو للمسجد أو لشخص معين فنذره تهربًا من أن يصل هذا المال بعد وفاته إلى ابنه الفاسق الفاجر فليس عليه ذنب.

   قال المؤلف رحمه الله: وترك الوصية بدين أو عين لا يعلمهما غيره.

   الشرح أن من معاصي اللسان ترك الوصية بدين على الشخص أو عين لغيره عنده بطريق الوديعة أو نحوها، فيجب [في حال خوف فجأة الموت أو أصابه مرض مخوف ونحو ذلك] على من عليه أو عنده ذلك أن يعلم به غير وارث يثبت بقوله ولو واحدًا ظاهر العدالة إن خاف ضياعه بموته أو يرده حالًا خوفًا من خيانة الوارث، فإن علم بها غيره كانت الوصية مندوبةً، ويشمل ما ذكر ما كان دينًا لله كزكاة أو لآدمي.

   وتسن الوصية لغير المذكور لحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» رواه البخاري [في صحيحه].

   قال المؤلف رحمه الله: والانتماء إلى غير أبيه أو إلى غير مواليه أي من أعتقه كأن يقول: «أنا أعتقني فلان» يسمي غير الذي أعتقه.

   الشرح أن من معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن ينتمي الرجل إلى غير أبيه كأن يقول أنا ابن فلان وهو ليس ابنه أو أن ينتمي المعتق إلى غير مواليه أي الذين لهم عليه ولاء عتاقة، لأن في ذلك تضييع حق لأن الولاء يثبت به شرعًا أحكام منها أن المعتق يرث المعتق إن لم يكن له ورثة، ويكون ولي معتقته إن لم يكن لها ولي في النكاح أي أن الأمة التي هي مملوكة أعتقها سيدها فصارت حرةً ثم أرادت أن تتزوج إن لم يكن لها من أهلها من يجري لها العقد الذي أعتقها يكون وليها في النكاح [قال الشيخ رحمه الله: «حادثة حدثت لما كنت في بلادنا قبل خمسين سنةً رجل في الأصل من بلادنا كان عبدًا مملوكًا ثم عاش في مصر زمانًا وجمع مالًا كثيرًا ثم توفي ولم يترك ورثةً، ما كان له أولاد وكان أخبر القاضي أني مولى فلان يعني كنت عبدًا مملوكًا فاعتقني وهذا المال إذا مت يرسل إليه أو إلى عصبة المتعصبين بأنفسهم إن كان مات. العبد المملوك إذا أعتقه سيده، سيده يرثه إن لم يكن له ورثة كأنه من أهله. فصاروا يسألون في البلد عن ورثة الذي أعتقه لأن الذي أعتقه مات إنما أهله كانوا موجودين»].

   روى البخاري [في صحيحه] من حديث سعد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة حرام عليه» معناه لا يدخل مع الأولين يدخل بعد أن يعذب مع الآخرين إن لم يعف الله عنه. وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من ادعى إلى غير أبيه فعليه لعنة الله».

  قال المؤلف رحمه الله: والخطبة على خطبة أخيه.

   الشرح أن من معاصي اللسان أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أي أخيه في الإسلام – أي أن يطلبها للزواج بعد أن طلبها الأول – وإنما يحرم ذلك بعد الإجابة ممن تعتبر منه من ولي مجبر [وليس المراد بالمجبر هنا المكره بضرب أو نحوه إنما المراد من له إجراء عقد نكاح البكر على كفء لها من غير اشتراط إذنها وهو الأب والجد] أو منها أو منها ومن ولي بدون إذن الأول، فأما إن أذن فلا حرمة في ذلك وكذلك إن أعرض، فلو كان الخاطب الأول كافرًا ذميا خطب كتابيةً امتنع أن يخطب المسلم على خطبته، وإنما حرم ذلك لما فيه من الإيذاء والقطيعة. روى البخاري [في صحيحه] ومسلم [في صحيحه] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له».

   قال المؤلف رحمه الله: والفتوى بغير علم.

   الشرح أن من معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن يفتي الشخص بفتوًى بغير علم، قال الله تعالى ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا﴾ [سورة الإسراء/36] أي لا تقل قولًا بغير علم وصح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بعض الأشياء فقال «لا أدري» ثم سأل جبريل فقال لا أدري أسأل رب العزة فسأل الله تعالى فعلمه جواب ذلك السؤال ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ماذا علمه ربه، وهذا السؤال كان عن خير البقاع وشر البقاع وفي لفظ عن خير البلاد وشرها، فقال جبريل عليه السلام «خير البلاد المساجد» وفي لفظ «خير البقاع المساجد وشر البقاع الأسواق» رواه مسلم [في صحيحه] وابن حبان [في صحيحه]. وروى الحافظ ابن عساكر [في تاريخه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض»، وروى أحمد عن الشافعي عن مالك عن محمد بن عجلان رضي الله عنهم أنه قال «إذا أغفل العالم لا أدري فقد أصيبت مقاتله» أي هلك، وقال بعض الصحابة «أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار»، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «العلم ثلاثة كتاب ناطق، وسنة محكمة، ولا أدري». فمن أفتى فإن كان مجتهدًا أفتى على حسب اجتهاده وإن لم يكن مجتهدًا فليس له أن يفتي إلا اعتمادًا على فتوى إمام مجتهد منصوص له أو استخرجه أصحاب مذهبه من نص له. ويجوز أن ينقل فتوى مذهب غير مذهب المسئول والسائل، فإن نقل من نسخة كتاب يشترط أن تكون النسخة موثوقًا بصحتها أو رأى لفظها منتظمًا وهو خبير فطن يدرك السقط والتحريف، فإن لم يحصل ذلك قال للسائل وجدت كذا في نسخة من كتاب كذا بلا جزم بنسبته للمؤلف، فمن سئل عن مسئلة ولم يكن عنده علم بحكمها فلا يغفل كلمة لا أدري، فقد جاء عن مالك رضي الله عنه أنه سئل ثمانيةً وأربعين سؤالًا فأجاب عن ستة عشر وقال عن البقية «لا أدري» روى ذلك صاحبه هيثم بن جميل [في صفة الفتوى والمفتي والمستفتي]، وروي عن سيدنا علي أنه سئل عن شىء فقال «وا بردها على الكبد أن أسأل عن شىء لا علم لي به فأقول لا أدري» رواه الحافظ العسقلاني في تخريجه على مختصر ابن الحاجب الأصلي. فإذا كان هذا حال أعلم الصحابة علي رضي الله عنه الذي قال سيدنا عمر رضي الله عنه فيه «نعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن» فكيف حال من سواه.

