الأحد ديسمبر 7, 2025

الدرس الخامس عشر

قضية خلق أفعال العباد والرد على المعتزلة (درس أول)

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وسلامه عليهم أجمعين.

روينا بالإسناد المتصل عن الحافظ أبي بكر عبد الرحمٰن الأسيوطي (المشهور بجلال الدين السيوطي) رحمه الله تعالى بإسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه رضي الله عنه كان بالجابية فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له»، وكان عنده كافر من كفار العجم من أهل الذمة فقال بلسانه: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر للمترجم الذي يترجم له: «ماذا يقول؟»، قال المترجم: إنه يقول إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: «كذبت يا عدو الله، إن الله هو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء» أي إن كان سبق في علمه أنك تموت كافرا يدخلك النار. إنما قال: «إن شاء» من أجل أنه لا تعلم خاتمته هل يختم له بالإسلام أم يختم له بدينه الذي هو كفر، لذلك قال: «وهو يدخلك النار إن شاء»، أما أن ضلاله بمشيئة الله وخلق الله تعالى فيه الضلال فهذا جزم به، ما علقه تعليقا في المشيئة، قال: «هو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء». قال سيدنا عمر: «ولولا أن لك عهدا لضربت عنقك» أي لولا أنك من الذميين لقتلتك.

فيؤخذ من قول عمر رضي الله عنه: “من يهد الله فلا مضل له” أي من شاء الله له أن يكون مهتديا باختيار يخلقه فيه، في العبد، فلا مضل له، لا شىء يقلبه ضالا لأن الله شاء له الهداية فمن يستطيع أن يقلبه ضالا، لا أحد، لا شيطان إنس ولا شيطان جن، لا أحد يستطيع أن يضله. قال تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} 86 سورة الأعراف .أي من شاء الله تعالى أي في الأزل أن يكون ضالا أي على غير الإسلام فلا هادي له، لا أحد يستطيع أن يدخله في الهدى، لا أحد يجعله مهتديا لأن الله تعالى شاء له الضلالة، هذا فيه رد على المعتزلة وعلى غيرهم ممن يسلك هذا المسلك.

بعض الناس المنحرفين يحرفون هذه الآية: {يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء}  ، 31 سورة المدثر.معنى الآية الذي هو الصواب أن الله تبارك وتعالى هو إن شاء بمشيئته الأزلية الأبدية أن يهتدي شخص يهتدي ذلك الشخص. هو الشخص ينساق باختياره إلى الهدى، يختار الهدى، يختار الإيمان، لأن الله تعالى شاء في الأزل أن ينساق إلى الإيمان باختياره وإن شاء الله في الأزل أن ينساق بعض عباده إلى الكفر لا بد أن يضلوا وهم مختارون، هذا معنى الآية الصحيح الحقيقي، وأما هؤلاء الذين يحرفون القرءان يقولون: {يضل الله من يشاء} أي العبد، يقولون يشاء هو أي العبد يعيدون الضمير إلى من، من واقع على العبد، {يضل الله من يشاء} أي العبد الذي شاء، الضمير في شاء عند هؤلاء المحرفين يعود إلى العبد أي العبد الذي يشاء الضلال يضله الله، هكذا هم يحرفون بإعادة الضمير إلى من الذي هو العبد، لكن الصواب إعادة الضمير إلى الله: {يضل الله من يشاء “من” أي العبد الذي يشاء هو أي الله، العبد الذي يشاء الله تعالى بمشيئته الأزلية الأبدية أن يضل يضله الله هذا معنى الآية: {يضل الله من يشاء}  هو أي الله، إلى لفظ الجلالة يعود الضمير.

 سئل الشيخ: أليس “من” ضمير مبهم وعادة هي تعاد إلى أقرب اسم ظاهر وهنا إذا أعدنا شاء إلى العبد فمعنى ذلك أن العبد يختار الهداية أو الضلالة بمشيئة الله؟

فقال الشيخ: هذه ليست قاعدة مطردة، عود الضمير إلى أقرب مذكور ليست قاعدة، إنما إذا لم يكن هناك دليل يدل على أن هذا الضمير يعود إلى أقرب مذكور يعاد إلى ما يناسبه ولو كان ليس أقرب مذكور، هذه الجادة عند علماء النحو، الجادة عند علماء النحو أن الضمير يعاد إلى أقرب مذكور إذا لم يكن هناك دليل على عوده إلى ما قبله، إلى ما قبل هذا الأقرب، إذا كان يوجد دليل على إعادة الضمير إلى ما قبل هذا الأقرب أعيد الضمير إلى ما قبل الأقرب، هذه القاعدة عندهم، أما إذا لم يكن هناك دليل على إعادته إلى ما قبل الأقرب فلا يعاد الضمير إلى ما قبل الأقرب بل يعاد إلى الأقرب. هنا الدليل يمنع من إعادة ضمير يشاء إلى من الذي هو العبد.

والدليل على ذلك ءايات عديدة كقوله تعالى إخبارا عن موسى: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء} 155 سورة الأعراف . من أي العبد الذي تشاء أنت يا الله، أليس هنا محتم إعادة الضمير إلى الله، لأن اللفظ بلفظ الخطاب من تشاء}  فهنا {تشاء}  لا تحتمل إعادة هذا الضمير إلى غير لفظ الجلالة، نص صريح في أن هذا الضمير يعود إلى الله. {وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة

سورة الأعراف. إلى ءاخر الآية، هنا عود الضمير إلى الله حتم.

فيثبت بذلك نقلا، نصا قرءانيا، أن الله تبارك وتعالى هو الذي يهدي من يشاء، هو أي الله بمشيئته الأزلية هدايته، وفي المقابل كذلك يتحتم أن يقال: إن الله هو الذي يضل من أي العبد الذي شاء الله تعالى في الأزل أن يضله باختياره أي اختيار العبد أي يجعل العبد منساقا باختياره إلى الضلال، لذلك إعادة الضمير إلى الله حتم لا يجوز غيره. أما هؤلاء الذين قالوا: {يضل الله من يشاء” هو أي العبد ” هؤلاء حرفوا القرءان وجعلوا القرءان متضاربا متناقضا، وأي منهج يؤدي إلى جعل تناقض في القرءان فهو فاسد. العبد ينساق إلى الهدى أو الضلال باختياره على حسب مشيئة الله الأزلية، هذا هو عقيدة أهل الحق.

قالت السائلة: إذا لم نحن نصر على كلمة بأن الإنسان هو الذي يختار الهداية أو الضلالة باختياره طالما أن هذا الخيار وهذه المشيئة نرجعها إلى الله؟ لنقل انساق بمشيئة الله دون أن نشدد على كلمة اختيار لأن هذه تجر إلى مناقشات، هل من الضروري أن نقول اختار بمشيئته؟

فقال الشيخ: نقول اختار العبد الإيمان على حسب مشيئة الله الأزلية أي لأن الله شاء أن ينساق هذا العبد إلى الإيمان، نقول باختياره حتى نسد الطريق على الجبرية. الجبرية يقولون: العبد مجبور في كل شىء ليس العبد إلا كالريشة المعلقة في الهواء تضربه الرياح يمنة ويسرة، لا فعل له، حتى لا نكون وافقنا أولئك لا بد أن نقول اعتقادا أو لفظا باختياره أي العبد، وما يورده بعض الملحدين من معتزلة وغيرهم على ذلك فالجواب عنه عند أهل الحق سهل، يقال لهم: لو لم يكن الله تبارك وتعالى هو الذي يخلق الهداية على حسب مشيئته فيمن يشاء من عباده وهو الذي يخلق الضلالة فيمن يشاء من عباده باختيار العبد في الحالين، أي أن هذا ينساق باختياره إلى الهدى وهذا ينساق باختياره إلى الضلال لأن الله شاء في الأزل أن ينساق هذا إلى الهدى باختياره وشاء في الأزل أن ينساق هذا العبد الآخر إلى الضلال باختياره، لو لم يكن الأمر كذلك للزم المحال. فإن مما تقتضيه قضايا العقول أن الإنسان له اختيار يميز به بين حركة المرتعش وبين حركة القاصد، هناك فرق ضروري بين الحركتين، حركة المرتعش وحركة القاصد لشىء من الأشياء، لعمل من الأعمال.

الذي يقول: “إن الله خالق الخير فقط وليس خالق الشر إنما خالق الشر الشيطان” هذا مثل المجوس. المجوس يقولون النور خالق الخير والظلمة خالق الشر هذا أشبه هؤلاء فهو من إخوانهم، أما قول الله تبارك وتعالى: {بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) ليس معناه أن الله قادر على الخير فقط وليس قادرا على الشر، إنما هذا يقال له أسلوب من أساليب البلاغة وهو أن يذكر أحد الشيئين الداخلين تحت حكم واحد اكتفاء بأحدهما عن ذكر الآخر، قال الله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} أي والبرد، السرابيل القمصان تقينا البرد كما تقينا الحر، فاقتصار الله تبارك وتعالى على ذكر الحر ليس معناه أنها لا تقي العباد من البرد، هذا يقال له الاكتفاء، هذا أسلوب من أساليب البلاغة باللغة العربية عند الفصحاء البلغاء، {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم} 81 سورة النحل. هذه قمصان الحديد الدروع التي تلبس في الحرب هذه تقي من السلاح، الله تعالى يمتن علينا بأنه خلق لنا هذا وهذا، يمتن علينا بأنه خلق لنا سرابيل تقينا الحر أي والبرد وسرابيل أي قمصانا أي أدراعا من حديد تقيكم بأسكم أي السلاح.

فقول الله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) ءال عمران  ، ليس معناه بيدك الخير فقط لكن الأنسب من حيث الذكر الاقتصار على الخير، أما من حيث الحكم بيده الخير والشر.

هو الله تعالى أخبرنا في كتابه العزيز القرءان الكريم بأنه خالق كل شىء، الخير شىء والشر شىء، الشىء معناه الموجود، الخير موجود والشر موجود، فإذا الله تبارك وتعالى أدخل بقوله: {قل الله خالق كل شىء} الشر كما أدخل الخير، والقرءان لا يتناقض، عملا بهذا الأساس نقول في قوله تعالى: {بيدك الخير} أي والشر.

ثم هناك ءايات تزيد هذه المعاني وضوحا، في سورة المائدة الله تبارك وتعالى يقول: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا} ومن يرد الله فتنته أي ضلالته {فلن تملك} أي يا محمد له من الله شيئا، كم من أقارب للرسول ما استطاع أن يهديهم أي أن يقلبهم من الكفر إلى الإيمان، إنما بلغهم فقط، قال لهم أطيعوني حتى تنجوا من عذاب الله في الآخرة فلم يطيعوه.

هذا أبو لهب من أعمامه ﷺ كما أن حمزة والعباس عمان له، لكن هذين اهتديا وهذا لم يهتد فإلى أين مرجع ذلك، مرجع ذلك إلى أن الله تعالى شاء لهذين أن يهتديا بإرشاد محمد. محمد بين الإسلام، بين طريق النجاة، فهذان قبلا هذه الدعوة، وذاك أبو لهب سمع البيان لكن لم يقبل، رد هذه الدعوة.

 {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا} هذا أيضا يثبت أن الله تبارك وتعالى هو خالق الشر كما أنه هو خالق الخير، ثم التوحيد لا يصح مع إثبات خالق سوى الله، لأن مما خالف هذا  أي التوحيد إثبات إلهين مدبرين للعالم.

