#3
بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، قائد الغر المحجلين، إمام الأتقياء العارفين، سيدنا وقائدنا وحبيبنا ونور أبصارنا محمد النبي العربي الأمي الأمين، العالي القدر، العظيم الجاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
(ما جاء فـى بدء الـخلق)
(قال رسول اللـه ﷺ عندما سئل عن بدء الأمر) أى عن أول المخلوقات (كان اللـه ولـم يكن شىء غيـره) والسائل هم أنـاس من أهل اليمن رحلوا إليه ليتفقهوا فـى الدين فبدأ الرسول ﷺ بذكر ما هو أهم من جواب سؤالـهم فبيـن لـهم أن اللـه عز وجل أزلــى لا ابتداء لوجوده وأن كل ما سواه حادث له بداية ثـم بعد ذلك أجابـهم عن سؤالـهم فقال (وكان عرشه على الماء) أى وجد عرشه على الماء أى أن الماء خلق قبل العرش وبوجود الماء وجد الزمان والمكان. ويدل على ذلك حديث إن اللـه لـم يـخلق شيئا مـما خلق قبل الماء رواه السدى فى تفسيـره بأسانيد متعددة، ثـم قال رسول اللـه ﷺ (وكتب فـى الذكر كل شىء) أى أمر القلم أن يكتب على اللوح المحفوظ ما كان وما يكون إلـى يوم القيامة (ثـم) بعد ذلك بـخمسيـن ألف سنة (خلق السمــٰـوات والأرض رواه الـبخارى) أى خلقهما وما بينهما فـى ستة أيـام كما قال تعالـى ﴿ولقد خلقنا السمــٰـوات والأرض وما بينهما فـى ستة أيـام وما مسنا من لغوب﴾ وكل يوم من هذه الأيام قدر ألف سنة قال تعالـى ﴿وإن يوما عند ربك كألف سنة مـما تعدون﴾. (أجاب الرسول ﷺ على هذا السؤال بأن اللـه لا بداية لوجوده أى أزلــى ولا أزلــى سواه) لأنه فـى الأزل أى فيما لا بداية له لـم يكن ماء ولا هواء ولا نور ولا ظلام ولا مكان ولا جهات ولا زمان (وبعبارة أخرى ففى الأزل لـم يكن إلا اللـه تعالـى واللـه تعالـى خالق كل شىء أى مـخرجه من العدم إلـى الوجود ومعـنـى خلق كل شىء أنه أخرج جـميع الموجودات) أى أبرزها (من العدم إلـى الوجود) أى صارت موجودة بإيـجاد اللـه لـها بعد أن لـم تكن موجودة ولا يضاف الـخلق بـهذا المعـنـى إلا للـه (و)كما أن اللـه أزلــى لا ابتداء لوجوده فإن (اللـه تعالـى حى لا يـموت) فلا يفنـى ربنا عز وجل (لأنه لا نـهاية لوجوده أى أبدى فلا يطرأ عليه العدم إذ لو جاز عليه العدم لاستحال عليه القدم أى الأزلية) فالأزلــى لا يكون إلا أبديـا أى أن الذى لـم يسبقه عدم لا يلحقه العدم.
(وحكم من يقول اللـه خلق الـخلق فمن خلق اللـه الـتكفيـر قطعا لأنه نسب إلـى اللـه تعالـى العدم قبل الوجود ولا يقال ذلك إلا فـى الـحوادث أى المخلوقات) لأن اللـه تعالـى لو كان مـخلوقا لكان مـحتاجا والمحتاج لا يكون إلــٰها. أما من خطر له هذا السؤال فـى باله من دون إرادة فعلاجه كما دل عليه الـحديث أن يصرف فكـره عن هذا الـخاطر وأن يقول ءامنت باللـه ورسله فإنه يقطعه عنه بإذن اللـه فقد روى مسلم من حديث أبـى هريرة رضى اللـه عنه أنه قال قال رسول اللـه ﷺ لا يزال الـناس يتساءلون حتـى يقال هذا، خلق اللـه الـخلق فمن خلق اللـه فمن وجد من ذلك فليقل ءامنت باللـه ورسله. وقول بعضهم من خلق اللـه هو سؤال المحال لأن خالق العالـم يـجب أن يكون أزلـيا فيستحيل أن يكون له خالق (فاللـه تعالـى واجب الوجود أى لا يتصور فـى العقل عدمه فليس وجوده كوجودنـا الـحادث لأن وجودنـا بإيـجاده تعالـى وكل ما سوى اللـه جائز الوجود أى يـمكن عقلا وجوده بعد عدم وإعدامه بعد وجوده بالـنظر لذاته فـى حكم العقل) أما المستحيل العقلـى فهو ما لا يقبل العقل وجوده كوجود شريك للـه.
(واعلم أن أقسام الموجود ثلاثة الأول أزلــى أبدى وهو اللـه تعالـى فقط أى لا بداية) لوجوده فلم يسبق وجوده عدم (ولا نـهاية لوجوده) فلا يلحقه العدم قال اللـه تعالـى ﴿هو الأول والآخر﴾ (وحكم من يقول إن هناك شيئا أزلـيا سوى اللـه الـتكفيـر قطعا ولذلك كفرت الفلاسفة باعتقادهم السفيه أن العالـم قديـم أزلــى) لا بداية لوجوده (لأن الأزلـية لا تصح إلا للـه تعالـى فقط).
(والثانـى أبدى لا أزلــى أى أن له بداية ولا نـهاية له وهو الـجنة والـنار فهما مـخلوقتان أى لـهما بداية إلا أنه لا نـهاية لـهما أى أبديتان فلا يطرأ عليهما خراب أو فناء لمشيئة اللـه بقاءهـما) لكن بقاؤهـما ليس بقاء ذاتيا بل هـما باقـيتان بإبقاء اللـه لـهما (أما من حيث ذاتـهما فيجوز عليهما الفناء عقلا) وأما بقاء اللـه فهو بقاء ذاتـى أى ليس بإبقاء غيـره له فلا شريك للـه تعالـى فـى صفة الـبقاء.