   فينبغي لطالب العلم أن يعود نفسه لا أدري وأن يلتزم بالمنقول المحرر وإلا أهلك نفسه وغيره.

   فائدة لو سئل شخص عن ألف مسئلة فأجاب إجابةً صحيحةً عن تسعمائة وتسعة وتسعين وأخطأ في واحدة من الألف وسئل ءاخر عن الألف مسئلة فأجاب عن مائة على الصواب ولم يجب عن التسعمائة فهذا أفضل من الأول في هذا الأمر.

   قال المؤلف رحمه الله: وتعليم وتعلم علم مضر لغير سبب شرعي.

   الشرح أن من معاصي اللسان تعليم الشخص غيره كل علم مضر شرعًا وتعلم الشخص ذلك لأن من العلم ما هو محرم كالسحر والشعوذة وعلم الحرف الذي يقصد لاستخراج الأمور المستقبلة أو الأمور الخفية مما وقع، وقد عد هذا العلم من العلوم المحرمة السيوطي وغيره. والمشتغلون بعلم الحرف المحرم يقسمون الحروف إلى أربعة أقسام ثم يقولون من اسمه مركب من كذا وكذا من الحروف يصلح له كذا وليحترس من كذا ونحو ذلك من الغيبيات.

   ومن العلم المحرم علم التنجيم الذي فيه الحكم على المستقبل اعتمادًا على النجوم، وقال بعض العلماء لا يجوز تعليم الكافر القرءان ولا المبتدع الجدال ليجادل به أهل الحق [والمراد بالمبتدع من يدين بغير عقيدة أهل السنة الموافقة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة] ولا السلطان تأويلًا يتطرق به إلى الإضرار بالرعية ولا نشر الرخص للسفهاء ليتخذوها طريقًا لارتكاب المحظورات وترك الواجبات.

   ومن العلم المحرم الفلسفة التي تسمى الإلهيات أي الاعتقاديات وهي الموروثة عن إرسطو وأمثاله وتبعه عليها ابن سينا فإنها كفر كقولهم إن العالم أزلي مادةً وصورةً، وقول بعضهم إن العالم أزلي مادةً أي جنسًا هؤلاء محدثو الفلاسفة وتبعهم ابن تيمية من غير انتساب إليهم بل ينسب هذا لأئمة الحديث كذبًا وزورًا. ومنشأ ذلك أنه اشتغل بمطالعة كتب الفلاسفة كما قال الذهبي في رسالته المسماة «بيان زغل العلم والطلب» فابن تيمية جمع بين عقيدتين فاسدتين التشبيه ومقالة الفلاسفة هذه والعقيدتان كفر فالتشبيه تكذيب لآية ﴿ليس كمثله شىء﴾ [سورة الشورى/11] وقول إن العالم أزلي مادةً وصورةً أو مادةً وجنسًا فقط كفر وتكذيب لآية ﴿هو الأول﴾ [سورة الحديد/3] وقد قال الشافعي «المجسم كافر» [الأشباه والنظائر]، وقال أحمد بن حنبل «من قال الله جسم لا كالأجسام كفر» نقل ذلك عنه صاحب الخصال الحنبلي [نقله الزركشي في تشنيف المسامع].  

   ومما يحرم سؤال الكهان والعرافين عن الضائع والمسروق والأمور الغيبية وهو من الكبائر فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافًا فسأله عن شىء لم تقبل له صلاة أربعين ليلةً»، وروى الحاكم في المستدرك والبيهقي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» أي إن اعتقد أنه يطلع على الغيب وليس المراد من يظن أنه قد يوافق خبره الواقع وقد لا يوافق الواقع فإنه لا يكفر بل يكون عاصيًا بسؤاله إياهم، والكاهن هو الذي يتعاطى الإخبار عن الكائنات في المستقبل اعتمادًا على النظر في النجوم وعلى أسباب ومقدمات يستدلون بها أو غير ذلك كالذين لهم أصحاب من الجن يأتونهم بالأخبار فيعتمدون على أخبارهم فيحدثون الناس بأنه سيحصل كذا [روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس عن الكهان فقال: «ليسوا بشىء» فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانًا بشىء فيكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيخلطون معها مائة كذبة» قوله فيقرها أي يلقيها. وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الملائكة تنزل في العنان (وهو السحاب) فتذكر الأمر قضي في السماء فيسترق الشيطان السمع فيسمعه فيوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم»]. وأما العراف فهو الذي يخبر عن المسروقات ونحوها يتحدث عن المسروق أو عن الضالة أين هي وما صفتها فإن هذا من سأله عن شىء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين ليلةً أي لا ثواب له لا بصلاة الفرض ولا بصلاة النفل كل هذه المدة إن لم يتب. وممن يدخل في ذلك أيضًا من يعتمد في إخباره على الضرب بالمندل يقرأ أشياء فتظهر له صورة جني في المرءاة فيكلمه، ومن يعتمد على النظر في فنجان قهوة البن، وكذا الذي يعتمد على كتاب قرعة الأنبياء وهو كتاب فيه جدول بأسماء بعض الأنبياء ثم يقرأ الذي يريد أن يعرف حظه الفاتحة ثم يغمض عينيه ويضع إصبعه على الجدول الذي فيه اسم محمد ثم يشرح له يقول له أنت شأنك كذا وكذا ويصلح لك من النساء ما كان وصفها كذا وكذا ومن البيوت ما كان كذا وكذا وأعداؤك فلان وفلان وقد يذكر بعض أقربائه.

   ومما يجب تحذير الناس منه كتاب قرعة الطيور وكتاب أبي معشر الفلكي الذي يدعي أن البشر كلهم أحوالهم مرتبطة بالبروج الاثني عشر وأن كل مولود يرجع أمره إلى أحد هذه الأبراج يقول للشخص بعدما يحسب اسمه واسم أمه أنت برجك كذا وكذا أو ينفعك من البيوت ما كان بابه شرقيا أو شماليا أو نحو ذلك. وقد حصل أن امرأةً عجوزًا ذهبت إلى هذا الذي يفتح كتاب قرعة الأنبياء فقال لها يصير كذا وكذا فدفعت إليه عملةً ثم لم يتحقق ذلك الشىء فعادت إليه فقالت له رد لي مالي الذي دفعته لأنه ما تحقق لي ما أريد.