سئل الشيخ: لم قال الله تعالى في كتابه العزيز {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} 5 سورة الممتحنة. إذا كانت الفتنة شيئا غير حسن فلم لا نلقي هذه الفتنة على الظالمين وعلى الضالين؟

فقال الشيخ: هي لغة العرب واسعة ترد فيها الكلمة الواحدة بعدة معاني، في موضع من القرءان جاءت بمعنى وفي موضع ءاخر بمعنى ءاخر وفي موضع ءاخر بمعنى ءاخر إلى أكثر من سبع مواضع. في كل موضع جاءت بمعنى غير المعنى الذي جاءت له في الأماكن الأخرى ،وهنا في هذه الآية أخبرنا الله تعالى عن موسى أنه قال عندما رأى قومه قد عبدوا العجل في مدة أربعين يوما غابها عنهم وترك فيهم أخاه هارون خليفة عنه، فتنوا بسبب رجل يقال له موسى السامري، صاغ عجلا من ذهب ثم وضع فيه أثر حافر فرس جبريل. عند اجتياز موسى للبحر هو ومن ءامن به كان جبريل عليه السلام على فرس، رءاه هذا الخبيث موسى السامري، رأى جبريل ورأى موطئ قدم فرس جبريل، أخذ من هذا التراب من أثر حافر فرس جبريل ووضعه في هذا العجل الذي صاغه من ذهب، وهذا الذهب كانوا أخذوه بنو إسرائيل المسلمون الذين خرجوا مع موسى من مصر، أخذوه من مصر ثم جمع هذا الذهب في مكان ثم هذا الشخص صاغ من هذا الذهب عجلا، ثم لما وضع فيه هذا الأثر أثر حافر فرس جبريل خار، الله خلق فيه الروح، هذه الصورة خلق الله فيها الروح فصار يخور، فقال هذا السامري: “هذا إلهكم وإله موسى، موسى نسي ربه وهو هنا فذهب إلى هناك، إلى الطور”([1])، صدقه قسم منهم كانوا مسلمين، مع أنهم كانوا قد شاهدوا معجزة انفلاق البحر هذه المعجزة الكبيرة أن جعل الله لهم البحر يبسا مع ذلك ضلوا صدقوا هذا السامري فعبدوا هذا العجل، فلما رجع موسى إليهم فرأى ما أحدثوا من الضلال والكفر غضب غضبا شديدا حتى إنه أول ما أخبر إخبارا كان بيده ألواح من التوراة ظل ماسكها ثم لما عاين عيانا عبادتهم للعجل ألقى التوراة([2]) من شدة ما أصابه من الغيظ على هؤلاء الذين كفروا بعبادة العجل، ثم أدركته الشفقة بعد أن تابوا.

هؤلاء لما غضب عليهم موسى وظهر منه من التأثر ما ظهر تابوا، ندموا، وهدد ذاك([3]) قال له: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) سورة طه. لما تابوا هدأ غضبه فقال متضرعا إلى الله تعالى: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك}   يخاطب الرب تبارك وتعالى: {تضل بها من تشاء} الذين ثبتوا على الإيمان بعد أن رأوا الذين ضلوا ازدادوا درجات بثباتهم على الإيمان. والآخرون الذين تبعوا هذا السامري وعبدوا العجل ضلوا، الله تعالى أضل هؤلاء.

{تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا}   هذه الآيات وأشباهها يجب التوفيق بينها وبين نحو قوله تعالى: يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} لأن القرءان ينزه عن التناقض، القرءان يجب تنزيهه عن التناقض، يجب التوفيق بين الآيات التي يتخيل في بادئ النظر أنها متعارضة.

فإن قال قائل من أهل الأهواء المنحرفين كالمعتزلة: كيف يعذب الله تعالى هذا العبد إذا كان لم يخلق الشر الذي هو مرتكبه بل الله خالقه؟

يقال لهم: أليس الله عالما في الأزل بأن هذا يفعل الشر باختياره وأن هذا يفعل الخير باختياره ومع ذلك تصححون أن يكون عقاب للعبد في الآخرة على الكفر والمعاصي؟

يقولون: بلى نعم نحن نعترف بأن الله علم في الأزل بأن هذا سيكفر وبأن هذا سيعصي ربه باختياره ومع ذلك يستحق العذاب.

يقال لهم: نحن نقول كذلك، هو الله تبارك وتعالى منفرد بخلق الأعمال الحركات والسكنات التي هي خير والتي هي شر، هو خالق ذلك كله، والعبد لا يخلق شيئا من ذلك ومع ذلك يستحق العاصي والكافر العقاب في الآخرة.

ومما يلتبس على بعض الناس مما جاء في القرءان أشياء منها قول الله تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} 79 سورة النساء. هنا الحسنة معناها النعمة والرخاء من فضل الله، أي نعمة تصيب العبد فهي من فضل الله هو تفضل علينا بها ،وقوله: وما أصابك من سيئة فمن نفسك} معناه أن النقمة التي تصيبك أيها الإنسان فمن نفسك أي من جزاء عملك.

هنا في الدنيا كثير من الذنوب يجازي الله بها العباد بالمصائب والأمراض ونحو ذلك، كثير من الأمراض التي تأتينا هي جزاء أعمالنا المعاصي، جزاء معاصينا، الله تعالى يجازينا بها في الدنيا فمن كان مسلما هذا الجزاء الذي يحصل له على معاصيه بالمصائب ينتفع بذلك، ينتفع بهذه المصائب، هذه المصائب تخفف عنه أو تحط عنه كل ذنوبه، بالنسبة للمسلم كهذه المصائب التي تصيب المؤمن بهذه الأيام من جرح وتلف أموال وخراب بيوت وفزع من أصوات المدافع والقذائف وغير ذلك، كل هذا بالنسبة للمؤمن الذي هو من أهل الكبائر، هذا جزاء له على بعض ذنوبه، والله تعالى يمحو عنه بهذه المصائب جميع ذنوبه.

هي لغة العرب واسعة، الحسنة تأتي بمعنى النعمة وتأتي بمعنى الطاعة، الصلاة حسنة والصيام حسنة، والصدقة حسنة والذكر حسنة وكل ما كان طاعة لله تعالى حسنة، ويقال في لغة العرب للنعمة حسنة، كذلك السيئة في لغة العرب تطلق على المعصية وتطلق على غير المعصية، وفي بعض المواضع في القرءان الحسنات والسيئات تفسر بأن الحسنات هي الطاعات وبأن السيئات هي المعاصي، وفي بعض المواضع الحسنات هي النعم والسيئات هي النقم البلايا والمصائب، من لا يعرف هذا يضرب القرءان بعضه ببعض فيطلع كافرا، لأن القرءان منزه عن التناقض.

سئل الشيخ: قائل يقول بأن الله هو الذي قدر في الأزل بأن العبد هو يكتسب يعني باختياره، أليس هذا اجتماع بين متناقضين التسيير والتخيير، وما هو الدليل العقلي التقريبي للأذهان لطرد هذه الشبهة؟

فقال الشيخ: ليس فيه ما يثبت التناقض، الاختيار ثابت للعبد لكنه ليس اختيارا يجعله مستقلا عن إرادة الله ومشيئته وتقديره، من دون أن يكون له أمر يوصله إلى أن يخلق شيئا من حركاته وسكناته يصح منه الاختيار، لكن هذا الاختيار ليس اختيارا يوصله إلى الاستقلال عن الله تعالى، لا يجعله مستقلا عن الله إنما هو أمر يكون فارقا بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية لأن العقل يقضي بفارق بين الحركتين حركة المرتعش المصاب بداء الرعشة وحركة الإنسان الذي يتحرك بقصد وبإرادة، هذا الفارق يكفي لطرد التناقض، فيصح لنا أن نثبت الاختيار للعبد مع اعتقاد أن الله تعالى هو الذي يخلق حركات العبد وسكناته، ليس للعبد شىء من ذلك من حيث الخلق إنما العبد له ارتباط بهذه الحركات والسكنات من حيث الكسب وهو أنه يوجه إرادته نحو الفعل، ثم لا يكون هذا الفعل إلا بخلق الله أي إحداث الله إياه من العدم إلى الوجود، هذا معنى الخلق، {هل من خالق غير الله}.

وأما ما كان العبد مضطرا إليه فذلك ليس له فيه شىء من الاختيار لا ظاهرا ولا باطنا، أهل الحق يكتفون بهذا القدر فارقا بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية لأن ما تجاوز ذلك إما أن يصل بصاحبه إلى الاعتزال الذي هو القول بأن العبد يخلق جميع حركاته وسكونه بل وكل ذي روح يخلق حركاته وسكناته، والرأي الآخر الفاسد أن العبد لا فعل له بالمرة.

قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله رحمة واسعة: «وأفعال العباد هي خلق الله تعالى وكسب من العباد» هذا اتفق عليه أهل الحق كلهم، ومن خالف في ذلك فهو ليس من أهل الحق، المخالف في ذلك هو إما معتزلي قدري رجس وإما جهمي جبري رجس، كلتا الطائفتين رجس أي ضلال وكفر، الجهمية كذبوا قوله تعالى: {بما تعملون} وقوله:{بما يعملون} وقوله:{بما تفعلون} ، والمعتزلة كذبوا قوله تعالى:{قل الله خالق كل شىء} لأن الشىء يشمل الحركات والسكنات ويشمل الأجسام، ليس الشىء خاصا بالأجسام، أليس يقول القائل ما عملت شيئا، حتى إنه يقال لغة وشرعا نويت شيئا، إذا النية هي من أعمال القلب فبالأولى أعمال الظواهر والحركات والسكنات تكون شيئا.

يقول الشارح القونوي شارح العقيدة الطحاوية: “اختلف الناس في الأفعال الاختيارية للخلق فزعمت الجبرية ورئيسهم جهم بن الصفوان الترمذي أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى وهي اضطرارية كحركات المرتعش وحركات العروق النابضة وإضافتها إلى الخلق مجاز وهي على حسب ما يضاف الشىء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله، فقولنا ضرب زيد وذهب عمرو بمنزلة قولنا طال الغلام وابيض الشعر” – هذا بيان عقيدة الجبرية الجهمية – “وزعم جمهور المعتزلة أن الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها لا تعلق لها بخلق الله تعالى” اهـ هذا معتقد المعتزلة وهم القدرية.

جهم بن صفوان الذي هو من ترمذ لما أظهر ضلالته وصار له أتباع الوالي في تلك الناحية يقال له سلم بن أحوز هو قتله لإطفاء فتنته.

قال الشارح عن المعتزلة: “واختلفوا فيما بينهم في أن الله تعالى هل يقدر على أفعال العباد فقال أبو علي وأبو هاشم” – هذان أب وابن كلاهما من رؤوس الكفر هذان قالا – لا يقدر على أفعال العباد، بعدما أعطاهما القدرة عليها صار عاجزا، وقال أبو الهذيل وأبو الحسين يقدر وهو القياس على أصلهم لأنه قادر لذاته فيجب أن يكون قادرا على كل مقدور، وإنما تفرع هاذان المذهبان أعني مذهبي الاعتزال والجبرية من اتفاق الفريقين على مقدمة وهي أن دخول مقدور واحد تحت قدرة قادرين محال اعتبارا بالشاهد فقالت الجبرية: لا قدرة للعبد على الاختراع فيكون مخترعها الله تعالى ضرورة، وقالت المعتزلة قدرة العبد على الأفعال ثابتة ضرورة الأمر بها، المعتزلة تعلقت بهذا قالوا العبد مأمور الله تعالى أمره بفعل أشياء وترك أشياء فإذا العبد له قدرة أن يخلق هذه الأفعال، قالوا لو لم يكن له قدرة على خلقها لكان أمرا للعاجز بما هو ليس بقادر عليه، قالوا كيف بعد هذا نقول الله قادر على أفعال العبد، هذا مذهب المعتزلة”.

وقال أهل السنة للخلق أفعال بها صاروا مطيعين وعصاة وجعلوها مخلوقة لله تعالى، والحق تعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه ولا مبدع غيره، ومذهب الجبرية باطل لا حاجة إلى بيانه وأما المعتزلة فهم يتمسكون بقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} 14 سورة المؤمنون. قالوا أي المعتزلة فيه دلالة أي في قول الله تعالى: فتبارك الله أحسن الخالقين}  دلالة أن العبد يكون خالقا أن هناك خالقين غير الله، بمعنى يحدثون من العدم إلى الوجود. أما أهل الحق يقولون الخالقين هنا معناه المقدرين ليس معناه المحدثين من العدم إلى الوجود لأن الخلق في لغة العرب له نحو خمسة معاني، يقال في حق الله تعالى خلق كذا بمعنى أحدث من العدم إلى الوجود، {هل من خالق غير الله}. من هذا الباب، أي لا أحد يحدث من العدم إلى الوجود إلا الله.

