الدرس الرابع عشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السُّنَّة والحث على نشرها.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلاة الله البر الرحيم على سيدنا محمد وعلى ءاله الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى جعل هذه الدنيا مرحلة يُنتقل منها إلى الآخرة فالعاقل من ينتهز فرصة الحياة وفرصة الشباب وفرصة الفراغ وفرصة الاستطاعة لاكتساب مزاد الآخرة وأما من غفل عن ذلك فهو خاسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكَيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأمانِيَّ»([i]). اهـ. معنى الحديث أن الإنسان الذي يعرف ما هو صالح له هو الذي يغلب نفسه على طاعة الله تعالى يحمّلها طاعة الله تعالى ويحمّلها الابتعاد عن المعصية ويغلبها على ذلك، من غلب نفسه على أداء الطاعة واكتساب العبادات ومن غلب نفسه في زجرها ونهيها عن المعاص هذا الإنسان هو العاقل هذا الذي يقال له الكَيّس وأما العاجز أي الضعيفُ الهِمَّة ليس العاجزَ في جسمِهِ وضعف قواه الجسمانية إنما العاجزُ هو العاجز في فهم ما يَصلح له في ءَاخِرَتِه هذا الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم العاجز قال: «العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيَّ» الذي يترك نفسه مع هواها أي مع ما تشتهيه من ملذات الدنيا أيْ يسترسل في المعاصي ثم مع هذا يتمنى على الله الأمانيَّ أي أن الله يرحمه ويكرمه بعد الموت يتمنى لنفسه ذلك مع استرساله في ما تشتهيه نفسه وتكاسله عن طاعة الله تعالى أي عنِ التزود للآخرة.
وسبيل السلامة في الآخرة هو تعلم علم الدين على مذهب أهل السُّنَّة الذي كان عليه الصحابة والتابعون وأتباع التابعين وتبعُ الأتباع ومن جاء على هديهم إلى وقتنا هذا، هذا الدّين لا ينقطع إلى يوم القيامة وإن شذَّت بعض الفئات مع دعواها الإسلام لكن الجمهور عقيدتُهُمْ لا تزيغ عن العقيدة التي يرضاها الله ورسوله هؤلاء اليوم يسمون الأشعرية ويسمون الأشاعرة لأنهم ينتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعريّ كان الإمام أبو الحسن الأشعريُّ في القرن الثالث ثم أدرك أول القرن الرابع وتُوُفّى وإنما انتسب إليه أهل السُّنَّة لأنه دافع عن مذهب أهل السُّنَّة ببيان الدلائل العقلية والدلائل النقلية، قرر مذهب الصحابة والتابعين وأتباع التابعين من حيث العقيدةُ ببيان الدلائلِ النقليةِ أي الدلائل التي وردت في القرءان والحديث الصحيح الثابت والدلائل العقلية، أثبت قواعد أهل السُّنَّة والدلائلَ التي تؤيّدها الدلائلَ العقلية والدلائلَ النقلية.
الأشعرية مئات الملايين اليوم في أندونوسية نحو مائة مليون([ii]) ويزيدون وهم أشعرية أي على عقيدة الأشعرية كذلك مصر كذلك تركية كذلك المغرب وإفريقية السود والحبشة واليمن وجنوب إفريقية وما في السند والهند، كلُّ هؤلاء المسلمين على عقيدة الأشعرية، وكان الإمام السلطان الملك العادل صلاح الدين الأيوبي الذي حَرَّرَ القدس بعد أن استولى عليها الأوروبيُّون تسعين سنة هذا كان أشعريًّا كان مهتمًا بالعقيدة الأشعرية حتى إنه في مصر كان مدرسةٌ يقال لها الصلاحية نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي بجوار قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه هذه المدرسة بناها لتعليم عقيدة الأشعرية عقيدتنا.
من جملة عقيدة الأشعرية أن الله موجود بلا ابتداء بلا انتهاء وأنه موجود بلا مكان كان قبل المكان وأنه غير محدود ليس له مساحة لا مساحة قصيرة ولا مساحة طويلة، لا يجوز اعتقاد أن الله تعالى شيء له امتداد قصير أو طويل أو وسط، لو ظن ظانٌّ أن الله تعالى جسم ممتد إلى غير نهاية فهو جاهل بالله ما عرف الله، هو الحدُّ يَحتاج إلى من جعله ويخلقه، الله تعالى لو كان شيئًا له حدّ أي مِساحة لاحتاج إلى من جعله على هذه المساحة كالشمس أي أنَّ الشمس لها مساحة فهيَ تحتاج إلى مَن جعلها على هذه المساحة، والعرشُ له مِساحة فهو محتاج إلى من جعله على تلك المساحة التي لا يعلمها إلا الله وأما الله تبارك وتعالى فهو مُنَزَّهٌ عن المساحة بالمرة، الجسم مهما كان صغيرًا له مساحة كالنملة لها مِساحة، تنزيهُ الله تبارك وتعالى عن المساحة هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، وكان صلاح الدين الأيوبيُّ رحمه الله قرر في أيامه قراءة عقيدة الأشعرية، عقيدتِنا هذه، عقيدة أبِي الحسن الأشعري على المآذن قبل صلاة الفجر في مصر واليمن وبلاد الشام كلها سورية ولبنان والأردن وفلسطين والحجاز هو كان يحكم هذه البلاد كان يحكم ثلاث عشرة ولاية اليمن بأسره والحجاز بأسره إلى نجد وسائرَ ملحقات الحجاز هذه كلها كان هو يحكمها وكان يحث الناس على هذه العقيدة العقيدة الأشعرية فالعقيدةُ الأشعرية عقيدة أهل السُّنَّة قديمًا وحديثًا وإنما نُسبت إلى أبي الحسن الأشعريّ لأنه اشتغل بتقريرها بالأدلة العقلية والنقلية ودفع شبه المخالفين شبهٍ المعتزلة وشبهِ الخوارج وشبهِ النجارية، اثنتان وسبعون فرقة شذَّتْ عن مذهب أهل السُّنَّة كان أبو الحسن الأشعري يبيّن بطلان هذه الفرق الاثنتين والسبعين ويؤيّد مذهب الفرقة الناجية الذين هم جمهور الأمة، وهذه العقيدة هي عقيدة جمهور الأمة قديمًا وحديثًا.