   ويوجد كتاب سماه صاحبه «خبر الساعة» يقول فيه من جاءك في الساعة الفلانية في اليوم الفلاني فأمره كذا وكذا ومن جاء ساعة كذا فأمره كذا وكذا وكل هذه الأمور حرام.

   وكذلك كتاب «خزينة الأسرار» هذا أيضًا فيه ما يحذر، وكذلك كتاب «منبع أصول الحكمة» هذا أيضًا فاسد فيه سحر وكهانة ودعوة الكواكب.

   ومن ذهب إليهم فدفع المال فعليه إثم بذهابه إليهم وعليه إثم بدفع المال لهم وهذه الكتب من استطاع أن يتلفها فرض عليه أن يتلفها إن وجدها لأن هذا من المحرمات وإزالة المحرمات فرض على من استطاع. فكل من يتعاطى الإخبار عن المستقبل وعن الأمر الخفي وعن السرقة وعن الضائع اعتمادًا على خبر الجن أو اعتمادًا على نجوم السماء أو غير ذلك كهذه الكتب المذكورة يجب التحذير منه والإنكار عليه لأن عمله حرام، وكذلك يدخل فيما ذكرنا الذين يعتمدون على الرمل المعروف عند بعض الناس والضرب بالحصى أو الحبوب لذلك.

   ومن الكهان من يسميهم الناس الروحانيين يقولون فلان روحاني يعتمدون كلامه ظنا منهم أن له اتصالًا بالملائكة وإنما هو معتمد على فساق الجن من كفارهم وغيرهم، ومنهم من يقول مع عد مقدار من المسبحة الله، محمد، علي، أبو جهل، فإن انتهى إلى لفظ الجلالة أو إلى لفظ محمد أو لفظ علي يقول إن هذه الحاجة ناجحة وإن وقف على أبي جهل يقول إنها غير ناجحة. وكذلك الذي يمسك المسبحة أو المفتاح ويعلقه بمفتاح معه ويكون معه جني ثم الجني يحركه إما إلى اليمين وإما إلى اليسار والناس لا يرون الجني الذي يحركه فيقول بعض الناس هذا فيه سر فيصدقونه فيما يقول لهم وهو يقول له حاجتك التي تريدها تنجح أو لا تنجح، كل هؤلاء الذهاب إليهم لسؤالهم عن ذلك حرام. وكذلك يوجد أناس إذا أرادوا بيع بيت أو أرض أو أن يعملوا تجارةً أو أن يشتروا سيارةً أو غير ذلك يمسكون مسبحةً فيقولون افعل لا تفعل من دون أن يعدوا فإن وقفوا على افعل يقولون هذه الحاجة ناجحة وإن وقفوا على لا تفعل يتركونها يقولون هذه الحاجة غير ناجحة فيرجع عما قصده ومثل هذا أخذ الفأل من المصحف وذلك بأن يفتح المصحف فيعد سبعة أسطر فإن أتى على ءاية فيها بشارة قال إن هذه الحاجة تنجح وإن أتى على ءاية تخويف وإنذار قال لا تنجح فيرجع عنها.

   ومن المحرم أيضًا الاعتماد على النظر في الكف يستعملون هذا لأسفارهم أو لصفقات البيع والشراء وغير ذلك كالزواج، وكل هذا حكمه حكم الأزلام التي حرم الله الاستقسام بها في القرءان بقوله ﴿حرمت عليكم الميتة والدم﴾ إلى قوله ﴿وأن تستقسموا بالأزلام﴾ [سورة المائدة/3] والأزلام هي سهام كان مكتوبًا على أحدها أمرني ربي وعلى الآخر مكتوب نهاني ربي والثالث ليس عليه كتابة ويعيدون الخلط إلى أن يطلع أحد المذكورين، فالله تبارك وتعالى حرم في هذه الآية طلب معرفة البخت والنصيب بهذه الأزلام، وكان ذلك مشهورًا في الجاهلية حتى إنهم كانوا وضعوا في الكعبة صورةً لإبراهيم وصورةً لإسماعيل عليهما السلام على أيديهما هذه الأزلام لإيهام الناس أنهما كانا يفعلان هذا.

   وأما من يردد ءايةً بعدد معين لمقصد حسن فقد يحضره ملائكة الرحمة ببركة هذه الآية، أما من كان غرضه الدنيا فهذا لا يحضر إليه ملائكة الرحمة وإنما قد يحضر إليه بعض الجن الفاسدين، وأغلب هؤلاء الذين يقولون عن أنفسهم إنهم روحانيون يعملون مع الجن لكنهم لا يقولون للناس نحن نعمل مع الجن لأنهم إن قالوا ذلك للناس الناس لا يعتقدونهم أما إن قالوا نحن روحانيون الناس يقصدونهم. في البدء أحيانًا الجن يظهرون أنهم قائمون بالشريعة ثم يدخلون أشياء مخالفةً للشريعة. كان في ناحيتنا رجل يمني يقول إنني روحاني أي معي ملائكة فصار الناس يطلبونه لمريض أو غير ذلك، يأتي بعد المغرب ثم الناس يحضرون إليه، ثم بعد برهة يطفأ الضوء فيحسون بحركات ويسلمون على الحاضرين ولا يقولون نحن جن وإنما يقولون روحاني، ثم يتكلمون فيقولون هذا المريض مرضه كذا ودواؤه كذا، مرةً لما حضروا قالوا بعض الناس يسيئون الظن بنا يقولون نحن جن نحن لسنا جنا.

   نحن الملك الذي بلا أب وأم لا أكل ولا شرب ولا نوم لهم ثم هو اعترف فقال ءامر ابني ميمون بكذا، الله فضحه، لأنه من المعلوم أن الملائكة لا يتناكحون. وشخص ءاخر طالب علم لما بلغه أن هذا الرجل يحضر إلى بيت فلان ظل يقرأ ءاية الكرسي سرا واندس بين الناس فهؤلاء الجن ما استطاعوا الدخول سر الآية منعهم، وقفوا خارج الباب وقالوا لصاحب البيت اليوم أنت أدخلت ساحرًا ظل يشتغل بنا فنحن لا ندخل. أغلبهم كذابون يحتمل من بين مائة ألف منهم أن يوجد واحد صادق يعين على الخير.