يقال في اللغة: خلقت الأديم حذاء أي الجلد قدرته حذاء فقطعته وصنعته، معناه قدرت أن أعمل حذاء من هذا الأديم أي الجلد فصنعته أي أنفذت ما قدرت، هذا المعنى الثاني للخلق في اللغة، والمعنى الثالث خلق بمعنى صور صورة وفي هذا المعنى جاء قوله تبارك وتعالى خطابا لعيسى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني} 110 سورة المائدة. أي تصور، عيسى عليه السلام كان يصور من الطين صورة خفاش ثم يخلق فيها الروح، الله تعالى يخلق فيها الروح ثم تطير حتى تغيب عن أنظار الناس ثم تقع ميتة، هذه من جملة معجزات المسيح عيسى عليه السلام، هذا المعنى الثالث خلق بمعنى صور، فيجوز باعتبار هذا المعنى الثالث وصف العبد بالخلق كما وصف الله تعالى المسيح بخلق الطير أي تصويره من الطين، والمعنى الرابع خلق الخبر وخلق الإفك بمعنى كذب، هذا لا يضاف إلا إلى العبد، يقال خلق فلان الإفك أي افتراه وبهذا المعنى جاء في القرءان أيضا قال الله تعالى في حق المشركين: {وتخلقون إفكا} 17 سورة العنكبوت. وقال:{إن هذا إلا اختلاق} 7 سورة ص . أي افتراء، يقال خلق فلان الكذب واختلقه أي افتراه، ويقال أيضا في اللغة خلقت هذا الخشب أي أخذت هذا الخشب كرسيا أي صنعته كرسيا، صنعته وسويته وملسته، جعلته أملس بحيث يصلح للجلوس عليه، هذه المعاني الخمس في لغة العرب الأصلية معروفة، فالمعنى الذي هو خاص بالله تعالى هو معنى الخلق بمعنى الإحداث من العدم إلى الوجود بهذا المعنى لا يضاف الخلق لغير الله، وعلى هذا المعنى ورد قوله تعالى: {هل من خالق غير الله}. ، وقوله:{الله خالق كل شىء}

هي كلمة اخترع تضاف إلى الله وإلى المخلوق، كما يضاف خلق بمعنى قدر إلى الله وإلى المخلوق، كذلك اخترع يضاف إلى الله يقال اخترع الله العوالم اخترع الأرض واخترع السماوات واخترع الإنسان اخترع الهواء واخترع النور واخترع الظلمات، يصح، ويقال للعبد أيضا اخترع كذا بمعنى صنع بتقدير منه وتقدير من الله، تقدير الله الأزلي وتقدير العبد الحادث.

التخليق عند الماتريدية أزلي، يقولون: الله خلق المخلوقات بتخليقه الأزلي الأبدي ومخلوقه حادث، هذه العوالم حادثة، لكن تخليقه لها أزلي أبدي.

وبعض أهل السنة يقال لهم الأشعرية قالوا التخليق ليس أزليا إنما هو أثر القدرة الأزلية، كلا المقالتين على هدى لا هؤلاء يضللون ولا هؤلاء يضللون، كلا الفريقين على هدى.

الذين قالوا تخليق الله للعوالم للمخلوقات أزلي أبدي لا بأس بقولهم، والذين قالوا التخليق ليس أزليا لأن معنى خلق الله أي ظهر هذا الأثر بقدرته الأزلية هؤلاء على هدى وهؤلاء على هدى، يقال للأولين الماتريدية وللآخرين الأشعرية، هؤلاء كلاهما من أهل السنة والجماعة أما من خرج عن هؤلاء فهو ضال. إما مشبه لله بخلقه يثبت له الحركة والسكون كما أن البشر من صفاتهم الحركة والسكون ويجعل لله تعالى حيزا ومكانا يشغله من الفراغ.وإما غيره من الضالين.

رجب ديب يقول: “إن الله «يدندل»([4]) رأسه من السماء يوم الجمعة ويقول: يا عبادي تعالوا إلى الجامع”، في مسجد البسطة التحتانية قال هذا.

ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، يا أرحم الراحمين نسألك العفو والعافية ونسألك أن تقينا شر ما نتخوف واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، والله أعلم.

الدرس السادس عشر

قضية خلق أفعال العباد والرد على المعتزلة (درس ثان)

الحمد لله رب العالمين صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وسلام الله تعالى عليهم أجمعين.

أما بعد، فقد روينا بالإسناد الصحيح المتصل في «صحيح مسلم» من حديث يحيى ابن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال قال لي عمران بن الحصين رضي الله عنه: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم، قال: فقلت: بل شىء قضي عليهم ومضى عليهم، قال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت: كل شىء خلقه وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ قال: «بل شىء قضي عليهم ومضى عليهم، ومصداق ذلك قول الله تبارك وتعالى: {ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها} (8) سورة الشمس. هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» وأخرجه البيهقي في «كتاب القدر» وغيرهما.

أما عمران بن الحصين فهو أحد فقهاء الصحابة وأحد أولياء الصحابة من أهل الكرامات، كان تزوره الملائكة ثم استعمل الكي من أجل البواسير فانقطعت عنه الملائكة، ثم بعد برهة عادوا لزيارته.

هذا عمران بن الحصين رضي الله عنه سأل أبا الأسود الدؤلي وهذا أبو الأسود الدؤلي معروف من ثقات التابعين أخذ الحديث عن سيدنا علي وغيره من عدة من أصحاب رسول الله، وكان هو أول واضع للنحو بإشارة سيدنا علي، سأله عمران رضي الله عنه عن هذا الأمر قال له: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه([5]) أي أعمالهم هذه أي حركاتهم وسكناتهم أشىء قضي عليهم ومضى عليهم؟ قال: هل هو شىء قدره الله تعالى أنه سيحصل منهم أي باختيارهم ومشيئتهم الحادثة بعد مشيئة الله الأزلية وعلمه الأزلي الأبدي أو فيما يستقبلون به أم شىء جديد لم يسبق به قدر مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فأجاب أبو الأسود عمران بن الحصين بقوله: بل شىء قضي عليهم ومضى عليهم.

المعنى أن كل ما يعمل العباد من حركات وسكون حتى النوايا والقصود أي قصد النفس إلى فعل شىء، أجابه بأن ذلك كله على حسب مشيئة الله الأزلية السابقة وعلمه السابق وتقديره السابق، ثم أورد عليه هذا الكلام قال له: أفلا يكون ظلما؟ المعنى: إن كان هو قدر بعلمه ومشيئته أن يعملوا هذه الأعمال ثم رتب على ذلك جزاء لهم  الحسنات بالثواب والسيئات بالعقاب، ألا يكون ذلك ظلما؟ قال: ففزعت فزعا شديدا وقلت: كل شىء خلقه وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

فلما وفق للجواب الصحيح الذي أراد عمران بن الحصين أن يظهر منه قال له: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، أي أردت أن أمتحن فهمك للدين، دعا له وصوب جوابه، ثم حدثه حديث رسول الله قال له: إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا: أرأيت يا رسول الله ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ قال رسول الله ﷺ: «بل شىء قضي عليهم ومضى عليهم ومصداق ذلك قول الله تبارك وتعالى: ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)

رسول الله ﷺ استدل بهذه الآية، أيد جوابه لهما بهذه الآية: ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8). الله تبارك وتعالى أقسم بالنفس وما سواها على أن الله تبارك وتعالى هو الذي يلهم النفوس فجورها وتقواها أي أنه لا يكون شىء من أعمال العباد خيرها وشرها إلا بخلق الله تبارك وتعالى فيهم ذلك، أي العمل الحسن وهذا السيء هو يخلق فيهم لا يكون شىء منهم إلا بخلق الله تعالى فيهم ذلك، العباد ليس لهم في ذلك خلق شىء من ذلك، من حيث الخلق هذا ينسب إلى الله أما من حيث الكسب فينسب إلى العبد، قال الله تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} 286 سورة البقرة. ما كسبت أي من عمل الخير وعليها ما اكتسبت أي من عمل الشر والمعاصي. المعنى أن العباد يثابون على كسبهم للحسنات ويعاقبون على كسبهم للسيئات فالعباد لا يخلقون شيئا من أعمالهم، الله تعالى هو الخالق أي هو الذي يحدث حركاتهم وسكناتهم من العدم إلى الوجود كذلك نياتهم وقصودهم وإدراكاتهم الله تعالى هو الذي يخلق فيهم ليس لهم في ذلك من خلق أي إحداث من العدم إلى الوجود، الله تبارك وتعالى قال:{هل من خالق غير الله}

الخلق إذا أريد به الإحداث الإبراز من العدم لا يضاف إلا إلى الله، خاص بالله تبارك وتعالى، أما إذا أريد بالخلق التصوير فهو يصح إضافته إلى المخلوق قال تعالى مخاطبا لعيسى:{وإذ تخلق} أي يا عيسى { من الطين كهيأة الطير} 110 سورة المائدة. هذا خلق بمعنى التصوير هذا يضاف إلى العبد ويضاف بمعنى التقدير إلى العباد أيضا وإلى الله قال تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (14) سورة المؤمنون. أي المقدرين، معناه الله يقدر وأنتم تقدرون وتقدير الله أحسن من تقديركم لأن تقدير الله لا يدخله الخطأ ولا التغير، ثم تقدير الله نافذ لا ممانع له ولا مؤخر له أما تقدير العباد قد ينفذ وقد لا ينفذ، إن نفذ فعلى حسب مشيئة الله الأزلية وإن لم ينفذ فذلك لأن الله لم يشأ في الأزل أن يحصل، هذه المسئلة مسئلة متفق عليها بين أهل السنة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

هذا أبو جعفر الطحاوي من أهل القرن الثالث الذي هو أحد القرون الثلاث الفاضلة التي فضلها رسول الله بقوله: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» رواه ابن حبان والنسائي. أبو جعفر الطحاوي كان أشهر المحدثين الحنفيين، وقد عمل هذا الموجز بيانا لعقيدة أهل السنة والجماعة.

هذا أبو جعفر الطحاوي يقول في مسئلة خلق أفعال العباد التي هي من أهم مسائل علم العقيدة: «وأفعال العباد كلها خلق لله تعالى وكسب للعباد» أفعال العباد حركاتنا وسكناتنا الظاهرة والباطنة كلها بخلق الله أي هو يبرزها من العدم إلى الوجود وهي لنا كسب أي نحن نوجه إليها القصد والإرادة، قصدنا الذي هو حادث وإرادتنا التي هي حادثة وقدرتنا التي هي حادثة نوجهها إلى هذه الأعمال التي نعملها، أما حصول ذلك الشىء ودخوله في الوجود فهو بخلق الله تبارك وتعالى ليس بخلقنا، هذا معتقد أهل السنة ولم يشذ عنهم إلا أناس شذوا فخالفوا قال بعضهم بما هو سلب للعبد من الاختيار، جعلوا العبد لا اختيار له ألبتة ولا فعل له ألبتة، جعلوه كالماء الذي يسيل في الوادي، هذا الماء ليس باختياره وفعله يحصل منه هذا السيل، إنما يقال سال الوادي لأنه مظهر السيلان ليس لأنه يحدث هذا السيل.

هؤلاء زعيمهم يقال له جهم بن صفوان الترمذي من العجم هو كان له أتباع يقال لهم الجهمية([6])، ثم سلم بن أحوز لما علم بفتنته وإضلاله للناس قتله فخفت فتنته.

والفريق المقابل لهؤلاء يقال لهم المعتزلة هؤلاء المعتزلة قالوا: “الله تعالى لا يخلق شيئا من أعمال العباد إنما هو خلق أجسادهم ويخلق فيهم الحركات التي ليست اختيارية لهم كحركات العروق النابضة”. هؤلاء على زعمهم ينزهون الله عن الجور، قالوا: “فإن خلق العباد الحسنات استحقوا على الله أن يثيبهم”، قالوا: “واجب على الله، إن لم يفعل ذلك يكون هو ظالما، وإن أساء العباد أي إن عصوه بكفر أو بما دونه كذلك استحقوا العذاب لأنهم هم خلقوا هذه السيئات، أما إن لم يكونوا هم خالقيها ما يستحقون العقوبة كيف يعاقبون على شىء خلقه الله تعالى فيهم ولم يخلقوه”، هذه حجتهم وهي داحضة([7]).

يقال لهم: هل علم الله في الأزل قبل أن يخلق العباد ما يعملون من الكفر والمعاصي والحسنات؟

فإن قالوا: لم يكن الله عالما فقد جهلوه فكفروا، وإن قالوا: كان عالما فيقال لهم: هل يستطيع العبد أن لا يصدر منه ما علم الله في الأزل أنه يفعله باختياره، هل يصح منه ذلك، لا يصح.

قال تعالى:{هل من خالق غير الله} أي هل من محدث لشىء من الأشياء الأعيان أو الحركات والسكنات أو الأعمال الباطنة كالنية والإدراك، هل من محدث من العدم إلى الوجود لشىء من ذلك غير الله، لا.

