الإثنين ديسمبر 8, 2025

الدرس الثاني والثلاثون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ

بيان أن الحسنات يذهبن السيئات وما يلتحق
بذلك من أمور عقائدية

هذا درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد الهرري رحمه الله تعالى في طرابلس الشام في الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وأربعمائة وثلاثة عشر للهجرة الموافق للخامس عشر من أيلول سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة وألف رومية وهو في بيان أن الحسنات يذهبن السيئات وما يلتحق بذلك من أمور عقائدية.

قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى ءاله الطيبين الطاهرين.

أما بعد قالَ اللهُ تبَارَك وتَعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}([i]) جاءَت أحَاديثُ صحِيحةٌ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في شَرح مَعنى الآية فمِنْ ذلكَ مَا رواه مُسِلمٌ([ii]) في الصّحيح أنَّ نَبي الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَن يَكْسِبَ فِي اليَومِ أَلفَ حَسنَةٍ، يُسَبّحُ اللهَ تَعَالَى مِائةَ تَسبِيحَةٍ فيُكتَبُ لهُ بهنَّ أَلفُ حَسنةٍ ويُمحَى عَنهُ بِهنَّ أَلفُ خَطِيئَةٍ». اهـ. في هذا الحديث بَيانُ أنّ الحسَنةَ الواحِدَة تمحُو عَشَرَةً مِنَ السّيئاتِ، هَذا أَقَلُّ مَا يَكُونُ وقَد تمحُو الحسَنةُ الواحِدَةُ أكثَرَ مِن ذلكَ مِن السّيئاتِ، بَيانُ ذَلكَ أنّ الرّسولَ عَليهِ الصّلاةُ والسّلامُ أَخبَر بأنّ المائةَ تَسبِيحَةٍ يكونُ ثَوابُها أَلفًا مِنَ الحَسَناتِ وزِيادةً على ذَلكَ، وأَخبَر بأنّهُ يُمحَي عن قائلِ هذه المائةِ تَسبِيحةٍ أَلفُ خَطِيئَةٍ أي مَعصِيةٍ، ولم يُقَيّدْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الخطِيئَةَ بأَنها مِنَ الصّغائرِ، فنَقُولُ يجُوزُ أن يمحُوَ اللهُ بالحسَنةِ مِنَ الحسَناتِ بَعضَ الكبَائرِ وإنْ كانَ وَرَدَ في فَضلِ الصّلواتِ الخَمسِ أنّه تمحَى عَنهُ وتُكفَّر عَنهُ بها ما سِوى الكبائر، إن لم يَغشَ الكبائر، ولَكِن هذا ليسَ مُطّرِدًا فيمَا سِوى الصّلَواتِ الخمس، فقَد ثبَت بالإسنادِ الصّحيح أن مَن قالَ: أَستَغفِرُ اللهَ الذِي لا إلهَ إلا هوَ الحَي القَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيهِ يُغفَرُ لهُ وإنْ كانَ قَد فَرَّ مِنَ الزَّحفِ رواه أبو داود([iii]) والترمذيُّ([iv]) والحاكم([v]).

والفِرارُ مِنَ الزّحفِ مِن أكبَرِ الكبَائِرِ، فإِذَا كانَ بهذِه الكلِمَةِ مِنَ الاستغفار يُمحَى مِنَ الكبَائِر مَا شَاءَ اللهُ تعَالى فلا مَانِعَ مِن أن يُمحَى بالتّسبِيح ونحوه بَعضُ الكبَائر، والحديثُ الثّاني حديثُ «مَن قَالَ أَستَغفِرُ اللهَ الذِي لا إلهَ إلا هوَ الحي القيُّوم وأَتُوبُ إليهِ يُغفَرُ لهُ وإنْ كانَ قَد فَرّ مِنَ الزّحفِ» رواه أبو داود في سُنَنِه وهو حديثٌ حسَنُ الإسناد حَسّنَهُ الحَافِظُ ابنُ حَجر في الأماليّ. هَذِه الرِّوايةُ التي حُكِمَ لها بالحُسنِ لَيسَ فيهَا التّقيِيدُ بثَلاثِ مَرّاتٍ ولا بأنْ يَكونَ ذلكَ عَقِبَ صَلاةِ الفَجر بل هي مُطلَقَةٌ، أيَّ وَقتٍ قَال هذا الاستغفَارَ أستَغفِرُ اللهَ الذِي لا إلهَ إلا هوَ الحي القَيُّومُ وأَتوبُ إليه غُفِرَ لهُ ذُنُوبُه وإنْ كانَ قَد ارتَكَب بعضَ الكبَائر، ثم اللّفظُ يُقرَأُ على وَجْهَين يُقرَأُ بالرّفع الحَيُّ القَيُّومُ ويُقرأ بالنَّصبِ الحَيَّ القَيّومَ كلُّ ذلكَ جَائزٌ عندَ علَماءِ النَّحْو.