   ومن الكتب التي يستعين بها بعض هؤلاء كتاب يقال له شمس المعارف الكبرى وفيه كفر منذ نحو خمسمائة سنة نشر بين الناس، فيه كهانة وفيه دعوة الكواكب السبعة زحل وعطارد والمريخ والمشتري وغيرها، وفيه عبادة الشمس والقمر يقول بهذه الطريقة تكون عملت مع الشمس اتصالًا، في يوم كذا في ساعة كذا تلبس من الثياب ما شكله كذا وتبخر كذا وكذا وتقول للشمس وتستقبلها: السلام عليك أيتها السيدة المنيرة أريد منك أن تفعلي لي كذا وكذا. ثم كثير من الناس جنوا بسببه يقول إذا اختليت وقرأت كذا بعدد كذا وكذا وكذا يومًا يأتيك روحاني وقد يقول أنت يصير لك جاه كبير أو بهذه الطريقة تفتح كنوزًا ثم هذا الرجل يصرف لثمن البخور مالًا ويبقى يطمع أن يصل إليه ما يقوله هذا الكتاب، ثم أحيانًا الجن يضربونه في الخلوة فيخرج مجنونًا. ومرةً جاء مصري إلى لبنان وأخذ بيتين وسمى المنزل الأعلى «بيت الملوك» ثم الناس يأتونه فيوهمهم أنه يقضي لهم حاجاتهم يوصلهم إلى مراكز في الدولة ثم جمع ما جمع وهرب إلى الكويت وهناك الناس صاروا يقصدونه وسجل شريطًا يقول فيه هذا صوت أبي العباس الخضر وهو صوت رجل أفريقي ضخم لا يحسن الشهادتين والآيات، ذهب إليه شخص وأحضر الشريط فقلت له الخضر لا يفعل هذا ما أخذ بكلامي ثم هذا الرجل حصلت له فضيحة في الكويت.

   الذي لا يتعلم علم الدين مهما قرأ القرءان يظل في العماء، الشيطان يلعب به يوسوس له وساوس هؤلاء الدجالون يوسوسون له فيتبعهم فيهلك.

   وأما الطلاسم التي يرسمها بعض الدجاجلة فهي منكر من المنكرات الطلاسم التي لا هي خط عربي ولا هي خط من الخطوط المعروفة إنما هي في الحقيقة رموز لملوك الجن يرضون بها ويفرحون وأحيانًا يساعدون الشخص الذي يرسمها لأنه أرضاهم بما عمله لأنها قد تكون هياكل علموها بعض البشر، وهم يفرحون بالمعاصي والشرك إذا عمله ابن ءادم، حتى إنهم أحيانًا يصيبون الشخص بالضرر والأذى ثم إذا إنسان رقى هذا الإنسان بما فيه تعظيم للشياطين يكفون عنه ويرفعون أذاهم مكافأةً لهذا الشخص، الجني أحيانًا ينخس عين إنسان فيتألم هذا الإنسان ثم إذا رقاه إنسان بآيات من كتاب الله يزول أذاهم عنه ببركة الآيات وأحيانًا يرقيه شخص بهذا الكلام الفاسد بما هو استنجاد بملوك الجن بعظمائهم فيرفعون أذاهم عنه فيذهب عنه ذلك الألم الذي كان يجده ولهم تصرفات من هذا النوع كثيرة.

   وليعلم أن روح الإنسان إن كان تقيا وإن كان فاسقًا لا يستطيع أحد أن يجلبه ويحضره إلى حيث هو يريد.

   وأرواح الأتقياء لا يحبون أن يرجعوا إلى الدنيا ولو ملكوا الدنيا وما فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من نفس تموت لها عند الله خير تحب أن ترجع إلى الدنيا ولو أن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يحب أن يرجع إليها ويقتل مرةً أخرى لما يرى من كرامة الشهادة» رواه البخاري [في صحيحه]، لكن بعض الصالحين جعل الله لهم القدرة على التجول في الأرض بعد موتهم في بعض الأوقات. وأرواح الكفار تحت ملائكة العذاب ولا يستطيع هؤلاء الدجاجلة أن يسحبوا روح الكافر من ملائكة العذاب. إنما الذين يحضرون إلى مجلس هؤلاء هم الجن الذين كانوا يعرفون حال هذا الشخص وعاشوا معه إما قرينه أو جني ءاخر يعرف أحواله يكذب فيقول أنا روح فلان.

   مرةً جاءت إلي امرأة شابة جميلة في بيروت مات زوجها فقالت لي أنا ذهبت إلى الذين يقولون نعمل استحضار الأرواح فأحضر لي روح زوجي، ثم بعد ذلك صار يأتيني بصورته إلى البيت عندما أكون وحدي فما اطمأننت له، فقلت لها احذريه هذا شيطان، يريد الزنى يوهمها أنه زوجها وهو ليس كذلك، إنما هو شيطان قرين أو شيطان ءاخر يعرف شكل زوجها وهيئة لباسه فجاءها بشكله وليس في البيت أحد غيرها.

   وتوجد بعض النساء لها معاملة مع الجن الخبثاء توهم الناس أنها تستطيع أن تؤاخي بين امرأة وجنية أو جني. في بيروت في الأوزاعي كانت امرأة ذهبت إلى واحدة من هؤلاء ثم ابتليت بعد أن جمعت بينها وبين جني، فصار له صحبة معها، صار يأتيها لما يغيب زوجها ويريد الحرام، فقلت لها هذا شيطان هذا خبيث لا تصدقيه في قوله إنه يأتي للخير، تعذبت زمانًا صار يزعجها يأتي من وقت إلى ءاخر. قل أن يحصل صحبة بين إنسي وجني على الوجه الذي يحبه الله. مرةً في بلدنا شخص أنا لم أدركه كان معه جن صار له اعتقاد كبير بين الناس حتى إنهم من شدة اعتقادهم فيه قال لهم هذا العام الكعبة تأتي إلى مدينتنا تطوفون هنا فصدقوه خرجوا إلى خارج المدينة ينتظرون أن تأتي الكعبة إليهم ليطوفوا بها لكن ذلك لم يحصل، ثم هذا الرجل الجن الذين كانوا معه قتلوه، وهو في بيت الخلاء طعنوه طعنةً فصرخ. الجن نادر فيهم التقي أكثرهم خداعون. وكان رجل في بيروت في عائشة بكار كان يختلي في مكان تابع لمسجد في شعبان ورجب ورمضان ويصوم هذه الأشهر ثم يعود إلى بيته ثم كتب عن نفسه بأنه حاكم الروحانيين يعني حاكم الجن ثم الذين يأتون إليه يضع له أحدهم خمس ليرات في تلك الأيام قبل أن يتكلم معه عن حاجته ثم يتكلم معه فيقول له أريد خمسًا وسبعين ليرةً ثم يقول هذا ليس من أجلنا هذا للأولياء ثم إذا إنسان دخل إليه يوهمه بأنه إن تركه يسلط عليه الجن فالذي دخل إليه يعلق به فكنت أقول لشخص لا تخف ولا تبال اتركه وهذا الشخص مكث معه فيما أظن سنتين أو أكثر وهو يخشى أنه إن تركه يؤذى من الجن، هؤلاء الناس لهم طرق في التمويه على الناس. وكان شيخ في الحبشة طريقته تجانية وهؤلاء طريقتهم منحرفة ثم هذا الشيخ جماعته طلبوه من بلده ليأتي إليهم مع بعد المسافة ثم لما جاء إليهم صار عليه إقبال كبير من الناس فصار الناس يقصدونه لأغراض مختلفة فذهب إليه شخص سرقت له بقرة فضرب بالمندل فقال له هذه البقرة ذهبت إلى جهة كذا فصدقوه وصاروا يبحثون عنها في تلك الناحية فلم يجدوها ثم جاءهم الخبر بأنها ذهبت إلى ناحية أخرى وأنها أكلت، وهذا يدعي أنه شيخ الطريقة ويدعي الولاية.

