س47: تكلم على التأويل.
التأويل هو إخراج النص عن ظاهره([1])، وهو جائز في الآيات والأحاديث التي يوهم ظاهرها أن الله له يد جارحة([2]) أو وجه جارحة أو أنه يجلس على العرش أو يسكن في جهة أو أنه يوصف بصفة من صفات الخلق.
……………………………………………………………………………………………
قال تعالى: {وما يعلم تأويله إلا اللـه والراسخون في العلم} [ءال عمران: 7].
الحديث: دعاء النبي ﷺ لابن عباس 7: «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب». ابن ماجه، سنن ابن ماجه، (المقدمة، فضل ابن عباس، 1/58).
[1])) هذا من حيث الإجمال، ويشمل المقبول وغير المقبول. التأويل المقبول: إخراج النص عن ظاهره لمعنى يحتمله بدليل مقبول وليس هوى.
[2])) نقول: لله يد ليس كأيدينا، بمعنى الصفة.
* شرح التأويل في القرءان والحديث:
قال الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللـه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} [ءال عمران: 7].
أخبرنا الله تعالى في هذه الآية أن القرءان فيه ءايات محكمات هن أم الكتاب، أي: أصل الكتاب، وأن فيه ءايات متشابهات ترد لفهمها إلى الآيات المحكمات.
* والآيات المحكمة: هي ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجها واحدا. أو ما عرف بوضوح المعنى المراد منه، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، وقوله: {ولـم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4]، وقوله: {هل تعلم له سميا} [مريم: 65].
* وأما المتشابه: فهو ما لم تتضح دلالته أو يحتمل أوجها عديدة واحتيج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق، أي: لنظر أهل النظر والفهم الذين لهم دراية بالنصوص ومعانيها، ولهم دراية بلغة العرب فلا تخفى عليهم المعاني، إذ ليس لكل إنسان يقرأ القرءان أن يفسره، كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5].
* وقد ذم الله الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، أي: ابتغاء الإيقاع في الأمر المحظور، لأن غرض المشبهة في جدالهم أن يوقعوا السني في اعتقادهم الباطل، والذين في قلوبهم زيغ هم أهل الأهواء كالمعتزلة وغيرهم، وقد حصل في زمن عمر بن الخطاب t أن رجلا يقال له: صبيغ بن عسل، كان يسأل عن المتشابه على وجه يخشى منه الفتنة، فضربه سيدنا عمر t ثم نفاه وأمر أن لا يختلط الناس به. الدارمي، مسند الدارمي، ص131.
* وسمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب، أي: أم القرءان، لأنها الأصل الذي ترد المتشابهات.
* ثم المتشابه قسمان: أحدهما: ما لا يعلمه إلا الله، كوجبة القيامة. والثاني: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] فإن الراسخين فسروه بالقهر، لكن لا يقطع بأن مراد الله بالاستواء على العرش القهر إنما يظن ظنا راجحا.
* فالمذمومون الذين ذمهم الله في القرءان بقوله: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللـه} [ءال عمران: 7] هم الذين يحاولون تحديد وقت قيام الساعة وخروج الدجال، والذين يحاولون تفسير القسم الآخر من المتشابه على وجه فاسد كالتشبيه، فكلا الفريقين مذموم.
* فالتأويل إذا كان على الوجه السائغ شرعا لا يذم فاعله؛ بل يمدح، وقد ذكر علماء الأصول أن التأويل أي إخراج النص عن ظاهره، لا يسوغ إلا لدليل عقلي قاطع أو سمعي ثابت. وقد ثبت بالأدلة النقلية والعقلية أن الله I يستحيل عليه أن يوصف بالاستقرار أو بالجلوس على العرش، فلذلك كان السلف لا يحملون المتشابه على ظاهره، وكانوا يقولون: «أمروها كما جاءت بلا كيف».اهـ. (البيهقي، الأسماء والصفات، ص418) فلو كانوا يحملونها على ظاهرها لقالوا: «بلا تفسير»، لأن تفسير ظاهرها حينئذ معروف ومعلوم، وهو الاستقرار والعلو الحسي، وكلاهما يجب تنزيه الله عنهما، فاكتفوا بالإيمان بها وحملها على معنى يليق بالله I.