ثم إنّ الحَافِظَ ابنَ حجَر ذكَر أنّ هَذا الاستِغفَارَ يُمحَى بهِ مِن الكبَائِر مَا لَيسَ مِن تَبِعَاتِ النّاس أي مِن مَظَالم النّاس، أي أنّ المظَالم لا تَدخُل تحتَ هَذا الحدِيث، ثم كلُّ هَذا شَرطُه أن تكونَ هُناكَ نِيّةٌ شَرعِيّةٌ، وهي أن يَقصِدَ بهذا التّسبِيحِ التّقرُّبَ إلى الله وليسَ فيهِ رِياءٌ أي ليسَ فيهِ قَصدُ أن يمدَحه النّاس، إنما قَصدُه خَالصٌ للتقرب إلى الله وهَكذا كلُّ الحسَنات قِراءةُ القُرءان والصّلاة والصيامُ والحجُّ والزّكاةُ وبِرُّ الوَالدَِين والإنفَاقُ على الأهلِ وصِلَةُ الرّحِم إلى غَيرِ ذَلكَ مِنَ الحَسَنات، لا ثَوابَ فِيهَا إلا بالنّيةِ، والنّيةُ هي أن يقولَ بقَلبِه أَفعَلُ هَذا تَقرُّبًا إلى اللهِ أو ابتِغاءَ مَرضَاةِ اللهِ أو ابتغَاءَ الأجرِ مِنَ الله، لكن بشَرطِ أن لا يضُمّ إلى ذلكَ قَصْدَ مَدحِ النّاس لهُ وذكرِهم لهُ بالثّناءِ والجَميل إنما قَصده أنّه يتَقرّبُ إلى الله بهذِه الحسنةِ بهذا التّسبيحِ أو بهذِه القِراءةِ للقُرءان أو بهذِه الصّدقَةِ أو بفرائضِه التي يَفعَلُها كالصّلاةِ والحَجِّ والزّكاة، كلُّ هذهِ الحسنات إذا اقتَرنت بها نيّةٌ صَحِيحَةٌ خَالِصَةً للهِ تَعالى ولم يَقتَرِن بها الرِّياء فلِفَاعِلها الثّواب الجَزيلُ أي أنّ كُلّ حَسنةٍ تُكتَبُ عَشْرَ أَمثَالها على الأقَلّ وقَد يَزيدُ اللهُ لمنْ شَاءَ مَا شَاءَ مِنَ المضَاعفَات.

ثم هناكَ شَرطٌ لا بُدَّ مِنهُ وهوَ صِحَّةُ العَقِيدةِ، صِحّةُ العقِيدةِ شَرطٌ للثّوابِ على الأعمالِ فَلا ثَوابَ على الأعمَالِ بدُونِ صِحّةِ العقِيدةِ.

ومَعنى صِحّة العقيدةِ أن يكونَ عَارفًا باللهِ ورسُولِه كمَا يجِبُ ليسَ مجرّدَ التّلفّظِ بكلِمةِ التّوحِيد، بل الأصلُ الذي لا بُدَّ مِنهُ للنّجاةِ منَ النّارِ فِي الآخرة ولحصولِ الثّواب على الأعمَالِ هوَ مَعرفةُ اللهِ كمَا يجبُ ومعرفةُ رسُولِه صلى الله عليه وسلم، ثم بعدَ ذلكَ الثّباتُ على الإسلام أي تجَنُّب الكُفريّات القَوليَّةِ والفِعلِيّة والاعتقاديّة، فمَن ثبَت على هذا إلى الممَاتِ كانَت كُلّ حسَنةٍ يَعملَها على هذا الوجهِ لهُ فيها أَجرٌ كبِير عندَ الله، فيَكونُ مِنَ الفَائزِين النّاجِين المفلِحين.

مَعنى صِحّةِ العَقِيدةِ هوَ أن يكُونَ عَلى مَا كانَ عَليهِ أَصحَابُ رسولِ اللهِ والتّابعونَ وأَتباعث التّابِعينَ ومَن تَبِعَهُم على تلكَ العقِيدةِ التي هي مَأخُوذَةٌ عن الرّسول صلى الله عليه وسلم تَلَقَّوها عن الرسولِ ثم تَلقّاها التّابعُونَ مِنَ الصّحابةِ ثم تَلقّاها المسلمونَ جِيلًا عن جِيل، وهذِه العقِيدةُ إلى يومِنا هذا موجُودَةٌ وإنِ انحرَف عَنها بعضُ الفِئاتِ، هذِه العقِيدَةُ التي كانَ عليها الصّحابةُ ومَن تَبِعَهُم بإحسَانِ هي الأشعَرِيّةُ والماتُرِيدِية، والأشعريّةُ والماتُرِيدِيّة هُم أهلُ السُّنَّةِ والجمّاعة فعَقِيدَتهُم مُنبثِقَةٌ مِن قولِ اللهِ تَعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء}([vi]) عَرفُوا مَعنى هَذِه الآيةِ كمَا يجِبُ فنزّهُوا اللهَ تَعالى عن صِفاتِ المخلُوقِينَ وعن التّحَيُّزِ فِي المكَانِ وعنِ الحَدّ أي الـمِسَاحَةِ، لأنّهُ لا تَصِحُّ مَعرفَةُ اللهِ مَع اعتِقادِ أنّهُ يُشبِهُ خَلْقَهُ ببَعضِ صِفاتهِم كالتّحَيُّز فِي المكانِ أو التّحَيُّزِ فِي العَرشِ أَو فِي غَيرِ العَرشِ أو التّحَيُّز فِي جميع الأماكِن، كلُّ هَذا ضِدُّ هذه الآيةِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء}.

فخُلاصَةُ عقِيدةِ أَهلِ الحَقّ أنّ اللهَ مَوجُودٌ لا كالموجُودَاتِ أي لا يُشبِهُ الموجُودَاتِ بوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، السّلَفُ الصّالحُونَ كانُوا على هذِه العقِيدَةِ أي تَنزيهِ اللهِ عن التّحَيّز فِي المكانِ والحَدّ، والدليل على ذلك أن الإمام زين العابدين عليَّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب رضيَ الله عنهم كان من أوائل السلف، له رسالة تسمّى الصحيفة السجادية ذكر فيها عبارات في التنزيه منها هذه الجملة سبحانك أنت الله الذي لا يحويك مكان. احفظوها فإنها من كلام السلف الصالح كان زين العابدين رضي الله عنه يقال عنه أفضل قرشي في ذلك الوقت، أفضل أهل البيت، وقال أيضًا في نَفي الحد عن الله سبحانك أنت الله الذي لست بمحدود وذلك أن المحدود يحتاج إلى مَنْ حَدَّهُ فالله تبارك وتعالى ليس له مساحة ليس بقدر العرش ولا أوسعَ منه ولا أصغر من العرش. من اعتقد أن الله بقدر العرش فهو جاهل بالله ومن اعتقد أنه أوسع منه مساحة فهو جاهل بالله ومن اعتقد أنه أصغر من العرش فهو أشد جهلًا وبعدًا عن معرفة الله.

