الإثنين ديسمبر 8, 2025

الواجبات القلبية

   قال المؤلف رحمه الله: (فصل) من الواجبات القلبية الإيـمان بالله وبما جاء عن الله والإيـمان برسول الله وبما جاء عن رسول الله.

   الشرح أن مما يجب على المكلفين من أعمال القلوب الإيـمان بالله وهو أصل الواجبات أي الاعتقاد الجازم بوجوده تعالى على ما يليق به وهو إثبات وجوده بلا كيفية ولا كمية ولا مكان، ووجوب هذا لمن بلغته الدعوة مما اتفق عليه بلا خلاف إلا أنه يجب عند أبي حنيفة الإيـمان بالله بأصل الفطرة بحيث لا يعذر أحد في الجهل بالخالق، ولا خلاف بينه وبين غيره فيما سوى ذلك في أنه لا يجب إلا ببلوغ الدعوة، ويقرن بذلك الإيـمان بما جاء به سيدنا محمد عن الله تعالى من الإيـمان به أنه رسول الله والإيـمان بحقية ما جاء به عن الله تعالى.

   قال المؤلف رحمه الله: والإخلاص وهو العمل بالطاعة لله وحده.

   الشرح أن من أعمال القلوب الواجبة الإخلاص وهو إخلاص العمل لله تعالى أي أن لا يقصد بالعمل محمدة الناس والنظر إليه بعين الاحترام والتعظيم والإجلال قال تعالى ﴿فمن كان يرجوا لقآء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا﴾ [سورة الكهف/110]. ففي الآية نهي عن الرياء لأنه الشرك الأصغر. وقد روى الحاكم في المستدرك عن شداد ابن أوس قال: «كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرياء الشرك الأصغر» صححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه فأي عمل من الحسنات يعمله العبد إن نوى به مدح الناس له لا ثواب فيه بل عليه ذنب كبير لأنه يشبه الإشراك بالله أي عبادة غير الله الذي هو الكفر وإنما سمى الرسول الرياء الشرك الأصغر لأنه لا يخرج فاعله من الإسلام بل يغفره الله لمن يشاء ويعاقب من يشاء.

   قال المؤلف رحمه الله: والندم على المعاصي.

   الشرح أن من الواجبات القلبية التوبة من المعاصي إن كانت كبيرةً وإن كانت صغيرةً وهي الندم [الندم معناه استشعار الحزن بالقلب على ما حصل منه من الذنب كأن يقول ليتني لم أفعل ذلك]، ويجب أن يكون الندم لأجل أنه عصى ربه فإنه لو كان ندمه لأجل الفضيحة بين الناس لم يكن ذلك توبةً.

   قال المؤلف رحمه الله: والتوكل على الله.

   الشرح قال الله تعالى ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾ [سورة المجادلة/10] وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في سؤال أصحابه له عن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة ويرزقون فيها بغير حساب في حديث طويل فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال أنا منهم يا رسول الله فقال «أنت منهم» ثم قام رجل ءاخر فقال أنا منهم يا رسول الله فقال «سبقك بها عكاشة». ومعنى الحديث أنهم يتجنبون الكي للتداوي والرقية الفاسدة ويتجنبون الطيرة أي التشاؤم بنحو مرور الطير من اليمين إلى اليسار إذا خرج لحاجته. والتوكل هو الاعتماد فيجب على العبد أن يكون اعتماده على الله لأنه خالق كل شىء من المنافع والمضار وسائر ما يدخل في الوجود، فلا ضار ولا نافع على الحقيقة إلا الله، فإذا اعتقد العبد ذلك ووطن قلبه عليه كان اعتماده على الله في أمور الرزق والسلامة من المضار. وجملة التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والثقة به مع ما قدر للعبد من التسبب، ففي الصحيح [أي صحيح البخاري] من حديث الزبير رضي الله عنه مرفوعًا: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيستغني بها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه».

   وفي صحيح البخاري من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده»، قال: «وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه».

   فائدة معنى حسبي الله ونعم الوكيل الله يكفيني ما أهمني ونعم الوكيل أي ونعم الموكول إليه الأمر.

   قال المؤلف رحمه الله: والمراقبة لله.

   الشرح أن من واجبات القلب المراقبة لله، ومعنى المراقبة استدامة خوف الله تعالى بالقلب بتجنب ما حرمه والغفلة عن أداء ما أوجبه أي تجنب الغفلة عن أداء ما أوجبه. ولذلك يجب على المكلف أول ما يدخل في التكليف أن ينوي ويعزم أن يأتي بكل ما فرض الله عليه من أداء الواجبات واجتناب المحرمات. قال الله تعالى ﴿فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين﴾ [سورة ءال عمران/175] وقال ﴿فلا تخشوا الناس واخشون﴾ [سورة المائدة/44] نهى الله الحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وامضائها على خلاف ما أمروا به من العدل خشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد، وأمرهم بخشيته فلا يخالفوا أوامره.

