الأحد ديسمبر 22, 2024

أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: يَجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي الرِّدَّةِ الْعَوْدُ فَوْرًا إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالإِقْلاعِ عَمَّا وَقَعَتْ بِهِ الرِّدَّةُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ النَّدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ لِمِثْلِهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لِمَنْ وَقَعَ فِي رِدَّةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِ مَا هُوَ سَبَبُ الرِّدَّةِ أَيِ الأَمْرِ الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ الرِّدَّةُ. وَالأَمْرَانِ الأَخِيرَانِ أَيِ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ لَيْسَا شَرْطًا لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى الإِسْلامِ بِشَرْطِ أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ [وَلا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ]، فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى أَنْ يَعُودَ إِلَى ذَلِكَ فَلا تَنْفَعُهُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُفْرٌ فِي الْحَالِ. فَلَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ لا يَعُودُ بَعْدَ هَذَا وَلا نَوَى الرُّجُوعَ إِلَى الْكُفْرِ أَوْ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ وَلا اسْتَحْضَرَ النَّدَمَ إِنَّمَا تَرَكَ ذَلِكَ الشَّىْءَ الَّذِي هُوَ رِدَّةٌ وَتَشَهَّدَ صَحَّ إِسْلامُهُ، لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ شَرْطَانِ وَاجِبَانِ لِلتَّوْبَةِ أَحَدُهُمَا: النَّدَمُ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ لِمْثِلِهِ، هَذَانِ وَاجِبَانِ لَكِنْ لَيْسَا شَرْطًا لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى الإِسْلامِ وَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الإِقْلاعُ عَنْهَا وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهَا.

   فَائِدَةٌ إِذَا رَجَعَ الشَّخْصُ عَنِ الْكُفْرِ لا يُشْتَرَطُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى قَلْبِهِ عِبَارَةَ نَوَيْتُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ عِنْدَمَا يَتَشَهَّدُ إِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ فَتَشَهَّدَ فَهَذَا التَّشَهُّدُ عَلَى وَجْهِ الْخَلاصِ مِنْهُ هُوَ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ فَلا يُشْتَرَطُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي الْقَلْبِ أَيْ عِبَارَةِ نَوَيْتُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهَا لا مَعْنًى لَهُ. وَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ فَوْرًا لِلْخَلاصِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ ازْدَادَ كُفْرًا بِذَلِكَ لِرِضَاهُ لِنَفْسِهِ الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَمِنَ الْكُفْرِ أَيْضًا أَنْ يَتَمَنَّى الشَّخْصُ حِلَّ شَىْءٍ كَانَ مُحَرَّمًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ يَا لَيْتَ أَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا.