أهل السنة والجماعة على وفاق هذه الآية وعلى وفاق أحاديث رسول الله حيث قال ﷺ: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم والنسائي، وفي لفظ: «صرف قلوبنا إلى طاعتك» والمعنى واحد، معنى «على» و«إلى» هنا واحد، في هذا الحديث أبلغ دليل على أن الله تعالى هو خالق أفعال العباد الحركات والسكنات وغيرها لأنه إذا كان هو مصرف القلوب أي مقلب القلوب فهو بطريق الأولى مقلب الجوارح اليد والرجل والعين واللسان. هذا الحديث وغيره من أحاديث النبي ﷺ مما فيه تعلق بهذه المسئلة شواهد لما ذهب إليه أهل الحق.

فليجعل المؤمن هذا عقد قلبه وليكثر من شهود هذا المعنى حتى يكون موحدا لله تعالى توحيدا شهوديا في جميع أفعاله وفي جميع حالاته فتهون عليه المصائب والخوف من العباد، من جعل هذا المعنى ذكره القلبي أي جعل قلبه يستشعر بذلك دائما هانت عليه المصائب وسهل عليه ما يتوقعه أن يحدث من قبل الناس، هان عليه أمره فلا يستفزه ذلك على نسيان أنه تبارك وتعالى هو المتصرف في كل شىء، هذا يقال له التوحيد الشهودي، وما خالف ذلك فهو باطل، ولا ينظر إلى الشبه التي توردها المعتزلة أو غيرهم.

المعتزلة ينقطعون إذا قيل لهم: لو ثبتم على اعتقادكم أن العبد هو يخلق أفعاله وكان مقصودكم من ذلك الفرار من أن تنسبوا الله إلى الجور، على زعمكم إن كان هو يخلق أعمال العبد السيئة ثم يعاقبه عليها اعتبرتم ذلك جورا من الله تعالى فقلتم: “الله منزه عن الجور والظلم فننزهه” فوقعتم فيما وقعتم فيه من هذا الاعتقاد، نقول لكم: أليس الله كان عالما في الأزل بأن هذا العبد يختار هذه السيئة ويعملها، فهل للعبد إمكان أن يغير علم الله تعالى، ليس له إمكان، إذا من أي شىء هربتم؟!

ومن جملة ما احتج به أهل السنة على أن الله خالق كل شىء من حيث النص قوله تعالى: {الله خالق كل شىء} وأفعال العباد أشياء، فإن قال قائل: هذه الآية من العام المخصوص لا يدخل فيها ذات الله وصفاته، وذات الله شىء وصفاته شىء لكن لم يدخلا تحت قوله: {الله خالق كل شىء} لأنه لا يصح عقلا أن يخلق الله ذاته ولا صفاته، فكما لم يشمل هذا النص وهو قوله: {الله خالق كل شىء}  ذات الله وصفاته كذلك لا يشمل أفعال العباد التي يفعلونها باختيارهم. يقال لهم: عدم دخول ذات الله وصفاته في قوله تعالى: {الله خالق كل شىء}  فلدليل عقلي وهو أن الشىء لا يكون خالقا لنفسه لأنه يلزم منه التنافي وهو أن يكون الشىء سابقا على نفسه باعتبار ومتأخرا عن نفسه باعتبار وهذا لا يجيزه العقل، لذلك ما دخل ذات الله وصفاته تحت قوله: {الله خالق كل شىء}  

يقول الشارح القونوي: “بأنا نقول الله تعالى وإن كان شيئا لكن عند ذكر الأشياء لم يفهم دخوله فيه كما لا يفهم دخوله تحت لفظ العلماء([8])، ثم خروجه عن لفظ العلماء لم يكن تخصيصا فكذا هذا، ولأنا سلمنا خصوص ذات البارئ جل وعلا، لكن خصوصه لمعنى يفارق المتنازع فيه، بيان ذلك أن الآية خرجت مخرج التمدح، وإذا خص البارئ جل وعلا إنما يخص تحقيقا للتمدح، فبخصوص أفعال الخلق زوال التمدح لأنه حينئذ يصير تقدير الآية الله خالق كل شىء  هو فعله أو خالق كل شىء ليس بفعل لغيره وفي هذا يساويه عندهم كل ما دب ودرج”.

هذا الجواب الثاني أن الله تعالى ذكر هذا أي أنه خالق كل شىء للتمدح أي ليمدح نفسه فلو كان لفظ الشىء هنا لا يشمل أفعال العباد لم يكن تمدحا لأنه لا تمدح في إخباره بأنه يخلق بعض الأشياء مع كون بعض الأشياء وهي الأفعال وهي أكثر من ذوات العباد ليست بخلقه، الإنسان ذاته واحدة وأعماله في حياته كثيرة جدا، فلو كان الله يخلق ذات الشخص فقط وأما حركاته وسكناته الكثيرة مخلوقة للعبد نفسه لم يكن في قوله تعالى: {الله خالق كل شىء}  تمدح، فلذلك يجب أن يكون قوله تعالى {الله خالق كل شىء} شاملا لذوات الأشياء ولأفعالها.

قال القونوي: “فقياس تخصيص ما في تخصيصه زوال التمدح على تخصيص ما في تخصيصه تحقيق التمدح قياس باطل”، قياس المعتزلة هذا باطل.

سئل الشيخ: هل يقال العبد مسير؟

فقال الشيخ: معنى مسير بحسب أصل اللغة الممكن من السير قال تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر} ﭐ 22 سورة يونس. أي هو الذي يمكنكم من السير في البر والبحر، العبد مسير باعتبار هذا المعنى بنص القرءان، الله هو الذي يمكننا من السير إن سرنا في البر وإن سرنا في البحر فالله تعالى هو الذي يسيرنا([9])، أما سلب الاختيار هذا ليس مقصودا، لم يرد في ءاية ولا في حديث نبوي أن العباد لا اختيار لهم بالمرة، لهم اختيار لكن اختيارهم هذا لا يجعلهم مستقلين عن الله أي لا يجعلهم خالقين لشىء من حركاتهم وسكناتهم بل اختيار العبد أمر دون ذلك أي لا يوصله إلى ذلك.

والله سبحانه وتعالى منفرد بخلق أعمالنا القلبية وهذا الحديث أبين دليل على ذلك: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» وورد في معناه ءايات قرءانية منها قول الله تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم}  110 سورة الأنعام. وقوله تبارك وتعالى: فألهمها فجورها وتقواها} 8 سورة الشمس. هذه الآية أيضا دليل على أن الله تعالى هو خالق أفعال العباد القلبية، فإذا كان خالقا لأفعال العباد القلبية فبالأولى هو خالق لأفعال الجوارح كحركة الرجل أو حركة اليد أو للمح بصره أو طرفه.

ثم عبارة “العبد مسير أو مخير” ليست سائغة من حيث اللغة، وهذه العبارة منتشرة منذ نحو خمسة قرون، أما في الماضي([10]) لم تكن، وشاعت بين الناس.

ومعنى قوله تعالى:{وتخلقون إفكا } 17 سورة العنكبوت. معناه تفترون كذبا ليس معناه تحدثون من العدم إلى الوجود. الإفك إفك العبد باعتبار الخلق والإحداث فهو خلق الله تعالى وباعتبار الافتراء فهو وصف العبد، باعتبار معنى الافتراء وصف العبد، أما باعتبار معنى الخلق فهو مضاف لله تبارك وتعالى.

الدرس السابع عشر

قضية خلق أفعال العباد والرد على المعتزلة (درس ثالث)

الحمد لله رب العالمين صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين وسلامه عليهم أجمعين.

 أما بعد فقد ذكر في حديث مسلم الذي أمليناه في الدرس الماضي أن رسول الله ﷺ قال للرجلين الذين أتيا إليه فسألاه ذلك السؤال بقولهما: أرأيت يا رسول الله أي أخبرنا عن هذا الأمر، أرأيت يا رسول الله ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم قال: «بل شىء قضي عليهم ومضى عليهم»، المعنى أن حركات العباد وسكناتهم إن كانت في الخير وإن كانت في الشر فهو بقدر الله تعالى الأزلي، هذا الحديث أخذنا منه أن ما يعمله الناس اليوم في الدنيا ويكدحون فيه شىء قضي عليهم معنى قضي عليهم شاء الله تعالى أن يفعلوه باختيارهم فلا بد أن يفعلوه لأنه لو كان شاء الله تعالى أن يعملوا شيئا من أعمالهم ثم تخلف ذلك أي لم يحصل لكان ذلك نقصا في حق الله تعالى، لأن ذلك يعود معناه إلى أن الله تعالى يعلم الشىء على خلاف ما يكون عليه وهذا هو الجهل بعينه وإلى أن الله تعالى مغلوب ومن شأن الإله أنه لا يكون إلا غالبا لا يكون مغلوبا قال الله تعالى:{والله غالب على أمره} 21 سورة يوسف. معناه الله تعالى ينفذ مراده لا أحد يمنع نفاذ مراده، فعدم نفاذ إرادة الله تعالى يؤدي إلى نسبة الجهل إلى الله لأن إرادة الله تابعة لعلمه أي أن ما علم الله تعالى دخوله في الوجود شاء الله دخوله في الوجود وكلاهما أزلي علمه أزلي ومشيئته أزلية، وكل ما شاء الله تعالى دخوله في الوجود فقد علم الله أنه سيدخل في الوجود.

الله تعالى علم في الأزل أن كذا وكذا يصير حاصلا وموجودا فكل ما علم الله أنه سيصير حاصلا وموجودا فقد شاء الله أن يدخل في الوجود، فعلمه تبارك وتعالى أزلي ومشيئته تابعة له أزلية فما علم الله تعالى وجوده أي دخوله في الوجود فقد شاء دخوله في الوجود غير أن علم الله أعم وأشمل، علم الله تعالى يتعلق بالواجبات العقلية والجائزات العقلية أي الحادثات وبالمستحيلات، الله تعالى يعلم الواجب العقلي أي ما لا يجوز عليه الفناء، ما لا يجوز عليه العدم، الله تعالى واجب الوجود لا يقبل الانتفاء، هو موجود أزلا وأبدا فلا يقبل الانتفاء.

ذات الله لا يقبل الانتفاء لأنه لا يصح في العقل إلا وجوده فالله يعلم ذاته ويعلم صفاته الأزلية الأبدية، ويعلم المستحيل أي الشىء الذي لا يصح في العقل وجوده، فمتعلقات العلم أوسع من متعلقات المشيئة، المشيئة تعلقاتها بالممكنات العقلية، الجائزات العقلية، وهو ما يجوز عليه العدم والوجود، هذا العالم يقال له الممكن العقلي ويقال له الجائز العقلي لأنه يجوز عليه العدم تارة والوجود تارة، العالم لم يكن في الأزل ثم دخل في الوجود، الله تعالى بمشيئته خصصه بالوجود بدل العدم الذي كان فيه، بدل أن يبقى في العدم أدخله في الوجود، وكل شىء دخل في الوجود يجوز في العقل أن ينعدم بعد وجوده، ويجوز أن يبقى بعضه لأن استمرار الوجود في المستقبل لا يرده العقل إنما الذي لا يقبله العقل أن يكون العالم أزليا، الأزلية معناها استمرار الوجود في الماضي إلى غير أول، إلى غير ابتداء.

الشىء الذي لا يلحقه عدم باتفاق المسلمين بلا خلاف عندهم شيئان الجنة والنار أي جهنم، هذان شاء الله لهما البقاء أي أن لا يلحقهما الفناء فلا ينعدمان، وكذلك أهلوهما بعد أن يستمروا فيهما باقون لا يلحقهم الفناء.

