الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}
[الإسراء: 36].

مسألة مهمة في أن المني لا روح ولا حياة فيه

شاع عند بعض الأطباء وفي بعض المدارس والجامعات وبين الجهال فرضيات (hypotheses) ونظريات (theories) تقول إن المني فيه روح ويسمونه «حيوانًا منويًا»، وبعضهم يعتقد أن فيه ديدانًا صغيرةً ثم هذه الديدان تتطور وتصير إنسانًا، وهذا معارض ومخالف لدين الله تعالى ومناقض لما جاء في القرءان والحديث والإجماع، والأصول والحقائق العلمية الصحيحة اليقينية التي في علم الطب وهو – بلا شك – اعتقاد باطل، تسرّب من بعض المفتونين بنظرية دارون الإلحادية، المعروفة بنظرية التطور، أو النشوء والارتقاء.

فيجب الاعتقاد الجازم بأن المني لا حياة فيه ولا روح فيه إنما فيه صفة التموج كما في الزئبق وهذا لا يدل على وجود الحياة فيه، كما أن الشجرة وسائر النباتات فيها صفة النمو وهي جماد لا روح فيها.

  • قال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
  • قال المفسر فخر الدين الرازي المتوفى في سنة 604 للهجرة في كتاب «التفسير الكبير» ما نصه([1]): «اتفقوا على أن قوله: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا} المراد به «وكنتم ترابًا ونطفًا» انتهى كلام الرازي.

ومعروف لكل عاقل أن التراب لا حياة فيه.

  • قال الإمام محمد بن أحمد أبو عبد الله القرطبي المتوفى سنة 671 للهجرة في كتابه «الجامع لأحكام القرءان»([2]) عند قول الله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ما نصه: «قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: «أي كنتم أمواتًا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم أي خلقكم، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ثم يحييكم يوم القيامة»، قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية» انتهى كلام القرطبي.

ولاحظ إلى قولهما: «أي كنتم أمواتًا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم» وكيف يقال عن المعدوم إنه حي أو فيه روح؟ ولاحظ إلى قوله: «فأحياكم» أي بعد أن كنتم أمواتًا، فهذه الآية واضحة صريحة في أن المني لا روح فيه، لأن الله قال: «وكنتم أمواتًا»، وعلى زعم هؤلاء الجهلاء ينبغي أن تكون الآية بزعمهم «وكنتم أحياءً فأحياكم»، وهذا لا يقوله أدنى عاقل.

  • قال المفسر المشهور محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي الغرناطي المتوفى سنة 754 للهجرة في تفسيره «البحر المحيط» ما نصه([3]): «وكنتم أمواتًا نطفًا في أصلاب ءابائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة ثم يحييكم بعد الموت ثم يحاسبكم» انتهى كلام الأندلسي.
  • قال الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11].
  • قال الإمام محمد بن أحمد أبو عبد الله القرطبي المتوفى سنة 671 للهجرة في كتابه «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه([4]): ««أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين» قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتًا في أصلاب أمهاتهم ثم أحياهم ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها في الدنيا ثم أحياهم للبعث والقيامة فهاتان حياتان وموتتان وهو قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}» انتهى كلام القرطبي.
  • وقال القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المتوفى سنة 1069 في كتابه المسمى «حاشية الشهاب المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي» ما نصه([5]): ««قالوا ربنا أمتنا اثنتين» بأن خلقتنا أمواتًا أولًا ثم صيرتنا أمواتًا عند انقضاء آجالنا فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداءً» انتهى كلام القاضي.
  • قال القاضي عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المتوفى سنة 546 للهجرة في كتابه «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» ما نصه([6]): «قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين» فقال ابن عباس وقتادة والضحاك وأبو مالك: أرادوا موته كونهم ماء في الأصلاب ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم الموت ثم أحياهم يوم القيامة، قالوا وهي كالتي في سورة البقرة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} انتهى كلام ابن عطية.
  • ومثل ذلك قال الحافظ جلال الدين عبد الرحمـن بن أبي بكر السيوطي في تفسيره «الدر المنثور في التفسير المأثور وهو مختصر تفسير ترجمان القرءان» فقال ما نصه([7]): «أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال: هي مثل التي في البقرة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم بعد الموت.
  • وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال: كنتم أمواتًا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة فهما ميتتان وحياتان. فهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
  • وأخرج عبد بن حميد عن أبي مالك رضي الله عنه قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله تعالى فأماتهم ثم يحييهم الله تعالى يوم القيامة.
  • وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما حياتان وموتتان» انتهى كلام السيوطي.
  • قال الله تعالى في القرءان الكريم: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95].

قال الله جل شأنه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31].

قال الله عزّ من قائل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19].

قال القاضي عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المتوفى سنة 546 للهجرة في كتابه «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» ما نصه([8]): «قال الله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}، الحي والميت في هذه الآية يستعمل حقيقة ويستعمل مجازًا فالحقيقة المني يخرج منه الإنسان والبيضة يخرج منها الطائر وهذه بعينها ميتة تخرج من حي وما جرى هذا المجرى وبهذا المعنى فسر ابن عباس وابن مسعود» انتهى كلام ابن عطية.

 

 

الدليل من الحديث على أن المني ليس فيه روح ولا حياة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا أو أربعين ليلة ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» الحديث.

وهذا بيان واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن النطفة لا حياة فيها ولا روح وأن الجنين تنفخ فيه الروح بعد هذه المدة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم وقال العلامة الشيخ حسن المدابغي في شرحه لهذا الحديث وهو على حاشية فتح المبين بشرح الأربعين لابن حجر الهيتمي: «لم يختلف أحد في أن نفخ الروح إنما يكون بعد مائة وعشرين يومًا».

تعريف الروح وأن البهائم لها أرواح بنص القرءان والحديث والإجماع

ويجب الإيمان بالروح وهي جسم لطيف لا يعلم حقيقته إلا الله وقد أجرى الله العادة أن تستمر الحياة في أجسام الملائكة والإنس والجن والبهائم ما دامت تلك الأجسام اللطيفة مجتمعة معها، وتفارقها إذا فارقتها تلك الأجسام وهي حادثة ليست قديمة، قال الإمام المجتهد الحافظ محمد بن نصر المروزي: «الروح حادثة بالإجماع»، فمن قال إنها قديمة ليست مخلوقة فقد كفر، وكذلك من قال البهائم لا أرواح لها كما قال بعض المعاصرين المجازفين المتنطعين، وذلك تكذيب للقرءان الكريم وإنكار للعيان، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتُؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» رواه مسلم.

فالحق الذي يجب الثبات عليه أن البهائم لها أرواح ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى البهيمة عند الذبح، ومن خالف فأنكر أن يكون للبهائم أرواح فهو معارض لكتاب الله وسُنَّة نبيّه وإجماع الأمة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» رواه مسلم.

فكن دائمًا أيها العاقل على ذُكرٍ من هذه الأدلة الواضحة الجلية ولا تلتفت إلى قول أصحاب النظريات الكاسدة الفاسدة المخالفة للدين كزعم هؤلاء الذين ذكرناهم إن المني فيه حياة، ويقولون بزعمهم «حيوان منوي»، فالإنسان خلق من ماء وتراب كما أجمعت الأمة على ذلك، ونصّ القرءان عليه، وأكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، وليس من ديدان صغيرة في المني، لأن الله قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وقال: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71] وقال سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].

فالحق أحق أن يتبع ودين الله لا يؤخذ من النظريات الوهمية، فمن أراد السلامة والنجاة في أمر دينه ودنياه وآخرته فعليه بملازمة الحق والثبات عليه وإلا فإن عذاب الله شديد، يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

فنصيحتنا لكل مؤمن غيور على دينه ولكل مؤمنة عفيفة ولكل عاقل أن يحذروا هذه الفتاوى الباطلة المخالفة لدين الله تعالى وأن لا يلتفتوا إلى مصدّريها ولو كان ذلك بألف مؤتمر وبألف مقال أو بألف مقابلة فضائية، ولا بقول ألف طبيب ولا بقول ألف شيخ أو دكتور، وليقف كل عاقل وعاقلة عند قول الله تعالى عزّ وجلّ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصَّافات: 24]، وعند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئًا أأدخل الجنة؟ قال: نعم» ومعنى حرمت الحرام أي اجتنبته، ومعنى أحللت الحلال فعلته معتقدًا حِلَّهُ. وتأملوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن أبي مسعود عقبة ابن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» وهو تهديد ووعيد لمن ترك الحياء الممدوح شرعًا، ومعناه أن عدم الحياء يوجب الاستهتار والانهماك في هتك الأستار كما قاله ابن حجر الهيتمي في كتابه فتح المبين لشرح الأربعين. فمن خلع جلباب الحياء يباشر القبائح ولا يبالي. نسأل الله السلامة من المعاصي والفتن، ما ظهر منها وما بطن والحمد لله رب العالمين.

 

 

([1]) التفسير الكبير (في الجزء الثاني من المجلد الأول ص139).

([2]) الجامع لأحكام القرءان (المجلد الأول ص249).

([3]) البحر المحيط (1/130).

([4]) الجامع لأحكام القرءان (المجلد 15 ص297).

([5]) حاشية الشهاب المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي (8/244).

([6]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (4/549).

([7]) الدر المنثور في التفسير المأثور وهو مختصر تفسير ترجمان القرءان (5/650).

([8]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (4/332).