الأحد ديسمبر 7, 2025

الدرس التاسع والثلاثون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ

بيان أهمية الإيمان لقبول الأعمال

هذا درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد الهرري رحمه الله تعالى وهو في بيان أهمية الإيمان لقبول الأعمال.

قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله ربّ العالمين له النّعمة وله الفضل وله الثّناء الحسن صلوات الله البرّ الرَّحيم والملائكة المقرَّبين على سيّدنا محمَّد أشرف المرسلين وخاتم النبِيّين وحبيب رب العالمين وشفيع المذنبين يومَ الدين.

أمّا بعد: فإن الله تبارك وتعالى حذَّرَ المؤمنين في كتابه القرءان الكريم من معصيته، واللهُ تبَارك وتعالى طاعتُه مقدّمةٌ على طاعةِ أي مخلوقٍ لأنّهُ تَبارك وتعالى هو الذي خلَق كُلَّ فَردٍ منّا، أوجَدَه منَ العَدَم فلا أحَدَ أَوْلى باستِحقاق الطّاعةِ علَينا منَ الله، والله تعالى هو أَحَقُّ مَن أُطِيع، أوْلى مَن أُطِيع، فلذلكَ لا يجُوز أن يعصِي الله تعالى العبد إنْ كانَ ذكَرًا أو إنْ كانَ أُنثَى مِن أجْل ولَدِ أو مِن أجْل مال حتّى الحاكمُ العامَ الذي يَحكُم البلادَ لا يجُوزُ أن يُعصَى اللهُ مِن أجل طَاعتِه، اللهُ تعالى هو الضّارُّ النّافع، لا ضَارّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلّا الله. أمّا ما سوى الله أسبابٌ فمَن شاءَ الله تعالى أن ينتفِع بشيء انتفعَ به ومن شاء الله تعالى أن ينضرَّ بشَيء انضَرَّ به، بحسَب الظّاهر نقولُ فلانٌ ينفَع فلانٌ يضُر، هذا الشيءُ يَنفَع هذا الشّيءُ يَضْرُ أمّا في الحقيقة فلا ضَارَّ ولا نافعَ إلّا الله.

مَن ءامَن باللهِ ورسولِه أي مَن عَرف الله وعرَف رسولَه فقد دخَل دائرةَ الإيمانِ والإسلام ثم بعدَ الإيمانِ باللهِ ورسولِه أفضَلُ الأعمال الصّلواتُ الخمس، جِبريلُ عليه السَّلامُ ذاتَ يوم جاءَ بصُورةِ إنسانٍ مِنَ البشَر نظِيفِ الثّياب شديدِ سَوادِ الشّعَر حسَنِ الهيئةِ والشّكل فجلَس وقد اقترَب منَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، أهلُ المدينة مِن أصحابِ رسولِ الله الذينَ كانوا فِي ذلكَ المجلس استَغرَبوا أمرَه لأنّهُ لا يعرفُه أحدٌ حتّى يقولوا إنّه مِن أهلِ البلَد، لا أحَدَ يعرفُه مِن أهل البلد، وكذلكَ لم يُرَ عليه أثرُ السَّفر، المسَافِر تَظهَرُ عليه ءاثارٌ ولا سِيّما في ذلكَ الزّمَن الذِي كان التّنقُّل فيه على الدّوابَ أو الـمَشْيٍ بالأقدام، فسألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ يا محمَّدُ أخبرنِي ما الإسلامُ قال: «الإسلامُ أن تشهَد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمَّدًا رسولُ الله وتُقيمَ الصّلاةَ وتؤتى الزّكاةَ وتَصومَ رمَضان وتحُجَّ البيتَ إن استطعتَ إليه سبيلًا»، قال فأنّا إذا فعَلتُ ذلكَ مسلِمٌ قالَ: «نَعم»، ثمّ قال فأخبرني عن الإيمان قال: «الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكتِه وكتُبِه ورُسُلِه واليوم الآخِر والقَدر خيرِه وشَرَه»، ثمّ سألَه عن الإحسان قالَ: «الإحْسَانُ أنْ تخْشى اللهَ كأنّكَ تَراهُ فإن لم تكن تَراهُ فإنّه يراكَ» اهـ هذا الحديث([i]) يُقالُ لهُ حديثُ جِبريل لأنّ السّائلَ هو جبريلُ لكنّه ما جاءَ بصُورةٍ كانَ يأتِي بها إلى الرَّسول قبلَ ذلكَ كانَ يأتِي جبريلُ إلى الرَّسول أحيانًا بصُورة رجُلٍ يُقالُ لهُ دِحْيَةُ الكَلبِي كانَ أجملَ أَصحَابِ الرَّسول، هوَ مِن قبِيلَة بَني كَلْب قبيلةٌ كبيرةٌ فِي العرَب، وكانَ قَصْدُ جبريلَ أن يُبَيّنَ لأصحاب رسولِ الله أمّا هوَ فكان عالمًا بهذه الأسئلة لا يحتاجُ لأنْ يَسألَ ليتَعلَّم، ثم ذهَب جبريلُ بعدَ سؤالٍ رابعٍ وهو أنّه قال متى السّاعةُ قال: «ما المسؤولُ عنها بأعلم منَ السّائل» المعنى: أنَا وأنتَ أيّها السّائلُ كِلانا لا نَعلَمُ متى تجِبُ السّاعةُ أي متى تقَعُ القِيامة، أنا لا أدري، اللهُ ما أعطاني عِلمَ ذلكَ ولا أنتَ تَدري، كلانا سواءٌ في عَدم العِلْم بوَقتِ حلُولِ القيامة، فيُفهَم من هذا الحديثِ أنّ أفضَل الأعمالِ بعدَ الإيمانِ بالله ورسولِه الصّلواتُ الخَمسُ، ثم معنى وتُقِيمَ الصّلاة أن تَثبُتَ على الصّلاةِ فِي حالِ المرض وفي حالِ السّفَر وفي حالِ العمَل وحالِ الخَوفِ وفِي حالِ القَلاقِل وفي الفَرح وفِي حال الحُزْن، فالذِي يُحافظُ على الصّلَواتِ في هذه الأحوالِ كُلّها يُقالُ لهُ مُقِيم الصّلاة، أمّا الزّكاةُ فلَه أن يؤخّر إلى أن يتَمَكّن مِنَ الأداءِ إن كانَ مالُه غائبًا وهو في غير بلد المال وليسَ معَهُ مالٌ يَدفَعُه زكاةً في الوقتِ الحاضرِ.

الإيمانُ باللهِ ورسُولِه هوَ أساسُ الدّين الذي لا يصِحُّ الإسلامُ والإيمانُ بدُونِه، من دُونِ معرفةِ اللهِ تعالى لا يقبَلُ اللهُ تبارك وتعالى مِن أحَدِ عَملًا ولذلك قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم بعدَ أنّ ذكَر المؤمنَ أنّه يجازي بحسَناته في الدُّنيا والآخرة قال: «أمّا الكافرُ فإنّ اللهَ يُطعِمُه بحسنَاتِه فِي الدُّنيا حتّى إذا أفضَى إلى الآخرة لم يكُن لهُ نَصِيْب». اهـ. رواه أحمد([ii]) ومسلم([iii])، وابن حبان([iv]) عن أنس، الكافرُ إذا عمِلَ حسَناتٍ في الدّنيا يُجازيه اللهُ في الدُّنيا بالصّحة والرّزْق، حتَّى إذا أفضَى إلى الآخِرة لم يكن لهُ منها نصِيب، ليسَ لهُ نصِيبٌ في الآخِرة مهما كانَ في الدُّنيا يَعمَلُ عمَلًا حسَنًا مع النّاس، مَهما كان يتصدَّق على الفقراءِ والمسَاكين ومهمَا كانَ يخدِم النَّاسَ الكافرُ ليسَ لهُ بعدَ الموت ثواب.

بنتُ حَاتِم الطَّائِيّ الرَّجُل المعْرُوف بالجُودِ والسّخاء الذي يُضرب به المثَل، كانت بنتُه هذه لمَّا وقعَت في الأسر وأُتِيَ بها إلى الرَّسول وكانت مُعْجِبَةَ المنظر ومُعْجِبَةَ الـمَنْطِق إذا تكلّمت فصاحتُها تُعجِب الناسَ قالت أنا بنتُ سيّدِ قومِه حَاتم الطّائيّ كانَ لا يَردّ طالبَ حَاجَةٍ كانَ يَقرِي الضّيفَ كانَ يُكرمُ الغَريبَ، ذكَرَت محَاسِنَ أبِيْها لتَستَعطِفَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ليُخَلّوا عنها، الرَّسولُ أحسَن إليها ثمّ قال لها: «لو كانَ مُسلمًا لتَرحَّمْنا عليه»([v]). اهـ وهذه البنت المسلمون قاتَلُوا قومَها لأنّهم كانوا مشركِين وأمّا حاتمٌ الطّائيّ فإن كانَ ماتَ بعدَ أن سمعَ بدَعوةِ الإسلام لا يَسْلمُ مِن نار جَهنّم وإن لم يكن سمِعَ بدَعوةِ الإسلام مِن أحَدٍ منَ البشر أو منَ الجِنّ لأن بعضَ الجِنّ كانوا مسلمين أيّامَ عيسى ثم أدركوا زمنَ سيّدِنا محمَّد فإنه يكون ناجيًا من أهل الفترة. فالكافرُ الذي سمِعَ بدعوةِ الإسلام أو لم يسمَع بدَعوة الإسلام لا يُترَحَّمُ عليه بعدَ مَوتِه، أمّا فِي حالِ حيَاتِه يُدعَى لهُ بالرّحمة، يُدعَى لهُ بالهِدايةِ، يُدعَى لهُ بصَلاحِ شَأنِه، كانَ اليَهودُ إذا عطَسُوا بحَضرةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم ينتَظِرُونَ مِنهُ أن يقولَ لهم رَحِمَك الله، فهوَ لا يقولُ لهم رحِمكَ الله كانَ يقولُ لهم يَهدِيْكُم اللهُ ويُصلِحُ بالَكُم، يكونُ دَعا لهم بالهدايةِ وصَلاحِ الشّأن.

والتّرحُّم على الكافر فِي حالِ حيَاتِه جائزٌ لأنّه يجُوز أن يهتَدى فيُسلِمَ فيَمُوت على الإسلام أمّا إذا ماتَ فقد فاتَه الإيمان. والله تعالى لا يَقبَلُ مِنَ الكُفّار إيمانَهم بعدَ اليَأس كأن يكونَ بعدَ حضُورِ ملَك الموت عزرائيل، بعدَ أن يرَى عزرائيلَ أو بَعدَ أن بلغَت رُوحُه الحُلقومَ أو بعدَ أن غَرِق فأيقَن بالهلاك فقالَ لا إلهَ إلّا اللهُ محمّد رسولُ الله لا يَقبلُ الله منه، بعدَ مُعَاينةِ العذاب لا يَقبَلُ اللهُ منهُ أي لا يُقبَل منهُ نَدَمه وتَصديقُه بالإسلام بعدَ مَوتِهِ مهما ندِم وتحَسَّر لأنّه لم يُسلم قبلَ مَوتِه فإنّ ذلكَ النّدَمَ لا يَنفَعُه وفي حال حياته أيضًا لا يَنفَعُه إذا كانَ إيمانُه بعدَ أن رأى مَلَكَ الموت أو بعدَ الغرَق كما أنّه لا يَقبلُ اللهُ الإيمانَ بعدَ أن تَطلْع الشّمس مِن مغربها، هذه الشّمس يأتي علَيها يومٌ تَطلع مِن مغربها، البشَر لمّا يرَونَ الشّمسَ طلَعَت مِن مَغربها يَفزَعُون فالكفّارُ يؤمنونَ لكنّ اللهَ لا يَقبلُ منهم إيمانَهم، حتّى المسلم الذِي كان فاسقًا إذا تابَ بعدَ ذلك لا يَقبَل اللهُ تَوبتَه، فمن صادف ذلك الوقت أي وقت طلوع الشّمس من مغربها فندم فقال تبت لا أعود فالله لا يقبل من هؤلاء المسلمين الذين كانوا من أهل الكبائر، والكافر أولى بأن لا يقبل منه الإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها.

وكان مجيء سيدنا جبريل عليه السَّلام في تلك المرّة وجلوسه أمام النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتربًا منه اقترابًا زائدًا حتّى أسند ركبتيه إلى رُكْبَتَيِ الرَّسول ورسولُ الله لم يكن عرفَه فِي المجلس ثم بعدَ أن فارقَ المجلسَ عرفَه لأنّه أتاهُ بصُورةٍ لم يكن أتاهُ بها قبلَ ذلك، قبلَ ذلكَ كانَ يأتيْه بغَيرِ صُورتِه الأصليّة لكن مرّتَين ظهَر لهُ بصُورتِه الأصليّة لما كانَ فِي مكّةَ ظهَر لهُ مرَّةً بصُورتِه الأصليّةِ التي لها سِتّمائة جنَاح فغُشِي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ أفاقَ ثمّ المرَّة الثانيَة ليلةَ المعراج، ليلة المعراج ظهَر لهُ جِبريلُ فِي صورتِه الأصليّة التِي لها سِتّمائة جَناح يتنَاثَر مِن جنَاحِه تهَاويلُ الدُّرّ واليَاقُوت شيءٌ يَبْهَرُ العين يتَساقَط منهُ على شَكل الدُّرّ واليَاقُوت تلكَ المرّةَ الثّانية ما حصَل لرسولِ الله غَشْيٌ بل ثبَت لأنّهُ زادَ قُوَّةً وتمكِينًا لأنّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم دائمًا يَترقّى فِي الكمَالاتِ، كلَّ يوم يَزيدُ رُقِيًّا فِي الكمَالاتِ. المرّة الأولى رأى جبريلَ وهو بالأرض كانَ بمكّةَ فِي مَكانٍ يُقال له أجياد قال لهُ جِبريل تُريد أن تَرانى فِي صَورتي الأصليّة قالَ نَعم قالَ سَلْ ربَّك فسألَ الرَّسولُ ربَّه أن يُرِيَه جبريل في صورتِه الأصليّة فصارَ يَرتفعُ فِي الهواء حتّى مَلأ ما بينَ المشرق والمغرِب فصُعِق رسولُ الله مِن هَيبة هذا المنظر ثم بعدَ ذلك بمدّةٍ إمّا سنةٍ أو سنتَين أو ثلاثِ سنَوات قبل أن يُهاجر إلى المدينة ليلة الإسراء رآه أيضًا بتِلك الصّورة لكنّه لم يُصعَق لم يُغشَ عليه.

والله تعالى أعلم. انتهى.

([i]) رواه البخاريّ في صحيحه باب قَوْلِهِ: {إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}.

([ii]) فيما روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

([iii]) باب جَزَاءِ الْمُؤْمِنِ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَتَعْجِيلِ حَسَنَاتِ الكَافِرِ فِي الدُّنْيَا.

([iv]) باب ما جاء في الطاعات وثوابها.

([v]) رواه البيهقي وابن عساكر.