   تَنْبِيهٌ إِذَا كَانَ شَخْصٌ يُصَلِّي فَجَاءَهُ كَافِرٌ وَقَالَ لَهُ أُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي يَعْتَقِدُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ قَالَ وَهُوَ يُصَلِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ لِلدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ اكْتَفَى بِذَلِكَ وَإِلَّا يَجِبُ عَلَى الَّذِي يُصَلِّي أَنْ يَقْطَعَ الصَّلاةَ فَوْرًا وَيُلَقِّنَهُ الشَّهَادَتَيْنِ، وَمَنْ قَالَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَرَ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ لَهُ شَخْصٌ: أُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعُ الْخُطْبَةِ [أَيْ إِيقَافُ مَا كَانَ يَقُولُهُ لِيَأْمُرَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلا تَبْطُلُ الْخُطْبَةُ بِذَلِكَ] وَتَلْقِينُهُ الشَّهَادَتَيْنِ فَوْرًا وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ انْتَظِرْ حَتَّى أَنْتَهِيَ مِنَ الْخُطْبَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الرِّضَا لَهُ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. أَمَّا لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِمُسْلِمٍ أُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ فَسَكَتَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ أَثِمَ إِثْمًا كَبِيرًا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ كُفْرِهِ بِالشَّهَادَةِ وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ وَلا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الإِسْلامُ أَوِ الْقَتْلُ بِهِ [أَيْ بِالْكُفْرِ] يُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ، وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ عَلَى اعْتِرَافِهِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ وَلَمْ يُتْبِعْهَا بِالتَّوْبَةِ أَيْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رِدَّتِهِ وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ أَيْ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ، فَيَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أَيِ الْخَلِيفَةِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ لا يَقْبَلُ مِنْهُ الإِمَامُ إِلَّا الإِسْلامَ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَإِلَّا قَتَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] أَيْ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ فَاقْتُلُوهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ، وَمَنْ قَتَلَهُ دُونَ الِاسْتِتَابَةِ فَعَلَيْهِ ذَنْبٌ لَكِنَّهُ لا يُقْتَصُّ مِنْهُ أَيْ لا يُقْتَلُ بِهَذَا الْمُرْتَدِّ. وَقَدْ حَارَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَبَتَ أَنَّهُ قَتَلَ امْرَأَةً ارْتَدَّتْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا لَيْسَ مُتَوَّقِفًا عَلَى الْحَرَابَةِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكُفَّارِ لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ لِلإِسْلامِ بَلْ يَجِبُ الْجِهَادُ لَكِنْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ أَنْ يُسْلِمُوا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَذَاكَ الأَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا تُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ فَإِنْ وَافَقُوا تُرِكُوا وَلا يُقَاتَلُونَ وَإِنْ أَبَوِا الأَمْرَيْنِ قُوتِلُوا، لَكِنْ هَذَا فِي الْكُفَّارِ الأَصْلِيِّينَ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيُطْلَبُ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ رَجَعَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهَذَا بِالإِجْمَاعِ. وَهَذَا الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْكُفَّارِ الأَصْلِيِّينَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ أَمْرَ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ كَالْمَجُوسِ أَمَّا غَيْرُهُمْ فَلا يُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ.

   وَاسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ تَكُونُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى.

   وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُرْتَدِّ بِالرِّدَّةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ هُوَ بِأَنَّهُ قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ أَوْ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ عَدْلانِ. فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لا يُحْكَمُ عَلَى الشَّخْصِ بِالرِّدَّةِ لِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ عَدْلًا، وَكَذَلِكَ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِذَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتَانِ.

   وَكَذَلِكَ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ لِمُجَرَّدِ الشَّكِّ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ أَمْ لا، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا رُؤِيَ يُصَلِّي فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ سَمِعْنَاهُ يَتَشَهَّدُ فِي الصَّلاةِ وَلَوْ فِي دَارِ الإِسْلامِ نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالإِسْلامِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَشَهَّدَ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي فَنَقُولُ إِنَّهُ مَا صَلَّى إِلَّا لِأَنَّهُ قَدْ تَشَهَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِنْ صَلَّى فِي دَارِ الإِسْلامِ وَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الشَّهَادَتَانِ فَلا يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الأَصْلِيُّ فَلا يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ بِمُجَرَّدِ الصَّلاةِ سَوَاءٌ صَلَّى فِي دَارِنَا أَوْ فِي دَارِهِمْ، وَقِيلَ إِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكِمَ بِإِسْلامِهِ كَالْمُرْتَدِّ.

   وَأَمَّا إِذَا سَمِعْنَا مِنْ شَخْصٍ كُفْرًا ثُمَّ تَرَاجَعَ عَنْ كُفْرِهِ وَلَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ الشَّهَادَةَ فَلا نُجْرِي أَحْكَامَ الإِسْلامِ عَلَيْهِ، لَكِنْ إِنْ صَدَّقَ الْقَلْبُ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ كُفْرِهِ وَتَشَهَّدَ أَيِ اعْتَقَدْنَا أَنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَشَهَّدَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَجُوزُ إِنْ مَاتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَ لَهُ وَنَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لا يَجُوزُ لَنَا تَزْوِيْجُهُ بِمُسْلِمَةٍ وَلا تَوْرِيثُهُ مَا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ يَشْهَدْ رَجُلانِ ثِقَتَانِ بِرُجُوعِهِ لِلإِسْلامِ.

   وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدُخُولَ فِي الإِسْلامِ يَكُونُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ [الَّذِي أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ كَالنَّوَوِيِّ فِي «رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ» وَالْبُهُوتِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي «كَشَّافِ الْقِنَاعِ» وَغَيْرِهِمَا.

   فَائِدَةٌ أُخْرَى قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ فِي نُكَتِهِ عَلَى الْكُتُبِ الثَّلاثَةِ التَّنْبِيهِ وَالْحَاوِي وَالْمِنْهَاجِ نَاقِلًا عَنِ التَّنْبِيهِ «فَإِنْ أَقَامَ – يَعْنِي الْمُرْتَدَّ – عَلَى الرِّدَّةِ وَجَبَ قَتْلُهُ»: مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا لَمْ يُلْتَفَتْ لِكَلامِهِ وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَعَلَيْهِ مَشَى الْحَاوِي وَقَالَ بِلا مُنَاظَرَةٍ بَلْ يُسْلِمُ وتُحَلُّ شُبْهَتُهُ، وَحَكَى الرُّويَّانِيُّ عَنِ النَّصِّ [أَيْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ] مُنَاظَرَتَهُ كَذَا فِي الرَّافِعِيِّ، وَعَكْسَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَجَعَلَ الأَصَحَّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ الْمُنَاظَرَةَ، وَالْمَحْكِيَّ عَنِ النَّصِّ عَدَمَهَا، وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ الْمُنَاظَرَةَ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ التَّسْوِيفُ وَالْمُمَاطَلَةُ» اهـ. أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ بِذَلِكَ الِاحْتِيَالَ حَتَّى لا يُعَجَّلَ بِقَتْلِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّسْوِيفَ أَيِ التَّأْخِيرَ أَيْ لا يُرِيدُ الإِسْلامَ بِقَوْلِهِ نَاظِرُونِي حَتَّى تَذْهَبَ عَنِّي الشُّبْهَةُ فَأُسْلِمَ فَلا يُنَاظَرُ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى النُّطْقِ بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ تُحَلُّ شُبْهَتُهُ بَعْدَ أَنْ يَتَشَهَّدَ.

   ثُمَّ نَقَلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنِ التَّنْبِيهِ «فَإِنْ كَانَ [يَعْنِي الْمُرْتَدَّ] حُرًّا لَمْ يَقْتُلْهُ إِلَّا الإِمَامُ» فَقَالَ: «كَذَا نَائِبُهُ فِي ذَلِكَ، نَعَمْ إِنْ قَاتَلَ فِي مَنَعَةٍ [أَيْ فِي عِزّ قَوْمِهِ بِحَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُ] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ قَوْلُهُ «وَإِنْ قَتَلَهُ [أَيْ قَتَلَ الْمُرْتَدَّ الَّذِي لَمْ يُقَاتِلْ فِي مَنَعَةٍ] غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عُزِّرَ» وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يُكَافِئْهُ فَإِنْ قَتَلَهُ مِثْلُهُ – أَيْ فِي الرِّدَّةِ – فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ، قَوْلُهُ: «وَإِنْ قَتَلَهُ إِنْسَانٌ [بِغَيْرِ عِلْمِ الْحَاكِمِ وَإِذْنِهِ] ثُمَّ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ فَفِيهِ قَوْلانِ:

   أَحَدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ.

   وَالثَّانِي لا تَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا الدِّيَةُ» وَالأَظْهَرُ الأَوَّلُ» اهـ.

   ثُمَّ قَالَ: «قَوْلُهُ – يَعْنِي التَّنْبِيهَ – «وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ قَتْلُهُ وَقِيلَ لا يَجُوزُ» وَالأَصَحُّ الأَوَّلُ» اهـ.

   ثُمَّ قَالَ: «قَوْلُ الْمِنْهَاجِ «فَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّ وَتُرِكَ» كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَإِنْ أَسْلَمَا أَيِ الْمُرْتَدُّ وَالْمُرْتَدَّةُ كَمَا فَعَلَ فِي قَوْلِهِ «فَإِنْ أَصَرَّا قُتِلا». قَوْلُ التَّنْبِيهِ «وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ عُزِّرَ» نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ «إِلَّا أَنِّي أَرَى إِذَا فَعَلَ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى أَنْ يُعَزَّرَ». وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لا يُعَزَّرُ بِفِعْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَدْ حَكَى ابْنُ يُونُسَ الإِجْمَاعَ عَلَيْهِ فَلا يُغْتَرَّ بِمَنْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْقُضَاةِ».