(والـثالث لا أزلـى ولا أبدى أى أن له بداية وله نـهاية وهو كل ما فـى هذه الدنيا من السمــٰـوات السبع والأرض فلا بد من فنائهما وفناء ما فيهما من إنس وجن وملائكة) ويدل على ذلك قوله تعالـى ﴿كل من عليها فان﴾ أى أن كل من على وجه الأرض يفنـى وفناء البشر والـجن معناه مفارقة أرواحهم لأجسادهم وأما فناء أهل السمــٰـوات فهو يفهم من قوله تعالـى ﴿ويبقى وجه ربك﴾ أى ذاته أى يبقى اللـه.
(واعلم أنه جرت عادة العلماء على ذكر أن الـحكم العقلـى ينقسم إلـى ثلاثة) أى أن العقل يـحكم على كل أمر من الأمور بـحكم من ثلاثة (الوجوب والاستحالة والـجواز وقالوا الواجب) العقلـى هو (ما لا يتصور) فـى العقل (عدمه) أى لا يقبل العقل عدمه (وهو اللـه وصفاته والمستحيل) العقلـى هو (ما لا يتصور فـى العقل وجوده) أى لا يقبل العقل وجوده كوجود شريك للـه (وقد يعبـرون عنه بالممتنع) عقلا، ومن المستحيل العقلـى كون الـحادث أزلـيا (و)أما (الـجائز) العقلـى ويقال له الممكن العقلـى فهو (ما يتصور فـى العقل وجوده) تـارة (وعدمه) تـارة أخرى كسائر المخلوقات (ولذلك) أى لأجل ما تقدم بيانه من الأحكام العقلية الثلاثة (يصفون اللـه بالواجب الوجود) لأنه لا يتصور فـى العقل عدمه.
(قدم اللـه ليس زمانيا)
أى أن اللـه تعالـى لا يـجرى عليه زمان أى لا بداية لوجوده لأن الزمان حادث فالزمان وجد بوجود أول المخلوقات وهو الماء و(اللـه تعالـى كان قبل الزمان وقبل المكان وقبل الظـلمات وقبل الـنور فهو تعالـى لـيس من قبيل العالـم الكثيف) الذى يـجس بالـيد (كالأرض والـحجر والكواكب) أى النجوم (والـنبات والإنسان وليس من قبيل العالـم اللطيف) الذى لا يـجس بالـيد (كالـنور والروح والـهواء والـجن والملائكة لمخالفته) تعالـى (للحوادث أى لمخالفته جـميع المخلوقات) أى عدم مشابـهته لـها بأى وجه من الوجوه (فإن قيل ألـيس من أسـمائه اللطيف فالجواب أن معـنـى اللطيف الذى هو اسم للـه الرحيم بعباده أو الذى احتجب عن الأوهام فلا تدركه) أى لا تبلغه تصورات العباد ولذلك نـهينا عن الـتفكر فـى ذات اللـه للوصول إلـى حقيقته أى نـهينا عن إعمال الفكر لـتوهـمه وتـخيله وأمرنـا بالـتفكر فـى مـخلوقات اللـه للوصول إلـى معرفة الدليل على وجود اللـه وقدرته وأنه لا يشبه شيئا وأما تصور ذات اللـه بشكل فكفر وضلال لأنه تشبيه للـه بـخلقه (فلا نظيـر له تعالـى أى لا مثيل له ولا شبيه فـى ذاته ولا فـى صفاته ولا فـى فعله) فلا يوجد ذات مثل ذاته وليس لغـيـره صفة كصفته أو فعل كـفعله (لأنه لو كان مـماثلا لمخلوقاته بوجه من الوجوه) أى لو كان يتصف بـما تتصف به المخلوقات (كالـحجم والـحركة والسكون ونـحو ذلك) لكان حادثا أى مـخلوقا مثلها ولـجاز عليه ما يـجوز عليها من الفناء والتغـيـر و(لـم يكن خالقا لـها فاللـه تعالـى منزه عن الاتصاف بالـحوادث) أى الصفات الـحادثة فلا يتصف ربنا بصفة لـم يكن متصفا بـها فـى الأزل (وكذلك صفات اللـه تعالـى) الـثابتة لذاته (هى قديـمة أى أزلـية) لأن الذات الأزلــى لا يتصف بصفة حادثة.
(ولأهـميـة هذا البحث قال الإمام أبو حنيفة) رضى اللـه عنه (من قال بـحدوث صفات اللـه) أى من قال إن اللـه حدثت له صفات لـم يكن متصفا بـها فـى الأزل (أو شك) فيها أى قال لعلها أزلـية ولعلها حادثة (أو توقف) فيها أى قال لا أقول إنـها حادثة ولا أقول إنـها أزلية (فهو كافر ذكره فـى كتاب الفقه الأكـبـر وقال) الإمام أحـمد بن سلامة (الطحاوى) فـى عقيدته (ومن وصف اللـه بـمعـنـى من معانـى الـبشر فقد كفر) أى من وصف اللـه بصفة من صفات الـبشر كالقيام والقعود والـحركة والسكون والـتحيز فـى المكان والـجهة فهو كافر.