* أما المذموم فهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل نقلي أو عقلي؛ بل هو عبث لا يجوز في كلام الله U ولا في كلام نبيه ﷺ، كما قال الرازي في «المحصول»، 4،427، 428.
* وإطلاق الوهابية قولهم: «التأويل تعطيل وزيغ» باطل، كيف وقد ثبت التأويل عن السلف الصالح، ثم إن الوهابية يناقضون أنفسهم، فهذا الذم راجع عليهم، لأنهم يؤولون الآيات التي توهم أن الله في جهة تحت، أما الآيات التي توهم أن الله في جهة فوق فيتركون تأويلها.
* فقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، وقوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] لا بد من تأويلهما وردهما إلى الآيات المحكمات، ولا يجوز ترك التأويل والحمل على الظاهر، لأنه يلزم من ذلك ضرب القرءان بعضه ببعض، وذلك لأن ظاهر قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وقوله: {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] يوهم تحيز الله في جهة فوق، وقوله تعالى: {وللـه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللـه} [البقرة: 115] ظاهره أن الله في أفق الأرض، وقوله تعالى في حق إبراهيم u: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} [الصافات: 99] ظاهره أن الله ساكن فلسطين، لأن إبراهيم u كان متوجها إليها، وهذه الآية ظاهرها أن الله تعالى في جهة تحت.
فإن تركنا هذه الآيات على ظواهرها كان ذلك تناقضا، ولا يجوز وقوع التناقض في القرءان، فوجب ترك الأخذ بظواهر هذه الآيات، والرجوع إلى آية: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11].
* وأما من قال: «جهة فوق تليق بالله وجهة تحت نقص على الله، فلذلك لا نؤول الآيات التي تدل ظواهرها على انه في جهة فوق بل نؤول الآيات التي تدل ظواهرها على أنه في جهة تحت».
فالجواب: أن جهة فوق مسكن الملائكة، وكذلك مدار النجوم والشمس والقمر جهة فوق، وليس هؤلاء أفضل من الأنبياء الذين منشؤهم في جهة تحت وحياتهم في جهة تحت إلى أن يموتوا فيدفنوا فيها، ثم إن الملك والسلطان قد يكونان يسكنان في بطن الوادي، وحراسهما يكونون على الأعالي، فهذا القياس الذي تعتبره الوهابية قياس فاسد لا يلتفت إليه إلا من هو ضعيف العقل فاسد الفهم. فمذهب أهل السنة الأشاعرة والماتريدية هو الصواب السديد الموافق للعقل والنقل.
* وقال أبو نصر القشيري في «التذكرة الشرقية» كما نقل محمد مرتضى الزبيدي في «أتحاف السادة المتقين» (2/108): «فإن قيل: أليس الله يقول: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] فيجب الأخذ بظاهره؟ قلنا: الله يقول أيضا: {وهو معكم أين ما كنتم} [الحديد: 4] ويقول: {ألا إنه بكل شيء محيط} [فصلت: 54] فينبغي أيضا أن نأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكون على العرش وعندنا ومعنا ومحيطا بالعالم محدقا به بالذات في حالة واحدة. والواحد يستحيل أن يكون بذاته في حالة واحدة بكل مكان. قالوا: قوله: {وهو معكم} [الحديد: 4]، يعني: بالعلم، و{بكل شيء محيط} [فصلت: 54] إحاطة العلم، قلنا: وقوله: {على العرش استوى} [طه: 5] حفظ وقهر وأبقى».اهـ.
* يعني: أنهم قد أولوا هذه الآيات ولم يحملوها على ظواهرها، فكيف يعيبون على غيرهم تأويل آية الاستواء بالقهر؟ فما هذا التحكم؟! فأهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى الصفات مع التنزيه عن مشابهة الخلق، أثبتوا لله ما أثبت لنفسه مع تنزيهه تعالى عن أن تكون صفاته من لوازم الجسمية، كالجلوس والانتقال والتحيز في جهة من الجهات والتغير والتطور وسائر أمارات الحدوث، فيؤولون ءايات الصفات وأحاديث الصفات من المتشابه بترك حملها على الظواهر.