ثم الإمام أبو جعفر الطحاويُّ الذي عاش في القرن الثالث الهجري عشراتٍ من السنين نحوَ سبعين سنة ثم أدرك من القرن الذي يليه القرن الرابع الهجري نحو عشرين سنة ونيّفًا هذا ألف كتابًا سمَّاه بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة التي كان عليها أبو حنيفة الذي توفي سنة مائة وخمسين وصاحباه اللذان توفيا بعده بعشرات من السنين في القرن الثاني الهجريّ أبو يوسف يعقوبُ ابن إبراهيم ومحمد بن الحسن وهم من الأئمة أهل الاجتهاد ومَنْ سواهم، ذكر أنَّ أهل السُّنَّة هؤلاءِ الثلاثةَ منَ الأئمة وغيرهم على عقيدة أن الله ليس بمحدود ولا متحيزًا في الجهات لا في الجهة العليا ولا في الجهة التحتيَّةِ ولا في جهة اليمين ولا في جهة اليسار ولا في جهة الخلف ولا في جهة الأمام قال تعالى أي الله عن الحدود. اهـ. الله تعالى منزهٌ عن الحدود أي ليس بمحدود. العرش محدود ولو كنا لا نعرف حدَّه لكن هو في حدّ ذاته محدود له حدٌّ يعلمه الله، الله تبارك وتعالى ليس بمحدود لا يجوز أن نقول له حدٌّ يعلمه هو ولا يجوز أن يقال له حد يعلمه هو ونعلمه نحن كلا ذلك باطل، الحق أن يُنْفَى عنه الحد وذلك لأن الذي له حد يحتاج إلى من جعله على ذلك الحد، هذه الشمس نحن لنا دليل عقلِيٌّ غيرُ الدليل القرءانيّ أنها لا تصلح أن تكون إلهًا للعالم وذلك لأن لها حدًّا فلها خالق جعلها على هذا الحد والله تبارك وتعالى لو كان له حدٌّ لاحتاج إلى من جعله على ذلك الحد كما تحتاج الشمس إلى من جعلها على ذلك الحد الذي هيَ عليه فلقد ظهر لكم أن السَّلف كانوا ينفون عن الله الحد والجهة أي التحيز في جهة من الجهات الست أو في جميعها وعن سائر أوصاف الخلق وأن الله منزه عن ذلك. وكل هذا مما تعطيه هذه الآية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} لكن القلوب مختلفة قلوب تفهم من هذه الآية هذه المعاني وقوب لا تفهم، تقرؤها ألسنتها ولا تفهم ما تحويه من التنزيه.

هذا ما كان عليه أهل السُّنَّة ليس مذهبُ أهل السُّنَّة تشبيهَ الله بخلقه بأن يُعتقد فيه أنَّ له أعضاءَ وأن يُعتقد فيه أنه متحيز على العرش مع أنه منفِيٌّ عنه ما كان من صفات الخلق من غير ذلك كالنزول من علو إلى سُفل ثم الرجوع إلى هناك. بعضُ الجاهلين بالحقائق يظنون أن قول الله تعالى: {إنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرشِ}([vii]) يظنون أن هذه الآية معناها أن الله نزل من العرش الذي هو مستقرُّهُ إلى أسفل إلى تحتٍ فهيَّأ السمواتِ والأرضَ ثم صعد بعد ذلك هذا جهل قبيحٌ بالقرءان، إنما معنى الآية أنَّ الله تبارك وتعالى خلق السمٰوات والأرض في ستة أيام وكان مستويًا على العرش أي قاهرًا للعرش قبل وجود السمٰوات والأرض. على زعمهم كلمة ثم لا تأتي إلا بعد تأخر حصول شيءٍ عن شيءٍ وهذا جهل باللغة، ثم تأتي بمعنى الواو كلمة ثم تأتي مرادفة للواو كما تأتي للدلالة على أن ما بعدها وجودُهُ متأخرٌ عن وجود ما قبلها فكما تأتي لهذا المعنى معنى التأخر تأتي لمعنَى الجمع بين الشيئين بمعنى الإخبار باجتماع شيئين في الوجود من غير دلالة على تأخر ما بعدها عمَّا قبلها، هذا أثبته علماء اللغة منهم الفراء قال ثم تأتي بمعنى الواو، وعلى ذلك شاهدٌ من القرءان وشاهدٌ من شعر العرب قال أحدهم([viii]).

