الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
[القصص: 56].

إن الله تعالى يهدي من يشاء من عباده إلى طاعته، ويعصمه أي يحفظه عن معاصيه، ويعافيه في دينه ونفسه فضلًا منه تعالى لا لأنه ملزم بذلك، ويضلّ من يشاء من عباده، ويخذله أي يترك حفظه ونصرته ويبتليه في نفسه ودينه عدلًا منه تعالى لا ظلمًا وجورًا، فعلم بذلك بطلان مذهب المعتزلة وهو قولهم: إنه ملزم بما هو الأصلح للعباد. لأن مذهب أهل الحق أهل السُّنَّة والجماعة أن الله له أن يتصرف فيهم كيف يشاء، لأن العالم ملكه وهو المالك الحقيقي له، فله أن يتصرف في مملوكه كيفما يريد. ومن أدلة أهل الحق قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، هذه الآية نزلت في أبي طالب لما مات كافرًا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليه في مرض وفاته، فعرض عليه الإسلام فأبى أن يقول: لا إلٰـه إلا الله، بل قال: إني على ملّة عبد المطلب.

فمعنى الآية: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت الاهتداء له وهو عمّه لأنه كان يحب له أن يهتدي وإن كان لا يحبّ شخصه لكفره، وإنما الله تعالى يهدي من شاء له أن يهتدي وإن كان لا يحبّ شخصه لكفره، وإنما الله تعالى يهدي من شاء في الأزل له أن يهتدي، فالضمير في {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} عائد إلى الله.

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره «جامع البيان في تفسير القرءان»، طبع دار الجيل، المجلد العاشر الجزء20 ص58: «القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} يقول تعالى ذِكرُه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد لا تهدي من أحببت هدايته ولكن الله يهدي من يشاء أن يهديه من خلقه بتوفيقه للإيمان به وبرسوله». اهـ.

وقال المفسر البغوي في تفسيره المسمى «معالم التنزيل»([1]): «قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، أي أحببتَ هدايتَه». اهـ.

فتبيّن أن معنى هذه الآية الكريمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الاهتداء لعمه الكافر بأن يُسلِمَ ويخرُجَ من كُفره، وليس معناها أنه يحبه لكفره بل هو يكرهه لأنه كافر، قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}، فإن كان الله لا يحبُّهم فكيف للرسول أن يحبَّهم، ثم إن عمَّه لما مات على الكفر، النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ عليه بدليل ما سيأتي من الأحاديث، فالحق أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب له الاهتداء وليس كما ادعى بعض الجهلة في هذا العصر من أنه كان يحبه لشخصه أو لمجرد قرابته لكفره، فهذا مستحيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأقلّ الإسلام شهادة ألّا إلٰـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقل الإيمان التصديق القلبي بمعنى الشهادتين.

فالإسلام والإيمان متلازمان فلا يصح كل منهما بدون الآخر، فالنطق بالشهادتين لا يُقبل عند الله دون التصديق بالقلب، والتصديق القلبي لا يقبل عند الله بدون النطق، قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه كما نقل الفقيه ملا علي القاري الحنفي في شرح الفقه الأكبر ما نصه: «فهما كالظهر مع البطن».

وقال النووي في شرح صحيح ما نصه([2]): «من صدّق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهو كافر مخلّد في النار بالإجماع»، وخالف بعضهم وهو قول شاذ مردود لا يُعمَلُ به، وهو مخالف لللإجماع فقال: من صدّق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهو مؤمن عند الله إذا لم يُعرض عليه النطق بالشهادتين فيأبى كأبي طالب فقد عرض عليه الرسول أن يقول لا إلٰـه إلا الله فأبى، رواه البخاري في صحيحه. فلم يختلف اثنان من العلماء في كفر الآبي الممتنع.

وقد روى أبو داود في سننه في كتاب الجنائز والبيهقي في سننه([3]) أن عليًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن عمّك الشيخ الضال قد مات، فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهب فواره»)، وفي رواية: (إن عمّك الشيخ الكافر)، فلذلك لم يختلفوا في كفر الآبي. هذا في غير من ولد في الإسلام فإنه لا يشترط لصحة إيمانه وإسلامه النطق بل يكفي الاعتقاد. وأما الكتاب المنسوب لأحمد بن زيني دحلان: (أسنى المطالب في نجاة أبي طالب) فهذا الكتاب لم يثبت عنه وعلى من أثبته فليأتِ بالمخطوطة.

 

 

([1]) معالم التنزيل (طبع دار المعرفة الطبعة الثالثة 1413هـ الجزء الثالث ص450).

([2]) شرح الصحيح (1/149).

([3]) الجنائز (1/304).