(تنزيه اللـه عن المكان وتصحيح وجوده بلا مكان عقلا)
(و)اعلم أن (اللـه تعالـى غنـى عن العالميـن أى مستغن عن كل ما سواه أزلا وأبدا فلا يـحتاج) ربـنا (إلـى مكان يتحيز فيه أو شىء يـحل به أو إلـى جهة لأنه ليس كشىء من الأشياء ليس حجما كـثيفا) كالإنسان والـحجر (ولا حجما لطيفا) كالـنور والـهواء (والـتحيز من صفات الـجسم الكثيف و)الـجسم (اللطيف فالـجسم الكثيف و)كذلك (الـجسم اللطيف متحيـز فـى جهة ومكان قال اللـه تعالـى ﴿وهو الذى خلق الليل والـنهار والشمس والقمر كل فـى فلك يسبحون﴾ فأثبت اللـه تعالـى لكل من الأربعة) الليل والـنهار وهـما جسمان لطيفان والشمس والقمر وهـما جسمان كـثيفان (التحيز فـى فلكه وهو المدار) الذى يـجرى فيه. والتحيز فـى المكان نقص على اللـه لأنه يلزم من التحيز أن يكون له حد أى حجم ومقدار ولو كان ذا حد ومقدار لاحتاج إلـى من جعله بذلك الـحد والمقدار والمحتاج لا يكون إلــٰها قال الـحافظ الفقيه مـحمد مرتضى الزبيدى فـى شرح إحياء علوم الدين من جعل اللـه تعالـى مقدرا بـمقدار كفر، أى لأنه جعله ذا كمية وحجم وكل ما جرى عليه التقدير فهو حادث مـخلوق مـحتاج إلـى من جعله على ذلك المقدار كما يدل على ذلك قوله تعالـى ﴿وكل شىء عنده بـمقدار﴾ أى خلق كل شىء على مقدار مـخصوص من الـحجم وقال الإمام علـى رضى اللـه عنه من زعم أن إلــٰهنا مـحدود فقد جهل الـخالق المعبود رواه الحافظ أبو نعيم فـى كتابه حلية الأولياء. والمحدود عند علماء التوحيد ما له حجم صغيـرا كان أو كبيـرا ومعنـى كلامه أن اللـه تعالـى ليس له حجم بالمرة لا صغيـر ولا كبيـر ولا وسط.
(ويكفى فـى تنزيه اللـه عن المكان والـحيز والـجهة قوله تعالـى ﴿ليس كمثله شىء﴾ لأنه لو كان له مكان لكان له أمثال وأبعاد طول وعرض وعمق ومن كان كذلك كان مـحدثا) أى مـخلوقا (مـحتاجا لمن حده بـهذا الطول وبـهذا العرض وبـهذا العمق. هذا الدليل من القرءان أما من الـحديث فما رواه البخارى وابن الـجارود والبيهقى بالإسناد الصحيح أن رسول اللـه ﷺ قال كان اللـه ولـم يكن شىء غيـره، ومعناه أن اللـه لـم يزل موجودا فـى الأزل ليس معه غيـره لا ماء ولا هواء ولا أرض ولا سـماء ولا كرسى ولا عرش ولا إنس ولا جن ولا ملائكة ولا زمان ولا مكان) ولا فراغ (ولا جهات فهو تعالـى موجود قبل المكان بلا مكان وهو الذى خلق المكان فليس بـحاجة إليه وهذا) من جـملة (ما يستفاد من الـحديث المذكور. وقال) الـحافظ (البيهقى فـى كتابه الأسـماء والصفات استدل بعض أصحابنا) أى الأشاعرة الشافعية (فـى نفى المكان عنه) تعالـى (بقول النبـى ﷺ) اللهم (أنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء) والظاهر أى من حيث الدلائل العقلية لأنه ما من شىء إلا ويدل على وجود اللـه والباطن أى الذى لا تدركه الأوهام أى لا تبلغه تصورات العباد فاللـه تعالـى ظاهر بآياته باطن بذاته. قال البيهقى (وإذا لـم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لـم يكن فـى مكان. وهذا الـحديث فيه الرد أيضا على القائليـن بالـجهة فـى حقه تعالـى وقد قال) سيدنا (علـى رضى اللـه عنه كان اللـه ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) أى كان اللـه موجودا فـى الأزل ولا مكان وبعد أن خلق المكان لـم يتغيـر عما كان فهو موجود بلا مكان (رواه) الإمام (أبو منصور البغدادى) فـى كتابه الفرق بيـن الفرق وذكر أن هذه العبارة موضع إجـماع أهل السنة. (وليس مـحور الاعتقاد على الوهم) أى أن الاعتقاد الصحيح لا يبنـى على الوهم (بل على ما يقتضيه العقل الصحيح السليم الذى هو شاهد للشرع) أى يدل على صحة الشرع (وذلك أن المحدود مـحتاج إلـى من حده بذلك الـحد) أى أن كل ما له حجم فهو مـخلوق مـحتاج إلـى من جعله على هذا الـحجم (فلا يكون إلــٰها) فيجب اعتقاد أن اللـه تعالـى موجود بلا مكان لأنه ليس حجما يـملأ فراغا بل هو خالق الأماكن والـجهات وكان موجودا قبلها بلا مكان ولا جهة. (فكما صح وجود اللـه تعالـى بلا مكان و)لا (جهة قبل خلق الأماكن والـجهات فكذلك يصح وجوده) تعالـى (بعد خلق الأماكن) والـجهات (بلا مكان و)لا (جهة وهذا) أى القول بأن اللـه موجود بلا مكان ولا جهة (لا يكون نفيا لوجوده تعالـى كما زعمت المشبهة و)منهم (الوهابية وهم الدعاة إلـى التجسيم فـى هذا العصر) أى يدعون الناس إلـى اعتقاد أن اللـه جسم قاعد فوق العرش والعياذ باللـه.
(وحكم من يقول إن اللـه تعالـى فـى كل مكان أو فـى جـميع الأماكن التكفيـر إذا كان يفهم من هذه العبارة) معناها فـى اللغة وهو (أن اللـه بذاته منبث) أى منتشر (أو حال فـى الأماكن أما إذا كان يفهم من هذه العبارة أنه تعالـى مسيطر على كل شىء وعالـم بكل شىء فلا يكفر وهذا قصد كثيـر مـمن يلهج بـهاتيـن الكلمتيـن ويـجب النهى عنهما على كل حال لأنـهما ليستا صادرتيـن عن) علماء (السلف) أى أهل القرون الثلاثة الأولـى (بل عن المعتزلة) والـجهمية (ثـم استعملهما جهلة العوام) من المسلميـن من غيـر فهم لمعناها. أما من يقول اللـه موجود فـى كل مكان فإنه يكفر لأنه لفظ صريح فـى إثبات المكان للـه.