بعض الناس استشكل عليه هذا فقال كيف نقول الجنة والنار باقيتان أليس يكون ذلك تشريكا مع الله حيث إن الله تعالى لا يجوز عليه الفناء، يعني فإذا قلنا الجنة والنار باقيتان أليس ذلك تشريكا لهما مع الله في البقاء، هذا جوابه أن يقال له ليس هذا تشريكا للجنة والنار مع الله بصفة البقاء لأن بقاء الله تعالى ذاتي أي واجب لا يقبل العقل خلافه، أما بقاء الجنة والنار فليس بقاء ذاتيا ،يجوز من حيث العقل (أي بالنظر إلى ذاتهما) أن ينقطع بقاؤهما فينعدمان،أما بالنظر إلى أن الله شاء بقاءهما فيستحيل عقلا فناؤهما) فلا تشريك، بهذا يزول الإشكال ويطمئن القلب لاعتقاد بقاء الجنة والنار إلى غير نهاية، وأما قوله تعالى في وصف أهل جهنم:{ لابثين فيها أحقابا}  23 سورة النبأ. فمعناه للدوام، معناه أنهم دائمون فيها لا يخرجون ولا يفنون، ليس المعنى أنهم يمكثون فيها مدة طويلة إلى أمد بعيد ثم يفنون، بل قوله تعالى: {أحقابا}  الأحقاب هي جمع حقب والحقب ثمانون سنة والمعنى أحقابا لا نهاية لها أي أزمنة لا نهاية لها، هذا المعنى لأن الله تعالى وصف في موضع ءاخر في القرءان بأن خلود الكفار أبدي أي لا نهاية له، فعلمنا من ذلك أن قوله تعالى “أحقابا” ليس بتحديد مدة بل هو عبارة عن دوام المكث واللبث هناك، القرءان يجب التوفيق بين ءاياته لأنه منزه عن التناقض.

قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا كان الله تعالى خالق أجسامنا فبالأولى أن يكون خالق أعمالنا أي حركاتنا وسكوننا، نحن ليس لنا إلا الكسب، والكسب هو المباشرة، أحدنا يتحرك بقدرة الله تعالى ويتصل بشىء يمس شيئا فيخلق الله تعالى الأثر الذي شاء أن يحدث من هذه المباشرة، هذا غاية ما للعباد، أما أن يحدثوا هذه الحركات والسكنات من العدم إلى الوجود فلا، ليس هذا مما يجوز لهم عقلا، لأنه لو كان الإنسان يخلق كل حركة يتحركها وكل سكون يسكنه بإرادة لكان مخلوق العباد أكثر من مخلوق الله، وهذا لا يليق بألوهية الله، لأن الألوهية تقتضي السيطرة على كل شىء فالله تبارك وتعالى مسيطر على حركاتنا وسكوننا كما أنه مسيطر على أجسادنا.

ذكر في كتاب القضاء والقدر عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال عن القدرية، (القدرية هم طائفة ينتسبون إلى الإسلام انتسابا وليس لهم نصيب في الحقيقة من الإسلام، يقولون الله خلق الأجساد فقط أجساد ذوي الأرواح ثم هم يخلقون حركاتهم وسكونهم وإدراكاتهم وعلومهم ونواياهم،) عن هؤلاء قال سيدنا علي رضي الله عنه: القدرية ما قالت بقول الملائكة ولا بقول النبيين ولا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول صاحبهم إبليس. قال أما مخالفتهم لله تعالى، قال الله تعالى: الله خالق كل شيء} وأما مخالفتهم للملائكة قالت الملائكة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} ، 32 سورة البقرة. المعتزلة يقولون معلومات العباد حركاتهم وسكونهم وعلومهم وإدراكاتهم كلها بخلق العباد، الملائكة قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا” معناه أنت تخلق علمنا الذي فينا، وأما هؤلاء يقولون نحن نخلقه كذبوا الملائكة، وقال نوح: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} 34 سورة هود. يقول نوح عليه السلام لقومه الذين هم كفار ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم”، نوح عليه السلام نسب أفعال العباد من حيث الخلق إلى الله تعالى ما نسبها إلى العباد، قال إن كان الله يريد أن يغويكم” معناه أن الله تعالى هو خالق الخير والشر في العباد ليس العباد يخلقون الهدى والضلال، لأنه قال إن كان الله يريد أن يغويكم”، المعنى إن كان الله تعالى شاء في الأزل أن تكونوا غاوين فأغواكم أي خلق فيكم الغواية، {ولا ينفعكم نصحي} أي بياني، المعنى أن وظيفتي أن أبين لكم وأحذركم طرق الهلاك، أما الضلالة إن قدرها الله عليكم فإرشادي لكم لا ينفعكم، وقال موسى: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} 155 سورة الأعراف. موسى عليه السلام لما ذهب لميقات ربه([11]) ثم قضى أربعين ليلة ثم عاد إليهم فوجدهم قد عبدوا العجل إلا بعضا منهم، قومه الذين اجتاز بهم البحر وأنقذهم ورأوا هذه المعجزة الكبيرة انفلاق البحر اثني عشر جزءا كل جزء كالجبل العظيم وبين كل جزء وجزء جبل أرض يابسة، فاجتازوا ونجوا من فرعون الذي أراد أن يبيدهم، كانوا هم ستمائة ألف وفرعون كان أخذ معه ألف ألف مقاتل أي مليونا مع السلاح، أما بنو إسرائيل المؤمنون الذين أخذهم موسى ما كانوا متسلحين، بعد أن رأوا هذه العجيبة المعجزة الكبيرة فتنهم شخص يقال له موسى السامري، اسمه باسم موسى عليه السلام، فتنهم صاغ لهم عجلا من ذهب ووضع فيه شيئا من أثر حافر فرس جبريل، عندما أراد فرعون أن يخوض البحر كان جبريل على فرس هذا الخبيث رأى موقف فرس جبريل فأخذ منه شيئا قبض منه قبضة ووضعه في هذا العجل المصور من ذهب فأحيا الله تعالى هذا العجل فصار يخور كالعجل الحقيقي خلق الله فيه الحياة، فقال لهم هذا إلهكم وإله موسى، حملهم على عبادة هذا العجل ففتنوا فعبدوا هذا العجل، فلما أخبر موسى بذلك اغتاظ على هؤلاء اغتياظا شديدا.

موسى السامري قال لهم هذا إلهكم أي هذا العجل الذي رأيتموه إلهكم خالقكم الذي يستحق أن تعبدوه وموسى أيضا هذا العجل هو خالقه لكن موسى نسي فذهب يطلب ربه، فصدقه بعض بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى، لما رأوا هذا الأمر العجيب فاتبعوه، فلما رجع موسى إليهم وعلم بحالهم اغتاظ منهم اغتياظا شديدا ثم أخذ هذا السامري فقال له: وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} 97 سورة طه. ثم اختار جرد من قومه سبعين شخصا ليأخذهم للتضرع إلى الله تعالى فقال موسى متضرعا إلى الله تعالى: لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء}

155 سورة الأعراف. المعتزلة خالفت الأنبياء خالفت نوحا كما بين وخالفت موسى لأن موسى قال “إن هي إلا فتنتك” أي هذا الأمر الذي حدث بقومي من عبادتهم العجل فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، معناه بهذه الحادثة أي حادثة تصوير هذا العجل حتى صار عجلا جسدا له خوار بخلق الله تعالى فيه الحياة هذه فتنتك يا رب أضللت بها قسما وهديت قسما، القدر الذين عبدوه أضللتهم، موسى يخاطب الله نسب الإضلال إلى ربه تبارك وتعالى لأنه لا خالق للشر ولا للخير إلا الله، العباد يكتسبون اكتسابا فقط، دلالة على أنه لا خالق لأعمال العباد إلا الله قال تضل بها من تشاء} أنت، المشيئة لله، وتهدي من تشاء} ، الهدى أيضا من الله، معناه أنت شئت للقسم الذين عبدوا العجل أن يعبدوه، في الأزل شاء الله لهم أن يتحولوا كفارا بعد أن كانوا مؤمنين، وشاء للآخرين أن يثبتوا فالذين ثبتوا زادهم الله تعالى على هداهم هدى، والمعتزلة خالفت الأنبياء،

وأما تكذيبهم لأهل الجنة فقد قال أهل الجنة: {لولا أن هدانا الله} 43 سورة الأعراف. الإيمان والعمل الصالح الذي كانوا عليه نسبوه إلى الله، المعتزلة ينسبونه إلى أنفسهم يقولون الله تعالى فرض عليه أن يدخلنا الجنة، نحن خلقنا هذه الأعمال الحسنة فالله فرض عليه أن يدخلنا الجنة. أما عند أهل الحق العمل الصالح والإيمان بخلق الله.

الله تبارك وتعالى تفضل على المؤمنين فخلق فيهم الإيمان والعمل الصالح كل حركاتهم في الخير الظاهرة والباطنة الله خلقها فلله الفضل عليهم ليس لهم على الله فضل، ثم فضلا منه يثيبهم في الآخرة النعيم المقيم، فضلا منه ليس ملزما، كيف يكون ملزما وهو الذي خلق فيهم الإيمان والهدى، هو تفضل عليهم بالإيمان والعمل الصالح ثم امتن عليهم بأن جعل مستقرهم النعيم في الآخرة فلله الفضل في الأولى والآخرة.

قال وأما إبليس فقد قال: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} 16 سورة الأعراف. “قال فبما أغويتني” المعنى أنت خلقت في الغواية فصدق في ذلك، إبليس صدق في ذلك، الله تعالى خلق فيه الغواية الضلالة، إبليس اكتسب اكتسابا فقط ما خلق غوايته، الله تعالى ما كذبه في قوله بما أغويتني، ومعنى قول إبليس {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} معناه أقف لهم في طريقك المستقيم لأزيغهم عنه، أقف لهم في صراطك المستقيم الذي أمرتهم به لأصرفهم عنه، كالذي يقف على الجادة ثم يأتي الجائين فيقول لهم الطريق من هنا فيزيغهم عن الطريق، هكذا شأن إبليس يزين لهم خلاف الأوامر، يزين لهم المعاصي حتى يقعوا فيها، هذا معنى قول سيدنا علي وخالفوا صاحبهم إبليس، هو وليهم وهم أولياؤه.

المشيئة والإرادة بمعنى واحد إنما الإرادة أحيانا تأتي بمعنى المحبة أما المشيئة فمعناها دائما التخصيص، ففي بعض المواضع في القرءان ذكرت الإرادة بمعنى المحبة، ومن المواضع التي ذكرت فيها الإرادة بمعنى التخصيص قوله تعالى: يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم 176 سورة ءال عمران. وقال ما أخبر به وحكاه عن نوح: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم}  هنا بمعنى التخصيص ومواضع أخرى كثيرة، أما ورود الإرادة بمعنى المحبة كقوله تعالى: تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة 67 سورة الأنفال. وقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر 185 سورة البقرة.  في هاتين الآيتين الإرادة بمعنى المحبة.

الجسد في القبر يشارك الروح بما يحصل له من ألم أو لذة لكن من حيث لا يظهر لعيون الناس وشاهد ذلك أن النائم يرى ما يسره في منامه فيرتاح لذلك ويرى ما يسوؤه فيتألم لذلك والناظر إليه لا يعرف حال النائم.

ورد في الصحيح عن رسول الله ﷺ: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» رواه البخاري ومسلم، هذا الحديث يحمل على الكافر، فالكافر يعذب يوم القيامة على كفره وعلى معاصيه، فهذا الكافر الذي قتل نفسه بتلك الحديدة يعذب بتلك الحديدة في نار جهنم على الدوام، على الدوام يطعن بتلك الحديدة في بطنه، كذلك الكافر الذي قتل نفسه بأن رمى نفسه من شاهق جبل حتى مات بهذا التردي، يفعل به في جهنم مثل ما فعل بنفسه، هذا الكافر، أما المسلم الذي قتل نفسه فهو يعذب في نار جهنم بما قتل به نفسه برهة ثم ينتهي فيخرج من النار ثم يدخل الجنة، ومن المسلمين الذين يقتلون أنفسهم من يسامحهم الله فلا يدخلهم جهنم.

والحديث الذي هو شامل للمسلم والكافر الذي يقتل نفسه هو حديث ءاخر صحيح أيضا وهو: «من قتل نفسه بشىء عذب به في نار جهنم» رواه البخاري، هذا يشمل المنتحر المسلم والمنتحر الكافر لأنه لم يرد فيه خالدا مخلدا فيها أبدا، أما الرواية التي فيها: «خالدا مخلدا فيها أبدا» هذه للكفار، للمنتحر الكافر، أما المنتحر المسلم فينطبق عليه حديث: «من قتل نفسه بشىء عذب به في نار جهنم» هذا في البخاري. وسبحان الله والحمد لله، والله تعالى أعلم.

([1])  فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي (88).

([2])  ألقاها على مكان طاهر نظيف.

([3])  أي هدد سيدنا موسى عليه السلام موسى السامري.

([4])  لفظ عامي معناه “يدلي”.

([5])  أي يسعون إليه.

([6])  وهم جبرية.

([7])  أي باطلة.

([8])  لأنه عالم لا كالعلماء، كما أنه شىء لا كالأشياء، فهو شىء بمعنى أنه ثابت الوجود لا بمعنى أن له أول.