   واعلم أنه مما ينفع للتحصن من أذى الجن قراءة المعوذات فإن الشخص إذا لازمها صباحًا ومساءً يحفظه الله من أذى الجن لكن بشرط تصحيح الحروف وإلا فلا يحصل السر. ومما ينفع أيضًا للحفظ من أذى الجن المداومة على قراءة ءاية الكرسي صباحًا ومساءً فقد جاء في الحديث أن صحابيا ظهر له شيطان فقال له ما الذي يحفظنا منكم فقال له ءاية الكرسي فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله: «لقد صدقك الخبيث» رواه البخاري [في صحيحه]. فينبغي للمؤمن قبل الدخول على الذين يخشى أن يعملوا له السحر أن يقرأ ءاية الكرسي والمعوذات ثم إنه ينبغي لحصول سر التحصن أن تقرأ أوراد التحصين بعد الغروب وبعد الفجر بعد الصلاة أو قبلها من الفجر إلى نحو ثلاث ساعات هذا كله صباح ومن الغروب إلى نحو ثلاث ساعات هذا وقت قراءة أوراد التحصن. وقراءة المعوذتين في الصلوات الخمس من المهمات لحديث رواه ابن حبان في ذلك وفيه قوله عليه السلام «إن استطعت أن تقرأ بهما في صلاتك فافعل» هكذا قال الرسول للصحابي. ومما ورد مما ينفع لطرد شياطين الجن قراءة سورة الصافات من أولها إلى قوله تعالى: ﴿من طين لازب﴾ [سورة الصافات/11].

   قال المؤلف رحمه الله: والحكم بغير حكم الله.

   الشرح أن من معاصي اللسان الحكم بغير شرع الله المستمد من القرءان والحديث وما دلا عليه وهو إجماع علماء الأمة المجتهدين الأربعة ومن سواهم فمخالفة إجماعهم مثل مخالفة القرءان ونص الحديث الثابت، قال الله تعالى ﴿أفحكم الجاهلية يبغون﴾ [سورة المائدة/50] الآية، فالحكم بغير ما أنزل الله من الكبائر إجماعًا، وقد روى مسلم [في صحيحه] عن البراء بن عازب أن اليهود حرفوا حكم الله الذي أنزله في التوراة حيث حكموا على الزاني المحصن بالجلد والتحميم أي الدهن بالفحم. وقد أنزل الله الرجم في التوراة، وأنزل على نبينا في القرءان الآيات الثلاث التي في المائدة قوله تعالى ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ والتي فيها ﴿فأولئك هم الظالمون﴾ والتي فيها ﴿فأولئك هم الفاسقون﴾، وليس في الآية الأولى تكفير المسلم لمجرد أنه حكم بغير الشرع فإن المسلم الذي يحكم بغير الشرع من غير أن يجحد حكم الشرع في قلبه ولا بلسانه وإنما يحكم بهذه الأحكام العرفية التي تعارفها الناس فيما بينهم لكونها موافقةً لأهواء الناس متداولةً بين الدول وهو غير معترف بصحتها على الحقيقة ولا معتقد لذلك وإنما غاية ما يقوله إنه حكم بالقانون لا يجوز تكفيره أي اعتباره خارجًا من الإسلام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ءاية ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ «ليس الذي تذهبون إليه الكفر الذي ينقل عن الملة بل كفر دون كفر» ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ أي ذنب كبير وهذا الأثر عن ابن عباس صحيح ثابت رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه عليه الذهبي وهذا تفسير الحبر ترجمان القرءان. ولم يثبت عن السلف تفسير للآية غير هذا وتفسير ءاخر وهو تفسير الصحابي الكبير البراء بن عازب قال رضي الله عنه في هذه الآية والآيتين اللتين بعدها كلها نزلت في الكفار. وهذه الآيات على حسب تفسير ابن عباس تكون مثل الحديث الذي رواه البخاري [في صحيحه] أنه صلى الله عليه وسلم قال عن قتال المسلم إنه كفر أي شبيه بالكفر لا يعني أنه كفر يخرج عن الملة أي كفر أصغر كما قال الإمام أحمد بن حنبل الكفر درجات أي بعضه يخرج من الملة وبعضه لا يخرج من الملة وهو الكبائر الموبقات كما أن الشرك أكبر وأصغر بدليل حديث الحاكم «كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر» صححه الحاكم وغيره.

