الأحد ديسمبر 7, 2025

الدرس الثامن عشر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ

بيان أن الله تعالى خالق كل شيء

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى وهو في بيان أن الله تعالى خالق كل شيء.

قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله رب العالمين صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين.

قال أهل الحق الله تبارك وتعالى منفردٌ بالخلق أي الإحداث من العدم إلى الوجود، لا يشركه في ذلك شيء لا من ذوي الأرواح ولا من الجمادات ولا من الأسباب العادية لا يشاركُ اللهَ تعالى شيء في خلق منفعة أو مضرة أو عين أو أثر وذلك لما علموا من قول الله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}([i])، وقوله: {وَخَلَق كُلَّ شَيْءٍ}([ii])، وقوله: {قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقهَّارُ}([iii])، وقولِ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: «إن الله صانعُ كلّ صانع وصنعتِه»([iv]). اهـ. فعلمنا أنَّ الأسباب العادية ليست خالقةً لشيء من مسبباتها بل الله خالق الأسباب والمسببات، وهذا الترابط بين الأسباب والمسببات أمرٌ أَجْرَى اللهُ به العادة أيْ أنَّ اللهَ تعالى يَخلقُ الـمُسبَّبَ عند وجودِ السبب فكلاهما أي السبب والـمُسبب يَستنِدُ في وجوده وحصوله ووقوعه إلى إيجادِ الله تبارك وتعالى.

كثيرٌ من الناس يوقفُون تفكيرَهم عند الظاهر فيقضون ويحكمون بأن هذه الأسباب هي تخلق المسببات، وهذا خلافُ الحقيقة. لو كانت الأسباب تخلق المسببات لوجبَ حصولُ المسبَّبِ عند كلِّ سبب والواقعُ خلافُ ذلك، نجدُ كثيرًا من الأسباب تُستعملُ ولا يوجد إثرَها الـمُسبَّبُ فبذلك يُعلم أنّ الأسباب بِقَدرِ الله والمسبَّباتِ بقدَر الله فإن سبق في مشيئة الله وعلمه الأزليين وجودُ هذا الـمُسببِ إثر السبب كان ذلك حتمًا حصوله، لأن الله شاء وعلم أن هذا السبب يحصلُ إثْرَهُ المسبَّبُ لا محالة من ذلك، أما إن لم يكن سبق في علم الله ومشيئته حصولُ المسبب إثر هذا السبب فلا يحصل ذلك المسبب، روينا فيما يشهد لهذا حديثًا في صحيح ابن حبان([v]) أن رسول الله قال: «إنّ اللهَ خلَقَ الدَّاءَ وخَلَقَ الدَّواء فإذا أُصيبَ دَوَاءُ الدَّاء بَرَأ بإذنِ الله». اهـ. قولهُ عليه الصلاة والسلام: بَرَأ بإذن الله دليلٌ على أن الأسباب من أدويةٍ وغيرها لا تُوجِبُ بطبعها، بذاتها حصولُ الـمُسبب وشاهدُ الواقع يشهدُ بذلك، نرى كثيرًا من الناس يتداوون بدواءٍ واحدٍ وأمراضهم متّحدة فيتعافى بعضُ منهم ولا يتعافى الآخرون، فلو كان الدواء هو يخلُق الشفاء لكان كلُّ واحد يستعمل ذلك الدواء يتعافَى حتمًا ولم يكن هناك حصولُ الشفاء لبعض وعدمُ حصوله لبعض، لهذا قال عليه الصلاة والسلام: «فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذنِ الله».

فبذلك نعلم أن الأدوية وجُودُها بتقدير الله والشفاءُ بتقدير الله ليست الأدويةُ تخلق الشفاءَ بحيثُ لا يتخلفُ عند استعمال أيّ دواء حصولُ الشفاء إثرَه، كذلك سائر الأسباب العادية النار ليست موجبة لحصول الاحتراق إنما اللهُ تعالى شاء أن يحصل إثرَ مماسةِ النار للشيء الاحتراقُ.

فإن حصلَت مُماسةُ النار لشيء ولم يحصُل الاحتراق علمنا بأن المانع من حصول الاحتراق إثر مُماسةِ النار هو أنه سبق في علم الله ومشيئته الأزليين أنه لا يحصل الاحتراق إثر مُماسةِ النار لهذا الشيء.

