الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديا ومبشرا ونذيرا بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد،
فيا عباد الله أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العظيم.قال الله تعالى: ﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ﴾ سورة التوبة/40.
إخوة الإسلام،
إن الماضي صفحات والتاريخ عبر وعظات وفي صفحات الماضي وعبر التاريخ المجيد السراج الذي يكشف للمستبصر الرؤية ويهديه سواء السبيل. وهجرة الرسول المباركة هي واحدة من تلك العبر والعظات. والأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة من أدق مراحل تاريخها وهي لذلك أحوج ما تكون للاستفادة من دروس الهجرة المباركة وعبرها.
لقد كانت الهجرة إيذانا بأن صولة الباطل مهما عظمت وقوته مهما بلغت فمصيرها إلى الزوال ونهايتها إلى الفشل والبوار وإيذانا بأن الحق لا بد له من يوم يحطم فيه الأغلال وتعلو فيه رايته وترتفع كلمته، وكيف لا والله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالنصر المبين وجعل لهم من الشدة فرجا ومن العسر يسرا ومن الضيق سعة قال تعالى: ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ سورة غافر/51.
الهجرة بداية عهد مجيد:
ولئن كانت الهجرة المباركة حركة نوعية في تاريخ المنطقة ونقطة تحول في حياة الدعوة الإسلامية إلا أنه سبق تلك الهجرة الجسدية هجرة روحية عظيمة تمثلت بقبول المهتدين للدعوة المحمدية ودخولهم في دين الله وثبوتهم فيه على الرغم من الاضطهاد والتنكيل وكافة المحاولات لصرفهم عن دعوة الحق. بعد هذه الهجرة من الضلال إلى الإيمان ومن ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام وبعد هجرة الأرواح التي تسامت عن التعلق بالدنيا وهجرت كل ما ألفت من عادات بغيضة وتقاليد بالية جاءت هجرة الصحابة إلى الحبشة ثم إلى المدينة لتشكل قمة العطاء والاستعداد للتضحية بكل شىء من مال وأهل وأرض في سبيل الله.
وجاءت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من ربه عز وجل لتعلن نهاية عهد الاضطهاد والاستبداد وبداية فجر مشرق وعهد مجيد. ومن هناك من يثرب انبثق نور الدعوة قويا وضاء فبدد الظلم وجاز ما اعترضه من عقبات. وانطلقت كلمة الحق تحملها القوافل والركبان وتبشر بها أصوات الدعاة إلى الصلاة في كل أذان حتى أتم الله على المسلمين النعمة وجاب عنهم كل محنة ودخل الناس في دين الله أفواجا وأذن مؤذن الحق في إباء وعزة : الله أكبر الله أكبر جاء الحق وزهق الباطل.
لماذا كانت الهجـرة؟
لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم هربا من المشركين ولا يأسا من واقع الحال ولم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم حبا في الشهرة والجاه والسلطان فقد ذهب إليه أشراف مكة وسادتها وقالوا له: ” إن كنت تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد ملكا ملكناك إياه” ولكن النبي العظيم أسمى وأشرف من أن يكون مقصوده الدنيا والجاه والسلطان. ولم تكن هجرته التماسا للهدوء وطلبا للراحة فهو يعلم يقينا أنها دعوة حق ورسالة هدى لابد أن يؤديها كما أمره الله وهو لهذا يقول لعمه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكف عن التعرض لقومه وما يعبدون “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله سبحانه وتعالى أو أهلك دونه”.
لقد كانت الهجرة في سبيل الله لإقامة صروح العدل والحق وبناء دولة الإيمان ونشر التوحيد في كافة أرجاء الجزيرة العربية بل في كافة أرجاء المعمورة. لقد كانت الهجرة عملية جمع للقوى المؤمنة بالرسالة السماوية وتوحيد للطاقات التي استطاعت فيما بعد بفضل ربها تحطيم قوى الكفر والإشراك.
قصة هجرة عمر بن الخطــاب:
ولقد كان لهجرة الفاروق الذي فرق بين الحق والباطل قصة شأنها شأن كل قصصه وأخباره العظيمة التي تدل على حبه لدين الله واستبساله في سبيل الله واستعداده للموت في سبيل نصرة الحق. ذلك أنه عندما جاء دور سيدنا عمر بن الخطاب قبل هجرة الرسول بسبعة أيام خرج مهاجرا وخرج معه أربعون من المستضعفين جمعهم عمر في وضح النهار وامتشق سيفه وجاء “دار الندوة” وقال لصناديد قريش بصوت جهير “يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمه أو تترمل امرأته أو ييتم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب” فما تجرأ أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة لأنهم يعلمون أنه ذو بأس وقوة وأنه إذا قال فعل.
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
قال الله تعالى: ﴿ إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ سورة الأنفال/72.
عندما وصل الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم مع صاحبه الصديق أبي بكر إلى يثرب المدينة المنورة خرج المؤمنون من أهلها مرحبين بقدوم النبي الكريم وصاحبه الوفي واستبشروا بقدومهما وقدوم الأصحاب كل خير. لقد جمعهم الإسلام ووحدتهم العقيدة وألف النبي بين قلوبهم حتى صاروا على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع ولا دنيا ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة. مثلهم كمثل البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ومثلهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
لقد كان من المهاجرين من ترك الدار والمال والأهل والولد والمتاع ابتغاء مرضاة الله فماذا قدم الأنصار؟ لقد استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين ومدوا لهم يد المساعدة والعون حتى كان الأنصاري يقسم ماله ومتاعه بينه وبين أخيه المهاجر. فماذا فعلنا نحن مع إخواننا المحتاجين والمهجرين والمعوزين.
الصبر والصمود في وجه الباطل:
إن الدروس المستفادة من الهجرة كثيرة ومن جملتها ضرورة الصبر على الشدائد والبلايا وكافة أنواع الظلم والاستبداد والصمود في وجه الباطل والوقوف إلى جانب الحق في شجاعة وحزم وصرامة وعزم.
اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء ونعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار.
نهنىء المسلمين كافة بحلول السنة الهجرية الجديدة.
هذا وأستغفر الله لي ولكم .