«قَوْلُ الْحَاوِي فِي قَاذِفِ النَّبِيِّ «فَلا شَىْءَ إِنْ أَسْلَمَ» قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَرَجَّحَهُ فِي الْوَجِيزِ [أَيِ الْغَزَالِيُّ] وَأَقَرَّهُ فِي التَّعْلِيقَةِ [التَّعْلِيقَةُ لِلْقَاضِي حُسَيْن] قَالَ: حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لا يَجِبُ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ يُقْتَلُ حَدًّا. قَالَ الصَّيْدَلانِيُّ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ [أَيْ إِذَا رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ]. وَلَوْ عَرَّضَ بِالْقَذْفِ فَهُوَ كَالصَّرِيحِ قَالَهُ الإِمَامُ وَغَيْرُهُ» اهـ.

   وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي عَرَّضَ بِقَذْفِ النَّبِيِّ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّرِيحِ يُقْتَلُ حَتْمًا وَلَوْ بَعْدَ إِسْلامِهِ بِلا تَفْصِيلٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَبْطُلُ بِهَا صَوْمُهُ وَتَيَمُّمُهُ وَنِكَاحُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِسْلامِ فِي الْعِدَّةِ وَلا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَغَيْرِهَا.

   الشَّرْحُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ مِنَ الأَحْكَامِ.

   فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الصِّيَامَ وَالتَّيَمُّمَ، أَمَّا الْوُضُوءُ فَلا يَنْتَقِضُ بِالرِّدَّةِ.

   وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَهُ بَطَلَ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ، فَالرِّدَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقْطَعُ النِّكَاحَ وَلا تَحِلُّ لَهُ وَلَوْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ أَوْ عَادَتْ هِيَ إِلَى الإِسْلامِ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ – وَهِيَ ثَلاثَةُ أَطْهَارٍ وَلِلْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا – تَبَيَّنَ عَدَمُ بُطْلانِ النِّكَاحِ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدٍ، وَإِنِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ عَوْدِ الَّذِي ارْتَدَّ مِنْهُمَا إِلَى الإِسْلامِ لا يَعُودُ النِّكَاحُ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.

   وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ لِمُرْتَدٍّ لا عَلَى مُرْتَدَّةٍ مِثْلِهِ وَلا عَلَى مُسْلِمَةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ وَثَنِيَّةٍ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ هَؤُلاءِ الشَّبَابَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَرْتَدُّونَ بِتَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ أَوْ بِإِطْلاقِ الأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ رِدَّةٌ أَوْ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ رِدَّةٌ لا يَصِحُّ لَهُمُ الزِّوَاجُ مَا لَمْ يَتَخَلَّوْا عَنْ رِدَّتِهِمْ وَلا يَكْفِيهِمُ الِانْتِسَابُ اللَّفْظِيُّ إِلَى الإِسْلامِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ وَلا يَرِثُ وَلا يُورَثُ وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلا يُغَسَّلُ وَلا يُكَفَّنُ وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالُهُ فَىْءٌ أَيِ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ تَمَكَّنَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ وَالْيَوْمَ لا يُوجَدُ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ تَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ فَلَوْ ذَبَحَ ذَبِيحَةً فَهِيَ مَيْتَةٌ يَحْرُمُ أَكْلُهَا.

   وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يَرِثُ أَيْ لا يَرِثُ قَرِيبَهُ الْمُسْلِمَ إِذَا مَاتَ بِالإِجْمَاعِ، وَلا يُورَثُ أَيْ لا يَرِثُهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ إِذَا مَاتَ هَذَا الْمُرْتَدُّ.

   وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ، وَلا يُغَسَّلُ أَيْ لا يَجِبُ غَسْلُهُ فَلَوْ غُسِّلَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ، وَلا يُكَفَّنُ فَلَوْ كُفِّنَ لَمْ يَحْرُمْ، وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ فَمَنْ دَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَثِمَ.

