الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد،
قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُون} [المائدة: 78، 79]. وقال الله تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون} [آل عمران: 187]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون} [البقرة: 159].
هذه الآيات الكريمات المباركات هي الباعث والمحرك لنا على كتابة هذه الرسالة، تحذيرًا من التفسيرات المخالفة للكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، كي لا نكون داخلين بعدم تحذيرنا، وسكوتنا من التفسيرات الـمُستَحدَثة الـمُحَرّفِة لكتاب الله ودينه تحت هذا الوعيد والتهديد الشديد الذي أشارت إليه هذه الآيات، وكي لا نكون من الشياطين الخُرس كما قال العالم الولي الصالح أبو علي الدقاق: «الساكت عن الحق شيطان أخرس». نقله عنه عبد الكريم القشيري في الرسالة القشيرية([1])، وقيامًا منا بالواجب الشرعي المؤكد علينا وحِفظًا لدين الله وتحذيرًا للأمة مما يضرُّها في دينها والله يقول الحق ويهدي للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
الحمد لله الأول بلا بداية، والآخر بال نهاية، الظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، وأصلي وأسلم على من بعثه الله رحمة للعالمين. فنشر الله به الخيرات، وبدد الظلمات. وأصلي وأسلم على ءاله وأصحابه أفنان الدوحة النبوية أولي السابقة والأولية وسلم يا ربِ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله تعالى حفظ كتابه العزيز (القرءان الكريم). من أي تحريف قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9]. فقد امتدت إيادي الإثم غير مرة في التاريخ للنيل من كتاب الله تعالى إلا أنهم بفضل الله تعالى أُنكسوا وأُركسوا ولما عجزوا عن نيل مرامهم عمدوا إلى تحريف التفسير فكان الخلاف مع أهل الأهواء على تأويله لا على تنزيله فكُتب في التفسير القناطير المقنطرة من المؤلفات الفاسدة التي تعج بالبضاعة الكاسدة وعليها انعقت الشهرة بين الكثير من العامة والخاصة وهي ما كان يعرف (بالإسرائيليات). ولكن في العصور المتأخرة زاد البلاء وعمت اللأواء وراح يفسر القرءان من ليس في العير ولا في النفير وراحوا يخضعون القرءان للنظريات المسماة بالعلمية وصاروا يخبطون خبط عشواء وكل ذلك من أجل أن يقولوا إن القرءان يوافق النظريات المعاصرة. والبعض من أجل أن يقال عنهم أنهم أتوا بشيء لم يأتِ به الأوائل ومنهم من أجل إخراج الدين عن جادة الحق والمسار الصحيح حتى إن البعض صرح أنه (كيف نأخذ بتفسير ابن عباس ومجاهد وابن سيرين لعصر الذَّرة والصعود إلى القمر والتطور العلمي). فخاضوا في لجج الأوهام بغير حجة ولا كتاب منير فتلاطمت أفهامهم وتضاربت أقوالهم إلا أنه خفى على هؤلاء وأمثالهم أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحججه كما قال سيدنا علي بن أبي طالب لكميل بن زياد. فهؤلاء وإن كانوا أخفياء لا نصيب لهم من الشهرة كما لأبواق السوء لكنهم قائمون على ثغر من ثغور الإسلام يجاهدون ويناضلون بالكلمة بالحكمة والموعظة الحسنة ومهما طال الليل فلا بد وإن الفجر ءات وإن أشد مراحل الظلام تلك الهُنَيهات التي قبيل الفجر ومن هنا فقد انتهض الشريف الشيخ جميل علي الحسيني تلميذ الإمام المحدث الشيخ عبد الله الهرري انتضل لنصرة دين الله تعالى بالمقال والفعال يطوف بالأرض بلسانه ويراعه وهو صاحب همة عالية في هذا المضمار وقدم لنا هذا السّفر الذي بين أيدينا ليكون نورًا للأمة وذخرًا له يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فأوفى بالغرض وجمع أباطيلهم وأضاليلهم ورد بحزم وجزم بالبراهين والبينات فجزاه الله خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على أفضل المرسلين وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وكتب الشيخ أسامة محمد السيد
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِير} [الحج: 8]، وقال عزّ وجل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء: 36].
القرءان الكريم كلام الله تعالى الـمُنزَل على خاتم أنبيائه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان جبريل يعلّم النبي صلى الله عليهما وسلم قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]، وكان الصحابةُ يَرجِعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرهم لكتاب الله قال الله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [النحل: 44]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 169]، وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قال في القرءان برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار». وقال أبو بكر الصّدِّيق رضي الله عنه: «أيُّ سماءٍ تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن قلتُ في كتابِ الله ما لا أعلم». رواه الحافظ السيوطي في «تاريخ الخلفاء». وقال سيدنا علي رضي الله عنه: «ما أبردَها على كبدي أن أقولَ لا أدري حين لا أدري». رواه الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني.
لذا اشترط العلماءُ على من يُفَسِّر كتاب الله عز وجل ويتصدَّى لهذا المقام الجليل أن يكون مُلِمًّا بأمور تعُينه على ذلك منها:
العلم بالإجماع: كي لا يخرق الإجماع في تفسيره.