ثم الرسول أوصى باتباع السواد الأعظم السواد الأعظم معناه ما عليه أكثر أمته، هذا السواد الأعظم، وصّانا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع ذلك فواجب علينا على الرجال والنساء تأييدُ هذه العقيدة بنشرها وتعليمها للصغار والكبار. كان في أيام صلاح الدين الأيوبي قصيدةٌ في العقيدة الأشعرية وفيها بيانُ ما ندرسه نحن أنَّ الله موجود بلا مكان وأنه متكلم بكلام قائم بذاته ليس له ابتداء ولا انتهاء ليس يُبتدأ ويُختتم وليس حرفًا وصوتًا، فيها هذا وفيها أنَّ الله مُنَزَّهٌ عن المكان وفيها أن الله مُنَزَّهٌ عن مشابهة المحدثات أي المخلوقات كلها، هذه القصيدة موجودة هي مطبوعة فعلينا أن نهتم بتعليم هذه للرجال والنساء والفائز من قام بذلك، الفائز الناجي في الآخرة من عمل بهذا، ومن غفل عن هذا فإنه الويل في الآخرة، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لا يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة»([iii]). اهـ. معناه: الإنسان المسلم العاقل الذي هو صاحب فهم في دينه لا يشبع من الازدياد في العلم لا يقول أحدُنا أنا تعلمتُ ما يعرفه الناس فلا حاجة بي لحضور مجالسهم حتى الذي أخذ قدر الكفاية مطلوب منه أن [يحضر] المجلس الذي يُدَرَّسُ فيه علمُ أهل السُّنَّة لتشجيع غيره وإن كان هو لا يستفيد مزيدًا على ما تعلمه فيحضرُ ليشجع غيره أو يشتغل بتعليم الناس ما حصّله من القدر الضروريّ فأما الذي يتقاعد عن هذا فهو غارٌّ نفسَه.
ثم الإنسان الله تعالى جعله أطوارًا كان في الضعف في بدء أمره ضعيفًا ثم صار قويًّا ثم يعود إلى الضعف، لما تَكّبَرُ سِنُّهُ يصير ضعيفًا لكن هو الذي ينتهز أيام شبابه قبل العجز وأيام فراغه قبل أن يحصل له شواغل وأيام صحته قبل أن يشغله المرض ويغتنم حياته قبل موته هذا الإنسانُ العاقلُ، ليس العاقلُ مَن يجمع المال بعضه على بعض ليتلذذ به ويتقلب بالترفُّه ليس هذا الإنسان العاقل، الترفُّهُ بالحلال جائز لكن الأولى أن يتركه كما كان الأولياء والأنبياء، الأنبياء ما كانوا يترفَّهون حتى سليمان الذي ءَاتَاهُ الله ذلك الملك الذي لا يعطيه الله لأحدٍ بعدَهُ إلى يوم القيامة ما كان يترفَّهُ، وكذلك سيدُنا عيسى، سيدُنا عيسى كان يأكل الشعير ويلبس الشعر أي الثياب التي تعمل من شعر البهيمة من الغنم ويأكل من نبات الأرض مثلِ شبهِ الملوخيَّةَ والنباتات التي تنبت في الأرض من دون أن تُزرع كان يكتفي بهذا، وسيدنا محمد كان يمضِي عليه الشهر والشهران ولا يوجد في بيته شيءٌ ساخن إنما هو تمر وماء، هؤلاء العقلاء الذين يقنعون بالقليل من الرزق بالحلال ولا يعلقون نفوسهم بالكثير.
بارك الله فيكم وسلك بكم مسالك النجاة.
والله تعالى أعلم وأحكم.
([i]) رواه ابن حبان في صحيحه باب صدقة التطوع.
([ii]) هذا العدد كان عند إعطاء الشيخ هذا الدرس وأما في سنة أربع وأربعين وأربعمائة وألف للهجرة فالعدد ضعف ذلك.
([iii]) رواه الترمذي بلفظ «لن يشبع» في أبواب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2686).