الإثنين ديسمبر 8, 2025

3. قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} [البقرة: 131].

إبراهيم عليه الصلاة والسلام نبي رسول جاء بالإسلام كسائر النبيين والمرسلين الذين قبله وبعده كان مسلمًا من طفولته إلى مماته لم تمر عليه لحظة واحدة كان كافرًا فيها لأن الله عزّ وجلّ عصم الأنبياء من الكفر وكبائر الذنوب وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها فإبراهيم مسلم مؤمن بلا شك ولا ريب ومن شك في إسلامه يكون كفره ومن كفر نبيًّا فهو الكافر. وليس في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} أنه كان كافرًا ثم أسلم حاشاه بل معنى هذه الآية أن الله أمره بالثبات على طاعته والانقياد لأوامره والثبات على ذلك إلى الممات وهذا كقوله تعالى لنبيّنا صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ} فليس معناه أن نبينا لم يكن متقيًا الله تعالى بل هو أتقى خلق الله على الإطلاق ومعناها يا أيها النبي اثبت على تقوى الله وهذا كقوله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] أي اثبتوا على ذلك إلى الممات، والإسلام في لغة العرب يأتي بمعنى الطاعة والانقياد كما في قوله عزّ وجلّ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُون} [آل عمران: 83] أي الكل انقاد لمشيئته وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء منذ صغره ونشأته مسلمًا مؤمنًا عارفًا بربه معتقدًا عقيدة التوحيد منزهًا ربه عن مشابهة المخلوقات ومدركًا أن هذا الأصنام التي يعبدها قومه لا تغني عنهم من الله شيئًا، وأنه لا تضر ولا تنفع لأن الضار النافع على الحقيقة هو الله تعالى وحده. يقول الله تبارك وتعالى في حق إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} [آل عمران: 67]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِين} [الأنبياء: 51] ولقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام مفعم النفس بالإيمان بربه وعارفًا به ممتلأ الثقة بقدرة الله وأن الله تعالى قادر على كل شيء لا يعجزه شيء وكان غير شاك ولا مرتاب بوجود الله سبحانه وتعالى.

فائدة عظيمة النفع تشتد الحاجة إليها

ننقل هذه الفائدة من كتابنا القمر الساري لإيضاح غريب صحيح البخاري: الآية: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} [البقرة: 128].

الشرح: يجب الاعتقاد بأن الأنبياء كلهم على الإسلام لأن الإسلام هو الدين السماوي الحق الذي لا يصح غيره، قال الله تعالى في القرءان الكريم: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلَامَ دِينًا} فيستحيل أن يكون إبراهيم وإسماعيل على غير الإسلام لأن الله عزّ وجلّ قال في القرءان الكريم: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [البقرة: 136] فهذه الآية الكريمة تدل على أن الأنبياء جميعًا دينهم الإسلام ومن نسبهم أو نسب نبيًا منهم لغير الإسلام فقط كفر وأما ما جاء في قوله تعالى إخبارًا عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي ثابتين على الإسلام الذي نحن عليه من الأول مُطِيعَينِ مُخْلِصَيْنِ لك على الوجه الذي تحبه منا وترضاه وهذا يدل على تواضعهما عليهما السلام لربهما وطلب زيادة الترقي في العبادات والطاعات مع الإخلاص والتسليم، وليس معنى هذا أنهما كانا في مرتبة دنيئة أو غير مرضية فهذا لا يليق بعصمة ومنصب الأنبياء فليتنبه لذلك.

قال شارح البخاري القسطلاني: «({رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مخلصين لك منقادين ({وَمِن ذُرِّيَّتِنَا}) أي واجعل بعض ذريتنا ({أُمَّةً}) جماعة ({مُسْلِمَةً لَّكَ}) خاضعة مخلصة». اهـ.

لا دينَ صحيحٌ إلا الإسلامُ

الدينُ الحقُّ عندَ الله الإسلامُ قالَ تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [آل عمران: 85].

الذي يطلبُ دينًا غير الإسلام يدينُ به فلن يقبلَهُ الله منه، فالدينُ الصحيحُ عندَ الله هو الإسلام، وليس معناه أنه لا يُسَمَّى ما سوى الإسلام دينًا بل يُقالُ دينُ اليهود ودينُ المجوس لكنه دينٌ باطلٌ، وقد أمرَ الله تعالى الرسولَ أن يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] أي أنا ما أزالُ على ديني الذي هو حقٌّ وأنتم لكم دينكُم الباطلُ فعليكم أن تتركوهُ.

وقالَ تعالى أيضًا: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإسْلامُ} [آل عمران: 19].

إنّ الدِّينَ الصحيحَ الذي ارتضاهُ الله لعباده من البشر والجن والملائكة الإسلامُ لا غيرُ وما سواهُ من الأديان فهو باطلٌ. وهو الدين الذي كان عليه البشر، ءادم وأولاده ما كانوا يدينون إلا بالإسلام إنما نشأ الكفر بعد ذلك قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] أي كلهم على الإسلام ثم اختلف البشر بقي بعضهم على الإسلام وكفر بعض فدان بغير الإسلام، ثم لما اختلفوا([1]) بعث الله النبيين ليبشروا من أسلم بالجنة وينذروا من كفر بالعذاب في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي كلهم على الإسلام فاختلفوا {فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}.

فكُلُّ الأنبياء مسلمونَ فمن كانَ متَّبعًا لموسى صلى الله عليه وسلم فهو مسلمٌ موسويٌّ، ومن كانَ متَّبعًا لعيسى صلى الله عليه وسلم فهوَ مسلمٌ عيسويٌّ، ويَصحُّ أن يُقالَ لمن اتَّبعَ محمدًا صلى الله عليه وسلم مسلمٌ محمديٌّ.