(ونرفع الأيدى فـى الدعاء للسماء لأنـها) قبلة الدعاء و(مهبط الرحـمات والبـركات) أى تنزل علينا البـركة والرحـمة منها (وليس لأن اللـه موجود بذاته فـى السماء كما أننا نستقبل الكعبة الشريفة فـى الصلاة لأن اللـه تعالـى أمرنا بذلك) فهى قبلة الصلاة (وليس لأن لـها ميزة وخصوصية بسكنـى اللـه فيها) أى ليس لأن اللـه يسكنها (ويكفر من يعتقد التحيز للـه تعالـى) أى يعتقد أن اللـه يتحيز فـى مكان أو جهة (أو يعتقد أن اللـه شىء كالـهواء أو كالنور يـملأ مكانا أو غرفة أو مسجدا).
(ويرد على المعتقدين أن اللـه متحيز فـى جهة العلو) كالوهابية (ويقولون لذلك ترفع الأيدى عند الدعاء) إلـى السماء (بـما ثبت عن الرسول ﷺ أنه استسقى أى طلب المطر وجعل بطن كفيه إلـى الأرض وظاهرهـما إلـى السماء) كما فـى صحيح مسلم (وبأنه ﷺ نـهى المصلـى أن يرفع رأسه) فـى الصلاة (إلـى السماء) رواه الدارمى فـى سننه، (ولو كان اللـه متحيزا فـى جهة العلو كما تظن المشبهة) الوهابية (ما نـهانا) رسول اللـه ﷺ (عن رفع أبصارنا فـى الصلاة إلـى السماء وبأنه ﷺ كان يرفع إصبعه المسبحة عند قول إلا اللـه فـى التحيات ويـحنيها قليلا) كما روى ذلك ابن حبان فـى صحيحه (فلو كان الأمر كما تقول المشبهة ما كان يـحنيها بل) كان (يرفعها إلـى السماء وكل هذا ثابت حديثا عند المحدثيـن فماذا تفعل المشبهة الوهابية. ونسمى المساجد بيوت اللـه لا لأن اللـه يسكنها بل لأنـها أماكن معدة لذكر اللـه وعبادته) فالإضافة هنا إضافة تشريف. ولا يـجوز تسمية المعابد الدينية للكفار بيوت اللـه لأنـها أماكن بنيت للشرك والكفر فلا تكون معظمة عند اللـه أما المساجد فهى من شعائر اللـه فيجب تعظيمها (ويقال فـى العرش إنه جرم) أى حجم (أعده اللـه ليطوف به الملائكة كما يطوف المؤمنون فـى الأرض بالكعبة) قال الإمام علـى رضى اللـه عنه إن اللـه تعالـى خلق العرش إظهارا لقدرته (أى خلقه حتـى يظهر لـخلقه أنه تام القدرة) ولـم يتخذه مكانا لذاته رواه الإمام المحدث الفقيه أبو منصور التميمى فـى كتابه الفرق بيـن الفرق.
(وكذلك يكفر من يقول اللـه يسكن قلوب أوليائه إن كان يفهم منه الـحلول) أى إن كان يعتقد أن اللـه حال فـى قلوبـهم أما إن قال ذلك ظنا منه أنه يعنـى أن حب اللـه يسكن قلوب الأولياء فلا يكفر لكن يـجب نـهيه عنه وهذا القول من كلام جهلة المتصوفة.
(وليس المقصود بالمعراج وصول الرسول ﷺ إلـى مكان ينتهى وجود اللـه تعالـى إليه) أى ليس المقصود به أن الرسول وصل إلـى مكان حيث اللـه تعالـى متحيـز فيه (ويكفر من اعتقد ذلك) لأن اللـه تعالـى لا يـجوز عليه التحيز فـى مكان سواء كان المكان علويـا أو سفليا (إنـما القصد من المعراج هو تشريف الرسول ﷺ بإطلاعه على عجائب فـى العالـم العلوى) كما يشيـر إلـى ذلك قوله تعالـى ﴿لنريه من ءاياتنا﴾ (وتعظيم مكانته ورؤيته للذات المقدس بفؤاده) أى رؤيته لذات اللـه المنزه عن كل ما لا يليق به (من غيـر أن يكون الذات) المقدس (فـى مكان وإنـما المكان للرسول) ﷺ (وأما قوله تعالـى ﴿ثـم دنا فتدلـى فكان قاب قوسيـن أو أدنـى﴾ فالمقصود بـهذه الآية جبـريل عليه السلام) فإنه اقتـرب من سيدنا مـحمد ﷺ فرحا به فكان ما بينهما من المسافة قدر ذراعيـن بل أقرب (حيث رءاه الرسول ﷺ بـمكة بـمكان يقال له أجياد وله ستمائة جناح سادا عظم خلقه ما بيـن الأفق) أى ما بيـن المشرق والمغرب (كما رءاه مرة أخرى) على هذه الـهيئة (عند سدرة المنتهى كما قال تعالـى ﴿ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى﴾) وهى شجرة عظيمة أصلها فـى السماء السادسة وتـمتد إلـى السابعة أوراقها كآذان الفيلة وثـمارها كالقلال ويغشاها فراش من ذهب.