   وروى البخاري [في صحيحه] من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا».

   قال المؤلف رحمه الله: والرضا عن الله بمعنى التسليم له وترك الاعتراض.

   الشرح أنه يجب على المكلف أن يرضى عن الله أي لا يعترض على الله اعتقادًا ولا لفظًا، باطنًا وظاهرًا في قضائه وقدره، فيرضى عن الله تبارك وتعالى في تقديره الخير والشر والحلو والمر والرضا والحزن والراحة والألم مع التمييز في المقدور والمقضي فإن المقدور والمقضي إما أن يكون مما يحبه الله وإما أن يكون مما يكرهه الله، والمقضي الذي هو محبوب لله على العبد أن يحبه [والمحبة إذا أطلقت على الله ليست بمعنى الانفعال النفسي] والمقضي الذي هو مكروه لله تعالى كالمحرمات فعلى العبد أن يكرهه من غير أن يكره تقدير الله وقضاءه لذلك المقدور. فالمعاصي من جملة مقدورات الله تعالى ومقضياته فيجب على العبد كراهيتها من حيث إن الله تعالى يكرهها ونهى عباده عنها، فليس بين الإيـمان بالقضاء والقدر وبين كراهية بعض المقدورات والمقضيات تناف لأن الذي يجب الرضا به هو القدر الذي هو تقدير الله الذي هو صفته والقضاء الذي هو صفته، وأما الذي يجب كراهيته فما كان من المقدورات والمقضيات محرمًا بحكم الشرع.

   قال المؤلف رحمه الله: وتعظيم شعائر الله.

   الشرح تعظيم شعائر الله معناه عدم الاستهانة بها.

   قال المؤلف رحمه الله: والشكر على نعم الله بمعنى عدم استعمالها في معصية.

   الشرح أن الشكر قسمان شكر واجب وشكر مندوب.

   فالشكر الواجب هو ما على العبد من العمل الذي يدل على تعظيم المنعم الذي أنعم عليه وعلى غيره بترك العصيان لله تبارك وتعالى في ذلك هذا هو الشكر المفروض على العبد، فمن حفظ قلبه وجوارحه وما أنعم الله به عليه من استعمال شىء من ذلك في معصية الله فهو العبد الشاكر، ثم إذا تمكن في ذلك سمي عبدًا شكورًا قال الله تعالى ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾ [سورة سبإ/13] والشكور أقل وجودًا من الشاكر الذي دونه.

   والشكر المندوب هو الثناء على الله تعالى الدال على أنه هو المتفضل على العباد بالنعم التي أنعم بها عليهم مما لا يدخل تحت إحصائنا.

   ويطلق الشكر شرعًا على القيام بالمكافأة لمن أسدى معروفًا من العباد بعضهم لبعض ومن هذا الباب الحديث المشهور: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» [أخرجه الترمذي في سننه] أي أن كمال شكر الله يقتضي شكر الناس، وشكر الناس يكون بالمكافأة والدعاء ونحو ذلك.

   قال المؤلف رحمه الله: والصبر على أداء ما أوجب الله والصبر عما حرم الله تعالى وعلى ما ابتلاك الله به.

   الشرح أن الصبر هو حبس النفس وقهرها على مكروه تتحمله أو لذيذ تفارقه، فالصبر الواجب على المكلف هو أن يصبر على أداء ما أوجب الله من الطاعات، والصبر عما حرم الله أي كف النفس عما حرم الله، والصبر على تحمل ما ابتلاه الله به بمعنى عدم الاعتراض على الله أو الدخول فيما حرمه بسبب المصيبة فإن كثيرًا من الخلق يقعون في المعاصي بتركهم الصبر على المصائب وهم في ذلك على مراتب مختلفة فمنهم من يقع في الردة عند المصيبة، ومنهم من يقع في محاولة جلب المال بطريق محرم كما يحصل لكثير من الناس بسبب الفقر باكتساب المكاسب المحرمة ومحاولة الوصول إلى المال بالكذب ونحوه.

   قال المؤلف رحمه الله: وبغض الشيطان.

   الشرح أنه يجب على المكلفين بغض الشيطان أي كراهيته لأن الله تعالى حذرنا في كتابه منه تحذيرًا بالغًا قال الله تعالى ﴿فاتخذوه عدوا﴾ [سورة فاطر/6] إلى غير ذلك من ءايات عديدة، والشيطان هو الكافر من كفار الجن، وأما مؤمنوهم فهم كمؤمني الإنس فيهم صلحاء وفيهم فساق، ويطلق الشيطان ويراد به إبليس الذي هو جدهم الأعلى.

   قال المؤلف رحمه الله: وبغض المعاصي.

   الشرح أنه يجب كراهية المعاصي من حيث إن الله تبارك وتعالى حرم على المكلفين اقترافها، فيجب كراهية المعاصي وإنكارها بالقلب من نفسه أو من غيره.