إنَّ مَن سادَ ثم سادَ أبوه

 

ثم قد سادَ قبلَ ذلك جدُّهُ

 هل يصح أن تفسر ثم هنا أنها تدل على تأخر ما بعدها عما قبلها في الوجود؟ لا تدل، كذلك في هذه الآية {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} لا تدل {ثُمَّ} على أن الله تعالى خلق السمٰوات والأرض ثم بعد أن وجدت السمٰوات والأرض صعد إلى العرش وجلس عليه كما يزعم المشبهة الذين حرموا من فهم الدلائل العقلية. العقل له اعتبار في الشرع لذلك أمر الله بالتفكر في أكثر من ءَايَةٍ والتفكُّرُ هو النظر العقلِيُّ هؤلاء حُرموا من ذلك من معرفة الدلائل العقلية التي يعرف بها ما يصح وما لا يصح.

مثال لذلك يبين سخافة هؤلاء الذين يعتقدون في الله التحيز في المكان والحد والمساحة هو أنهم يفسرون حديث ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في النصف الأخير وفي لفظ في الثلث الأخير فيقول هل من داع فأستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له وهل من سائل فأعطيه حتى ينفجر الفجر وهو حديث صحيح إسنادًا، ظاهرُ هذا الحديث على زعم هؤلاء الذين تمسكوا بظاهر هذا الحديث أن الله يبقَى فِي الثلث الأخير من الليل إلى الفجر وهو يقول هذا الكلام، فَهْمُهُمْ هذا دليلٌ على سخافة عقولهم وذلك لأن الليل يختلف باختلاف البلاد فالليل في أرض نهارٌ في أرض أخرى، ونصف الليل في أرض أولُ النهار في أرض، إلى غير ذلك من الاختلافات فعلى قولهم يلزم أن يكون الله تبارك وتعالى في السماء الدنيا طالعًا منها إلى العرش كل لحظة من لحظات الليل والنهار، هذه سخافة عقل.

أما تفسير أهل السُّنَّة الذين ينزهون الله عن المكان والجهة والحد عندهم هذا النزول ليس نزولًا حسيًّا بل عبارةٌ عن نزول ملائكة الرحمة إلى السماء الدنيا بالنسبة لكلّ أرضٍ على حسب ليلٍ تلك الأرض هؤلاء ملائكة الرحمة ينزلون فيبلّغون عن الله يقولون إن ربكم يقول هل من داع فيُستجابَ له أو هل من داع فأستجيبَ له هل من مستغفر فأغفرَ له هل من سائل فأعطيَه هم يبلغون عن الله بأمره هذا معنى ينزل ربنا كلّ ليلة إلى السماء الدنيا فيقول كذا وكذا حتى ينفجر الفجر، على هذا المعنى يصح، شيء معقول يقبله العقل أما على ما يفهمه أولئك من أن الله بذاته ينزل من عُلْو إلى سُفُلٍ هذه سخافة عقل لا يقبلها عقل ولا شرع أما نزول الملائكة بأمر الله ليبلغوا عنه فينادوا بما أمرهم به هذا شيءٌ يوافق العقل والشرع.