(وأما ما) ورد (فـى) صحيح (مسلم من أن رجلا) يقال له معاوية بن الـحكم (جاء إلـى رسول اللـه ﷺ فسأله عن جارية له) قال يا رسول اللـه إن لـى جارية ترعى لـى غنما فجاء ذات يوم ذئب فأكل شاة فغضبت فصككتها أى ضربتها على وجهها (قال قلت يا رسول اللـه أفلا أعتقها قال ائتنـى بـها فأتاه بـها فقال لـها أين اللـه قالت فـى السماء فليس بصحيح) إنما هو حديث ضعيف لا يـحتج به فـى العقيدة (لأمرين) الأول (للاضطراب) ذكر ذلك البيهقى فـى السنن الكبرى (لأنه روى) بألفاظ مـختلفة رواه مسلم (بـهذا اللفظ و)رواه النسائـى (بلفظ من ربك فقالت اللـه و)رواه أبو داود (بلفظ أين اللـه فأشارت إلـى السماء و)رواه مالك وأحـمد (بلفظ أتشهدين أن لا إلــٰه إلا اللـه قالت نعم قال أتشهدين أنـى رسول اللـه قالت نعم. والأمر الثانـى أن رواية أين اللـه مـخالفة للأصول) المقطوع بـها (لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يـحكم له بقول اللـه فـى السماء بالإسلام لأن هذا القول مشتـرك بيـن اليهود والنصارى وغيـرهم) فلا يصح عن رسول اللـه ﷺ ولا يليق به أن يقال عنه إنه حكم على الـجارية السوداء بالإسلام لمجرد قولـها اللـه فـى السماء (وإنـما الأصل المعروف فـى شريعة اللـه) هو (ما جاء فـى الـحديث المتواتر) الذى نص على تواتره الـحافظ السيوطى ورواه خـمسة عشر صحابيا (أمرت أن أقاتل الناس حتـى يشهدوا أن لا إلــٰه إلا اللـه وأنـى رسول اللـه). (و)أما (لفظ رواية مالك أتشهدين) أن لا إلــٰه إلا اللـه قالت نعم قال أتشهدين أنـى رسول اللـه قالت نعم فإنه (موافق للأصول) لأن الكافر إذا ترك الباطل واعتقد الصواب فقال له مسلم أتشهد أن لا إلــٰه إلا اللـه قال نعم قال أتشهد أن مـحمدا رسول اللـه قال نعم يـحكم له بالإسلام لأنه أقر بالشهادتيـن. (فإن قيل كيف تكون رواية مسلم أين اللـه فقالت فـى السماء إلـى ءاخره مردودة مع إخراج مسلم لـها فـى كتابه وكل ما رواه مسلم موسوم بالصحة فالـجواب أن) ما رواه مسلم من الأحاديث من حيث الـجملة صحيح لكن (عددا من أحاديث مسلم ردها علماء الـحديث وذكرها المحدثون فـى كتبهم كحديث أن الرسول) ﷺ (قال لرجل إن أبـى وأباك فـى النار) لأن أباه من أهل الفتـرة وهؤلاء لـم تبلغهم دعوة الأنبياء السابقيـن فلا يعذبون فـى الآخرة لقوله تعالـى ﴿وما كنا معذبيـن حتـى نبعث رسولا﴾ (وحديث إنه يعطى كل مسلم يوم القيامة فداء له من اليهود والنصارى) لأنه معلوم أن بعض عصاة المسلمين يعذبون فـى نار جهنم (وكذلك حديث أنس صليت خلف رسول اللـه وأبـى بكر وعمر فكانوا لا يذكرون بسم اللـه الرحـمـٰن الرحيم فأما) الـحديث (الأول فضعفه الـحافظ السيوطى والثانـى رده البخارى والثالث ضعفه) الإمام (الشافعى وعدد من الـحفاظ). وليعلم أنه يشترط للاحتجاج بالـحديث فـى العقيدة عند جـمهور أهل العلم أن يكون الـحديث مشهورا وإن لـم يكن متواترا لأن العقائد تبنـى على الأدلة القاطعة وقال بعضهم لا بد أن يكون الـحديث صحيحا ثابتا بلا خلاف وحديث الـجارية برواية أين اللـه ليس كذلك إنـما هو حديث ظنـى الثبوت رواه واحد فلا يـحتج به فـى العقيدة. والـحديث المشهور هو ما رواه ثلاثة فأكثر أما المتواتر فهو ما رواه جـمع عن جـمع بـحيث يستحيل عادة اتفاقهم على الكذب وهو يفيد القطع واليقيـن.
(فهذا الـحديث) أى حديث الـجارية إذا حـمل (على ظاهره) فهو (باطل لمعارضته الـحديث المتواتر المذكور) أمرت أن أقاتل الناس حتـى يشهدوا أن لا إلــٰه إلا اللـه وأنـى رسول اللـه (وما خالف) الـحديث (المتواتر فهو باطل إن لـم يقبل التأويل) أى معنـى خلاف ظاهره (اتفق على ذلك المحدثون) أى علماء الـحديث (والأصوليون) أى علماء أصول الدين وعلماء أصول الفقه (لكن بعض العلماء) من أهل السنة (أولوه) أى تركوا ظاهره وحـملوه (على هذا الوجه قالوا معنـى أين اللـه سؤال عن تعظيمها للـه) أى ما اعتقادك فـى اللـه من التعظيم ومن العلو ورفعة القدر (وقولـها فـى السماء) أرادت به أنه (عالـى القدر جدا) وهذا هو المعنـى الحقيقى لـهذا الـحديث عند من اعتبـره صحيحا وهو لا يـخالف تنزيه اللـه عن المكان والـحد أى الـحجم و(أما أخذه على ظاهره من أن اللـه ساكن السماء فهو باطل مردود لما تقرر فـى علم مصطلح الـحديث أن ما خالف المتواتر) فهو (باطل إن لـم يقبل التأويل فإن ظاهره ظاهر الفساد فإن ظاهره أن الكافر إذا قال اللـه فـى السماء يـحكم له بالإيـمان) والإسلام. (وحـمل المشبهة) فـى عصرنا وهم الوهابية أدعياء السلفية (رواية مسلم) لـحديث الـجارية أين اللـه فقالت فـى السماء (على ظاهرها) كما حـملوا ءاية الاستواء ﴿الرحـمـٰن على العرش استوى﴾ على ظاهرها (فضلوا) فماذا يقولون فـى قوله تعالـى ﴿فأينما تولوا فثم وجه اللـه﴾ فإن قالوا نـحن لا نأول بل نـحمل الآيات والأحاديث على ظواهرها وقعوا فـى التناقض (ولا ينجيهم من الضلال قولـهم إننا نـحمل كلمة فـى السماء بـمعنـى إنه فوق العرش لأنـهم يكونون بذلك أثبتوا له مثلا وهو الكتاب الذى كتب اللـه فيه إن رحـمتـى سبقت غضبـى) فإنه (فوق العرش فيكونون أثبتوا المماثلة بيـن اللـه وبيـن ذلك الكتاب لأنـهم جعلوا اللـه وذلك الكتاب مستقرين فوق العرش فيكونون كذبوا قول اللـه تعالـى ﴿ليس كمثله شىء﴾. وهذا الـحديث) أى حديث الكتاب (رواه ابن حبان بلفظ مرفوع فوق العرش وأما رواية البخارى فهى) بلفظ (موضوع فوق العرش) وكلاهـما بـمعنـى واحد (وقد حـمل بعض الناس) كلمة (فوق بـمعنـى تـحت وهو مردود برواية ابن حبان مرفوع فوق العرش فإنه لا يصح تأويل فوق فيه بتحت) أى لا يصح أن يقال إن الكتاب مرفوع تـحت العرش. (ثـم على اعتقادهم هذا) أى اعتقاد أن اللـه فوق العرش (يلزم أن يكون اللـه مـحاذيا للعرش بقدر العرش أو أوسع منه أو أصغر وكل ما جرى عليه التقدير) فهو (حادث) مـخلوق (مـحتاج إلـى من جعله على ذلك المقدار) كما يدل على ذلك قوله تعالـى ﴿وكل شىء عنده بـمقدار﴾.
