الحمد لله رب العالمين وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وآل كل والصالحين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
من دلائل وجود الله تبارك وتعالى وقدرته وعلمه وإرادته اختلاف أحوال العالم من جمادات وحيوانات ولطائف وكثائف، كل ذلك تعتريه تغيرات أي انتقال من حال إلى حال، فالعقل الصحيح يدل على أن كل طارئ لا بد له من مكون أحدثه وأدخله في الوجود لأن تغير الشىء بنفسه مستحيل عقلا، كما أنه يحيل دخول الشىء في الوجود من دون مكون يدخله في الوجود، كذلك طروء التغيرات على الذي دخل في الوجود من غير مكون مستحيل عقلا.
فمن هنا قال أهل الحق الإنسان يستدل من نفسه على وجود مكونه، وسلكوا لذلك مقدمتين ونتيجة وهي أن يقول الإنسان: أنا كنت بعد أن لم أكن فما كان بعد أن لم يكن فلا بد له من مكون، هاتان مقدمتان، وتترتب عليهما النتيجة وهي: أنا لا بد لي من مكون معناه أنا حادث لأني وجدت بعد أن لم أكن، وكل ما وجد بعد أن لم يكن فلا بد له من مكون يكونه يدخله في الوجود، يخرجه من العدم إلى الوجود، وكذلك سائر الأشياء العلوية والسفلية كل إذا نظر فيها الإنسان بعقله وفكر تفكيرا صحيحا يجد هذا الدليل، فلذلك الله تبارك وتعالى من أسمائه الظاهر لأنه ظاهر بآياته أي أن كل شىء دخل في الوجود دليل على وجوده حيث إنه يستحيل في العقل أن يكون دخل في الوجود من غير مكون، ومن هذا القبيل قولهم أي قول علماء التوحيد العالم متغير أي تعتريه صفات تختلف عليه وكل متغير حادث فالعالم حادث.
ثم من هنا ينتقل إلى أنه يجب للعالم من محدث أحدثه أي أدخله في الوجود، هذا عام في الأجسام والصفات التي تطرأ على الأجسام، فإذا ثبت بالدليل العقلي أن العالم وصفاته التي تعتريه كل ذلك حادث أي لم يكن موجودا ثم صار موجودا، ثم من شأن هذا المكون أنه موجود لا كالموجودات أي لا يشبه الموجودات في شىء من صفاتها وأحوالها لأنه لو كان يشبهها لكان محتاجا إلى مكون فإما أن يتسلسل الأمر وهو محال وإما أن يدور الأمر على نفسه والتسلسل والدور كلاهما محالان عقلا فثبت أن مكون العالم يجب أن يكون موجودا لا يشبه الموجودات، ووجب أن يكون متصفا بالقدرة والعلم والإرادة والحياة، يجب أن يكون حيا لا كالأحياء، قديرا لا كالقادرين، عليما لا كالعالمين، مريدا لا كالمريدين، أي أن جميع صفاته ليست حادثة بل أزلية لا ابتداء لوجودها، فيتضح بذلك أن كل ما سواه، ما سوى هذا المكون محتاج لغيره لا شىء من الموجودات موجود بذاته إلا مكون العالم الذي أدخل كل أفراد العالم من العدم إلى الوجود، هذا الذي لا يحتاج إلى غيره، أما هذا العالم محتاج في أصل وجوده إلى غيره وهو مكونه ثم في استمرار وجوده كذلك ليس مستغنيا بذاته بل هو لا يزال محتاجا إلى ذلك المكون الذي كون ذاته وهو الذي يحفظ عليه وجوده إلى حيث يشاء هو أي ذلك المكون، (2)ويجب عقلا أيضا أن يكون مكون هذا العالم هو عالم بكل شىء علما أزليا. فلا شىء يحدث في العالم من تغير أحوال إلا وقد سبق علمه بذلك، ولا شىء من هذه الموجودات الحادثة التي وجودها بغيرها يخلق شيئا من الحركات أو السكنات، بل لا خالق إلا خالقها الذي أحدث أجرامها فهو الذي يخلق ما يطرأ عليها من التغيرات، والإنسان لا يخلق شيئا من أعماله الاختيارية فضلا عن الاضطرارية، لأن الواحد إذا شق التفاحة لا يكون هذا الشق بخلق هذا الإنسان بل بخلق مكونه الله، والدليل على ذلك أنه لو كان يخلق هذا الشق لاستطاع أن يخلق الالتآم، ولن يستطيع ذلك، فهذا دليل على أن الإنسان لا يخلق شيئا إنما الله تعالى يخلق فيه بقدرته التطورات والحركات والسكنات، هذا خالص التوحيد.
فمن حاد فقد ضل وخرج عن قضية العقل الصحيحة وعن النصوص القرءانية، الله تبارك وتعالى يقول: ﭐ هل من خالق غير الله ﱠ(3) سورة فاطر وقال:{ أفمن يخلق كمن لا يخلق}(17) سورة النحل. معناه لا أحد يخلق إلا الله، ولا يجوز أن يكون بعض الأشياء يخلقها الله وبعض الأشياء يخلقها غير الله كما تقول الثنوية، هؤلاء الثنوية طائفة من المجوس يقولون النور يخلق الخيرات والظلام يخلق الشرور، وفي التشنيع عليهم قال المتنبي (الطويل)
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
(وفي رواية عندك من يد)
والمانوية هي طائفة من الثنوية، يظنون أن النور أزلي والظلام أزلي ثم هما على زعم الثنوية يخلقان الخير والشر أحدهما يخلق الخير ويسمونه يزدان بالفارسية والآخر يسمونه أهرمن، المتنبي قال عن المانوية التي هي شبيهة الثنوية:
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
المعنى أن إسناد خلق الشرور كلها إلى الظلام وتجريد الظلام من نفع وفائدة هذا كذب، الليل فيه منافع كما أن نور النهار فيه منافع.
ثم إن الله تبارك وتعالى بما أنه ثبت أنه مالك كل شىء، لأن خالق كل شىء هو مالكه، بما أنه ثبت أنه مالك حقيقي لكل شىء فعال لما يريد لا يوصف بالظلم، لا يقال لم لم يخلق أفراد البشر على حد سواء على صفة واحدة، هو كان قادرا على أن يخلق جميع أفراد البشر على صفة واحدة من حيث الشكل ومن حيث الخلق ومن حيث المعيشة بجميع الوجوه لكن الله تبارك وتعالى خلق البشر على أشكال شتى ليكون ذلك دليلا على كمال قدرته لأننا لو لم نر هذه الأشياء المتقابلة لم يقو فينا الاعتقاد بوجوده وقدرته إلى هذا الحد الذي نصل إليه.
(3)- لما نرى الأشياء المتقابلة نرى الإنسان الطويل ونرى الإنسان القصير ونرى الإنسان الجسيم ونرى الإنسان النحيف ونرى الإنسان الذي هو دمث الأخلاق قريب التآلف ونرى العكس فمن رؤيتنا للمتقابلات نزداد علما بكمال قدرة الله تعالى، نحن نزداد ، أما الله تعالى لا يزداد شيئا ، يستحيل أن يطرأ عليه شىء جديد، لا يزداد كمالا ولا ينقص.
الله سبحانه وتعالى سمى نفسه الظاهر لأن كل شىء يدل على وجوده، فهو تبارك وتعالى أعرف المعارف كما قال سيبويه رحمه الله، يقول سيبويه في كتابه الذي يسمى “الكتاب”، تفخيما لشأنه يقال له “الكتاب”، يقول فيه: “الله أعرف المعارف”، المعارف عند علماء النحو معروف، قال سيبويه الله أعرف المعارف ثم رؤي بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك ؟ قال: غفر لي بقولي: “الله أعرف المعارف”. والله سبحانه تعالى أعلم. (الأسماء عند النحويين قسمان معارف ونكرات، فالمعارف على مراتب، فأعرف المعارف قال سيبويه الله، لأن كل شىء دليل على وجوده، فلا شىء معروف يشهد بوجوده كل شىء إلا الله الله تعالى أعرف المعارف)