أهل السُّنَّة الله تعالى هداهُمْ للمعانِي التي توافق الشرع والعقل أما أولئك محرومون من هذا يعيشون في السخافة، يعيشون وهم يُردِّدُون سُخْف القول، حتى إن بعضهم من شدة السخافة قال الحديث الذي ورد أن جهنم يوم القيامة يقال لها هل امتلأت فنقول هل من مزيد فيضع الجبار قدمَهُ فيها وفي رواية رجلَهُ فيها فينزوى بعضها إلى بعض فتقول قط قط هذا الحديث أيضًا هؤلاء يفسرونه بسُخُفٍ من القول على زعمهم الله تعالى له أعضاء فيضع رجله بمعنى العضو في جهنم فتهدأ جهنم قال بعضهم وهو من أهل العصر دكتورٌ قال هو لما يضع قدمه فيها لا تحترق رجلُهُ كما أن ملائكة العذاب لا تحترق أرجلُهم ساوَى الله تعالى بخلقه جعل له عضوًا هو الرّجْلُ يضعها في جهنم فيملأ جهنم تكتفي فتقول اكتفيتُ اكتفيتُ أما المعنى الصحيح الذي هو معنى الحديث الذي أراده الرسولُ بالقدم هو جماعةٌ من الكفار من أهل النار ءَاخِرُ فوج يضعُهم في جهنم فيملأ جهنَّمَ بهم، يُقال في لغة العرب القدم لما يقدم إلى الشيء، كذلك يقال في اللغة رِجْلٌ من جراد يعني فوجٌ من جراد، رواية رجلَهُ ورواية قدمَهُ كلتاهما لها معنى صحيح لا يخالف العقل ولا الشرع، أمَّا على قولهم فقد كذبوا القرءان وخالفوا قضيَّة العقل أما القرءان فالله تبارك وتعالى قال في سورة الأنبياء {لَوْ كَانَ هَؤلاءِ} أي: الأوثانُ {ءَالِهَةً مَّا ورَدُوهَا}([ix]) يوم القيامة الأوثان تُرْمَى في جَهَنَّم إهانةً للكفار الذين كانوا يعبدونها، الأوثانُ ترد جهنم يوم القيامة الله تعالى يقول هذه الأوثان لو كانت ءالهةً تستحق أن تعبد ما دخلت جهنم اللهُ الذي أخبر بهذا لا يصح في العقل أن ضع جزءًا منه في جهنم أيْ أن يَرِدَ جهنم أن يدخل جهنم ساوَوْهُ بالأوثان التي تُرْمَى في جهنم يوم القيامة، هؤلاء سخفاء لا يغرنَّكم أن قالوا نحن على مذهب السلف قولوا لهم كذبتم لستم على مذهب السلف إنما تُمُوّهُونَ على الناس فتستميلون ضعفاء العقول.

الحاصل: اعلموا أن هؤلاء ليسوا على مذهب السلف في العقيدة، في ما يتعلق بصفات الله ليسوا على عقيدة السلف، كذلك في كثيرٍ من الأعمال، في تحريمهم التوسلَ بالأنبياء والأولياء هذا ليس من عقيدة السلف إنما ابنُ تيمية افتراه، ابنُ تيمية رجل ظهر في أواخر القرن السابع الهجريّ فشقَّ العصا أيْ شذَّ عن المسلمين بتحريمه التوسل بالأنبياء والأولياء وقولِهِ لا يجوز التوسل إلا بالحيّ الحاضر، وهذا ليس مما يوافقه عليه أحدٌ من أئمة السلف إنما هو رَأَى هذا الرَّأيَ الفاسدَ فسبَّبَ بذلك تكفير المسلمين بغير سبب شرعيّ. عندهم الذي يقول يا رسول الله مشركٌ كافرٌ والذي يقول يا عليُّ مشرك كافر إلى غير ذلك ما سبق ابنَ تيمية وابنَ عبد الوهاب بهذه الآراء أحدٌ من أئمة المسلمين، الصحابة توسلوا بالرسول والتابعون توسلوا وأتباع التابعين وهلمَّ جرًّا إلى يومنا هذا حتى إنه من علماء الحديث منهم من قال وهو الحافظ ابن الجزريّ وهو شيخ القرَّاء وكان من حفَّاظ الحديث قال في كتاب له يُسَمَّى الحِصْنَ الحصين وفي مختصره أيضًا قال من مواضع إجابة الدعاء قبور الصالحين هذا الحافظ جاء بعد ابن تيمية بنحو مِائَةِ سنةٍ ما أنكر عليه العلماء إلَّا أن يكون بعضٌ من الشاذين الذين لحقوا بابن تيمية، والسلف كانوا يتبركون بزيارة قبور الصالحين حتى إنَّ الإمام الشافعيّ رَضِيَ الله عنه لما كان ببغداد كان يقصد قبر الإمام أبي حنيفة لأنَّ أبا حنيفة مات سنة وُلد الشافعيّ كان يقصد قبر أبي حنيفة فيدعو الله هناك رجاء الإجابة أيْ رجاء أن يجيب الله دعوته ببركة هذا العبد الصالح أبي حنيفة وما كان أحدٌ استنكر هذا من أهل العلم في ذلك الزمن، ما استنكر أحد على الشافعيّ ولا ببنت شفة في وجهه ولا في خلفه.

