قال المؤلف رحمه الله: [والإيمانُ هو التصديقُ بما جاءَ بهِ النبي من عندِ الله والإقرارُ بهِ].
(الشرحُ): أنَّ الإيمانَ في الشرع هو التصديق بالقلب بما جاء به النبيُّ مِن عند الله تعالى والإقرارُ به باللسان أيْ أنَّ الإيمان يشمل كلا الأمرين فيُعلم من ذلك أنه إذا انتفَى التصديقُ بالقلب انتفى الإيمانُ ولو نطقَ بلسانه فهو عند الله كافر ولو كان عندنا بحسب الظاهر مؤمنًا مسلمًا.
وهذا الجمعُ بين التصديقِ والنُّطقِ هو بالنسبة لمن كان كافرًا فأراد الدخول في الإسلام فهو الذي لا يصح له الإيمان إلا بالأمرين التصديقِ بالقلبِ والإقرارِ باللسان فالإقرارُ عندئذٍ أمرٌ لا يَحتمل السقوطَ إلا في المعذورِ كالعاجزِ عن النطق فلا يُشترط النطقُ في حقه وأمَّا الصَّبِيُّ المحكومُ له بالإسلامِ بالتبعيةِ لوالده فلا يُشترطُ النُّطقُ في حقِّهِ عند البلوغِ ليُحكَمَ له بالإسلامِ بل يكفِي انتفاءُ وقوعِ الكفرِ منه.
ثم الشرطُ ليكونَ الإقرارُ نافعًا أنْ لا يَقترنَ به ما هو تكذيبٌ للدِّين فلوِ اقترن بهذا التصديق والإقرار ما يُوجِبُ الكفرَ لكونه تكذيبًا للدين فهو غير مؤمن ولا مسلم ولو كان قلبُهُ مطمئنًا بالاعترافِ بوحدانيةِ الله تعالى وكونِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولَ الله.
ثُمَّ مَنْ كانَ على الإيمان والإسلام إذا وقع في كفرٍ فِعْلِيٍّ أو قولٍ كفرِيٍّ كأنْ رَمَى المصحف في القاذورات أو سجد لصنم كفرَ بذلك وخرج من الإيمان والإسلام ولو كان قلبه مطمئنًا بالإيمان كالذي يسبُّ اللهَ أو يسبُّ رسولَهُ وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان فإنه يكفرُ بذلك، وهذا هو الحقُّ الذي لا خلاف فيه بين أهل السُّنَّةِ فليُحذر من بعض الكُتَّاب العصريين فإنهم قالوا لا يخرج الإنسانُ مِن الإسلام بنُطقه بكلمات الردة إلا أن يكون شارحًا صَدرَهُ ناويًا معتقدًا، ومِنْ أعجب العَجَبِ استدلالُهُ على دعوه هذه بقوله صلى الله عليه وسلم [إنما الأعمال بالنيات] فكيف غاب عنه أن هذا الحديثَ محلُّهُ الأعمالُ المأمور بها كالصلاة والصيام والحج والزكاة فإنها هِيَ التي لا تُعَدُّ معتبرةً إلا بالنية وأما الكفر والمعاصِي فلا تدخل تحت الحديث، وإذا كان الطلاقُ والنكاحُ والرجعة تصح في الجِدِّ والهزل فكيف لا يثبت الكفر بالهزل والمزح، فسبحان الذي يفتح قلوب من شاء من عباده للاهتداء بالحق ويُقفل قلوب من شاء عن فهمه فليُحْذَرْ كلُّ ذلك وليُحَذَّرْ منه. وليت شِعْرِي ماذا يقول هؤلاء لو سُئلوا عَمَّنْ قذفَ مؤمنًا بِزِنًى هل يُجرَى عليه عندهم حكمُ القذف الذي هو الحدُّ إن كان مازحًا أم لا يُجْرَى عليه إلا إنْ كان جادًّا ولا أُراهم يقولون بالفرق، فكيف يكون الكفرُ عند هؤلاء أهونَ مِن قذفِ إنسانٍ وشَتْمِهِ.
(تنبيهٌ): قال جمهور علماء أهل السُّنَّة والجماعة إنَّه لا بُدَّ أن يكونَ الإيمانُ عن دليلٍ أيْ مع علم المؤمن بالدليلِ على صحةِ الإسلامِ، وقالوا يكفِي في ذلك الاستدلالُ الطبيعيُّ وهو أن وجود العالم دليل على وجود البارئ ولا يخلو من ذلك إلا شخص نشأ بشاهق جبلٍ فسمع الناس يقولون إن للخلق ربًّا خلقهم يستحق العبادة عليهم وصدَّقهم إجلالًا لهم عن الخطإ فإنَّ إيمانَهُ عندئذٍ إيمانُ مُقَلِّدٍ وهو صحيحٌ مع المعصيةِ، فالمؤمنُ المقلِّدُ هو الذي يعتقد العقيدة الحقة ويجزمُ بها بلا تردُّدٍ من غير دليلٍ ألبتَّةَ إنما بمجرَّدِ الاتباعِ لغيرِهِ فهو مؤمنٌ لكنه عاصٍ بتركِ الاستدلالِ.
ويدلُّ على وجوب الاستدلال ءاياتٌ منها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران: 190، 191].
قال المؤلف رحمه الله: [فَأما الأعمالُ فهي تَتَزايَدُ في نفِسها والإيمانُ لا يزيدُ ولا يَنقصُ].