(و)ليعلم أن (قول المشبهة اللـه قاعد على العرش شتم للـه لأن القعود من صفة البشر) والملائكة (والبهائم والـجن والـحشرات) ولا يكون إلا مـمن له جزء أعلى وجزء أسفل ومقعدة يلامس بـها ما يقعد عليه (وكل وصف من صفات المخلوق) إذا (وصف اللـه به) فهو (شتم له قال الـحافظ الفقيه اللغوى) مـحمد (مرتضى الزبيدى) فـى شرح إحياء علوم الدين (من جعل اللـه تعالـى مقدرا بـمقدار كفر، أى لأنه جعله ذا كمية وحجم والـحجم والكمية من موجبات الـحدوث) أى يدلان على أن المتصف بـهما حادث مـخلوق (وهل عرفنا أن الشمس حادثة مـخلوقة من جهة العقل إلا لأن لـها حجما ولو كان للـه تعالـى حجم لكان مثلا للشمس فـى الـحجمية ولو كان كذلك ما كان يستحق الألوهية كما أن الشمس لا تستحق الألوهية. فلو طالب هؤلاء المشبهة عابد الشمس بدليل عقلـى) أى لو قال عابد الشمس للمشبهة أعطونـى دليلا عقليا (على استحقاق اللـه الألوهية وعدم استحقاق الشمس الألوهية لـم يكن عندهم دليل وغاية ما يستطيعون أن يقولوا قال اللـه تعالـى ﴿اللـه خالق كل شىء﴾ فإن قالوا ذلك لعابد الشمس يقول لـهم عابد الشمس أنا لا أؤمن بكتابكم أعطونـى دليلا عقليا على أن الشمس لا تستحق الألوهية) فإن قال المشبه معبودى جسم وله شكل وينزل ويصعد أجابه عابد الشمس ومعبودى كذلك غيـر أن معبودى جسم منيـر يراه ويـحس بنفعه كل أحد وأما معبودكم الذى تزعمون أنه جسم مستقر فوق العرش فلا أنا رأيته ولا أنتم رأيتموه ولا يـحس أحد بنفعه فكيف تكون عبادتكم صحيحة وعبادتـى باطلة (فهنا ينقطعون) ويعجزون عن إقامة الـحجة على عابد الشمس.
(فلا يوجد فوق العرش شىء حى يسكنه إنـما يوجد كتاب فوق العرش مكتوب فيه إن رحـمتـى سبقت غضبـى أى إن مظاهر الرحـمة) أسبق وجودا و(أكثر) عددا (من مظاهر الغضب) أى إن ما خلقه اللـه تعالـى رحـمة للناس ونعمة أكثر مـما خلقه عذابا لـهم ونقمة. (الملائكة من مظاهر الرحـمة وهم أكثر عددا من قطرات الأمطار وأوراق الأشجار) لا يعلم عددهم إلا اللـه كما قال تعالـى ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾ (والـجنة) أيضا (من مظاهر الرحـمة) خلقها اللـه قبل جهنم (وهى أكبر من جهنم بآلاف المرات وكون ذلك الكتاب فوق العرش ثابت أخرج حديثه البخارى والنسائى فـى السنن الكبـرى وغيرهـما) كابن حبان فـى صحيحه (ولفظ رواية ابن حبان لما خلق اللـه الـخلق كتب فـى كتاب يكتبه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش إن رحـمتـى تغلب غضبـى) وهذا يدل على أنه لا يصح تأويل فوق فـى حديث البخارى بـمعنـى دون أى لا يصح أن يقال إن الكتاب مرفوع تـحت العرش (فإن حاول مـحاول) رغم ذلك (أن يؤول فوق بـمعنـى دون قيل له تأويل النصوص) القرءانية والحديثية (لا يـجوز إلا بدليل نقلـى ثابت أو عقلـى قاطع و)المخالفون (ليس عندهم شىء من هذين ولا دليل على لزوم التأويل فـى هذا الـحديث كيف وقد قال بعض العلماء إن اللوح المحفوظ فوق العرش لأنه لـم يرد نص صريح بأنه فوق العرش ولا بأنه تـحت العرش فبقى الأمر على الاحتمال أى احتمال أن اللوح المحفوظ فوق العرش واحتمال أنه تـحت العرش فعلى) ما ذهب إليه المخالف يكون (قوله) موقعا له فـى ما عاب علينا فإنه منعنا من التأويل مع أننا لا نأول إلا بدليل وأول هو بغيـر دليل وعلى قول من قال من العلماء (إنه) أى اللوح المحفوظ (فوق العرش يكون) المشبه قد (جعل اللوح المحفوظ معادلا للـه أى) اقتضى كلامه (أن يكون اللـه بـمحاذاة قسم من العرش واللوح) المحفوظ (بـمحاذاة قسم من العرش وهذا تشبيه له بـخلقه لأن مـحاذاة شىء لشىء) أى كون الشىء فـى مقابل شىء (من صفات المخلوق).