   ومن عقائد أهل السنة المتفق عليها أنه لا يكفر مسلم بذنب إن لم يستحله وإنما يكفر الذي يستحله أي على الوجه المقرر عند أهل العلم فإن المسألة يدخلها تفصيل، فإنه إن استحل معصيةً معلومًا حكمها من الدين بالضرورة كأكل لحم الخنزير والرشوة فهو كفر أي خروج من الإسلام، وإن لم يكن حكمه كذلك أي معلومًا من الدين بالضرورة لم يكفر مستحلها إلا أن يكون من باب رد النص الشرعي بأن علم بورود الشرع بتحريمها فعاند فاستحلها لأن رد النصوص كفر كما قاله النسفي في عقيدته المشهورة والقاضي عياض [في الشفا بتعريف حقوق المصطفى] والنووي [في روضة الطالبين] وغيرهم. فإذا عرف ذلك علم أن ما يوجد في مؤلفات سيد قطب من تكفير من يحكم بغير الشرع تكفيرًا مطلقًا بلا تفصيل لا يوافق مذهبًا من المذاهب الإسلامية، وإنما هو من رأي الخوارج الذين قاعدتهم تكفير مرتكب المعصية، فقد ذكر الإمام أبو منصور البغدادي أن صنفًا من الطائفة التي يقال لها البيهسية من الخوارج تكفر السلطان إذا حكم بغير الشرع وتكفر الرعايا من تابعه ومن لم يتابعه، ذكر ذلك في كتابه الفرق بين الفرق، فليعلم أن سيد قطب ليس له سلف في ذلك إلا الخوارج.

   فائدة من استحل معصيةً عمل بها لجهله بكونها محرمةً في شرع الله لا يكفر بل يعلم أنها محرمة في شرع الله ثم إن عاد فاستحلها فهو مرتد يجرى عليه أحكام المرتد التي قررها الشرع لا يرث ولا يورث وتبين منه امرأته إلى غير ذلك من أحكام المرتد.

   قال المؤلف رحمه الله: والندب والنياحة.

   الشرح أن من محرمات اللسان التي هي من الكبائر الندب والنياحة فالندب هو ذكر محاسن الميت برفع الصوت كواجبلاه وواكهفاه [واجبلاه معناه أنت كنت جبلي الذي يحفظني، وواكهفاه معناه أنت كنت كهفي الذي ءاوي إليه]، وأما النياحة فهي الصياح على صورة الجزع لمصيبة الموت فتحرم إذا كانت عن اختيار لا عن غلبة، وقد روى البزار [في مسنده] وغيره مرفوعًا «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة». أي النياحة عند المصيبة وأما ما رواه البخاري ومسلم [في صحيحيهما] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» فهو محمول على ما إذا أوصى بالنياحة عليه أو سكت عن النهي عنه وهو يظن أن أهله ينوحون عليه بعد موته مع رجائه امتثال نهيه.

   قال المؤلف رحمه الله: وكل قول يحث على محرم أو يفتر عن واجب وكل كلام يقدح في الدين أو في أحد من الأنبياء أو في العلماء أو القرءان أو في شىء من شعائر الله.

   الشرح هذه قاعدة عظيمة جليلة النفع لأنه يدخل تحتها أمور كثيرة مهلكة، فيا فوز من عمل بها بتجنب ما ذكره محذرًا من الوقوع فيه. فكل كلام يشجع الناس على فعل المحرمات أو يثبط هممهم عن فعل الواجبات كأن يقول لمسلم اقعد معنا الآن ولا تصل تقضيها فيما بعد – أي بعد خروج وقتها – فهو محرم، وكل كلام يقدح في الدين أي ينقص الدين أو في أحد من الأنبياء أو في العلماء أو القرءان أو شىء من شعائر الله كالصلاة والزكاة والأذان والوضوء ونحو ذلك فهو كفر.

   قال المؤلف رحمه الله: ومنها التزمير.

   الشرح أن من معاصي اللسان التزمير وهو النفخ بالمزمار وهو أنواع:

  • منها قصبة ضيقة الرأس متسعة الآخر يزمر بها في المواكب والحروب على وجه مطرب.
  • ومنها ما هي قصبة مثل الأولى يجعل في أسفلها قطعة نحاس معوجة يزمر بها في أعراس البوادي.

   قال القرطبي: لم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله أنه يبيح المزمار اهـ. وتحريم ذلك كسائر ءالات اللهو المطربة بمفردها كالرباب والكمنجة هو ما عليه الجمهور ولا يلتفت إلى القول الشاذ الذي قال به بعض أكابر السلف وبعض الشافعية والحنفية من أنهم أجازوا الاستماع إلى ءالات اللهو المطربة لأنه لم يثبت عندهم أن الرسول حرمها لكن لا يكفر مستحل ذلك إلا من يعتقد أن الرسول حرم ذلك ثم قال عنه إنه حلال.

   قال المؤلف رحمه الله: والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر.

   الشرح أن من معاصي اللسان السكوت عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر بلا عذر شرعي بأن كان قادرًا ءامنًا على نفسه ونحو ماله قال الله تعالى ﴿لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾ [سورة المائدة].

   وقد ذكر الفقهاء لجواز إنكار المنكر أي المحرمات على فاعلها كون ذلك المنكر محرمًا بالإجماع فلا ينكر المختلف فيه بينهم إلا على من يرى حرمته وكونه لا يؤدي إلى مفسدة أعظم فإن أدى الإنكار إلى ذلك حرم. فما كان معلومًا من الدين بالضرورة اشترك في الأمر به والنهي عنه العالم والجاهل، أما ما كان خفيا فلا يتكلم فيه إلا العالم لأن غير العالم قد ينكر المختلف فيه على من يرى خلاف مذهبه أي على من مذهبه خلاف مذهب المنكر فيكون خالف القاعدة «لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه» وهي متفق عليها، لكن لا مانع من أن يرشد الشخص إذا أخذ برخصة في مذهب يرخص في ما هو محرم في مذهبه من دون إنكار إلى الأخذ بالاحتياط فيقول له لو فعلت كذا كان أحسن، كما إذا رأى إنسانًا يقتصر على ستر العورة المغلظة ويكشف فخذه وهو لا يرى ذلك حرامًا فيجوز للذي يرى ذلك حرامًا في مذهبه أن يقول لهذا لو جعلت سترتك شاملةً لما بين السرة والركبة أو أزيد، وممن ذكر ترك الإنكار في هذه المسئلة ابن حجر المكي من الشافعية وعز الدين المالكي من المالكية. ذكر ذلك ابن حجر في فتاويه في رجل يعمل وهو كاشف فخذه. وعز الدين المالكي ذكره في رجل يكون في الحمام مع وجود غيره كاشفًا فخذه، وكشف الفخذ للرجل جائز عند خمسة من المجتهدين منهم مالك وأحمد بن حنبل في أحد قوليهما وكذلك الإمام المجتهد ابن أبي ذئب. ويحتج لذلك بحديث حسنه الحافظ ابن حجر فعند هؤلاء عورة الرجل الفرجان.

   ولا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من يظن أنه لا يفيد في المأمور والمنهي فليس الأمر كما قال صاحب الزبد:

كأمر معروف ونهي المنكر *** وإن يظن النهي لم يؤثر

   قال أبو زرعة في نكته ما نصه:

   «ولا يسقط – أي وجوب إنكار منكر والأمر بالمعروف – بعلمه أو ظنه أنه لا يفيد – في المنهي والمأمور -، قال في المهمات إنه لا نعرف أحدًا قال به بل نقل الإمام في الشامل في أصول الدين عن القاضي أبي بكر أنهم أجمعوا على عدم الوجوب ولم يخالفه فيه» اهـ.

   قال المؤلف رحمه الله: وكتم العلم الواجب مع وجود الطالب.

   الشرح أن من معاصي اللسان التي هي من الكبائر كتم العلم الواجب مع وجود الطالب قال الله تعالى ﴿إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون﴾ [سورة البقرة/159].

   وروى ابن ماجه [في سننه] والحاكم [في المستدرك] وابن حبان [في صحيحه] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» واللجام هو مثل الذي يوضع في فم الفرس لكنه من نار، فتعليم العلم يكون في حال فرض كفاية وفي حال فرض عين، والأول محله ما إذا كان يوجد أكثر من واحد ممن تأهل لذلك وتحصل بهم الكفاية، والثاني إذا لم يكن هناك غير شخص فلا يجوز في هذه الحال أن يحيل المفتي الأهل أو العالم الذي هو أهل سائله إلى غيره. ومن تعلم علم الدين الضروري ثم نسي بعضه بحيث لو حصل معه أمر يحتاج فيه للعلم الضروري لا يعرف حكمه يجب عليه استعادة تعلم ما نسي. فينبغي لطالب العلم الذي أخذ العلم من أهله أن ينشره لقوله تعالى: ﴿لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ [سورة ءال عمران/187] ولحديث أبي بكرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بمنًى «ألا ليبلغن الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» وقوله صلى الله عليه وسلم «بلغوا عني ولو ءايةً» رواه البخاري [في صحيحه].

   وروى البيهقي [في شعب الإيـمان] عن الحارث المحاسبي أنه قال: «العلم يورث الخشية، والزهد يورث الراحة، والمعرفة تورث الإنابة».

   وروى عن مالك بن دينار أنه قال: «إذا طلب العبد العلم ليعمل به كسره علمه [أي لينه وهذبه وزاده تواضعًا] وإذا طلبه لغير العمل زاده كبرًا».

   وروى عن معروف الكرخي أنه قال: «إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح عليه باب العمل وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل». والمراد بالجدل هنا الجدل المذموم كالذي يجادل الناس بغير حق ليحق الباطل أو ليبطل الحق أو يجادل ليعظمه الناس.

   وروى عن الحسن البصري رحمه الله أنه مر عليه رجل فقيل هذا فقيه فقال «أو تدرون من الفقيه إنما الفقيه العالم في دينه الزاهد في دنياه القائم على عبادة ربه».

   وروى عن مالك بن دينار أنه قال: «قرأت في التوراة إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته من القلوب كما يزل القطر عن الصفا» أي الحجر الأملس.

   قال الفقهاء: يجب وجود عالم يصلح للفتوى في كل مسافة قصر وقاض في كل مسافة عدوى أي نصف مرحلة. والمرحلة مسيرة يوم مع حساب الاستراحة للصلاة والأكل ونحو ذلك باعتبار سير الإبل المحملة أو سير الأقدام. وذكر الغزالي [في إحياء علوم الدين] أنه يجب وجود عالم يقوم بالرد على الملحدين والمشككين في العقيدة بإيراد الشبه في كل بلد ويكون ذلك العالم عارفًا بالحجج النقلية والعقلية، وذلك هو علم الكلام الذي عرف به أهل السنة ليس علم الكلام الذي عند المبتدعة المشبهة وغيرهم من أهل البدع الاعتقادية كالمعتزلة لأنهم ألفوا كتبًا عديدةً أوردوا فيها شبهًا عقليةً وتمويهات بالنصوص الشرعية ليغروا بها القاصرين في الفهم.

   قال المؤلف رحمه الله: والضحك لخروج الريح أو على مسلم استحقارًا له.

   الشرح أن من محرمات اللسان الضحك لخروج ريح من شخص أي إذا لم يكن مغلوبًا، وكذلك لغير ذلك استحقارًا لما فيه من الإيذاء، ومثل المسلم في هذه المسألة الذمي.

   قال المؤلف رحمه الله: وكتم الشهادة.

   الشرح أن من جملة معاصي اللسان التي هي من الكبائر كتم الشهادة بلا عذر روى مسلم [في صحيحه] من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها». قال الجلال البلقيني: إن ذلك مقيد بما إذا دعي إلى الشهادة، ومراده في غير شهادة الحسبة فإن شهادة الحسبة لا تتقيد بالطلب، فإذا علم اثنان ثقتان بأن فلانًا طلق امرأته طلاقًا يمنع معاشرتها بأن يكون طلاقًا بائنًا بالثلاث أو بانتهاء العدة قبل الرجعة ويريد أن يعود إلى معاشرتها بغير طريق شرعي وجب عليهما أن يشهدا عند الحاكم من غير طلب منه.

   قال المؤلف رحمه الله: وترك رد السلام الواجب عليك.

   الشرح أن من معاصي اللسان ترك رد السلام الواجب عليك رده وجوبًا عينيا بأن صدر ابتداؤه من مسلم مكلف على مسلم معين، أو وجوبًا كفائيا بأن صدر منه على جماعة مكلفين، هذا مع اتحاد الجنس لقوله تعالى: ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها﴾ [سورة النساء/86]، أما إذا اختلف الجنس بأن سلمت شابة على أجنبي لم يجب الرد فيبقى الجواز إن لم تخش فتنة وكذلك العكس، ولم نجد نصا للمتقدمين من أصحاب الإمام الشافعي بتحريم بدء الشابة الأجنبية بالسلام على الأجنبي بل كلام أبي عبد الله الحليمي وهو شافعي من أصحاب الوجوه وأبي سعيد المتولي يدل على الجواز.

   وخرج بالواجب أيضًا المكروه كالسلام على قاضي الحاجة في حال الخروج أو الآكل الذي في فمه اللقمة ونحو ذلك فلا يجب الرد وكذلك البدعي المخالف في الاعتقاد ممن لا تبلغ بدعته إلى الكفر. وكذلك لا يجب الرد على الفاسق وعلى من سلم يوم الجمعة في المسجد أثناء الخطبة.

   قال أبو زرعة في نكته إن في جواب السلام على المجنون والسكران في وجوبه وجهان بلا ترجيح في أصل الروضة قال العراقي (أي ولي الدين): «ورجح شيخنا في تصحيح المنهاج أنه لا يجب إلا أن يخاف من تركه شر فيجب دفعًا للشر. وصحح في شرح المهذب في الجمعة أنه لا يجب الرد عليهما ولا يستحب وكذا لا يجوز الرد على الفاسق إذا كان في تركه زجر» اهـ.

   تنبيه ظاهر حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم [في صحيحه] عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا لقيتم اليهود والنصارى فلا تبدءوهم بالسلام» تحريم ابتدائهم بالسلام وهو ما عليه الأكثرون قال الحافظ في «الفتح»: «وقالت طائفة من العلماء: يجوز ابتداؤهم بالسلام، فأخرج الطبري عن ابن عيينة قال: يجوز ابتداء الكافر بالسلام لقوله تعالى ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين﴾ [سورة الممتحنة/8] وقول إبراهيم لأبيه سلام عليك، وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عون بن عبد الله عن محمد بن كعب أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال نرد عليهم ولا نبدؤهم، قال عون: فقلت له فكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأسًا أن نبدأهم قلت: لم؟ قال: لقوله تعالى ﴿فاصفح عنهم وقل سلام﴾ [سورة الزخرف/89]، قال البيهقي بعد أن ساق حديث أبي أمامة إنه كان يسلم على كل من لقيه، فسئل عن ذلك فقال إن الله جعل السلام تحيةً لأمتنا وأمانًا لأهل ذمتنا، هذا رأي أبي أمامة. وحديث أبي هريرة في النهي عن ابتدائهم أولى» اهـ.

   قال الحافظ في الفتح: «وعكس ذلك أبو أمامة فأخرج الطبري بسند جيد عنه أنه كان لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه فقيل له فقال: إنا أمرنا بإفشاء السلام، وكأنه لم يطلع على دليل الخصوص واستثنى ابن مسعود ما إذا احتاج لذلك المسلم لضرورة دينية أو دنيوية كقضاء حق المرافقة، فأخرج الطبري بسند صحيح عن علقمة قال: كنت ردفًا لابن مسعود فصحبنا دهقان فلما انشعبت له الطريق أخذ فيها فأتبعه عبد الله بصره فقال: السلام عليكم فقلت: ألست تكره أن يبدءوا بالسلام قال: نعم، ولكن حق الصحبة أي المرافقة، وبه قال الطبري وحمل عليه سلام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مجلس فيه أخلاط من المسلمين والكفار» اهـ. وقال مالك يجوز بدء الكافر بالسلام مع الكراهة أي إن لم يكن هناك مصلحة شرعية وإلا فلا كراهة.

   تنبيه وقال الحافظ أيضًا [في فتح الباري] قال الحليمي (في مسئلة السلام على الأجنبية): «كان النبي صلى الله عليه وسلم للعصمة مأمونًا من الفتنة فمن وثق من نفسه بالسلامة فليسلم وإلا فالصمت أسلم. وأخرج أبو نعيم في عمل اليوم والليلة من حديث واثلة مرفوعًا «يسلم الرجال على النساء ولا يسلم النساء على الرجال» وسنده واه [ذكره الحافظ في شرح البخاري]، ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفًا عليه وسنده جيد [ذكره الحافظ في شرح البخاري]، وثبت في مسلم حديث أم هانئ: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه» اهـ. ثم قال: «وقال المتولي (وهو من أصحاب الوجوه): إن كان للرجل زوجة أو محرم أو أمة فكالرجل مع الرجل، وإن كانت أجنبيةً نظر إن كانت جميلةً يخاف الافتتان بها لم يشرع السلام لا ابتداءً ولا جوابًا، فلو ابتدأ أحدهما كره للآخر الرد، وإن كانت عجوزًا لا يفتتن بها جاز. انتهى.

   فقد تبين حكم جواز تسليم المرأة الأجنبية على الرجل والعكس وهو خلاف ما قال بعض المتأخرين من الشافعية ممن ليسوا من أصحاب الوجوه بل مبلغهم في المذهب أنهم من النقلة فقط كابن حجر الهيتمي، وهذه الطبقة لا يثبت المذهب بكلامها إنما يثبت المذهب بنص الإمام الشافعي رضي الله عنه ثم بالوجوه التي يستخرجها أصحاب الوجوه كالحليمي والمتولي وقد سقنا عبارتيهما، وأما قول عمرو بن حريث: «لا تسلم النساء على الرجال» فليس فيه التحريم الذي قاله بعض المتأخرين إنما غاية ما فيه الكراهة التنزيهية.

   والأولى في بدء السلام أن يسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير والراكب على الماشي، ومن بلغه أن فلانًا يسلم عليه يقول وعليه السلام، وكذلك إذا كتب إليه شخص رسالةً سلم عليه فيها يقول وعليه السلام. وأما ما يفعله بعض الناس من أنه إذا قيل لأحدهم سلم لي على فلان فيقول الموكل وعليك السلام فهذا غير مشروع [فائدة: لو دخل رجل على مجلس فيه جماعة فقال السلام عليكم جميعًا أو السلام عليكم فردًا فردًا يكفي أن يرد عليه واحد منهم].

   قال المؤلف رحمه الله: وتحرم القبلة للحاج والمعتمر بشهوة ولصائم فرضًا إن خشي الإنزال، وقيل يكره.

   الشرح أن من معاصي اللسان القبلة بشهوة إذا كانت من المحرم بالنسك، وكذلك الصائم صوم فرض إن خشي الإنزال بأن كان من رمضان أو نذرًا أو كفارةً أو نحو ذلك، وقيل يكره بخلاف النفل فإنه يجوز قطعه، ولا يبطل صوم الفرض بها إن لم ينزل.

   ومن معاصيه أيضًا قبلة من لا تحل قبلته كالأجنبية وهي في عرف الفقهاء من سوى محارمه وزوجته وأمته.

   وإنما ذكرت القبلة على أنها من محرمات اللسان لأن اللسان أحيانًا يشارك.