فهنا مسلكان، كل منهما صحيح:
الأول: مسلك السلف وهم أهل القرون الثلاثة الأولى، قرن أتباع التابعين وقرن التابعين وقرن الصحابة وهو قرن الرسول ﷺ، هؤلاء يسمون السلف، ومن جاؤوا بعد ذلك يسمون الخلف.
فالغالب على السلف أن يؤولوا الآيات المتشابهة تأويا إجماليا، بالإيمان بها وإمرارها كما جاءت واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته ليست من صفات المخلوقين بلا تعين، كآية {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وحديث النزول، بأن يقولوا: «بلا كيف»، أي: من غير أن يكون بهيئة، ومن غير أن يكون كالجلوس والاستقرار والجوارح والطول والعرض والعمق والمساحة والحركة والسكون والانفعال مما هو صفة حادثة. هذا مسلك السلف، ردوها من حيث الاعتقاد إلى الآيات المحكمة كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وتركوا تعيين معنى معين لها مع نفي تشبيه الله بخلقه.
* وهو كقول أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي في الوصية: «نقر بأن الله على العرش استوى، من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه، وهو الحافظ للعرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوق، ولو كان محتاجا للجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا».اهـ. القاري، منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر، ص 126، 127.
* وهو كقول الإمام مالك بن أنس t فيما رواه البيهقي بإسناد جيد من طريق عبد الله بن وهب قال: «كنا عند مالك، فدخل علينا رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك، فأخذته الرحضاء [العرق من أثر الحمى] ثم رفع رأسه فقال: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كما وصف نفسه، ولا يقال كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة، أخرجوه».اهـ. البيهقي، الأسماء والصفات، ص379.
* وهو كقول الإمام الشافعي t: «ءامنت بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ﷺ».اهـ. الحصني، دفع شبه من شبه وتمرد، ص 86. يعني الشافعي t لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسية الجسمية التي لا تجوز في حق الله تعالى.
* وهو كقول الإمام أحمد بن حنبل t أيضا: «استوى كما أخبر، لا كما يخطر للبشر».اهـ. ذكره الشيخ أحمد الرفاعي في «البرهان المؤيد»، ص 18 .
* والتأويل التفصيلي وإن كان عادة الخلف فقد ثبت أيضا عن غير واحد من أئمة السلف وأكابرهم كابن عباس من الصحابة ومجاهد تلميذ ابن عباس من التابعين، والإمام أحمد ممن جاء بعدهم، وكذلك البخاري وغيره.
* وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن. وأما مجاهد فقد روى الحافظ البيهقي عنه في «الأسماء والصفات» (ص293) في قوله U: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115]، قال: «قبلة الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها».اهـ.
* وأما الإمام أحمد فقد روى البيهقي في «مناقب أحمد» أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى: {وجاء ربك} [الفجر: 22] أنه جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: «وهذا إسناد صحيح لا غبار عليه».اهـ. نقل ذلك ابن كثير في تاريخه «البداية والنهاية» (14/386).
* وهذا دليل على أن الإمام أحمد ما كان يعتقد في المجيء الذي ورد به القرءان والنزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان، كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته. فلو كان الإمام أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال لترك الآية على ظاهرها، وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو إلى سفل كمجيء الملائكة، وما فاه بهذا التأويل. أما ابن تيمية وأتباعه فيثبتون اعتقادا التحيز لله في المكان والجسمية، ويقولون لفظا ما يموهون به على الناس ليظن بهم أنهم منزهون لله عن مشابهة المخلوق، فتارة يقولون: بلا كيف كما قالت الأئمة، وتارة يقولون: على ما يليق بالله، وانظر كلام ابن تيمية في ادعاء أن السلف لا أثبتوا لله الجهة ولا نفوا عنه ذلك. ابن تيمية، الكتاب المسمى منهاج السنة النبوية، 2/322.
