الأحد ديسمبر 7, 2025

قال المؤلف رحمه الله: [واللهُ تعالى خَالقٌ لأفعالِ العبادِ مِنَ الكُفرِ والإيمانِ والطَّاعةِ والعصيانِ].

(الشرحُ): أنَّ الخالق لكلِّ شَيْءٍ مِن الحادثاتِ مِن الأعيانِ والأفعالِ أي المبرزَ لهَا من العدم إلى الوجود هو اللهُ وحدَهُ لا يشاركُهُ في ذلك أحدٌ وهذا هو الخلق الذي لا يجوز إسنادُهُ إلا إلى الله. وليس الأمر كما زعمَتِ المعتزلةُ أنَّ العبدَ خالقٌ لأفعاله وعمَّموا ذلك في كلِّ ذِي روحٍ حتى البَقَّةِ فإنها عندهم تخلق حركاتها وسكناتها والعياذُ باللّٰهِ تعالى.

ويكفِي دليلًا لأهل السُّنَّة من حيثُ العقلُ أن يقال لو كان العبد خالقًا لأفعاله لكان عالِمًا بتفاصيلِها ضرورةَ أنَّ إيجادَ الشَّيْءِ بالقدرة والاختيار لا يكون إلا مِنَ العالِمِ وكلٌّ مِنَّا يعلَمُ بالضرورةِ أنَّ المَشْيَ من موضعٍ إلى موضعٍ قد يشتمل على سكناتٍ متخلَّلَةٍ وعلى حركاتٍ بعضها أسرع وبعضها أبطأ ولا شعور للماشي بذلك وليس هذا ذهولًا عن العلم بل لو سُئِلَ لم يعلم فكيفَ إذا تأملنا في حركات سائرِ أعضائه في التقلُّبِ والقفزِ والأخذِ والبطش ونحوِ ذلك فظهرَ أنَّ العقلَ يحكمُ بأنَّ العبدَ ليسَ خالقًا لأفعالِهِ.

ودليلُ أهل الحق من حيث النقلُ قولُهُ تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] لأن الشَّيْءَ يشمل الأجسامَ والحركاتِ والسكناتِ والإراداتِ والنوايا وسائرَ الأعراض ولا سبيل للمخالفين إلى أن يخصصوا الشيْءَ بالأجسام لأنَّ ذلك مخالف لِلُّغَةِ فثبتَ عمومُهُ الأجسامَ والأفعالَ.

ثم هذا التخصيصُ ينافِي أنَّ الله تمدَّحَ بذلك فلو كان الذي هو مخلوقٌ له الأجرامَ فقط ليس أفعالَ العبادِ كحركاتهم وسكناتهم لم يكن في إخباره بأنَّه خلقَ كلَّ شيءٍ تَمَدُّحٌ فإنَّ حركات ذوات الأرواح وسكناتهم أكثر من أجرامهم بكثير من المضاعفات.

ومِن دلائل أهل الحق السمعيةِ قولُهُ تعالى في مقام التمدحِ بالخالقية لكونها مناطًا لاستحقاق العبادة {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ} [النحل: 17].

(تنبيهٌ): وصف الإمام أبو منصور عبد القاهر التميميُّ المعتزلةَ بالشرك فقال القدرية مشركون بربهم لقولهم بأن العبد يخلق أفعاله اهـ. وهو وصفٌ صحيحٌ سديدٌ. والإمام عبد القاهر البغدادي من أئمة الشافعية الأشعريين وقد نقل في كتابه تفسير الأسماء والصفات إجماع الأشاعرة على تكفير المعتزلة والمشبهة. وقال أيضًا اعلم أن تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب. اهـ.

وقد سبقهُ إلى وصفِهم بالشركِ كلٌّ مِن الإمامينِ الأشعرِيِّ والماتُريدِيِّ رحمهما اللهُ، ويؤيِدُهُ ما رواه الإمام الحافظ المجتهد محمد بن جرير الطبريُّ في كتابه تهذيب الآثار وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صنفان مِن أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية. اهـ ومراد النبيِّ بقوله في الحديث [مِن أمتي] أمةُ الدعوة وتشمل الكافرين والمؤمنين وقد تقدم بيانُ ذلك فيكونُ معنى الحديثِ أنَّ هاتين الفرقتين من بين أمة الدعوة الذين أُرْسلْتُ إليهم وليس لهم نصيبٌ في الإسلام أيْ أنهم كفارٌ خارجونَ عن الدِّينِ ولو انتسبُوا إليه فاعرفُوا ذلك.

فالقولُ المعتمَدُ الذي عليه الأكابر مِن متقدمِي الماتريدية والمتقدمين من الأشاعرة تكفيرُ المعتزلةِ، وقد كفَّرَهُمُ الإمامُ الشافعيُّ والإمامُ أبو حنيفةَ والإمامُ أحمدُ والإمامُ مالكٌ رضِيَ الله عنهم.

وقد نقل جمع من الشافعية والحنفية منهم الإمام أبو منصور الماتريديُّ والإمام عبد القاهر البغداديُّ أن المعتزلة يقولون عن الله كان قادرًا على خلقِ مقدورِ العبدِ قبل أن يعطيه القدرةَ عليها وبعد أن أعطاه القدرة عليها صار عاجزًا اهـ. وكذلك نقله عنهم من متقدمي الشافعية أبو سعيد المتولي وإمام لحرمين، كما نقله عنهم أيضًا الإمام أبو الحسن شيثُ بن إبراهيم المالكيُّ في كتابه حزّ الغلاصم، فبعد هذا كيف يُمْتَرَى في تكفير المعتزلة أم كيفَ يُتَرَدَّدُ في ذلكَ وقد جَّزوا ربَّهُم، كيف وقد أشركوا العبدَ مع الله في صفة الخلق أي إبراز المعدوم من العدم إلى الوجود، والخلقُ بهذا المعنى أظهرُ خصائصِ الألوهيةِ حتى قال الإمام أبو الحسن الأشعريُّ في تفسير معنى الإلٰه الألوهيةُ قدرةُ اختراعِ الأعيانِ والأعراضِ اهـ.

وقد قدمنا أنه ليس كلُّ معتزليٍّ يعتقد جميعَ مقالاتهم بل منهم من يقول ببعضها ولا يقول ببعض فإذا كفرناهم فلا نعنِي تكفير كل من ينتسب إلى الاعتزال إنما نعنِي من ثبتت في حقه قضية معينة تقتضي تكفيره كذه المسألة.

(فائدة): روى اللالِكائيُّ عن الإمام مالك أنه سئل عن نكاح القدري وتزويجه فقال: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221] اهـ قال ابن العربيّ  المالكيُّ الصريحُ مِن أقوال مالك تكفير من أنكر القدر حيث سئل عن نكاحهم فذكر الآية {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} ومن حكى في ذلك غيرَ ما أوردناه فذلك لضعف معرفته بالأصول فلا يُناكَحُون ولا يُصلَّى عليهم فإن خِيفَ عليهم الضَّيْعَةُ دُفِنُوا كما يُدْفَنُ الكلبُ فلا يُؤْذَى بجوارهم مسلمٌ وإن قَدَرَ عليهم الإمام استتابهم فإن تابوا وإلا قتلهم كفرًا اهـ. وتكفيرُ القدريةِ أيْ منكِرِي القدرِ الذينَ أنكروا أن يكونَ اللهُ قد شاءَ حصولَ الشَّرِّ مِن العبادِ قد صرَّحَ به كثيرٌ من السلف وهذا عينُ مقالةِ المعتزلةِ فما في مؤلفاتِ بعضِ المتأخرينَ مِن إطلاقِ عدم تكفيرِهِمْ أو القولِ بأنَّ في تكفيرِهِم قولينِ الراجحُ منهما عدمُ التكفيرِ شذوذٌ ومخالفةٌ للقرءان والحديث ونصوصِ أئمةِ مذاهِبِهمْ والإمامينِ الماتريديِّ والأشعرِيِّ فلا عبرة بها. وهذا فيمن عُلمَ منه مِن المعتزلةِ أنه يقول بهذه المسألة وأشباهها وأما لمجرد الانتساب إليهم فلا يحكم عليه بالكفر كما قدمنا.

قال المؤلف رحمه الله: [وهي كُلُّها بإرادَتِهِ ومشيئَتِهِ وحكمِهِ وقَضِيَّتِهِ وتقديرِهِ].

(الشرحُ): أنَّ أفعال العباد حاصلةٌ بإرادة الله أي بتخصيص الله تعالى لها بالوجود وهذا معنى الإرادة والمشيئة.

وقولُهُ: [وحكمه] أيْ: أنَّ أفعال الخلقِ حاصلة بحكم الله، وأراد بالحكم هنا الإرادةَ التكوينيةَ أو الخطابَ التكوينيَّ لا الخطاب التكليفيَّ لأن الله تعالى لا يكلف العباد بالمعاصِي ولا بالمباحات.

وأما قوله: [وقَضِيَّتِهِ] فمعناهُ وقضائه، والقضاءُ هنا معناه الخلق أي أن أفعالَ العباد كلها بخلق الله وتكوينه حصلت.

وقول المؤلف: [وتَقديرِهِ] التقدير هو تحديد كل شَيْءٍ بحدِّهِ الذِي يُوجَد به من حُسن وقُبح ونفع وضُرِّ وما يحويه من زمان ومكان وما يترتب عليه من ثواب وعقاب.

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر [وهي] أيْ أفعال العباد [كلُّها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره، والطاعاتُ كلُّها ما كانت واجبةٌ بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضائه وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره، والمعاصِي كلُّها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته لا بمحبته ولا برضا ولا بأمره] اهـ.

فإن قيل فيكون الكافر مجبورًا في كفره والفاسق في فسقه فلا يصح تكليفُهما بالإيمان والطاعة، قلنا إنه تعالى أراد منهما الكفر والفسق باختيارهما فلا جبرَ كما أنه علم منهما الكفر والفسق بالاختيار ولم يلزم من ذلك تكليفٌ بالمحال.

والمعتزلةُ أنكروا إرادة الله تعالى للشرور والقبائح التي تحصل من العباد حتى قالوا إنه أراد من الكافر والفاسق إيمانه وطاعته لا كفره ومعصيته زعمًا منهم أن إرادة القبيح منه قبيحةٌ كما أنها منَّا قبيحة، وجواب أهل الحق منعُ ذلك قالوا بل القبيحُ كَسْبُ القبيحِ والاتصافُ به وهذا وصفُ العبدِ، فكما لا يلزم مِن خَلْقِ اللهِ تعالى الخنزير ونحوَه نسبة القبح إلى الله تعالى كذلك لا يلزم من تخليق الله تعالى بمشيئته معاصيَ العباد نسبةُ القبحِ لله تبارك وتعالى.

ويقال للمعتزلةِ يلزم من قولكم أن يكون أكثرُ ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادة الله تعالى فقد جعلتم أفعالَ العبدِ التي لا تدخل تحت الحصر مخلوقةً للعبد وجسمَ العبد فقط مخلوقًا لله تعالى وهذا أمر شنيع جدًّا.

وقد حُكِيَ أنَّ القاضِيَ عبد الجبار الهمدانيَّ وهو من رؤوس المعتزلة دخل على الصاحب بن عباد وعنده الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايينيُّ فلما رأى الأستاذ قال سبحان مَن تنه عن الفحشاء فقال الأستاذ على الفور سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء فقال عبد الجبار أيحبُّ ربُّنا أن يُعْصَى فقال الأستاذ أيُعصى ربنا قهرًا فقال عبدُ الجبار أرأيتَ إن مَنَعَنِيَ الهُدَى وقَضَى عليَّ بالرَّدَى أحسن إليَّ أم أساء فقال أبو إسحاق إن منعك ما هو لك فقد أساء وإلا فهو يفعل في ملكه ما يشاء فسكت عبد الجبار وانقطع اهـ.