   وَمِنْهَا أَنَّ مَالَهُ فَىْءٌ أَيْ أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَىْءٌ يَكُونُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ قَالَ الْفُقَهَاءُ أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَوَلَّى رَجُلٌ صَالِحٌ صَرْفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

   فَائِدَةٌ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ إِنْ حَصَلَ مِنْهُ فِعْلٌ كُفْرِيٌّ أَوِ اعْتِقَادٌ كُفْرِيٌّ أَوْ قَوْلٌ كُفْرِيٌّ ثُمَّ بُيِّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَاعْتَقَدَهُ وَبَلَغَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ مُسْلِمٌ لَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: «رِدَّةُ الصَّبِيِّ لا تَصِحُّ». وَمَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: «رِدَّةُ الصَّبِيِّ لا تَصِحُّ» أَنَّهُ لَوْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ وَمَاتَ – أَيْ وَهُوَ صَبِيٌّ، أَيْ دُونَ الْبُلُوغِ، أَيْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْكُفْرِ – يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُغَسَّلُ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ وَنَحْوِهِ نَهْيُهُ وَأَمْرُهُ بِالشَّهَادَةِ لِيَتَعَوَّدَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا حَصَلَ لَهُ فِيمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.

   وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ إِنْ حَصَلَ مِنْهُ فِعْلٌ كُفْرِيٌّ أَوِ اعْتِقَادٌ كُفْرِيٌّ أَوْ قَوْلٌ كُفْرِيٌّ وَلَمْ يَعْتَقِدِ الصَّوَابَ حَتَّى بَلَغَ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ وَيَلْزَمُهُ التَّشَهُّدُ لِلدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.

   تَنْبِيهٌ الطِّفْلُ الَّذِي هُوَ ابْنُ يَوْمِهِ الَّذِي وُلِدَ مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ نُسَمِّيهِ كَافِرًا وَتَسْمِيَتُهُ كَافِرًا إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَتِهِ فِي الدُّنْيَا فَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا فَلا يُغَسَّلُ وَلا يُكَفَّنُ وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلا يَرِثُهُ أَقَارِبُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالَّذِي يُسَمِّيهِ مُسْلِمًا وَيَعْنِي بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ اعْتَقَدَ التَّوْحِيدَ وَلَمْ يَزَلْ عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ فَلا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْعَقِيدَةِ وَمَنْ سَمَّاهُ كَافِرًا حَقِيقَةً مُتَأَوِّلًا بِأَنَّ بَعْضَ الأَرْوَاحِ مَا اعْتَقَدَتِ التَّوْحِيدَ يَوْمَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فَلا نُكَفِّرُهُ وَأَمَّا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الأَرْوَاحَ كُلَّهَا اعْتَقَدَتِ التَّوْحِيدَ يَوْمَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى حِينِ أَصْبَحَ طِفْلًا فَسَمَّاهُ كَافِرًا وَمُرَادُهُ حَقِيقَةً فَهَذَا يَكْفُرُ.

   وَأَمَّا حَدِيثُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] وَغَيْرُهُ فَمَعْنَى يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ يَكُونُ مُسْتَعِدًّا مُتَهَيِّئًا لِقَبُولِ دِينِ الإِسْلامِ، عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلامِ لِأَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ الَّذِي حَصَلَ يَوْمَ أُخْرِجَتِ الأَرْوَاحُ مِنْ ظَهْرِ ءَادَمَ بِنَعْمَانِ الأَرَاكِ فَإِنَّهُمْ سُئِلُوا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا: بَلَى لا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ، اعْتَرَفُوا كُلُّهُمْ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ. ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي جَسَدِ الْوَلَدِ نَسِيَ هَذَا وَيَبْقَى نَاسِيًا إِلَى أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا الإِسْلامَ فَيَعُودَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يَسْمَعَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا الْكُفْرَ فَيَعْتَقِدَهُ فَيَكُونُ الآنَ كَفَرَ بِالْفِعْلِ. هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَعْرِفُ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ الإِسْلامَ تَفْصِيلًا فَإِنَّهُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ مَنْ بَطْنِ أُمِّهِ لا يَعْلَمُ شَيْئًا وَهُوَ صَرِيحُ الآيَةِ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [سُورَةَ النَّحْل/78].