* وفي صحيح البخاري (كتاب التفسير، باب تفسير سورة القصص، 4/1787 عند قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88]، قال البخاري: «إلا ملكه». اهـ. ويقال: إلا ما أريد به وجه الله. وفي كتاب المناقب، باب قول الله U: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9]، وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «ضحك الله الليلة» أو «عجب من فعالكما»، قال ابن حجر العسقلاني: «ونسبة الضحك والتعجب إلى الله مجازية، والمراد بهما الرضا بصنيعهما».اهـ. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، 11 / 226.
* وأول البخاري الضحك الوارد في الحديث بالرحمة، نقل ذلك عنه الخطابي، وقال: «وتأويله على معنى الرضا أقرب».اهـ. البيهقي، الأسماء والصفات، ص433.
وأول البخاري في صحيحه (كتاب التفسير، باب تفسير سورة هود، 4/1724 الآية: «{ءاخذ بناصيتها} [هود: 56] بقوله: «أي في ملكه وسلطانه».اهـ. أول الأخذ بناصية الدواب بالتصرف بالملك والسلطان، لأن المعنى الظاهر لا يليق بالله، وهو إمساك نواصي الدواب بالجس واللمس، فالله لا يجس ولا يمس ولا يجس ولا يمس.
* الثاني: مسلك الخلف: وهم يؤولونها تأويلا تفصيليا بتعيين معان لها مما تقتضيه لغة العرب، ولا يحملونها على ظواهرها أيضا كالسلف، فالسلف والخلف متفقان على عدم الحمل على الظاهر، هؤلاء بينوا بقولهم: «بلا كيف»، وأولئك قالوا: «استوى أي قهر» (ومن قال: «استولى» فالمعنى واحد، أي قهر). وكلا الفريقين لا يحمل الاستواء على الظاهر لكن هؤلاء عينوا معنى وهم الخلف، وأولئك لم يعينوا إنما قالوا: «بلا كيف» وهم السلف.
* ولا بأس بسلوك مسلك الخلف، ولا سيما عند الخوف من تزلزل العقيدة، حفظا من التشبيه، مثل قوله تعالى في توبيخ إبليس: {ما منعك أن تسجد لـما خلقت بيدي} [ص: 75]. فيجوز أن يقال: المراد باليدين العناية والحفظ، هذا تأويل تفصيلي ذهب إليه بعض الخلف، فدل قوله تعالى: {بيدي} [ص: 75] على أن ءادم خلق مشرفا مكرما بخلاف إبليس، ولا يجوز أن نحمل كلمة {بيدي} [ص: 75] على معنى الجارحة، فلو كانت له جارحة لكان مثلنا، ولو كان مثلنا لما استطاع أن يخلقنا.
والحكمة من الآيات المتشابهة أن يبتلي الله عباده حتى يكون للذي يحملها على محملها أجر عظيم.
* ورد التأويل عن ابن العربي، فقد نقل الزرقاني في شرحه على الموطأ (1/384) عن أبي بكر بن العربي أنه قال في حديث: «ينزل ربنا»: «النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته؛ بل ذلك عبارة عن ملكه الذي ينزل بأمره ونهيه».اهـ.
