معناه أن جبريلَ عليه السلام اقتربَ من سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فتدلى إليه فكان ما بينهما من المسافة بمقدار ذراعيَن بل أقرب، وقد تدلَّى جبريلُ عليه السلام إلى محمد ودَنَا منه فَرَحًا به.
وليس الأمرُ كما يفتري بعضُ الناس أن الله تعالى دنا بذاته من محمدٍ فكان بين محمدٍ وبين الله كما بين الحاجِبِ والحاجِبِ أو قدرَ ذراعين، لأن إثباتَ المسافةِ لله تعالى إثباتٌ للمكانِ وهو من صفاتِ الخلق وهو كفر صريح، أما الخالقُ فهو موجودٌ بلا كيف ولا مكان، لا يكون بينه وبين خلقِهِ مسافة.
قال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»([1]): «عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} قالت رضي الله عنها: كان جبريل عليه السلام يأتي محمدًا صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل فأتاه هذه المرة قد ملأ ما بين الخافقين. رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن يوسف. ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة». ويقول([2]): «عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها في قول الله عزّ وجلّ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} فقالت: أنا أول هذه الأمة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: جبريل رأيته بالأفق المبين». ويقول([3]): «قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى في تقدير قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} على ما تأوله عبد الله بن مسعود وعائشة رضي الله عنهما من رؤيته صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام في صورته التي خُلق عليها، والدنو منه عند المقام الذي رُفع إليه وأقيم فيه قوله المعنى في جبريل عليه السلام تدلى من مقامه الذي جُعل له في الأفق الأعلى فاستوى أي وقف وقفة ثم دنا فتدلى أي نزل حتى كان بينه وبين المصعد الذي رُفع إليه محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى في ما يراه الرائي ويقدره». ويقول([4]): «وروت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على أن قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خُلق عليها». ويقول([5]): «قال أبو سليمان: والمكان لا يُضاف إلى الله». اهـ.
قال إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني الشافعي في كتابه «الشامل في أصول الدين»([6]): «ليس في هذه الآية تصريح بذكر الإلـه وإضافة القرب إليه، فلِمَ ادّعيتم أنه سبحانه وتعالى هو المعني بمضمون الآية؟ ولِمَ وصفتم ربَّكم بالحد والمقدار بتوهم منكم وظن؟ ثم نقول: لعله صلى الله عليه وسلم قرب من درجة لم يبلغها إلا أرفع الخلائق وأعلاهم شأنًا. ثم نقول: الدنو يُحمل على القرب والطاعة – القرب المعنوي لأن القرب المكاني والحسي محال على الله تعالى -، وذكر {قَابَ قَوْسَيْنِ} تأكيدًا له. وهو كما حُمل قوله – في الحديث القدسي -: إذا تقرب العبد إليَّ ذراعًا، تقربت منه باعًا، على القرب والطاعة والرأفة. اهـ.
قال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»([7]): «استدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه – أي عن الله – بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء. وإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان». اهـ.
أما ما رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أنكم دَلَّيتُم رجُلا بحبلٍ إلى الأرض السفلى لهبط على الله» رواه الترمذي، هو حديث ضعيف، والحديث الضعيف لا يُحتَج به في العقائد والأحكام ولا حاجة لتأويله، ولكن تأوَّله بعض علماء الحديث على أن علم الله شامل لجميع الأقطار وأنه منزه عن المكان، فالشاهد هو في استدلال العلماء به على نفي المكان عن الله، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «معناه أن علم الله يشمل جميع الأقطار، فالتقدير لهبط على علم الله، والله سبحانه وتعالى تنزه عن الحلول في الأماكن، فالله سبحانه وتعالى كان قبل أن تحدث الأماكن». اهـ، نقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه «المقاصد الحسنة»([8])، وذكره أيضًا الحافظ المحدِّث المؤرخ محمد بن طولون الحنفي([9]) وأقرَّه عليه.
وقال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»([10]): «والذي رُويَ في ءاخر هذا الحديث إشارةٌ إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء – لأن الله لا يوصف بالقرب والبعد بالمسافة – وأنه الظاهر فيصح إدراكه بالأدلة، والباطن فلا يصح إدراكه بالكون في مكان». اهـ.
وكذلك استدل به أبو بكر بن العربي المالكي في شرحه على سنن الترمذي([11]) على أن الله موجود بلا مكان، فقال ما نصه: «والمقصود من الخبر أن نسبة البارئ من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته». اهـ. أي أن الله منزه عن الجهة فلا يسكن فوق العرش كما تقول المجسمة، ولا هو بجهة أسفل، لأن الله تعالى كان قبل الجهات الست، ومن استحال عليه الجهة استحال عليه المكان، فالله تعالى لا يحُل في شيء ولا يشبه شيئًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
ومن الأحاديث الدالة على تنزيه الله عن الجهة ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء».
قال الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في شرحه لسنن النسائي([12]): «قال البدر ابن الصاحب في تذكرته: في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى».
ويدل أيضًا على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متَّى» واللفظ للبخاري.
قال الحافظ المحدِّث الفقيه الحنفي مرتضى الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين» ما نصه([13]): «ذَكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المنَيِّر الإسكندري المالكي في كتابه «المنتقى في شرف المصطفى» لما تكلم على الجهة وقرر نفيها قال: ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى»، فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس (قعر) البحر، ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل ولَمَا نهى عن ذلك. ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لا بالمكان، هكذا نقله السبكي في رسالة الرد على ابن زفيل». اهـ. وابن زفيل هو ابن قيم الجوزية المبتدع تلميذ الفيلسوف المجسم ابن تيمية الذي قال مؤيدًا لعقيدة متأخري الفلاسفة إن الله لم يخلق نوع العالم، وهذا كفرٌ بإجماع المسلمين كما ذكر العلامة الشيخ بدر الدين الزركشي في كتابه «تشنيف المسامع».
وقال المفسّر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه([14]): «قال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى» المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت، وهذا يدل على أن البارئ سبحانه وتعالى ليس في جهة». اهـ.
ومما يدل أيضًا على تنزيهه تعالى عن الجهة، ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كَفَّيْه إلى السماء». اهـ. أي أن النبي جعل باطن كفَّيْه إلى جهة الأرض، وفي ذلك إشارة إلى أن الله عزّ وجلّ ليس متحيِّزًا في جهة العلو كما أنه ليس في جهة السُّفل.
وقد قال الحافظ العراقي في الأمالي: «أجمع السلف والخلف على كفر من أثبت الجهة لله». اهـ.
فتبيّن فساد قول من يقول: «إن الله دنا بذاته من محمد لما كان ليلة المعراج في السماء، أو دنا منه بالحس والمسافة أو بالمكان أو صار بينهما كالحاجب من الحاجب أو كالذراعين، أو أنه وصل إلى مكان ينتهي إليه وجود الله، أو أُزيحت الستارة فدخل ورآه»، وكل ذلك تكذيب لله عزّ وجلّ لأنه نزه نفسه فقال: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ومن شبه الله بشيء من خلقه فقد شتمه وكذّبه، ومن كذّب الله كفر بإجماع الأمة الإسلامية.
([1]) الأسماء والصفات (الطبعة الأولى 1985 دار الكتاب العربي، الجزء الثاني ص179).
([6]) الشامل في أصول الدين (الطبعة الأولى 1999، دار الكتب العلمية صحيفة 329).
([8]) المقاصد الحسنة (رقم 86/ص342).
([9]) الشذرة في الأحاديث المشتهرة (2/72).
([10]) الأسماء والصفات (ص400).
([11]) عارضة الأحوذي (12/184).