الله تبارك وتعالى خلق ألوانًا وأشكالًا من ذوات الأرواح، جعل في بعضها ما لم يجعل في الآخرين، هذا الطير المسمى السَّمَنّدل ويقال له السَّمَنْد بلا لام، ويقال له السندل بالسين، هذا معروف أنه لا يحصل له احتراق، جلده لا يحترق بالنار وهو يدخل النار ويتهنأ فيها لا يتأذى وهو عزيز الوجود، يقول ابنُ خلكان في تاريخه عن اللغويّ المشهور عبد اللطيف البغدادي، هذا من أئمة اللغة، يقول شاهدت قطعة من جلد السمندل أُهديت إلى الملك الظاهر ابن الملك الصالح صلاح الدين عرض ذراع في طول ذراعين، صاروا يغمسونها في الزيت ثم يشعلونها فتشتعل النار ثم تنطفئ النار وتبقى تلك القطعة بيضاء نقية، وحيوانه في حال حياته هكذا يدخل النار ولا يؤثر فيه وهو كغيره من الحيوانات مؤلف من لحم ودم وعظمٍ، فلو كانت النار تخلق الإحراق بطبعها لم يحصل تخلُّفُ الإحراق للسمندل إذا مسته النار بل كان يحترق كما يحترق غيره، قال بعض الشعراء في ذلك:

نسجُ داودَ لم يُفِدْ ليْلَة الغار

 

وكان الفَخَارُ للعَنْكَبُوتِ

 معناه: ليلة كان رسول الله فِي الغار هو وأبو بكر حماهُما اللهُ تعالى بنسج العنكبوت فكان الفضل لنسج العنكبوت ولم يكن هذا الفضلُ لنسج داود، نسج داود هو الدرع معناه الله تعالى لم يَحمِهما بنسج داود بل حماهُما بنسج العنكبوت وهو منَ الخلق الضعيف، قال:

وبَقَاءُ السَّمنْد فِي لهب النَّار

 

مُزيلٌ فضِيلةُ الياقوُتِ

 يعني: أن عدم احتراق المسند في لهب النار يدل على أن له مزية ليست للياقوت.

فالحاصل: أنه يجب اعتقاد أن الأسباب لا تخلق مسبباتها بل الله يخلق المسبَّبات إثرَ الأسباب أيْ أنه تعالى هو خالق الأسباب وخالق مسبباتها، وعلى هذا المعنى يفسَّر ما شاع وانتشر على ألسنة المسلمين في أثناء أدعيتهم يا مُسبّبَ الأسباب، معناه: أن الله تعالى هو الذي خلق في الأسباب حصول مسبباتها إثر استعمالها، وهذا من كلام الوحيد الذي خلق في الأسباب حصول مسبباتها إثر استعمالها، وهذا من كلام التوحيد الذي هو اشتهر وفشا على ألسنة المسلمين علمائهم وعوامهم وهو يرجع إلى توحيد الأفعال أي أن الله تبارك وتعالى هو الذي فعله لا يتخلفُ أثرهُ، إذا شاء حصول شيء إثر مزاولة شيء حصل لا محالة، لا بُدَّ.

وكما أن الله تبارك وتعالى هو خالق الـمُسببات إثر استعمال الأسباب فهو خالق العباد حركاتهم وسكناتهم، لا خالق لشيء من ذلك غيرهُ.

فالإنسان مكتسبٌ لأعماله الاختيارية ليس خالقاً بل اللهُ خالقها، هذه الحركات التي نتحركُها للخير أو للشر، الله تبارك وتعالى هو خالقها فينا، هو الذي يُجريها على أيدينا، ولا فرق في ذلك بين أعمالنا التي هي حسنات وبين أعمالنا التي هي سيئات.

المراد بالحسنات هنا الطاعات والمراد بالسيئات المعاصي، فالطاعات من الإيمان وما يتبعه من صلاة وصيام وإلى غير ذلك مما لا يُحصى، والسيئات من الكفر وما بعده كل ذلك بخلق الله تعالى، هذا الاعتقادُ هو اعتقاد الفرقة الناجية وهم الصحابة الذين تلقَّوا عن رسول الله المعتقد الإيمانيَّ ثم تلقَّى منهم التابعون ثم أتباع التابعين وهَلْمَّ جرا، هذه هي عقيدة الفرقة الناجية. وتسميتهم الفرقة الناجية ليس لأقليتهم بالنسبة للفر المنتسبة للإسلام المخالفة لهم بل هذه الفرقة الناجية هِيَ الأكثر، أما أولئك الفرق المخالفة التي أسماؤهم بحيث بلغت إلى اثنتين وسبعين فرقة فإنهم الأقل.

وهذه الفرق الاثنتان والسبعون الشاذة التي هي ضالة كثير منها انقرضوا ولم يبق إلا أقلهم.

والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم

والحمد لله رب العالمين.

([i]) سورة فاطر، الآية: (3).

([ii]) سورة الفرقان، الآية: (2).

([iii]) سورة الرعد، الآية: (16).

([iv]) رواه البيهقيّ في شعب الإيمان.

([v]) كتاب الطب.