([9])  أي يمكننا من السير.

([10])  فيما قبل ذلك.

([11])  أي لمناجاة الله أي لسماع كلام الله الأزلي.

الدرس التاسع عشر

قضية خلق أفعال العباد والرد على المعتزلة (درس رابع)

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وءال كل والصالحين وسلام الله عليهم أجمعين،

وبعد، فإن أعظم العلوم وأنفعها ما يعود إلى معرفة الله ورسوله، ما يعرف به الله ورسوله وما يعرف به سائر أصول العقيدة، لذلك سمى أبو حنيفة رضي الله عنه علم التوحيد «الفقه الأكبر»، له في علم التوحيد خمس رسائل إحداها «الفقه الأكبر» ثم معه كتاب «العالم والمتعلم» ثم كتاب «الوصية» ثم كتاب «الفقه الأبسط» ثم رسالة أخرى تسمى «رسالة عثمان البتي»، هذه الرسائل الخمس هي من تآليف أبي حنيفة، وتسميته لكتابه هذا الذي هو في العقيدة أي في معرفة الله ورسوله وما يتبع ذلك من أصول العقيدة «الفقه الأكبر» دليل ظاهر على أن علم العقيدة أشرف من علم الأحكام المسمى بالفقه.

ثم من أهم مسائل علم العقيدة مسئلة خلق أفعال العباد لأن الناس فيها على طرفين ووسط فالطرفان هالكان والناجي هو الوسط، وبيان ذلك أن أهل الحق وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان لم يحيدوا عما كانوا يعتقدونه إلى غيره، أي أن الله تبارك وتعالى هو خالق كل شىء، هو خالق أعمال العباد حركاتهم وسكناتهم كما أنه خالق أجسادهم، لا فرق عند أهل الحق بين أجسادنا وبين أعمالنا من حيث إن كلا خلق لله تعالى.

أجسادنا خلق لله وكذلك أعمالنا أي حركاتنا وسكناتنا خلق لله تعالى، نحن لا نخلق شيئا من ذلك، إنما أجسادنا ليست مكتسبة لنا لا تدخل تحت كسب العباد، لكن أعمالنا أي حركاتنا وسكناتنا داخلة تحت أكسابنا أي لنا فيها كسب، أما من حيث الخلق أي الإحداث من العدم إلى الوجود فهي لله تبارك وتعالى ليس لنا من ذلك شىء، لسنا مؤثرين بإيجادها اشتراكا مع الله ولا مستقلين بإيجادها وتكوينها، حركاتنا وسكناتنا لسنا خالقين لها استقلالا ولسنا خالقين لها مشاركة مع الله، بل الله تعالى هو المنفرد بإيجاد حركاتنا وسكناتنا.

هذا معتقد أصحاب رسول الله لم يكن بينهم اختلاف في ذلك ثم تبعهم على ذلك جمهور المنتسبين إلى الإسلام ولم يشذ عن ذلك أي عن هذا المعتقد الذي هو اعتقاد الصحابة إلا طائفتان تنتسبان إلى الإسلام أي تدعيان ادعاء وهم في الحقيقة ليسوا من أهل الإسلام لا حظ لهم في الإسلام، وإحدى هاتين الفرقتين يقال لها القدرية ويقال لها المعتزلة، والأخرى يقال لها الجهمية ويقال لها الجبرية.

هاتان الفرقتان المعتزلة والجبرية هما الطرفان المخالفان لأهل الحق الذين هم الوسط، فليحذر العاقل من الميل إلى إحدى هاتين الفرقتين اللتين هما طرفان، ثم أهل الحق الذين هم الوسط لهم أدلة قرءانية ولهم براهين عقلية فمن أدلتهم القرءانية قوله تعالى: هل من خالق غير الله} الله تبارك وتعالى أطلق هذه الآية إطلاقا لم يقيدها بالأجسام، الأجرام، ولا بالأعمال فأفهمنا أنه تبارك وتعالى هو خالق الأجسام الصغيرة والكبيرة من العرش إلى الذرة، وأنه هو خالق الحركات والسكنات والنوايا والإدراكات والعلوم كل ذلك الله خالقه لا خالق سواه، هكذا تعطي هذه الآية: هل من خالق غير الله} كذلك قوله تعالى:{الله خالق كل شيء} لأن كلمة شىء تشمل الأجرام أي الأجسام والحركات والسكنات والإدراكات والعلوم، فإدراكات البشر وغيرهم من الخلق وعلومهم مخلوقة لله ليست مخلوقة للعباد وإن كان ظاهرا ينسب إلى العبد يقال فلان حصل علوما والمعنى عند أهل الحق في ذلك أنه اكتسب نيل هذه العلوم فنالها بخلق الله لا بخلق العبد نفسه.

كذلك الأسباب العادية عند أهل الحق لا تخلق شيئا، والأسباب العادية هي هذه الأمور التي جعل الله تبارك وتعالى فيها السببية بشىء من الأشياء، الماء جعله الله سببا للري والخبز جعله الله سببا للشبع والنار جعلها الله تعالى سببا للإحراق والدواء جعله الله سببا للشفاء ولم يجعل الله تعالى هذه الأسباب خالقة للمسببات التي تحدث بعد مباشرتها، الري الذي يحصل بعد شرب الماء ليس الماء يخلقه، كذلك الشبع الذي يحصل إثر تناول الخبز ليس الخبز يخلقه والشفاء الذي يحصل إثر تناول الدواء ليس الدواء يخلقه، فهذا الذي يكون موافقا للقرءان لأن الله تبارك وتعالى لما قال: :{الله خالق كل شيء}  أفهمنا أن كل هذه الأسباب لا تخلق شيئا بل الله هو الذي يخلق هذه المسببات عند تناولها، ونصب الله تبارك وتعالى لعباده دليلا يدل على أن هذه الأسباب لا تخلق مسبباتها يوجد حيوان يقال له “السمندل”، هذا الحيوان يتلذذ بالنار ولا تحرقه ولا تؤثر فيه وهو مثل غيره من الحيوانات مركب من لحم ودم، حتى إن الفراء والمناديل المتخذة من جلده إذا اتسخت تطرح في النار، وحتى إنه يغمس في الزيت ويشعل نارا ثم لما ينتهي الزيت تنطفئ النار وتبقى هذه المناديل وقد ذهب عنها الوسخ ولم تحترق([1])، هذا جعله الله تعالى دليلا لنا على أن النار لا تخلق الإحراق بل الله تعالى هو الذي يخلق الإحراق إثر ملامسة النار، أي أن النار لا تخلق الإحراق بطبيعتها وأنها لا تؤثر بطبعها في الإحراق أي بدون إرادة الله وخلق الله تعالى لهذا الإحراق.

فالله تعالى هو الذي يخلق الإحراق ليست النار تخلق الإحراق،

 وكذلك قصة إبراهيم عليه السلام دليل على أن النار لا تخلق الإحراق، لو كانت النار تخلق الإحراق وأنها بطبيعتها تؤثر في ذلك لا بمشيئة الله وإرادته لاحترق إبراهيم وما خرج سالما، وإلى وقتنا هذا يوجد أناس مؤمنون أتقياء أولياء لله تعالى يدخلون النار الموقدة فلا تحرقهم ولا ثيابهم يمكثون فيها ما شاء الله.

حكى لنا أحد شيوخنا وهو الشيخ محمد سراج رحمه الله تعالى قال: كنت بالسودان في ناحية تسمى حلفا([2]) فحصل اجتماع حضره أناس وحضره شخص ينتسب للطريقة القادرية وشخص ءاخر ينتسب للطريقة التجانية، الشخص المنتسب للطريقة التجانية مدع فارغ تبجح بطريقته لأنه تجاني فصار يدعو الناس في هذا المجلس إليها ليدخلوا في هذه الطريقة فاغتاظ هذا الرجل القادري وهو من أولياء الله، غضب لله تبارك وتعالى لأنه يعلم أن هذه الطريقة التجانية مخالفة لشريعة الله وفيها دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان من جملتها أنهم يقولون: “الواحد بمجرد ما يأخذ طريقتنا صار أفضل من القطب من غيرنا”، هنا خالفوا كتاب الله، الله تعالى قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ،13 سورة الحجرات.

هذه الطريقة جعلت الفضل بالانتساب إليها ليس بالتقوى. فهذا القادري الذي هو من أولياء الله غضب لله تعالى لأنه وجد هذا يدعو لطريقته الفاسدة فقال لأهل الضيعة: يا جماعة امتحنونا، ومعروف في تلك البلاد أن الامتحان قد يكون بإيقاد نار عظيمة ثم دخول الشخص الممتحن فيها فأوقدوا نارا عظيمة، القادري الذي هو من الصادقين من أولياء الله من أهل الكرامات جاءته إشارة أن هذه النار لا تؤثر فيه فدخل فيها فنادى وهو في وسطها هذا التجاني الدجال قال له: تعال ادخل فلم يجرؤ، خرج من هذه القرية وهو مخزي، فعرف الناس أن هذه الطريقة ليست على شىء وأن المنتسبين لها كاذبون ليسوا من أولياء الله، فهذا الصوفي القادري لم يحترق، وغير ذلك حصل لخلائق لا يحصون أنهم دخلوا النار فلم يحترقوا.

فهذا دليل نصبه الله تعالى ليزداد المؤمن إيقانا بأن الله تعالى هو خالق كل شىء، هو خالق الاحتراق إثر مماسة النار ليست النار تخلق الاحتراق، كذلك السم الذي هو من شأنه أنه يقتل متناوله في الحال ليس هو خالق الموت إثر تناوله بل الله تعالى هو يخلقه، فإن لم يشإ الله تعالى في الأزل أن يموت شخص بتناوله للسم القاتل لا يقتله هذا السم لأن الله لم يشأ، والسم لا يؤثر بطبعه الموت لمتناوله، هذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان بالحيرة وهناك كان كفار من كفار العجم فهيؤوا له سما قاتلا لساعته فقال لهم: هاتوا، فتناوله وسمى الله تعالى فلم يؤثر فيه شيئا بل سال العرق على وجهه، على جبهته، فلما شاهدوا ذلك أي أنه لم يمت من هذا السم هابوه فانقادوا له، هذه دلائل عيانية نصبها الله تعالى لعباده حتى يزداد المؤمنون إيقانا بأنه لا خالق إلا الله، أي أن الأسباب العادية الماء والخبز والنار والدواء وغير ذلك من الأسباب العادية لا تخلق مسبباتها وأنه لا ضار ولا نافع على الحقيقة إلا الله، أي أن شيئا من الأشياء من الأسباب العادية لا يظهر منها مسبباتها إلا أن يكون الله شاء في الأزل أن يحصل المسبب إثر هذا السبب، لأن السبب لا يخلق ذلك المسبب إنما الله هو خالق ذلك المسبب زيادة في الإيقان بأن الله تعالى هو خالق كل شىء وأن الأسباب العادية لا تخلق إنما الله تعالى يخلق إثر استعمالها ذلك المسبب.

فالله تبارك وتعالى قال: :{الله خالق كل شىء}  وكلمة شىء ليست خاصة بالأجسام، الكلام يقال له شىء والبطش أيضا باليد شىء وتناوله يقال له شىء واللمح بالبصر يقال له شىء، حتى الأعمال القلبية يقال لها شىء، كل ما دخل في الوجود يقال له شىء، وكل موجود أيضا يقال له “شىء”، الموجود الأزلي يقال له “شىء” وهو الله، الله تعالى يقال له شىء لكن لا بمعنى الحادث الذي دخل في الوجود بل بمعنى الموجود، كلمة “شىء” هي للموجود وإن كان هذا الموجود أزليا لم يسبقه العدم وهو الله وصفاته، علمه وقدرته ومشيئته وحياته وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك من صفاته، فكلمة شىء تشمل الموجود الأزلي وهو الله وصفاته علمه وقدرته ومشيئته أي إرادته، فليعلم ذلك وليعلم الذي يجهل هذا.

وفي القرءان الكريم دليل على أن الله يطلق عليه شىء بمعنى موجود : {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} 19 سورة الأنعام.أي الله تعالى هو أكبر شىء شهادة، سمى نفسه شيئا بمعنى الموجود لا بمعنى الحادث، هنا المصيبة لكثير من الناس تأتيهم من جهلهم باللغة، والله تبارك وتعالى قال: قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} 16 سورة الرعد. وقوله شىء يشمل حركات العباد وسكناتهم وأجسادهم، لا يخرج من كلمة شىء في هذه الآية كل موجود دخل في الوجود بعد أن كان معدوما.وهناك ءايات دلت على أن الأعمال القلبية أيضا مخلوقة لله تعالى قال الله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} 110 سورة الأنعام. دلت هذه الآية على أن تقليب العباد أبصارهم وتحركات قلوبهم وتقلباتها من حال إلى حال كل ذلك بخلق الله تبارك وتعالى، كان من دعاء رسول الله ﷺ: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم والبيهقي والحاكم وغيرهم.