هو ابن تيمية شوَّشَ على المسلمين في الوقت الذي ظهر فيه في دمشق، ثم العلماء والحكام ما سكتوا له حبس عدة مرات في الشام، حُبس ثم استُدْعِيَ إلى القاهرة بأمر الملك الناصر محمد بن قلاوون فجمع الملك محمد بن قلاوون رؤساء قضاةِ المذاهب الأربعة رئيسَ قضاة الحنابلة ورئيسَ قضاة الشافعية ورئيسَ قضاة الحنفية ورئيسَ قضاة المالكية فنظروا في أمر ابن تيمية قالوا هذا الرجل يجب رَدْعُه وزجرُ الناس عنه وعن اتِّباعِه فعمل الملك مرسومًا بالتحذير منه وتهديدهم بأنَّ من لم يرجع عن سيرة ابن تيمية ليس له حظ في الدولة الإسلامية لا للخطابة ولا للإمامة ولا للقضاء ولا لأيّ وظيفة من وظائف الدولة الإسلامية ومن جملة أولئك القضاةِ الأربعة بدرُ الدين بن جماعة هذا من جملة من حكمَ على ابن تيمية بالحبس الطويل ثم مات بدرُ الدين قبل وفاة ابن تيمية بسنةٍ، ابن تيمية ظل في السجن سنتين فمات في السجن.

اليوم يسمونه شيخَ الإسلام كأنه هو سلطانُ علماءِ الإسلام، في الماضي كان يسميه مَنْ كان على عقيدته من المجسمة من الحنابلة الذين يعتقدون أن الله جسمٌ تصوَّروه في أنفسهم ليس له وجودٌ، تصوروا جسمًا قاعدًا على العرش بقدر العرش ملأ العرش هذا تصور منهم ما جاء به كتاب ولا سنة هؤلاء الذين من شدة ما أحبوه لأنه كان قويًا في الكلام والجدال ولأنه ينصر عقيدتهم سمَّوْهُ شيخ الإسلام فكُونُوا منه على حذر وحذّروا منه ومن أتباعه وهم اليوم أتباع محمد بن عبد الوهاب لأن محمد بن عبد الوهاب أخذ عقيدة ابن تيمية مع أنه ظهر بعده بنحو ثلاثِمِائةِ سنة، من كتب ابن تيمية أخذ عقيدته وأضاف إليها زياداتٍ من عنده كتكفير من يعلق الحجابَ على عنقه، هذه ابن تيمية ما قالها، ابنُ تيمية لم يقل أن الذي يعلق الحجاب على عنقه كافرٌ إنما هذه من زيادات ابن عبد الوهاب، عندهم إذا رأوا على إنسان حرزًا يقولون هذا شركٌ وإن استطاعوا أن يقطعوها من عنقه بأيديهم فعلوا ذلك إلى غير ذلك من مساوئهم في تكفير المسلم بغير أدنى سبب شرعيّ، لمجرد قول يا محمد يا رسول الله يا علي يكفرون الناس، وفيما علَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم للأعمى الذي جاء إليه ليدعوَ له حتى يرد الله عليه بصره أن يقول يا محمد إني أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتقضي لي ذهب الأعمى إلى مكان الوضوء كما مره الرسول فتوضأ وصلى ركعتين وقال هذا التوسل ليس في وجه الرسول قال يا محمد لا بل في المكان الذي ذهب إليه ثم عاد وقد أبصر فُتِحَ نَظَرُهُ عاد إلى مجلس الرسول، الرسول ما فارق ذلك المجلس وقد فُتِحَ نَظَرُهُ عاد، هذا دليل على أن تكفيرهم للناس لقولهم يا محمد يا رسول الله أو يا عليّ ضلالٌ.

وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.

([i]) سورة هود، الآية: (114).

([ii]) باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ.

([iii]) باب فِي الاستغفار.

([iv]) باب في دعاء الضيف.

([v]) قال الذهبِيِّ في التلخيص على شرط مسلم.

([vi]) سورة الشورى، الآية: (11).

([vii]) سورة الأعراف، الآية: (54).

([viii]) القائل هو أبو نواس وهو من الشعراء المتأخرين لكن علماء اللغة والتفسير أطبقوا على الاستشهاد بقوله هذا وفي إجماعهم حجة.

([ix]) سورة الأنبياء، الآية: (99).