إنَّ الأنبياءَ جميعَهم دينُهم الإسلامُ فكان ءادمُ على الإسلام وكذلك الأنبياءُ بعده إلى نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كلُّهم يعبدونَ الله ولا يشركون به شيئًا، فمن كان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا كلُّهم يعبدونَ الله ولا يشركون به شيئًا، فمن كان في زمن موسى صلى الله عليه وسلم كانا كلُّهم يعبدونَ الله ولا يشركون به شيئًا، فمن كان في زمن موسى صلى الله عليه وسلم فآمنَ بالله ربًّا وصدّقَ برسالةِ موسى فهو مسلمٌ موسويٌّ أي من أَتباعِ موسى، وكذلكَ الأمر في من كانَ في أيام عيسى فآمنَ بالله وصدَّق بعيسى فهو مسلمٌ عيسويٌّ. ومعنى مسلمٌ محمديٌّ أي مسلمٌ متَّبع محمدًا فيما جاء به من توحيدِ الله وتصديقِ الأنبياءِ والإيمان بوجودِ الملائكة المكْرَمين والإيمان بالكتبِ السماويةِ والإيمان باليومِ الآخرِ الذي يُجازى فيه العبادُ المؤمنون بأعمالهم بإدخالهم الجنةَ والكافرون بإدخالهم جهنم، وأن الجنةَ فيها نعيمٌ محسوسٌ وجهنمَ فيها ءالامٌ محسوسةٌ، وأنه لا خالقَ للأجسامِ ولا لشيء من الحركاتِ والسَّكنات إلا الله. فكلُّ الأنبياء جاءوا بهذا لا يختلفون في هذا إنما تختلفُ الأحكامُ التي أنزلَها الله عليهم وذلك لأن الله تعالى فرض على أنبياءِ بني إسرائيل وأممِهم صلاتين وأنزلَ على بعض الأنبياء خمسين صلاةً، وأوجب فيما أوجبَ على بعض أن يدفعوا ربع أموالهم زكاةً، وأنزلَ على بعضٍ تَحتُّم قتل القاتل، وأنزلَ على ءادمَ تحليلَ زواج الأخِ بأخته التي هي توامةُ أخيهِ الآخر، وكلٌّ يجبُ العملُ به في شريعةِ ذلك النبي، والله تعالى يُغيرُ الأحكامَ التي كانت في شرع نبيّ سبقَهُ وهو العليمُ بمصالح عبادِهِ، والمصالحُ تختلفُ باختلافِ الأزمانِ والأحوالِ.

وكل نبي في زمانهِ يجبُ التقيدُ به في الإيمان والأحكام التي أنزلت عليه فلما جاء سيدنا محمد ءاخرُهم أنزَل الله عليه أحكامًا لم تكن في شرائع من قبله من الأنبياءِ كالصلاةِ في الأماكنِ التي هُيئت للصلاة وغيرها ولم يكن ذلك في شرعِ من قبله من الأنبياءِ بل كان مفروضًا عليهم أن يُصلوا في أماكن مخصوصة هُيئت للصلاة وهي المساجد باللغة العربية ويقال لها بلغتهم صوامع وبيع، وكان لتلك الأماكن عند أولئك اسم غير المسجد وكان أولئك لا تقبل صلاتهم إلا في مساجدهم ولا تصح صلاتهم في بيوتهم ولا في متاجرهم ولا في مزارعهم ولا في البرية والغابة، إلا أن بني إسرائيل المسلمين هدم فرعون مساجدهم فأذن الله لهم أن يصلُّوا في بيوتهم، وأنزل على سيدنا محمد التيمّمَ بالترابِ عند فَقدِ الماءِ أو العجزِ عن استعماله ولم يكن ذلك في شرائع الأنبياء قبله بل كانوا يتوضؤون ويصلّون فإن لم يجدوا ما يتوضؤونَ به توقّفوا عن الصلاةِ حتى يجدوا الماءَ.

قصةٌ غريبةٌ فيها دلالة على أن سيدنا عيسى
عليه السلام أوصى باتّباعِ محمدٍ إذا ظَهَرَ

خَرَج من اليمن أربعة أشخاصٍ قاصدين مكَّة فأدرَكَهم الليلُ في البرية فنزلوا في بعض الليل في أرض فناموا إلا جَعْدَ بن قيس المرادي فسمعَ هاتفًا لا يرى شخصه يقول: [الطويل]

ألا أيها الركبُ المعرّسُ بلّغُوا
محمدًا المبعوثَ منا تحيَّةً
وقولوا له إنّا لدينكَ شِيعةً([2])

 

إذا ما وصلتم للحطيم وزمزَما
تشيّعُه من حيثُ سار ويَمَّما
بذلك أوصانا المسيحُ ابنُ مريما

 فهذا الهاتفُ جنيٌّ مؤمنٌ أدركَ عيسى قبل رفعه إلى السماءِ وءامنَ به وسمِعَ منه وصيته بالإيمان بمحمدٍ إذا ظَهَرَ واتباعه، فلما وصلوا إلى مكةَ سألَ أهلَ مكة عن محمدٍ فاجتمعَ به فآمنَ به وأسلمَ وذلكَ كانَ في أول بعثةِ محمدٍ قبل أن ينتشرَ خبرُهُ في الجزيرةِ العربيةِ، ومعنى المعرّس أي المسافرُ الذي ينزِلُ في ءاخرِ الليل ليستريحَ.

([1]) بعد موت سيدنا إدريس حدث الكفر بين البشر فكان سيدنا نوح أولَ رسول أرسل إلى الكفار كما يأتي.

([2]) رواها الحافظ أبو سعيد النيسابوري في كتابه شرف المصطفى (1/252). وقول الشاعر «إنا لدينك شيعة» أي أنصار وأتباع دينك.