(ومـما يدل على أن ذلك الكتاب) الذى سبق ذكره هو (فوق العرش فوقـية حقيقية لا تـحتمل التأويل الـحديث الذى رواه النسائى فـى السنن الكبـرى إن اللـه كتب كتابا قبل أن يـخلق السمــٰـوات والأرض بألفى سنة فهو عنده على العرش وإنه أنزل من ذلك الكتاب ءايتيـن ختم بـهما سورة البقرة وفـى لفظ لمسلم فهو موضوع عنده، فهذا) وما سبقه (صريح فى أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقـية حقيقية لا تـحتمل التأويل). (وكلمة عند) فـى هاتيـن الروايتيـن (للتشريف) أى التعظيم و(ليس لإثبات تـحيز اللـه فوق العرش لأن) كلمة (عند تستعمل لغيـر المكان) أيضا (قال اللـه تعالـى ﴿وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك﴾) فلا تدل عند فـى هذه الآية على أن للـه حيزا أى مكانا وأن بينه وبيـن الـحجارة تقاربا (إنـما تدل “عند” هنا أن ذلك بعلم اللـه وليس المعنـى أن تلك الـحجارة مـجاورة للـه تعالـى فـى المكان فمن يـحتج بـمجرد كلمة عند لإثبات المكان والتقارب بيـن اللـه وبيـن خلقه فهو من أجهل الـجاهليـن وهل يقول عاقل إن تلك الـحجارة التـى أنزلـها اللـه على أولئك الكفرة نزلت من العرش إليهم وكانت مكومة بـمكان فـى جنب اللـه فوق العرش).
عود إلـى الكلام عن حديث الـجارية.
(وقد روى البخارى أن النبـى ﷺ قال إذا كان أحدكم فـى صلاته فإنه يناجى ربه فلا يبصقن فـى قـبلته ولا عن يـمينه فإن ربه بينه وبيـن قـبلته) أى أن المصلـى انقطع عن مـخاطبة الناس لعبادة ربه فليس من الأدب أن يبصق فـى قـبلته ولا عن يـمينه فإن ربه بينه وبيـن قـبلته أى رحـمة ربه أمامه أى الرحـمة الـخاصة التـى تنزل على المصليـن وليس معناه أن اللـه بذاته تلقاء وجهه (وهذا الـحديث أقوى إسنادا من حديث الـجارية. وأخرج البخارى أيضا عن أبـى موسى الأشعرى أن رسول اللـه ﷺ قال) لصحابته (اربعوا على أنفسكم) أى هونوا عليها ولا تـجهدوها برفع الصوت كثيـرا لأنـهم كانوا فـى سفر فوصلوا إلـى وادى خيبـر فصاروا يهللون ويكبـرون بصوت مرتفع فقال لـهم رسول اللـه ﷺ شفقة عليهم اربعوا على أنفسكم (فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا) أى لا تـخفى عليه الأمور (إنـكم تدعون سـميعا قريبا والذى تدعونه أقرب إلـى أحدكم من عنق راحلة أحدكم) والمراد به القرب المعنوى أى أن اللـه تعالـى مطلع على أحوال عباده لا يـخفى عليه شىء منها وليس المراد به القرب الحسى الذى هو بالـجهة والمسافة (فيقال للمعتـرض) الذى يـمنع التأويل ويـحتج بظاهر حديث الـجارية لإثبات المكان للـه (إذا أخذت حديث الـجارية على ظاهره وهذيـن الـحديثين على ظاهرهـما بطل زعمك أن اللـه فـى السماء) لأن ظاهر الـحديث الأول أن اللـه موجود بيـن المصلى والكعبة وظاهر الـحديث الثانـى أن اللـه موجود بيـن الراكب الداعى وعنق دابته (وإن أولت هذين الـحديثيـن ولـم تؤول حديث الـجارية فهذا تـحكم أى قول بلا دليل ويصدق عليك قول اللـه) تعالـى (فـى اليهود ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾).
(و)يقال للمعتـرض (كذلك ماذا تقول فـى قوله تعالـى ﴿فأينما تولوا فثم وجه اللـه﴾ فإن أولته فلم لا تؤول حديث الـجارية وقد جاء فـى تفسيـر هذه الآية عن مـجاهد تلميذ ابن عباس قـبلة اللـه ففسر الوجه بالقبلة) ذكر ذلك الطبـرى فـى تفسيـره (أى) أن اللـه تعالـى رخص لكم (لصلاة النفل فـى السفر على الراحلة) أى الدابة أن تتوجهوا إلـى الـجهة التـى تذهبون إليها.
(وأما الـحديث الذى رواه التـرمذى) فـى سننه (وهو الراحـمون يرحـمهم الرحـمـٰن ارحـموا من فـى الأرض) أى بإرشادهم إلـى الـخيـر كتعليمهم أمور الدين الضرورية وإطعام جائعهم وكسوة عاريهم (يرحـمكم من فـى السماء) أى أهل السماء وهم الملائكة لأن الملائكة يستغفرون للمؤمنين وينزلون لـهم المطر ويـحفظونـهم على حسب ما يأمرهم اللـه عز وجل، فهو حديث حسن صحيح كما قال الـحافظ التـرمذى (وفـى رواية أخرى) للإمام أحـمد إسنادها حسن (يرحـمكم أهل السماء فهذه الرواية تفسر الرواية الأولـى لأن خيـر ما يفسر به الـحديث الوارد بالوارد) أى من الكتاب والسنة (كما قال الـحافظ) زين الدين (العراقى فـى ألفيته وخيـر ما فسرته بالوارد).
(ثـم المراد بأهل السماء الملائكة ذكر ذلك الـحافظ) زين الدين (العراقى فـى أماليه عقيب هذا الـحديث ونص عبارته واستدل بقوله أهل السماء) فـى الـحديث (على أن المراد بقوله) تعالـى (﴿من فـى السماء﴾ الملائكة، لأنه لا يقال للـه أهل السماء) أى لا يـجوز ذلك (و)قال بعض المشبهة إن كلمة “من” تستعمل فـى المفرد فلا يصح حـملها على الملائكة وهذا كلام مردود فإن (“من” تصلح للمفرد وللجمع) كما فـى قوله تعالـى ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ وقوله تعالـى ﴿ومنهم من يستمعون إليك﴾ (فلا حجة لـهم فـى) حـمل (الآية) ﴿من فـى السماء﴾ على أن المراد بـها هو اللـه عز وجل (ويقال مثل ذلك فـى الآية التـى تليها وهى ﴿أم أمنتم من فـى السماء أن يرسل عليكم حاصبا﴾) أى ريـحا ذات حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل (فـ “من” فـى هذه الآية) معناها (أيضا أهل السماء فإن اللـه يسلط على الكفار الملائكة إذا أراد أن يـحل عليهم عقوبته فـى الدنيا كما أنـهم فـى الآخرة هم الموكلون بتسليط العقوبة على الكفار لأنـهم خزنة جهنم وهم يـجرون عنقا) أى جزءا كبيرا (من جهنم إلـى الموقف) من غير أن ينفصل عنها (ليرتاع الكفار) أى حتـى يراه الكفار فيفزعوا (برؤيته). (وتلك الرواية التـى أوردها الـحافظ العراقى فـى أماليه لفظها الراحـمون يرحـمهم الرحيم ارحـموا أهل الأرض يرحـمكم أهل السماء) وإسنادها حسن وأما رواية الـحاكم فـى المستدرك فهى الراحـمون يرحـمهم الرحـمـٰن ارحـموا أهل الأرض يرحـمكم أهل السماء وإسنادها صحيح صححها الحاكم ووافقه الذهبـى.
(وكذلك الـحديث الذى رواه البخارى ومسلم عن أبـى سعيد الـخدرى أن الرسول ﷺ قال ألا تأمنونـى وأنا أميـن من فـى السماء) أى وأنا مؤتـمن عند أهل السماء ومعناه أنـهم يعتقدون أنه أمين فـى إبلاغ الوحى (يأتينـى خبـر من فـى السماء صباح مساء) أى خبـر الملائكة (فالمقصود به) أى بقوله من فـى السماء (الملائكة أيضا و)قال بعض العلماء (إن أريد به اللـه فمعناه الذى هو رفيع القدر جدا).
(وأما حديث زينب بنت جحش زوج النبـى ﷺ أنـها كانت تقول لنساء الرسول ﷺ زوجكن أهاليكن وزوجنـى اللـه من فوق سبع سـمــٰـوات فمعناه أن تزوج النبـى ﷺ بـها مسجل فـى اللوح المحفوظ) وليس فيه إثبات الـحيز أى المكان للـه كما زعم بعض المشبهة بل فيه بيان أن زينب تزوجها النبـى بالوحى من غيـر ولـى وشاهدين وهذا ما يشيـر إليه قوله تعالـى ﴿زوجناكها﴾ (وهذه كتابة خاصة بزينب ليست الكتابة العامة) فإن (الكتابة العامة لكل شخص فكل زواج يـحصل إلـى نـهاية الدنيا مسجل) فـى اللوح المحفوظ (واللوح) المحفوظ موجود (فوق السمــٰـوات السبع) فهذا هو الذى كانت زينب رضى اللـه عنها تفتخر به. والـحديث رواه البخارى.
(وأما الـحديث الذى) رواه البخارى ومسلم و(فيه والذى نفسى بيده) أى تـحت مشيئته وتصرفه (ما من رجل يدعو امرأته إلـى فراشه) أى للجماع (فتأبـى عليه) أى تـمنعه من مـجامعتها بغيـر عذر (إلا كان الذى فـى السماء ساخطا عليها، فيحمل أيضا على الملائكة بدليل الرواية الثانية الصحيحة والتـى هى أشهر من هذه وهى لعنتها الملائكة حتـى تصبح رواها ابن حبان) فـى صحيحه (وغيـره).
(وأما حديث أبـى الدرداء أن النبـى ﷺ قال ربنا الذى فـى السماء تقدس اسـمك فلم يصح بل هو ضعيف كما حكم عليه الـحافظ ابن الـجوزى ولو صح فأمره كما مر فـى حديث الـجارية) أى لكان معناه الذى هو رفيع القدر جدا.
(وأما حديث جبيـر بن مطعم عن النبـى ﷺ إن اللـه على عرشه فوق سـمواته وسـمواته فوق أراضيه مثل القبة فلم يدخله البخارى فـى الصحيح) بل يرويه فـى بعض كتبه الأخرى وفـى هذا إشارة إلـى عدم تصحيحه له (فلا حجة فيه وفـى إسناده من هو ضعيف لا يـحتج به ذكره ابن الـجوزى) فـى كتاب دفع شبه التشبيه (وغيـره) كالبيهقى فـى الأسـماء والصفات.
(وكذلك ما رواه) البخارى (فـى كتابه خلق أفعال العباد عن ابن عباس) رضى اللـه عنهما (أنه قال لما كلم اللـه موسى كان نداؤه فـى السماء وكان اللـه فـى السماء فهو غيـر ثابت فلا يـحتج به) والبخارى ذكره فـى هذا الكتاب بدون سند ولا يكتفى لتصحيح هذا الـحديث بـمجرد ذكره فيه لأن البخارى لـم يقل أنا ألتزم أن لا أذكر فيه إلا الصحيح.
(وأما القول المنسوب لمالك وهو قول اللـه فـى السماء وعلمه فـى كل مكان لا يـخلو منه شىء فهو غيـر ثابت أيضا عن مالك وأبو داود لـم يسنده إليه بالإسناد الصحيح بل ذكره فـى كتابه المسائل) أى مسائل الإمام أحـمد (ومـجرد الرواية لا يكون إثباتا) وهو من رواية عبد اللـه بن نافع عن مالك، وعبد اللـه بن نافع قال فيه الإمام أحـمد لـم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا فيه.
والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين
لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/y3XKbZHkz5E
للاستماع إلى الدرس: