الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[النحل: 106].

مما اتفق عليه أهل الإسلام أنه يجب على كل مسلم مكلف حفظ إسلامه وصونه عما يُفسده ويُبطله ويقطعه وهو الردة والعياذ بالله تعالى، ومن تكلم بكلمة الكفر الصريحة في الكفر وهو يفهم معنى ما يقول، كفر وخرج من الإسلام ولا يُسأل عن نيته وعن قصده، ولا يُشتَرط للوقوع في الكفر أن يكون شارحًا صدره ولا ناويًا الكفر ولا عالمًا بحكم هذه الكلمة أنها تُخرجه من الإسلام، ولا يُشترط أن ينوي الخروج من الإسلام والدخول في دين آخر، ومن جعل ذلك أو شيئًا منه شرطًا للوقوع في الكفر فقد جاء ببهتان عظيم ودين جديد وفتح باب الكفر على مصراعيه للناس، وكأنه يقول (يا أيها الناس قولوا ما شئتم من الكفر ثم قولوا «ما نوينا»، «ما قصدنا») وهذا لا يقوله مؤمن.

قال الشيخ المحدث الحافظ عبد الله الهرري رحمة الله رحمة واسعة، في كتابه «التعاون على النهي عن المنكر»([1]):

الحذر الحذر من كتاب سيد سابق المسمى «فقه السُّنَّة» لما يحتوي عليه من عدم تكفير من كفر إلا إذا قصد الانتقال إلى دين ءاخر غير الإسلام، فهؤلاء أهلكهم الوهم فظنوا بأنفسهم أنهم صاروا أئمة مجتهدين لا يرون التقيد بالأئمة المجتهدين.

ومما يؤيد ردنا أن أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما بعثهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وكان أحدهما يعمل في الأراضي المنخفضة والآخر في الأراضي العالية وكانا يجتمعان كل مدة للتشاور وحصل مرة أن أبا موسى قيَّد رجلًا أسلم ثم ارتد فجاء معاذ بن جبل فرأى الرجل وكان راكبًا بغلة فقال: ما هذا؟ قيل له: هذا رجل أسلم ثم ارتد، فقيل له: انزل فقال: لا أنزل حتى يُقتل فقُتِل فنزل عن دابته. ووجه الدليل أنه لم يقل هل سألتموه أكان قاصدًا الانتقال من الإسلام الذي كان عليه إلى دين ءاخر بدل دين الإسلام أم لا. وهذا الحديث رواه البخاري وغيره.

 

هذا دين الله خلاف ما قاله الشوكاني في «السيل الجرار على حدائق الأزهار» محرفًا كلام صاحب متن حدائق الأزهار الذي قال([2]): «أو لفظ كفري وإن لم يعتقد معناه إلا حاكيًا أو مكرهًا»، وسيد سابق والهضيبي والألباني كما في كتابه المسمى «الانتصار لأهل التوحيد والرد على من جادل عن الطواغيت»([3]) ورجل ءاخر يسمى حسن قاطرجي البيروتي داعٍ من دعاة الوهابية يعتمدون عليه لنشر دعوتهم حتى قيل إنهم أجروا له خمسة ءالاف دولار كلَّ شهر يقبضها من السفارة ونص عبارته: «أما الكفر لا يوجّه إلا لمن اختار الكفر دينًا وارتضى غير دين الله سبحانه وتعالى». قال ذلك في جامع النور في صيدا. وقال ذلك في مجلة الهداية([4]) من العدد الواحد والعشرين. وقوله هذا زاعمًا أنه كلام السبكي مردود لأنّ ما قاله يخالف ما جرى عليه العمل عند الحكام وذلك لأن حكام المسلمين إذا أُتي إليهم بالشخص الذي نطق بالكفر لا يقولون له هل أردت لمّا قلت هذا الكلام الخروج من دين الإسلام والانتقال إلى غيره.

هذا عمل حكام المسلمين سلفًا وخلفًا، فما خالف فهو مردود إنما كانوا يعتمدون لإجراء حكم المرتد على أمرين إما باعترافه وإما بقيام بيّنة أي شاهدين بأنه نطق بهذه الكلمة، ثم إن المالكية زادوا تأكيدًا فقالوا: فإن ادعى أنه سبقُ لسان ليس بإرادة منه لا يأخذ القاضي بكلامه بل لزمه الرجوع بالنطق بالشهادة وإلا أجرى عليه حكم المرتد.

ومما ينقض أيضًا ما أتى به هؤلاء الثلاثة الذين هم ليسوا فقهاء ولا محدثين ما قاله الحافظ الكبير أبو عُوانة الذي عمل مستخرجًا على البخاري وكان معاصرًا للبخاري قال في ما نقله الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ما نصه([5]): «وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام». اهـ.

وصنيع هؤلاء السبعة الذين قالوا مثل هذه المقالة سيد سابق وحسن الهضيبي وحسن قاطرجي والدكتور محمد علوي والدكتور عمر كامل ومأمون حموش وهو من رؤوس الوهابية مخالف لما اتفق عليه الفقهاء من تقسيم الكفر إلى ثلاثة أنواع: كفر قولي وكفر فعلي وكفر اعتقادي، على أن كل واحد كفر بمفرده فخالف كلامُ هؤلاء ذلك فإنهم جعلوا الكفر القولي يُشتَرَطُ أن يكون معه الاعتقاد وقصد الخروج من الإسلام إلى دين ءاخر، وهذا أمر انفرد به هؤلاء السبعة مخالفين بكلامهم علماء الإسلام الذين سبقوهم من السلف والخلف. ثم هؤلاء ليس فيهم أحد وصل إلى حد المفتي ولا إلى نصفه ولا إلى عشره لأن المفتي شرطه أن يكون حافظًا لأغلب مسائل المذهب الذي ينتسب إليه.

ومما ينقض ما أتى به هؤلاء الذين هم ليسوا فقهاء ولا محدثين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا» وفي رواية: «لا يلقي لها بالاً» وفي رواية أخرى: «ما يتبيّن فيها»، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها أبعد مما بين المشرق والمغرب»، فلم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا أن يكون الشخص ناويًا ومعتقدَا وقاصدًا الانتقال من الإسلام إلى غيره، ومع ذلك قال بأنه ينزل بهذه الكلمة إلى قعر جهنم، ولا يصل إلى قعر جهنّم إلا الكفار. فقوله صلى الله عليه وسلم: «يهوي بها في النار سبعين خريفًا» دليل على أن الإنسان قد يعتقد اعتقادًا أو يفعل فعلًا أو يقول قولًا هو كفرٌ ولا يرى بذلك بأسًا أي لا يرى فيه معصية وهو في الحقيقة كفرٌ فيكون في جهنم في مكان لا يكون فيه عصاة المسلمين بل الكفار، لأن المسلم العاصي لا يصل إلى ذلك الحد. فما أبعد كلام هؤلاء من هذا الحديث.

وقال البدر الرشيد الحنفي في رسالة له في بيان الألفاظ الكفرية: «من كفر بلسانه طائعًا – أي غير مكره – وقلبه مطمئن بالإيمان إنه كافر ولا ينفعه ما في قلبه ولا يكون عند الله مؤمنًا لأن الكافر إنما يُعرف من المؤمن بما ينطق به فإن نطق بالكفر كان كافرًا عندنا وعند الله». وقال: «من تكلم بكلمة توجب الكفر وأضحك به غيره كفِّر». اهـ.

ولم يشترط أحد من علماء المسلمين اعتقادَ معنى لفظ الكفر في غير المكره.

والإمام المجتهد المطلق محمد بن جرير الطبري في «تهذيب الآثار» يقول: «فيه الرد على من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالمًا فإنه مبطل لقوله في الحديث: يقولون الحق ويقرؤون القرءان ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين، وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوا من ءاي القرآن على غير المراد منه» فنسف افتراءات سيد سابق والشوكاني وحموش وحسن الهضيبي وحسن قاطرجي ومعهم محمد بن علوي المالكي المكي وعمر عبد الله كامل حيث قال في كتابه «التحذير من المجازفة بالتكفير»([6]): «فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر. ولا اعتبار بلفظٍ يتلفظ به المسلم يدل على الكفر ولا يعتقد معناه». وقال([7]) والعياذ بالله: «وإذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة فكيف يحرر اعتقاد غيره من عبارته فما بقي الحكم بالتكفير إلا لمن صرح بالكفر واختاره دينًا وجحد الشهادتين وخرج عن دين الإسلام وهذا نادر وقوعه فالأدب الوقوف عن تكفير أهل الأهواء والبدع». اهـ.

قاعدة جليلة: قال الفقهاء من تلفظ بكلام كفر أو فعل فعلاً كفريًّا وجهل أن ما حصل منه كفر لا يُعذر بل يُحكم بكفره قاله القاضي عياض المالكي والشيخ ابن حجر الهيتمي الشافعي وكذلك عدد من فقهاء الحنفية. ومن المتفق عليه أن القول الكفري كفر بمفرده ولو لم ينضم إليه اعتقاد ذلك الكفر بالقلب ولا عمل بالبدن، وكذلك الكفر الفعلي كفرٌ وردة من فاعله لو لم يقترن به قول أو اعتقاد، وكذلك الكفر الاعتقادي كفر بمفرده من غير أن ينضم إليه قولٌ باللسان أو فعل وهذا مجمع عليه عند الفقهاء. وقد اشتهر في كتب الفقه تقسيم الكفر إلى ثلاثة قول أو فعل أو اعتقاد.

وكلام من مر ذكرهم فيه تهوين أمر الكفر للجهال لأن من اطلع على كلام هؤلاء يرى أنه لا بأس إذا تكلم الشخص بكلمات الكفر بجميع أنواعها فيقول: «أنا أقول هذه الكلمات ولا أقصد الخروج من الإسلام فلا أكفر»، فعلى قول هؤلاء إذا قال إنسان كفرًا أو فعل كفرًا فأُتي به إلى حكام الشريعة لا يجرى عليه أحكام الردة حتى يقال له: «هل كنت قاصدًا الخروج من الإسلام واخترت دينًا غير الإسلام» وهذا لم يُنقل عن حكام المسلمين في أثناء التاريخ الإسلامي من الخلفاء وغيرهم، وقتل المرتد حكم ديني أنزل على محمد كما نزل على موسى عليهما السلام فإن موسى قَتَل المرتدين الذين ارتدوا إلى عبادة العجل في غيبته إلى الطور وكانوا سبعين ألفًا، وشرائع الأنبياء لا ترد بالرأي وهي حقٌّ في حياتهم وبعد مماتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وهذا الإمام المجتهد الأوزاعي ناظر غيلان الدمشقي في أول القرن الثاني من الهجرة لكونه قدريًّا فقطعه بالحجة ثم قال للخليفة هشام بن عبد الملك: «كافرٌ ورب الكعبة يا أمير المؤمنين». فقطع يديه ورجليه وعلقه بباب دمشق ولم يُذكر عن الأوزاعي ولا هشام أنهما سألا غيلان «هل قلت هذا الكلام وأنت قاصد الخروج من الإسلام واستبدال دينٍ غيره عنه»، فليراجع تاريخ دمشق الجزء الثامن والأربعون من ترجمة غيلان أبي مروان، وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق أنه كان من موالي سيدنا عثمان وكان يقص في المسجد النبوي.

انتهى كلام الحافظ المحدث الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله.

([1]) التعاون على النهي عن المنكر (طبع شركة دار المشاريع للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1425هـ من ص90 إلى ص99).

([2]) السيل الجرار على حدائق الأزهار في (4/578).

([3]) الانتصار لأهل التوحيد والرد على من جادل عن الطواغيت (ص114 – 116).

([4]) مجلة الهداية (ص10).

([5]) فتح الباري (12/301، 302).

([6]) التحذير من المجازفة بالتكفير (ص11، 12).

([7]) التحذير من المجازفة بالتكفير (ص52 – 53).