العلم بأصول الدين: وهو علم التوحيد، ويُعرف به ما يجب لله تعالى، وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه، وما يجب للأنبياء وما يستحيل عليهم.
ويشترط العلم بآيات الأحكام وأحاديث الأحكام كي لا يخالفها.
العلم باللغة: قال مجاهد: «لا يحِلُّ لأحدٍ يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله، إذا لم يكن عارفًا بلغات العرب». وقال الإمام مالك: «لا أوتَى برجلٍ غير عالم بلغة العرب يُفَسِّرُ كتابَ اللهِ إلا جعلتُه نكال». رواه البيهقي عن مالك كما في الإتقان([2]).
العلم بالنحو: من لم يعرف النحو قد يقع في أخطاء فاحشة.
العلم بالتصريف: فبه تعرف أبنية الكلمات، والصيغ، وألوان التصاريف.
العلم بالاشتقاق: لأن السم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما.
العلم بعلوم المعاني والبيان والبديع: وهو علم البلاغة المشهور.
العلم بالقراءات: فيها تعرف مخارج الحروف والأصوات وكيفية النطق بها.
العلم بأصول الفقه: فيه تُعرف فيه وجوه الاستدلال، وطريقة استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة.
العلم الفقه: فيه تُعرف فيه الأحكام الشرعية (في العبادات والمعاملات ونحوها) في ذلك ومذاهب الفقهاء.
العلم بأسباب النزول: فيها يُعرف فيه المعنى المراد من الآية كما أنه يُزيل الإشكال عن بعضها، وبعلم القصص يُعلم ما هو من الإسرائيليات التي دُسَّت في التفسير وما ليس منه وما هو حق وما هو باطل.
العلم بالناسخ والمنسوخ: وهو مهم للمفسر وإلا وقع في خطأ كبير.
العلم بالحديث والسنن: والآثار المبيّنة لتفصيل المجمَل، وتوضيح المبهم وتخصيص العام وتقييد المطلق، ونحو ذلك من وجوه بيان السُّنَّة للقرءان.
فمَن فسَّر القرءان بعيدًا عن هذه العلوم كان مُفَسّرًا بالرأي المنهي عنه، وكان مستحقًا للوعيدِ الوارد في حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرءان برأيه فقد ضل»، وفي حديث «من قال في القرءان برأيه فأصهب فقد أخطأ»، ومعنى «فأصاب» أي صادف كلامُه الواقع. ومعنى «فقد أخطأ» أي عصى الله معصية كبيرة فيكون فاسقًا مستحقًا لعذاب الله في جهنم لأنه تجرَّأ على كتاب الله بغير علم وهذا من جملة الفتوى بالرأي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أفتى بغير علم لعنَته ملائكةُ السماءِ والأرض» رواهُ ابنُ عَسَاكرِ.
إن الذي يتجرَّأ على تفسير كتابِ اللهِ برأيه وجهله قد يقعُ في الكفرِ ويخرجُ من الإسلام فإن سَلِمَ من الكفرِ لا يَسلَمُ من الكبيرة ومن القسم الأول كالذي يُفسّرُ قول الله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَـٰـواتِ وَالْأَرْضِ} بأنه تعالى ضوء عَمَّ السموات والأرض أو أنه نورٌ منتشرٌ في الأرجاء وهذا تكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ}، ويَكفرُ أيضًا الذي يُفَسِّرُ قوله تعالى: {الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} بالجلوس أو الاستقرار أو المحاذاة، بل معنى الآية الأولى {اللهُ نُورُ السَّمـٰـواتِ والْأَرْضِ} الله هادي المؤمنين لنور الإيمان، وستجدُه مفصَّلًا موسَّعًا في محله. ومعنى الآية الأخرى {الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} قهر العرش وكل العالم قال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [الرعد: 16]، وهذا أيضًا تجدُه مُبيَّنًا شافيًا في محلِّه. فعِلمُ الدين وتفسيرُ القرءان لا يؤخَذان من الفضائيات والصُّحُفِ والإذاعات بل يؤخَذُان من أهلِ العِلم بالتَّلقِّي مُشافهةً كما قال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقه»([3]): «إنما يؤخَذُ العِلمُ من أفواهِ العلماء».
فالحذر الحذر من أدعياء العلم الذين استسهلوا الفتوى بغير علم واستسهلوا تفسير القرءان بآرائهم فهؤلاء هالكِون، ومن أخذ بآرائهم وتفسيراتهم الباطلة هو هالك أيضًا ولا عذر له، بدليل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد «إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعًا من العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا فاستُفتوا فأفتَوا بغير علم فضَلُّوا وأضَلُّوا» فليُلاحظ قوله صلى الله عليه وسلم: «فضَلُّوا وأضَلُّوا» أي هم ومن تبعهم، ويؤكد هذا المعنى أيضًا ما رواه البخاري قال صلى الله عليه وسلم: «أناسٌ من جِلدتنا يتكلمون بألسنتنا تعرف منهم وتُنكر دعاةٌ على أبواب جهنم من استجاب لهم قذفوه فيها».