الرسول قال هذا بعد أن قال: «إن قلوب بني ءادم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء». قوله «إصبعين من أصابع الرحمن» بمعنى التقريب أي أن الله تعالى هو يتصرف فيها من غير أن يلحقه تعب ومشقة، كيف يشاء يقلبها من غير أن يلحقه تعب بل بمحض إرادته الأزلية وقدرته الأزلية يحدثها من العدم إلى الوجود، معنى بين إصبعين من أصابع الرحمن أنها في قبضته، أن قلوب العباد في قبضته لا تخرج عن قبضته، لا تخرج عن مشيئته، هو يتصرف فيها كيف يشاء أي على حسب مشيئته في الأزل، ليس متجددا على الله تعالى علم ذلك، هو علم في الأزل وشاء تقلبات القلوب، القلب يتقلب أكثر من تقلب البصر، أسرع تقلبا من تقلب البصر، هو خالق ذلك كله.

هذا معتقد أهل الحق الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثبتنا الله على ذلك وحفظنا من الميل إلى خلاف ذلك، لأن الإنسان في هذه الحياة عرضة للتقلبات والتغيرات فرب إنسان كان على حالة حسنة يجتمع بإنسان من هؤلاء من أهل الزيغ والضلال من معتزلة فيسمع من أحدهم هذا الكلام الذي هو عكس ما عليه الصحابة والتابعون، يسمع منهم أن العبد هو يخلق حركاته وسكناته فيعتقد هذا الاعتقاد فيضل.

فالإنسان في هذه الحياة الدنيا عرضة للتقلبات والتغيرات من حال إلى حال، فمن الناس من وفقهم الله تعالى فيتقلبون من حال حسن إلى أحسن، من حسن إلى أحسن حتى يتوفاهم الله وهم على أحسن حال، ومن الناس من ينقلبون من حسن إلى سيء ثم إلى أسوأ ثم إلى أسوأ حتى يموتوا وهم على أسوإ أحوالهم.

ثم هؤلاء أهل الاعتزال بعد أن ظهروا بين المسلمين بعدد قليل كان بدؤه قليلا جدا، هم فهموا بعض الآيات القرءانية على غير وجهها فهلكوا، ثم دعا هؤلاء غيرهم إلى هذا الاعتقاد الذي هو ضلال وهلاك فتبعهم من أغواهم الله تبارك وتعالى، أما الذين حفظهم الله فهم محفوظون، هؤلاء المعتزلة تكلم فيهم رجال من أعلام السلف كعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه هو كان رأيه في هؤلاء المعتزلة أن يدعوا إلى التوبة أي التخلي عن هذا الاعتقاد وإلا تضرب أعناقهم.

كان رجل في عهده يسمى غيلان الدمشقي معتزلي كان يدعو إلى الاعتزال فاستدعاه لما أخبر بشأنه أنه يدعو إلى هذه العقيدة الفاسدة فاستتابه فأظهر التوبة فتركه من القتل لأنه أظهر الرجوع، ثم بعد وفاة عمر بن عبد العزيز رجع إلى ما كان عليه، كان رأسا من رؤوس الاعتزال فقتله بعض الولاة الأمويين بعد ذلك([3])، بعد عمر بن عبد العزيز، وله أي لعمر بن عبد العزيز رسالة في الرد على المعتزلة وكذلك لأناس ءاخرين من أعلام السلف من جملتهم أبو حنيفة فإنه كان شديد الاعتناء بالرد عليهم حتى إنه سافر من بغداد إلى البصرة وبينهما مسافة واسعة لدحض أباطيلهم ونقض شبههم وتمويهاتهم أكثر من عشرين مرة، هكذا كان السلف الصالح رضي الله عنهم، في ذلك العصر الذي لم يكن فيه من أسباب التنقلات العادية إلا ركوب الدواب، تكلف هذه المشاق لوجه الله تعالى ونصرة دينه محافظة على سنة رسول الله جزاه الله عن المسلمين خيرا، ليس لدحض هؤلاء المعتزلة فقط بل كانت البصرة فيها أصناف من الضالين، المعتزلة كانوا فيها وأهل الإرجاء كانوا فيها وبعض الملاحدة المشككين في الإسلام للناس كانوا فيها، كانت رحلاته هذه بقصد دحض هؤلاء الفرق كلها، الله تبارك وتعالى ءاتاه قوة في الجدل وقوة في البيان.

فالصحابة كانوا يعتقدون أن الخالق لا يشبه شيئا عملا بالدليل العقلي والدليل القرءاني، أما الدليل العقلي فهو أن الخالق لا يجوز عقلا أن يشبه مخلوقه بوجه من الوجوه لأنه لو كان يشبه مخلوقه بوجه من الوجوه لجاز عليه ما يجوز على سائر المخلوق من الموت والتغير والضعف وذلك ينافي الألوهية، وأما الدليل القرءاني فقوله تعالى: ليس كمثله شىء} نفى الله تبارك وتعالى عن نفسه أن يماثله شىء سواه.

بعد عقد القلب على هذا لهم حال خصهم الله تبارك وتعالى به وفضلهم على غيرهم من أهل التشبيه وهو أنهم إذا مروا بآية قرءانية أو حديث نبوي ظاهره يوهم أن الله يشبه شيئا من خلقه لا يعتقدون أن هذا الذي يوهمه ظاهر النص القرءاني أو الحديثي مراد لله تبارك وتعالى، بل يعتقدون أن هذه الآية لا تحمل على ظاهرها، وأن هذا الحديث لا يحمل على ظاهره ، حتى لا يخرجوا عن مقتضى قوله تبارك وتعالى: ليس كمثله شىء}

فالمسلم الذي اعتقاده مبني على التنزيه ثابت على ذلك، إذا مر على ءاية: الرحمن على العرش استوى} لا يفسرها بشىء يشبه أحوال المخلوق كالجلوس والاستقرار، بل يحمله على القهر لأن القهر صفة من صفات الله، من صفات الكمال لله تبارك وتعالى، هو وصف نفسه بأنه قهار لأن القهر من الصفات الدالة على الجلال والعظمة، يفسر الاستواء على العرش بالقهر أي أنه قاهر العرش فإذا كان قاهرا للعرش فهو قاهر لكل شىء لأن العرش أعظم المخلوقات من حيث المساحة.

سئل الشيخ: ما هي فائدة العرش ولم خلقه الله؟

فقال الشيخ: قال علي رضي الله عنه: “إن الله خلق العرش إظهارا لقدرته ولم يتخذه مكانا لذاته” الملائكة الذين هم حوله والذين هم حاملو هذا العرش الذين هم في عظم الخلقة لا مثيل لهم بين عباد الله تعالى أحدهم ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام فهؤلاء يزدادون تعظيما لربهم وإيقانا بكمال قدرته لما يرون هذا العرش.

سئل الشيخ: المخلوقات المرئية بالنسبة للإنسان هل هي دليل على عظمة الخالق أكثر من الأشياء الغير مرئية كالعرش مثلا؟

فقال الشيخ: كل ما نراه دليل على قدرة الله ووجوده لكن بعض الأشياء أعظم دلالة على ذلك من بعض، هؤلاء الملائكة لما ينظرون إلى ذلك الجرم العظيم يزدادون إيقانا بكمال قدرة الله، هم موقنون لو لم يروا العرش هم موقنون بكمال قدرة الله لكن لهم في رؤيتهم لذلك العرش مزيد إيقان بكمال قدرة الله، وكذلك إذا مر عليه هذا الحديث: «إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن» لا يعتقد أن لله تعالى جارحة أي جسما إنما يحمله على المعنى الحسن وهو أن القلوب في قبضة الله تعالى (أي في تصرفه) لا تخرج عن مشيئته وإرادته، هذا معروف عند العرب القدماء، العرب الفصحاء الذين نزل القرءان بلسانهم، أساليب اللغة التي هي من باب المجاز والكناية معروفة عندهم، معلومة لهم سليقة وطبعا.

ومن ذلك ما رواه البيهقي بإسناده عن عمر بن الخطاب أنه كان كثيرا ما يقول على المنبر هذين البيتين: (السريع)

خفض عليك فإن الأمور            بكف الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيها                            ولا قاصر عنك مأمورها

“خفض عليك” ويروى “هون عليك، فإن الأمور بكف الإله مقاديرها” هنا عمر ابن الخطاب ما كان يفهم من كلمة “بكف الإله” أن الله تعالى جسم له كف بالمعنى العرفي الذي هو مألوف بين البشر، إنما المعنى الذي يفهمه من هذا أن الأمور في قبضة الله تعالى أي أن تقلبات الأحوال التي قد تجري على العباد في قبضة الله تبارك وتعالى يتصرف فيها كيف يشاء، هذا معناه الذي كان يعتقده عمر ليس معنى التجسيم أي أن الله تعالى له كف بمعنى الجارحة، الجارحة للعباد أما الخالق منزه عن الجوارح كما قال الطحاوي.

قال: “فليس بآتيك منهيها” معناه لا يأتيك أيها الإنسان الشىء الذي قدر الله تعالى أن لا يصل إليك، الأمور التي أخطأتك فإن الله تبارك وتعالى شاء أن لا تصيبك، “ولا قاصر عنك مأمورها” أي لا بد أن تنال ما قدر الله تعالى أنه يصل إليك، فإذا كان الأمر هكذا “هون عليك” معناه لا تكثر همك كن واثقا بأن الله تبارك وتعالى يوصل إليك ما قدر أن يصل إليك وكن عالما وجازما بأنه لا يصل إليك ما لم يشإ الله تعالى أن يصل إليك.

سئل الشيخ: أليس في هذا دعوى إلى التكاسل؟

فقال الشيخ: ليس فيه دعوى إلى التكاسل عن العمل. عمر رضي الله عنه الذي كان يقول هذا على المنبر كثيرا، منبر رسول الله، كان من أشد الناس اجتهادا في خدمة الناس، إنما المقصود أن لا يكثر الإنسان الهم أي لا يشغل فكره بل يبقى ويثبت على الإيقان بأنه لا بد أن يصيبه ما قدر الله من منافع وغيرها وأنه لا يصيبه ما لم يقدر الله أن يصيبه، هذا أمر يرجع إلى الاعتقاد.

ثم روى البيهقي رحمه الله عن أبي جعفر الصادق محمد بن علي الباقر عن أبيه قال قال أبي الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: والله ما قد قالت القدرية بقول الله ولا بقول الملائكة ولا بقول النبيين ولا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول صاحبهم إبليس، فقالوا له تفسره لنا يا ابن رسول الله، فقال قال الله عز وجل: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء} الآية 25 سورة يونس.

هذه الآية تدل على أن الله تبارك وتعالى هو خالق أعمال العباد ليس العباد خالقي أعمالهم، القدرية خالفوا هذه الآية بقولهم نحن نخلق أعمالنا الله ما له تصرف بعد أن أعطانا القدرة على أعمالنا هو لا يستطيع أن يخلق حركاتنا وسكناتنا، قالوا بعد أن أعطانا القدرة عليها صار عاجزا، بهذا خالفوا هذه الآية لأن الله تعالى يقول: ويهدي من يشاء} أي أن الله تعالى هو الذي يخلق في عباده الحركات إلى الطاعة، الإيمان هو يخلقه فيمن شاء والطاعات هو يخلقها فيمن شاء من عباده أما هم خالفوا هذا قالوا العبد يخلق بل كل ذوي الأرواح عندهم يخلقون أعمالهم، هذا وجه مخالفتهم للآية.

وقالت الملائكة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} 32 سورة البقرة .هنا تبين لنا الآية أن الملائكة يعتقدون أن أعمال العباد بخلق الله لا بخلق العباد، فإن الملائكة فوضوا العلم إلى الله تبارك وتعالى، أي أنه تعالى هو الذي يخلق فيهم العلوم التي وصلت إليهم وأنهم ليسوا خالقيها: لا علم لنا إلا ما علمتنا} معناه المعلومات التي لنا أنت خلقتها فينا لسنا نحن خالقيها، لا نستطيع أكثر مما أنت أعطيتنا من العلوم، والمعتزلة خالفوا هذا لأن من عقيدة المعتزلة أن العبد هو يخلق العلوم والإدراكات فتبين بهذا أنهم مخالفون لقول الملائكة كما أنهم مخالفون لقول الله تعالى إخبارا عن نوح عليه السلام أنه قال: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} الآية 34 سورة هود.

هذا بيان لقول الحسين بن علي رضي الله عنهما، هو يبين وجه مخالفة القدرية لقول النبيين حيث قال نوح عليه السلام لقومه الذين هم كذبوه وكفروا به وبالله: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} هذا أيضا فيه إثبات أن الله تعالى هو خالق أعمال العباد، لو لم يكن اعتقاد نبي الله نوح ذلك ما قال هذا لكن هذا اعتراف منه بأن الله تعالى هو خالق أعمال العباد قال: إن كان الله يريد أن يغويكم} نص نوح عليه السلام على أن الله تبارك وتعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها وأن غواية الغاوين من عباده فهي بخلق الله تبارك وتعالى وأن غواية الغاوين من العباد فإنما تقع بمشيئة الله لأنه عليه السلام قال: إن كان الله يريد أن يغويكم معناه إن كان الله شاء في الأزل أن تكونوا غاوين باختياركم فتكونوا منساقين إلى الغواية والضلالة باختياركم فمن يمنع مشيئة الله من النفاذ أنا لا أستطيع أن أمنع نفاذ مشيئة الله فيكم، ومع ذلك هو بما أنه مأمور بأن يدعوهم إلى الإيمان بالله وبرسوله نوح الداعي لهم إلى الله بلغ، ظل يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ظل يدعوهم إلى الإيمان والإسلام وهم عاكفون على عبادة الأوثان لم يتبعه منهم إلا قليل من البشر، هذا فيه دلالة على أن الله تبارك وتعالى لا يحصل شىء من أعمال العباد خيرها وشرها إلا بمشيئة الله أي بتخصيص الله، الذي يحبه الله من أعمالنا فهو بمشيئته أي بتخصيصه والذي يكرهه من أعمالنا فهو بمشيئته وتخصيصه يدخل في الوجود، لا فرق في ذلك، إنما الفرق أن أعمالنا التي أمرنا بها على ألسنة أنبيائه يحبها وأعمالنا التي يكرهها هو لا يحبها، هنا الفرق، أما من حيث المشيئة أي التخصيص فلا فرق بين أعمالنا الحسنة وبين أعمالنا السيئة التي هي المعاصي والضلالات والغوايات، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم}

فأما موسى عليه السلام فقال: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} 155 سورة الأعراف. لو لم يكن في القرءان إلا هذه الآية لكانت حجة دامغة لهؤلاء الذين يقولون الله تعالى ما شاء معاصي العباد أن تقع وتحصل إنما العباد هم خلقوها بدون مشيئة الله، هذه طائفة القدرية الضالة تقول معاصي العباد من كفر فما دونها حتى المكروهات عندهم تحصل بدون مشيئة الله، والقدرية على زعمهم الله تعالى شاء أن يهتدي كل العباد ولم يشأ ما حصل من الكفار من كفر ومعاصي وما حصل من عصاة المسلمين من معاصيهم ما شاء دخولها في الوجود، معنى ذلك أن الله مغلوب يجري في ملكه ما لا يشاء، والمغلوبية تنافي الألوهية.

الإله من خصائصه أنه غالب غير مغلوب لا يقع في ملكه ما لا يشاء حصوله ودخوله، كل ما دخل في الوجود علمنا أنه بمشيئة الله دخل بما في ذلك من حركات العباد من خير وحركاتهم من معاصي ونواياهم كل ذلك لا يحصل إلا بمشيئة الله والمشيئة غير الأمر وغير المحبة والرضى، المشيئة معناها التخصيص، الله تبارك وتعالى خصص هذه الأعمال التي تحصل من العباد خيرها وشرها بالدخول في الوجود بدل أن تبقى في العدم، هو العالم بأسره كان معدوما.

المعتزلة في تمويههم على الناس يقولون: كيف يشاء ما لم يأمر به؟ فيقال لهم: أليس علم في الأزل أن هؤلاء الكفار يكفرون وأن هؤلاء العصاة يعصون؟ أليس عالما في الأزل قبل أن يخلق العالم أن ذلك سيحصل فهل، من بد من حصول ذلك منهم بعد أن يخلقوا؟ فليس لهم مفر من أن يقولوا لا بد، فيقال لهم: كما أنكم اعترفتم بأنه لا بد من حصول ذلك لأن الله علم في الأزل أنه يحصل منهم كذلك قولوا شاء أن يحصل منهم وهو لا يحبه ليس لهم جواب.

فمسئلة موسى عليه السلام هي أوضح دليل لأنه قال: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} وبيان ذلك أن موسى لما ذهب لميقات ربه (أي لمناجاة ربه) ثم خلف عليهم أخاه هارون، خلف على قومه أخاه هارون إلى أن يعود، هارون كان نبيا رسولا كما أن موسى نبي رسول، الله تعالى أشركه في النبوة والرسالة مع أخيه موسى، استخلفه فيهم ففي مدة غيبته أضلهم شخص يقال له موسى السامري، صاغ عجلا جسدا من ذهب ووضع فيه أثر حافر فرس جبريل فصار يخور هذا العجل مثل العجل الحقيقي ففتنهم بذلك قال لهم: “انظروا هذا إلهكم وإله موسى” فأطاعه بعض من قوم موسى الذين كانوا مسلمين وخالفه بعض، فلما رجع موسى أخبر بما فعلوا فاغتاظ عليهم اغتياظا شديدا بحيث إنه ألقى ألواح التوراة التي كانت في يده من شدة غضبه عليهم، ثم الله تعالى أوحى إليه أن يختار منهم سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فأخذتهم الرجفة، اهتزت بهم الأرض، قال موسى متضرعا إلى الله: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} الشاهد في قول موسى تضل بها من تشاء. هذا دليل صريح أن الله تعالى شاء ما يحدث من العباد من الكفر والفساد، وهو لا يحبه ولم يأمر به لكن شاء وقوعه أي خصصه بالوجود، أي لولا أنه خصصه بالوجود ما دخل في الوجود، الله تعالى شاء دخوله في الوجود فدخل في الوجود، هذا أكبر دليل، هذا يرد على هؤلاء الذين حرفوا ءايات قرءانية فجعلوها على المعنى الذي يوافق معتقدهم الفاسد.

فالمعتزلة يقولون أيضا في قوله تعالى: كذلك يضل الله من يشاء} 31 سورة المدثر. يقولون يشاء هو أي العبد، يقولون إن العبد شاء الضلالة يضله الله وإن العبد شاء الهدى يهديه الله عكسوا الحقيقة، والله تبارك وتعالى يعني بقوله “يضل الله من يشاء” هو أي الله لا يعني من يشاء هو أي العبد، الضمير في يشاء عائد إلى الله، كذلك يضل الله} يعود إلى لفظ الجلالة، {من يشاء} هو أي الله  ويهدي من يشاء} هو أي الله، الضمير إلى الله يعود، هؤلاء جعلوا الضمير عائدا إلى العبد ليتوصلوا إلى معتقدهم الفاسد.

فقوله: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء} يفضحهم، لأن فيه ما هو صريح لا يحتمل التأويل لا ظاهرا ولا حقيقة، موسى من يخاطب بقوله: إن هي إلا فتنتك} يخاطب الله، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء} أنت يا الله، تضل أنت يا الله من تشاء، هنا المعتزلة ينقطعون وكذلك من أخذ برأيهم الفاسد.

وقال الباقر رضي الله عنه فيما يرويه عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب:وأما أهل الجنة فإنهم قالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} 43 سورة الأعراف. فيه اعتراف من أهل الجنة لأنهم أسندوا خلق أعمالهم إلى الله فبطل كلام القدرية، بطل قولهم العبد يخلق أفعال نفسه وأن الله لا تصرف له في ذلك بعد أن أعطاهم القدرة، فهذا مخالفتهم لأهل الجنة.

قال وأما أهل النار فإنهم قالوا: لو هدانا الله لهديناكم} في جهنم يقولون لو هدانا الله لهديناكم، معناه أن الكفر الذي ارتكبوه باختيارهم بمشيئة الله وأن الله تعالى خصهم بالضلال ما خصهم بالهدى، لو خصهم بالهدى لاهتدوا كما اهتدى غيرهم من المؤمنين، هنا أيضا ظهرت مخالفة المعتزلة لأهل النار لأن المعتزلة قالوا الله شاء الاهتداء للجميع لكن قسم من العباد خرجوا عن مشيئته.

سئل الشيخ: أهل النار يخاطبون من؟

فقال الشيخ: يخاطبون بعضهم بعضا لأنهم قادة وأتباع، فرعون قائد إلى الضلال وله أتباع، القادة تقول: لو هدانا الله لهديناكم.

قال الحسين رضي الله عنه: وأما أخوهم إبليس { قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} 16 سورة الأعراف. إبليس اعترف بأن الله هو أغواه وأن غوايته هذه بخلق الله لم يخلقها إبليس، إبليس صار أفقه من المعتزلة لأنه اعترف بالحقيقة أن الله هو خالق الغواية كما أنه خالق الهدى {قال}  أي يا رب {فبما أغويتني} أي بإغوائك إياي {لأقعدن لهم} أي لبني ءادم {صراطك المستقيم} أي لأصرفهم عنه.

سئل الشيخ: قوله تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (163) سورة الأنعام. هل نستطيع أن نبدل “أول” بمن لأننا لسنا أول المسلمين؟

فقال الشيخ: الذي في القرءان حكاية عن سيدنا محمد قل أي يا محمد، سيدنا محمد هو أول المسلمين أي في أمته، أول من كان بصفة الإسلام بعد أن انقطع الإسلام من بين البشر، فنحن نقول وأنا من المسلمين، هذا الصحيح. الآية إخبار عن سيدنا محمد، {قل}  أي يا محمد، سيدنا محمد هو يصدق عليه أنه أول المسلمين على المعنى الوارد في القرءان، وقول الرسول عليه السلام {وبذلك أمرت} الله أمره أن يعترف بهذا، بهذا أمرت أي بإخلاص العبادة لله وأن لا أشرك به شيئا، الله أمره أن يقول هذا {وأنا أول المسلمين} أي وأنا أول من جاء بهذا في هذه الأمة لأن الإسلام كان انقطع من بين البشر في الجزيرة العربية التي منها مكة، مكة أحب البلاد إلى الله، وفيها أول بيت بني لعبادة الله.

أولئك كانوا خلوا عن توحيد الله، كانوا يعبدون الأوثان، الرسول عليه السلام الله تعالى أخرجه من بينهم سالما من كفرهم لا يعتقد إلا الإيمان بربه، نحن لا يجوز لنا أن نقول وأنا أول المسلمين، لكن عندما نقرأ القرءان نقرؤه كما هو.

سئل الشيخ: قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8) سورة النحل ،ما المراد بهذه الآية.

فقال الشيخ: تفيد الآية أن مخلوقات الله لا تنحصر في القدر الذي علمناه في ذلك الوقت بل الله تعالى يخلق ما لا نعلم، يحدث ما يشاء مما لم يكن لنا به  علم  كهذه الأشياء التي حدثت بعد ذلك إلى يومنا هذا.

الكافر في جهنم لا يحيى حياة هنيئة ولا يموت فيرتاح من العذاب، أما العصاة الذين دخلوا النار ثم أخرجوا يشاركون أهل الجنة في كثير من النعيم وهو الحياة في النعيم الغير منقطع والاستمرار بصفة الشباب الذي لا يصيبهم بعده هرم والصحة التي ليس بعدها مرض والتنعم الذي ليس بعده بؤس أي فاقة وفقر، يشاركون في هذه وما أشبهها لكن لا يشاركون عباد الله الأتقياء بما خصهم الله تبارك وتعالى به من النعيم الذي أخفاه أي الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه لا ملائكة ولا رسلا.

اللهم توفنا على الإيمان ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم اغفر لنا وارحمنا واهدنا وأصلح بالنا واستر عوراتنا وءامن روعاتنا واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

([1])  قال في القاموس: السمندل طائر بالهند لا يحترق بالنار.

([2])  أقصى شمال السودان.

([3])  وهو هشام بن عبد الملك.