وقد بين أبو نصر القشري رحمه الله الشناعة التي تلزم نفاة التأويل، وذلك فيا نقله عنه المحدث الفقيه الحنفي مرتضى الزبيدي في شرحه المسمى «إتحاف السادة المتقن» عن كتاب التذكرة (2/110، 111): «وسر الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه، غير أنهم يدلسون ويقولون: له يد لا كالأيدي، وقدم لا كالأقدام، واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا. فليقل الـمحقق: هذا كلام لا بد من استبيان، قولكم: «نجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه» تناقض إن أجريت على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42] هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر [ومعنى الآية، أي: يكشف يوم القيامة عن شدة شديدة وهول شديد، أي: عن أمر بالغ في الصعوبة، أما المشبهة فيقولون: إن الله يكشف عن ساقه]، وإن لم يمكنك الأخذ بها [أي: إن كنت لا تقول ذلك] فأين الأخذ بالظاهر؟! ألست قد تركت الظاهر وعلمت تقدس الرب تعالى عما يوهم الظاهر؟! فكيف يكون أخذا بالظاهر؟!».اهـ. ثم قال: «وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب، وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد. فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية [أي: من ترك التأويل التفصيلي والإجمالي وتمسك بالظاهر هلك وخرج عن عقيدة المسلمين]، ومن أحاط بطرق من العربية هان عليه مدرك الحقائق. وقد قيل: {وما يعلم تأويله إلا اللـه والراسخون في العلم} [ءال عمران: 7] فكأنه قال: الراسخون في العلم أيضا يعلمونه ويقولون: آمنا به [على قراءة ترك الوقف على لفظ الجلالة: يعلمون، ومع هذا يقولون: { آمنا به كل من عند ربنا} [ءال عمران: 7]، أي: المحكمات من عند الله والمتشابهات من عند الله، فالراسخون يعلمون أيضا معنى المتشابه الذي ليس علمه خاصا بالله]، فإن الإيمان بالشيء إنما يتصور بعد العلم، أما ما لا يعلم فالإيمان به غير متأت، ولهذا قال ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم».اهـ. نقل هذا الأثر عن ابن عباس 5: «أنا من الراسخين في العلم، أنا ممن يعلم تأويله».اهـ. السيوطي، الدر المنثور، 2/152.
* فتبين أن قول من يقول: «إن التأويل غير جائز» خبط وجهل، وهو محجوج بقوله ﷺ لابن عباس 5: «اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب». ابن ماجه، سنن ابن ماجه، (المقدمة، فضل ابن عباس، 1/ 58). فلو كان التأويل غير جائز فهذا يعني أن الرسول ﷺ – على زعم الوهابية – دعا بدعاء غير جائز، ولا شك أن الله استجاب دعاء الرسول ﷺ.
* أنكر ابن تيمية المجاز فقال في كتابه المسمى «الإيمان» (ص 95): «فهذا بتقدير أن يكون في اللغة مجاز، فلا مجاز في القرءان؛ بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف، والخلف فيه على قولين، وليس النزاع فيه لفظيا؛ بل يقال: نفس هذا التقسيم باطل، لا يتميز هذا عن هذا».اهـ.
الجواب: إن المجاز ثابت عن الصحابة، فقد جاء عن ابن عباس 5حيث استند في تفسير بعض الآيات إلى بعض أشعار العرب التي ألفاظها بعيدة من المعنى الأصلي، كتفسيره الساق في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42] بالشدة فقال: «عن شدة من الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، وفيه: [الرجز]
قد سن أصحابك ضرب الأعناق |
| وقامت الحرب بنا على ساق» |
اهـ.
* وقد أسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس 5 بسندين كل منها حسن، وزاد نقلا عن ابن عباس 5: «إذا خفي عليكم شيء من القرءان فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب».اهـ. البيهقي، الأسماء والصفات، ص 325. وهذا هو عين المجاز. وكذا أثبت المجاز عن السلف المحدث اللغوي أبو عبيدة معمر بن المثنى، فقد صنف كتاب «المجاز».
* وليس من شرط المجاز أن يكون كل أئمة السلف عبروا بهذا اللفظ؛ بل العبرة بالمعنى، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير حقيقته بمعنى يقتضي ذلك، فكلمة الساق معناها الأصلي بعيد جدا من المعنى الذي فسر ابن عباس 5 الآية، لكن أساليب لغة العرب لا تأبى ذلك؛ بل توافق، فكثيرا ما ينقلون اللفظ من معناه الأصلي إلى غيره.
وما دفع ابن تيمية إلى إنكار المجاز إلا شدة تعلقه بعقيدة التشبيه، وما إنكاره المجاز إلا محاولة منه لإجراء النصوص المتشابهة على ظاهرها، نسأل الله السلامة.
* لا يخالف تقسيم الآيات إلى محكم ومتشابه قوله تعالى: {كتاب أحكمت ءاياته} [هود: 1] وقوله: {كتابا متشابها} [الزمر: 23]، لأن المراد بإحكامه إتقانه وعدم تطرق النقص والاختلاف إليه، وبتشابهه كونه يشبه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز.