الإثنين ديسمبر 8, 2025

الدرس السادس والثلاثون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ

بيان فضل القرون الثلاثة الأولى

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى في سويسرة في الخامس عشر من جمادى الأولى سنة ألف وأربعمائة واثنين من الهجرة الشريفة الموافق لسنة ثمان وثمانين وتسعمائة وألف رومية وهو في بيان فضل القرون الثلاثة الأولى.

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين.

أما بعد: فقد روينا بالإسناد المتصل في جامع الإمام الترمذي([i]) رحمه الله من طريق سليمان بن يسار قال قام فينا عمرُ بنُ الخطاب بالجابيةِ خطيبًا فقال قامَ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أوصيكم بأصحابي ثم الذينَ يلونهم ثم الذين يلونهم». اهـ.

هذا الحديثُ لأهميتهِ حدَّثَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ الذينَ كانَ أحدَهُم عمرُ بنُ الخطابِ قائِمًا، حدَّثَهمُ الرسول قائمًا والرسولُ كان يُحدّثُ أحيانًا قائمًا في غير خطبةِ الجمعةِ وأحيانًا جالسًا وكان عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه أرادَ أن يقتدِيَ برسولِ الله فقام في أرضٍ تُسمّى الجابية، هي من برّ الشام، قام خطيبًا فيمن كان معه من الصحابة من أصحاب رسول الله والتابعين فحدَّثهم بما سمعَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مُخبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُوصيكم بأصحابي ثمَّ الذينَ يلونهم ثم الذينَ يلونهم». اهـ. إنما ذَكَرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هؤلاءِ الثلاث لأن هؤلاءِ خيرُ الأمةِ أفضلُ أمةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم القرنُ الأولُ ثم القرنُ الثاني ثم القرنُ الثالثُ، والقرنُ فُسر بِعِدَّةِ معانٍ في اللغةِ، عُلَماءُ اللغةِ فسّروا القرنَ بعِدَّةِ معانٍ منها أي من تلك المعانِي مائةُ سنة وهذا هو الذي ذكرهُ الإمامُ محدّثُ الشام الحافظُ ابنُ عساكر رحمه الله فسَّرَ الحديث القرون الثلاثة بالثلاثمائة الأولى، وبعضٌ من المحدثينَ فسّرَ القرونَ الثلاثة بمن كانوا ضمن مائتين وعشرين عامًا على هذا التفسير المراد بالحديث من كان ضمنَ المائتين والعشرينَ عامًا وأما على التفسير الأولِ وهو تفسيرُ القرنِ بالمائة مائةِ سنة فمن كان ضمن الثلاثمائةِ الأولى كلُّهم يُقال لهم السلف.

ثم إن الخيريَّة المفهومَةَ من هذا الحديث باعتبار الجملةِ ليس باعتبار الآحادِ، ليس معنى الحديث أنّ كلَّ فردٍ من أفرادِ مَن كانوا في هذه القرون الثلاثة أفضلُ من كلّ فردٍ من أفراد الأمةِ الذينَ جاؤوا بعد ذلك ليس هذا مرادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأننا إذا نظرنا إلى الأفراد قد يوجد من هو أفضلُ عند الله تعالى درجةً من بعض من كان في القرنِ الأولِ أو القرنِ الثاني أو القرنِ الثالثِ لأن العبرةَ من حيثُ التفضيلُ هو التمكنُ في تقوى الله تعالى قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}([ii]) فليس كلُّ من كان في القرن الأول على حد سواء في تقوى الله لكنَّ المقَدَّمين من أهلِ القرنِ الأول أفضلُ مِنْ كل مَنْ جاءَ بعدَ ذلك إلى يوم القيامة وهؤلاء هم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وستة يتلونهم هم تِتِمَّة العشرة الذين يقال لهم العشرة المبشرون بالجنة ويلتحق بهؤلاء جميع من كان من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، المهاجرون هم هؤلاء العشرة لأنهم من أهل مكة هاجروا لمؤازرة النبيّ صلى الله عليه وسلم تركوا وطنهم مكة إلى المدينة ويوجد غير هؤلاء العشرة من المهاجرين الأولين عدد كثير منهم عمار بن ياسر رضي الله عنهما وبلال الحبشيّ رضي الله عنه وعمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه وأبو ذر الغفاريّ رضي الله عنه أما السابقون الأولون من الأنصار فهم كثير، عددهم كثير أهل البيعة الأولى بيعة العقبة ومن جاء بعد أولئك من أهل المدينة الذين سبقوا إلى الدخول في الإسلام ومؤازرة النبيّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء هم الذين يُعَدُّ كلُّ فردٍ منهم أفضلَ ممن جاء بعدهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أما من ليسوا من هؤلاء فليس له تلك الأفضلية فقد يوجد في التابعين من هو أفضل عند الله درجة من كثير ممن رأى الرسول وصَحِبَه مدة من الزمن.

فهؤلاء السابقون الأولون ورد في حقهم حديث صحيح مشهور وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذِي نفسُ محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه»([iii]). اهـ. هذا الحديث لا يُرادُ به جميع أصحاب رسول الله إنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث طائفةً من أصحابه وهم السابقون الأولون وذلك أن سبب الحديث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سبَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عوف الذي هو أحد السابقين الأولين أحد العشرة المبشرين بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وذلك لأن خالدًا رضي الله عنه مع ما لهُ من جلالة القدْرِ لم يكن من السابقين الأولين أما عبدُ الرحمٰن بنُ عوف فهو من السابقين الأولين.

معنى هذا الحديث أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو له عند الله تبارك وتعالى في علو القدْر وعِظم الفضلِ مَنْ إذا تصدقَ أحدهم بمدٍّ بمدّ قمح أو بمدِّ شعيرٍ أو نحو ذلك، المد هو الحفنة الواحدة بالكفين فأحدُ أولئكَ إذا تصدقَ بمقدار مُدٍ من الطعامِ الشعير أو القمح أو نحو ذلك، الله تبارك وتعالى يجعلُ ثوابَ هذا المد أفضلَ من ثوابِ مَن أنفقَ مِثلَ جبل أحد الذي هو جبلٌ كبيرٌ في المدينة المنورة ذهبًا.

روى مسلم والبخاري في صحيحهما واللفظ للبخاريّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَا اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ». اهـ. ورواه الإمام أحمد بلفظ: «لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فَوالذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أدْرَكَ مُدَّ أحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ». اهـ. ورواه ابن ماجه وأبو داود.

فمن الجهل اعتبارُ كلّ من رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحَبَهُ سَنَةً أو سَنَتينِ مثلًا بمثابةِ أولئكَ السابِقِينَ الأولينَ هذا جهلٌ بل جهلٌ بمراتب الصحابةِ، ليس الصحابةُ جميعهم في مرتبةٍ واحدةٍ بل بينَ بعضٍ منهم وبعضٍ ءاخرَ هذا الفرقُ العظيمُ وهو أن أحدَ أُولئكَ السابقينَ الأولينَ كعبد الرحمٰن بنِ عوفٍ تَصَدُّقُهُ بمقدار مُدّ من الطعامِ يكون عند الله تعالى أفضلُ من صدقةٍ غيرهم بمقدارِ جبلِ أُحدٍ من الذهب.

فخالدُ بنُ الوليد رضي الله عنه مع ما لَهُ من جلالةِ القَدْرِ وقد كان بطلًا كبيرًا من أبطالِ الجهادِ في سبيلِ الله لا يَلحَقُ بأولئك ولا يقرُبُ أن يكون في درجةٍ واحدٍ من أولئك، لا يقرُبُ من درجةٍ واحد من أولئك السابقين الأولين فضلًا عن أن يُساويَهُ ومعَ هذا أي مع هذا التفاوت العظيم بين بعضٍ وأفرادٍ من الصحابةِ الآخرينَ بالنسبة لرواية الحديثِ عن رسول الله إذا رأينا حديثًا رواه صحابي عن رسول الله أو عن مَن سمعَ من رسول الله منهم من الصحابة لا نظنُّ به إلا أنه صادقٌ فيما يُحدثُ به عن رسول الله، لا نظنُّ بأحدٍ ممن لقبَهُ ولو أقلَّ من قَدْرِ سنةٍ أنه يكذبُ على رسول الله، كلُّهم بالنسبةِ لهذا المعنى عدولٌ كلهم عدولٌ أي رواياتُهم عن رسول اللهِ تُقبلُ ولا يُتهمونَ بالكذبِ على رسول الله.

فهؤلاءِ القرونُ الثلاثة، الصحابةُ والتابعون وأتباعُ التابعينَ أي مَن كانوا في ضمنِ تلكَ الثلاثمائة الأولى يُقالُ لهم سلف وأما تفضيلُ القرنِ الأولِ وهم الصحابةُ على التابعينَ وعلى مَن جاءَ بعدَهم فلأنَّ الصحابةَ لم يختلفوا في العقائدِ، كلّهم كانوا في العقيدةِ متفقينَ لم يكن بينهم اختلافٌ في العقيدةِ كلّهم كانوا على عقيدةٍ واحدةٍ كلُّ فردٍ من أفرادهم كان يعتقدُ أن الله موجودٌ من غيرِ أن يُشبَّهَ بشيءٍ، ما أحدٌ منهم قال في تفسير قولِ الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}([iv]) جلسَ، لم يقلْ أحدٌ من الصحابة إن استواءَ الله على عرشه الجلوس إنما كانوا يعتقدونَ في الاستواءِ أي استواءِ الله على عرشه أنه معنى لائقٌ بالله تبارك وتعالى من معاني الاستواء في لغة العرب لأن الاستواءَ في لغة العربِ له معانٍ عديدة، يُطلقُ الاستواءُ بمعنى الاستقرار ويُطلقُ لفظُ الاستواء بمعنى التَّمام ويطلقُ لفظُ الاستواء بمعنى الاعتدال ويُطلقُ الاستواء بمعنى القصد إلى غير ذلك من معاني الاستواء، ويُطلقُ الاستواءُ بمعنى الاستيلاء كالقهر ويُطلقُ الاستواءُ بمعنى العُلُّو علُوّ القدْرِ.

المعنى الذِي يليق من معاني الاستواء هو الاستيلاء والقهر والعُلوُّ علُو القدرِ ليس علو جهةٍ ومكان لأن الشأن في علو القدر ليس في علو المكان، الشأنُ في علو القدر ليس في علو الجهة والمكان أي الحيّزِ، فلم يكن أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُفسرُ استواءَ الله على عرشه بالجلوس أو الاستقرار إنما كانوا يَحملون الاستواءَ على المعنى الذي يَليقُ بالله ولا يحملونه على المعنى الذي هو صفة من صفات البشر كالجلوس لأن الجلوسَ لا يكونُ إلا مِنَ البشر ونحوهم من البهائم والتي لها نِصفانِ نِصفٌ أعلى ونِصفٌ أسفل هذا الذي يَصحُ منه الجلوس أما الله تبارك وتعالى الذي خلقَ البشرَ وصفاتهم وخلقَ الملائكةَ وما هم عليه من الصفات وخلقَ الجن وما هم عليه من الصفاتِ والأحوالِ وخلقَ غيرَ ذلكَ من الأجرام فهو لا يجوزُ عقلًا ولا شرعًا أن يتصفَ بالجلوس على العرش أو الكرسيّ مُحالٌ على الله تبارك وتعالى. فلم يقل أحدٌ من أصحاب رسولِ الله إنَّ استواءَ الله على عرشه المذكورَ في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إنه بمعنى الجلوس، ولعنة الله على من فسَّرَ استواء الله على عرشه بالجلوس لأنه جعلَهُ مِثلَ البشر، والله تبارك وتعالى نَصبَ لنا أدلةٌ عقليةً انه لا يُشبهُ مخلوقة بوجهٍ من الوجوه، نصَبَ لنا أدلةٌ عقليةً على استحالةِ الجلوس على الله تبارك وتعالى وأنزل ءَايَةً محكمةً في القرءان الكريم تدل على ذلك أي تدل على تنزيه الله تبارك وتعالى عن الجلوس وغيرِ ذلك من صفات البشر بل كلِّ صفة من صفات المخلوقين وهي قولُه تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء}([v]) هذه الجملة مع وَجازة لفظها فمعناها واسع، تُنزّه الله تبارك وتعالى عن كلّ صفة من صفات البشر، صفاتُ البشر نعرفها من أنفسنا الجلوس من صفاتنا والتَّنقلُ من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى هذا أيضًا من صفاتنا كذلك اتخاذُ حيّزٍ أي مكانٍ يُتحيَّزُ فيه هذا أيضًا من صفاتنا، كذلك التغيُّرُ من صفاتنا، كذلك التأثرُ من صفاتنا، كذلك الانفعالُ فهو من صفاتنا فالله تبارك وتعالى مُنزه عن هذه الصفات كلّها فمن ادعى أنه من السلف وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بمعنى الجلوس فقد افترى وكذَبَ كذبًا بيّنًا ظاهرًا. لأنه لم يقل أحدٌ من السلف إن استوى بمعنى جلَسَ، لا يَثبتُ ذلك عن أحدٍ من أصحابِ رسول الله الذين عُرفوا بتفسير القرءان، لا يثبتُ عن أحد منهم، أما أن يكذِبَ بعضُ الكذَّابينَ ممن جاءَ بعد الصحابةِ ويَنسُبَ إلى بعضِ الصحابةِ أنه فسَّرَ هذه الآية ءاية الاستواءِ على العرش بالاستقرار أو امتلاء العرش به فهذا لم يرد ممن هو من الثقاتِ الصادقين إنما جاء من طريقٍ يُقالُ لها عند أهل الحديثِ سِلسِلةُ الكذب هذه السلسلة سلسلةُ الكذبِ افترت على ابن عباس رضي الله عنهما فقالت إن ابن عباس قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: استقر، هذا افتراء على ابن عباس، لا يثبتُ عن أحد من الصحابة تفسير استواء الله على العرش بالجلوس أو الاستقرار، إنما بما أنهم كانوا يفهمون اللغة العربية كما ينبغي كانوا يفهمون من قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} معنى يليقُ بالله تعالى من بين معاني الاستواء كعلو القدْر. علوُ القدْر هو صفةٌ من صفات الله، الله تعالى وصفَ نفسه بذلك فقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}([vi]) العَلِيُّ معناه عليُّ القدْر رفيعُ الدرجاتِ ليس معناه أنه مستقرٌ على العرش الذي هو من العالم العلويّ وليس معناه علوًّا أي استقرارًا على الكرسيّ الذي هو جِرمٌ عظيمٌ تحتَ العرشِ كلُّ هذا لا يليق بالله تعالى لأن الاستقرارَ والجلوسَ صفةٌ من صفات البشر فكلُّ صفة من صفات البشرِ لا تليق بالله تبارك وتعالى بل قال بعض السلف وهو الإمام أبو جعفر الطحاويّ الذي كان من أهل القرن الثالث الهجريّ ثم أدرك جزءًا من القرن الرابع فتوفِّيَ فهذا الإمام من السلف قال في عقيدته المشهورة التي هي مُتَداوَلَة بين العلماءِ من ذلك الزَّمَنِ إلى عصرنا هذا قال رضي الله عنه «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر» هذه الجملةُ احفظوها وحفّظوها أهاليكم ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، معاني البشر كثيرة كُلُّنا يعرفُ معاني البشر أي صفات البشر كُلُّنا نعرفُ. الجلوسُ من صفاتنا الجلوس لا يصحّ بلغةِ العربِ إلا لمن له نصفان نصفٌ أعلى ونِصفٌ أسفل الإنسان هكذا لذلك يُوصفُ بالجلوس والكلبُ كذلكَ يوصفُ بالجلوسِ وكثيرٌ من البهائم توصفُ بالجلوس لأن لها نصفًا اعلى ونِصفًا أسفل ثم الجلوسُ في لغة العربِ عبارةٌ عن التصاقِ الـمِقعدةِ بالأرضِ أو بالكرسي أو نحو ذلك هذا معنى الجلوس فكيف يوصَفُ خالقُ العالم الذي خلقَ الإنسان وصفاته وخلقَ سائرَ الأشياءِ وصفاتِها بالجلوس الذي هو تلاصقُ جِسمينِ أحدُهُما له نصفانِ نِصفٌ أعلى ونِصفٌ أسفل؟ هذا لا يليق بالله تبارك وتعالى.

هؤلاءِ كيف يزعمون أنهم عرفوا الله تبارك وتعالى؟ يُفسرون على العرش استوى بالجلوس ثم يزعمون أنهم عرفوا الله وأنهم ءَامَنُوا به هيهاتَ هيهات هذا من الكذب البعيد.

ثم هؤلاءِ أنفُسُهم يُحرّفون ءاياتٍ قرءانيةً وردت في بيان أحوال المشركين الذين كانوا في الزمنِ الذي كان القرءانُ ينزلُ على رسول الله، الذين كان من جملة مقالاتهم أن قالوا ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زُلفى. هؤلاء المشركون الذين كانوا في زمن الرسول كانوا مُعادين للرسول مُكذبين له مؤذين له مستهزئين به كانوا يقولون هذه الأوثان التي ينهانا محمد عن عبادتها نحن ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله اعترفوا بأنهم يعبدونها، وما معنى العبادة؟ معنى العبادة نهاية التذلل، كانوا يُعظمونها كتعظيمِ الله تبارك وتعالى كانوا يتذللون لها نهاية التذلل هذا كان عبادتَهم لها لأوثانهم.

هؤلاء المحرفون لدين الله يجعلون أمة محمد الذين هم مؤمنون بالله ورسوله ويعتقدون أنه لا أحد يستحقُ أن يُتذللَ له نهاية التذلل إلا اللهُ تبارك وتعالى ولا يُعظمونَ أحدًا غير الله كتعظيمِ الله لا يُعظمونَ أحدًا سوى الله نهاية التعظيم، عن هؤلاءِ المؤمنينَ يقولون أنتم مثلُ أولئكَ عُبَّادِ الأوثان الذينَ قالوا في التشبث على عبادةِ الأوثانِ التي كانوا يعبدونها ما تعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى يقولون أنتم مِثلُ أولئكَ أحدُكم لما يذهب لزيارة قبر الرسول أو قبر أيّ نبيّ أو قبر أي وليّ للتبرك فقد أشركتم صرتم مثل أولئك، مع أن التبرك بالرسول وبآثاره كان الصحابة يفعلونه حتى إن الرسول في حجةِ الوداعِ وفي عمرة الجعرانة حلق رأسه بالموسى ثم قسم شعَرَه بين الصحابة وما قسم هذا الشعرَ غلا ليتبركوا به فكانوا يتبركونَ به في حياته وبعد وفاته حتى إنهم كانوا يغمسونه في الماء فيسقونَ هذا الماءَ بعضَ المرضى تبركًا بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديثُ في البخاريّ وغيره، كان أحدُهم أخذَ شعرةً والآخر أخذَ شعرتين وخالدُ بنُ الوليد رضي الله عنه كانت له قَلَنسُوة وضعَ في طيّها شعرًا من ناصية رسول الله أي من مُقدمِ راسهِ لما حلقَ في عمرةِ الجِعرانةِ ليس لحجِّهِ في الحج لا هذا لما حلق رأسَهُ للعمرةِ في أرضٍ يُقالُ لها الجِعرانة بعد مكةَ إلى جهةِ الطائفِ من ذلك الشعر أخذ خالدُ بنُ الوليد شَعرَ الناصيةِ أيْ مُقدمِ الرأسِ فوضعَهُ في قَلَنسُوَته فكانَ ذاتَ مرةٍ في غزوةٍ من الغزواتِ فَقَدَها فصارَ يبحثُ عنها يُفتشُ عنها تفتيشًا شديدًا حتى وجدها فقيل له لماذا أنت تَعْتَنِي بهذه القَلَنسوة كلَّ هذا فقال إني وضعتُ فيها من شَعرِ رسولِ الله من شَعرِ ناصيته فما حضرتُ وَقعةً إلا رُزقتُ النَّصرَ أي كلما حضرتُ معركةَ انتصرتُ على الكفارِ ببركة هذا الشعر شعر النبي صلى الله عليه وسلم.

والصحابة كان معروفًا عنهم أنهم يتبركون بآثار النبيّ صلى الله عليه وسلم، كذلك بعد موته بعضُ الصحابةِ لما وقع مجاعةٌ شديدةٌ في عهد عمرَ بن الخطابِ تسعةَ أشهر انقطعَ المطرُ عنهم صارت مجاعةٌ، بعضُ أصحاب رسول الله ذهبَ إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسقِ لأمتكَ فإنهم قد هلكوا، هذه يُقالُ لها استغاثة وتوسلٌ فجيء في المنام أُتي هذا الرجلُ الصحابي في المنام فقيل له أقرئ عمرَ السلام فأخبره أنهم يُسقونَ فذهب الرجلُ إلى عمرَ فقصَّ عليه رؤياهُ ماذا فعلَ أي أنه ذهب إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فتوسل به ثم سقاهم الله تبارك وتعالى حتى سُمِّيَ ذلك العامُ عامَ الفَتْق من شدة ما ظهر من الأعشاب سمنت المواشي حتى تفتقت من الشحم لذلك سُمّي عام الفتق ثم هذا الفعلُ أي التوسلُ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بالاستغاثة به أمام قبره من هذا الصحابيّ ما عابه عليه عمرُ بنُ الخطاب ما قال له كيف تطلبُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفَ تستغيث وتتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات ما قال له عمرُ ولا غيرُ عمر كلُّ من علمَ بالقصة ما انتقده عليها.

هذا فعلُ السلف وحدث غيرُ هذا من الحادثات التي هِيَ توسلٌ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم مما حصلَ للصحابة، مع كل هذا هؤلاء من فساد قلوبهم يُكفّرون المسلمين المتَبَرّكين برسول الله صلى الله عليه وسلم والأولياء، هذه الآياتُ التي نزلت في المشركين الذينَ كانوا يعبدون الأوثان جعلوها على المسلمين المتبركين بالتوسل بالأنبياء والأولياء.

والله تعالى أعلم. انتهى.

([i]) بَابُ مَا جَاءَ فِي لُزُومِ الجَمَاعَةِ.

([ii]) سورة الحجرات، الآية: (13).

([iii]) متفق عليه.

([iv]) سورة طه، الآية: (5).

([v]) سورة الشورى، الآية: (11).

([vi]) سورة الشورى، الآية: (4).