(الشرحُ): أنَّ في هذه المسألة خلافًا مشهورًا بين الحنفيةِ وغيرِهم فالحنفيةُ قالوا الإيمان لا يزيد ولا ينقص اتباعًا للنصِّ المنقول عن إمامهم رضي الله عنه وقصدهم بذلك أن أصلَ الإيمان أيْ حقيقتَه الذي هو التصديق في حد ذاته لا يزيد ولا ينقص لأنه إن نقص عن حده وعن أصله فليس هناك إيمانٌ، والأصل لا يزيدُ إنما يزيد وصفه، وغيرُ الحنفيةِ لا سِيَّما أصحابُ الحديثِ يقولون الإيمانُ يزيدُ وينقصُ موافقةً لظواهر النصوص كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] مع موافقتهم على أنَّ هناك حدًّا إن نقصَ الإيمانُ عنه صار صاحبُهُ كافرًا والعياذُ باللهِ تعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [والإيمانُ والإسلامُ واحِدٌ].
(الشرحُ): أنَّ الإيمان والإسلام باعتبار الاعتدادِ بهما هما شَيءٌ واحدٌ وأمَّا مِن حيثُ الحقيقةُ اللغويةُ فالإيمانُ هو التصديق القلبِيُّ والإسلامُ هو الاعترافُ باللسان بوحدانية الله وإلهيته ورسالة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يكونُ أحد المفهومين مقبولًا معتبرًا عند الله إلا باجتماع الأمرين فإذا اجتمع التصديقُ القلبيُّ والاعترافُ باللسان صارا معتدَّيْنِ بهما وغلا فلا يُعْتَدُّ بأحدهما دون الآخر، وبالنظر لهذه الحيثية فهما واحدٌ أما باعتبار المفهوم اللغويِّ فهما متغايران لأنَّ مفهومَ الإيمانِ اللغويَّ هو التصديقُ يختلفُ عن المفهوم اللغويِّ للإسلام وهو الانقيادُ.
وأمَّا الإيمانُ فهو مُفَسَّرٌ بستة أشياء قالها عليه الصلاة والسلام جوابًا لجبريل في الحديثِ المشهورِ الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره اهـ. وأما الإسلام ففُسِّرَ في الحديثِ نفسِهِ بقوله صلى الله عليه وسلم الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيمَ الصلاة وتؤتى الزكاة وتصومَ رمضان وتحجَّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلًا اهـ. وليس المعنَى أنه يُشترط اجتماع هذه الأشياء استحضارًا بالقلب وعملًا بالبدن لحصول أصل الإيمان والإسلام بل يكون الرجل مؤمنًا مسلمًا بالشهادتين.
وقولُ الفقهاءِ أركانُ الإسلام خمسةٌ معناه معظم أموره وليس معناه أن الإسلام تتوقف صحته على فعل الأمور الخمسة بل يُحكم للشخصِ بالإسلام بمجرد النطقِ بالشهادتين أيْ مع التصديقِ بمعناهما كما سبق.
قال المؤلف رحمه الله: [فإذا وُجِدَ من العبدِ التَّصديقُ والإقرارُ صَحَّ لهُ أن يقولَ أنا مؤمنٌ حَقًّا].
(الشرحُ): أنَّ مَنْ كان مصدِّقًا بالشهادتينِ بالقلبِ مقرًّا بهما باللسانِ على الوجهِ الذي سبق بيانُهُ صحَّ له أنْ يقولَ أنا مؤمنٌ حقًّا لأنه تحقق فيه معنى الإيمان الذي هو التصديق من غير اقترانٍ بما يُنافيه.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يَنبغِي أن يقولَ أنا مؤمنٌ إنْ شَاءَ الله].
(الشرحُ): قال المصنفُ ذلك لأنه يريدُ أنه إنْ كان شاكًّا فهو كافر وإن كان قصده التأدبَ وإحالةَ الأمور إلى مشيئة الله أو لأنه لا يأمن أن تتغير عاقبته إلى غير ما هو عليه الآن أو للتبرك بذكر الله أو للابتعاد عن تزكية نفسه أو الإعجاب بحاله فالأولى تركُهُ لأنه يوهم الشكَّ. هذا قولُ الحنفيةِ والجمهورُ على أنه لا بأس بذلك لأنَّ التعليقَ بالمشيئةِ هنا للتبرُّكِ ولغيابِ العاقبةِ والخاتمةِ عنَّا.
(تنبيهٌ): لم يقل أحدٌ من علماء الإسلام بتحريم قولِ أنا مؤمن فليُحذر ما فِي كتاب إحياء علوم الدين للغزالي من قوله [وفي الحديث من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل] فإنه حديثٌ موضوعٌ مُفْتَرًى على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنَّ الرسول لا يقول [من قال أنا مؤمن فهو كافر] ولا يقول [من قال أنا عالم فهو جاهل] بل اشتهر عند الصوفية حديثُ حارثة ابن مالك أن الرسول عليه السلام لقيه ذات يوم فقال له [كيف أصبحتَ يا حارثة] قال أصبحتُ مؤمنًا حقًّا قال [انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة] قال عَزَفتُ نفسِي عن الدنيا فأسهرتُ لَيْلِي وأظمأتُ نهارِي فكأنِّي بعرش ربِّي بارزًا وكأنِّي بأهل الجنة يتزاورون فيها وكأنِّي بأهل النار يتعاوَوْنَ فيها قال [عرفتَ فالزم عبدٌ نوَّرَ الله الإيمانَ في قلبه] اهـ وهذا الحديث متداوَلٌ بين الصوفية وفيه أن الرسول لم ينكر على حارثة قوله أصبحت مؤمنًا حقًّا اهـ بل قولُ المؤمن أنا مؤمنٌ مما عُلم من الدين جوازُهُ بالضرورة.
وقد ذكر العلماء أن كتاب الإحياء لا يُعتمد عليه في الحديث لاحتوائِهِ على نحو ثلاثمائة حديثٍ موضوعٍ. قاله تاج الدين السبكيُّ وسردها في طبقات الشافعية الكبرَى له.