   قال المؤلف رحمه الله: ومحبة الله ومحبة كلامه ورسوله والصحابة والآل والصالحين.

   الشرح أنه يجب على المكلف محبة الله [بتعظيمه على ما يليق به] ومحبة كلامه ومحبة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وسائر إخوانه الأنبياء قال الله تعالى ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾ [سورة ءال عمران/31].

   وروى البخاري ومسلم بإسناد صحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» [معناه لا يكون إيـمانه كاملًا، لا يصير من الأولياء، والمراد هنا محبة الميل. الميل نوعان ميل طبيعي وميل سببه استحسان حال الشخص لحسن حاله أو لكثرة ما يسديه من المنفعة كل هذا ميل لكن الأحكام تختلف، الميل الطبيعي هو خلقي في الإنسان، الإنسان له ميل إلى أبيه وأمه وولده والأم كذلك لها ميل إلى ولدها هذا لا يؤاخذ به الإنسان، أما الميل الذي يكون لأجل حال شخص فمنه مذموم ومنه محمود، إن مال إليه لحسن دينه فهذا محمود أما إن مال إليه لموافقة الهوى فهو مذموم كذلك إن كان لأجل موافقته على سيرته الخبيثة أو عقيدته الخبيثة فهذا مذموم، والمحبة كذلك توجد محبة طبيعية هي ميل طبيعي وتوجد محبة معنوية أي لأجل أن هذا الإنسان سيرته حسنة أو لأن له فضلًا في الدين.

   عمر بن الخطاب لما قال للرسول صلى الله عليه وسلم «أنت أحب إلي إلا من نفسي» مراد عمر المحبة الطبيعية، الميل الطبيعي، لا يعني الميل الذي هو محبة لحسن الحال. وعمر قال هذا قبل أن يصل إلى النهاية في محبة رسول الله ثم بعد ذلك تغير حاله فوصل إلى الغاية في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم] ولحديث أنس أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيـمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر[معناه أن يعود من الإسلام إلى الكفر، ويشمل هذا الذي ولد بين أبوين مسلمين والمسلم الذي كان كافرًا ثم دخل في الإسلام]  كما يكره أن توقد له نار فيقذف فيها» رواه البخاري ومسلم ولحديثه في البخاري ومسلم أيضًا قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة فقال «ما أعددت لها» فقال يا رسول الله ما أعددت لها كثير صيام ولا صدقة إلا أني أحب الله ورسوله، قال «أنت مع من أحببت».

   وكما تجب محبة النبي صلى الله عليه وسلم يجب تعظيمه وتبجيله وتوقيره لقوله تعالى ﴿وتعزروه وتوقروه﴾ [سورة الفتح/9] وقوله تعالى ﴿فالذين ءامنوا به وعزروه ونصروه﴾ [سورة الأعراف/157]. والتعزير ههنا التعظيم بلا خلاف. وقوله تعالى ﴿لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا﴾ [سورة النور/63] أي لا تقولوا مخاطبين له في وجهه يا محمد يا أبا القاسم بل يا رسول الله يا نبي الله، وقوله تعالى ﴿لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي﴾ [سورة الحجرات/2].  

   قال بعضهم علامة محبة الله بغض المرء لنفسه – أي عدم الرضى عنها أي أن يتهم نفسه بالتقصير – لأنها مانع له من المحبوب فإذا وافقته نفسه في المحبة أحبها لا لأنها نفسه بل لأنها تحب محبوبه ويترتب على محبة الله تعالى له صيانة جوارحه وحواسه فلا يسمع إلا لله ولا يبصر إلا له ولا يبطش إلا لأجله كما قال عليه الصلاة والسلام «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيـمان» رواه أبو داود [في سننه]، وكما كانت حالة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما انتقم لنفسه في شىء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله رواه البخاري.

   وأما معنى محبة الصحابة فهو تعظيمهم لأنهم أنصار دين الله ولا سيما السابقين الأولين منهم من المهاجرين والأنصار. والمعنى أنه تجب محبتهم من حيث الإجمال وليس المعنى أنه يجب محبة كل فرد منهم.

   وأما الآل فإن أريد بهم مطلق أتباع النبي الأتقياء فتجب محبتهم لأنهم أحباب الله تبارك وتعالى بما لهم من القرب إليه بطاعته الكاملة، وإن أريد به أزواجه وأقرباؤه المؤمنون فوجوب محبتهم لما خصوا به من الفضل.

   وتجب محبة عموم الصالحين من عباد الله. فالصالحون تجب محبتهم من حيث الإجمال، أما الفساق فلا يطلق القول بوجوب محبتهم يحبون لإيـمانهم ويكرهون لفسقهم، وليس معنى قولنا بوجوب محبة الصالحين أنه يجب استحضار محبة كل واحد منهم بالقلب عند ذكره بل يكفي استحضار محبة الصالحين من حيث الإجمال.