الأحد أبريل 20, 2025

باب ما جَاءَ في تَبْليغِ العِلْمِ

  • عن عبدِ الـمَلِك بنِ عُمَيرٍ قال: سَمِعتُ عبدَ الرَّحمـٰـنِ بنَ عبدِ الله ابنِ مَسعودٍ يُحدِّثُ عن أبِيه رضي الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا([1]) سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَحَفِظَها فَأَدّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ: ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ([2]) مُسْلِمٌ([3]): إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُناصَحَةُ أَئِمَّةِ الـمُسْلِمينَ، وَلُزُومُ جَماعَتِهم، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَائِهِمْ([4])». هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه الترمذِيّ.
  • عن زيدِ بنِ ثابتٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ، فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ لَيسَ بِفَقِيهٍ، ورُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إِلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ». هذا حدِيثٌ صحِيحٌ أخرجَه أحمد.
  • عن محمّدِ بنِ جُبَيرِ بنِ مُطعِم عن أبيه رضي الله عنه قال: قامَ فينا رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالخَيفِ مِن مِنًى([5]) فقال: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعاهَا فَأَدّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا». هذا حديث صحيح الـمَتنِ، لكن بهذا الإسنادِ مَعلولٌ([6])، أخرجَه أحمد.
  • عن ابنِ سِيرينَ قال: كان أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه إذَا حَدَّثَ عن رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَفَرغَ قال: «أو كما قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم». هذا موقوفٌ صحِيحٌ أخرجَه ابن ماجهْ.

[1])) قال ابن الأثير في النّهاية (5/71): «نَضَرَه ونَضَّرَه وأَنضَرَه، أي: نَعَّمَه، ويُروَى بالتّخفِيف والتّشدِيد مِن النَّضارةِ وهي في الأصلِ حُسنُ الوَجهِ والبرِيقُ، وإنّما أرادَ حَسَّنَ خُلُقَه وقَدْرَه».

[2])) قال ابن الأثير في النّهاية (3/381): «مِن الغِلِّ وهو الحِقدُ والشَّحْناء، أي: لا يَدخُلُه حِقدٌ يُزِيلُه عَن الحَقّ».

[3])) أي: مُؤمِن كامِل.

[4])) وفي روايةٍ: «تُحِيطُ مِن وَرائِهِم». قال الملّا عليّ في المرقاة (1/307): «والمعنَى أنّ دَعوةَ المسلمِين قد أحاطتْ بهِم فتَحرُسُهم عن كَيدِ الشّيطان وعن الضَّلالة».

وقال شيخنا رحمه الله: «الرَّسولُ r دعا في حديثِهِ هذا لمن حفِظَ حديثهُ فأدّاهُ كما سمِعهُ من غير تحريفٍ بنضْرة الوجْه، أي: بحُسنِ وجْهِهِ يوم القيامة، وبالسَّلامة مِن الكآبة الَّتي تحصُلُ من أهوال يومِ القيامة لأنَّ يوم القيامة يومُ الأهْوالِ العِظامِ والشَّدائدِ الجِسامِ.

قولهُ: «فرُبَّ مُبلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ» وفي روايةٍ: «وَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامِعٍ» فإنَّه يُفْهِمُنا أنَّ مِمَّن يَسمَعون الحديثَ مِن الرَّسولِ r مَن حظُّهُ أنْ يَروِيَ ما سمِعهُ لِغَيره ويكونُ هو فَهْمُه أقلَّ مِن فهْمِ مَن يُبلِّغُهُ بحيث غنَّ مَن يُبلِّغُهُ هذا السّامِعُ يَستطِيعُ مِن قُوَّة قَرِيحتهِ أنْ يَستخرِجَ منه أحكامًا ومسائِلَ – ويُسمَّى هذا الاستِنباطَ – والّذي سَمِع ليس عندهُ هذه القريحةُ القويَّةُ إنَّما يَفهمُ المعنَى الذي هو قريبٌ من اللَّفْظِ.

مِن هنا يُعلمُ أنَّ بعضَ الصَّحابة يكون أقلَّ فهْمًا مِمَّن يَسمعُ منهم حديثَ رسولِ الله r.

وفي لفْظٍ لِهذا الحديثِ: «فَرُبَّ حامِلٍ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»، وهاتانِ الرّوايتانِ في التِّرْمِذيّ وابْن حِبّان.

وهذا الـمُجْتهِدُ هو مَوردُ قولِه r: «إِذَا اجْتَهَد الحاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرانٍ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فلَهُ َأَجْرٌ» رواه البخارِيّ، وإنَّما خَصَّ رسولُ اللهِ r في هذا الحديثِ الحاكِمَ بالذِّكْر لأنَّه أحوَجُ إلى الاجْتِهادِ مِن غَيرِه، فقد مضَى مُجْتهِدون في السَّلفِ معَ كونهِم حاكمِين كالخُلفاء السِّتّةِ أبِي بَكرٍ وعُمر وعثمانَ وعليٍّ والحسَن بن عليّ وعُمرَ بن عبدِ العزِيز وشُريحٍ القاضي. أفْهمَنا رَسولُ اللهِ r في أحاديثِه الـمَروِيّةِ عنه أنَّ النّاسَ قِسمانِ: قِسمٌ يَروِي الحديثَ عن رسولِ اللهِ r فقط من غَيرِ أن يَعرِفَ ما يدُلُّ عليه هذا الحديثُ مِن الأحكامِ وهُم أكْثرُ النّاس، وقِسمٌ يَعرِفون ما يدُلُّ عليه هذا الحديثُ مِن الأحكامِ وهُمُ الأقلُّ، وهذا القِسمُ هُمُ الـمُجْتهِدون، وليس شرْطًا أن تكونَ اجْتهاداتُهُم مُتَّفِقةً في كُلِّ المسائلِ بل تختلِفُ اجْتهاداتُهُم في كثيرٍ من المسائلِ، وفي ذلك رَحمةٌ لِلعبادِ وتسهِيلٌ لهم، وأمّا دَعوتُ الألبانيّ أيَّ إنسانٍ أن يَعْمَل بحديثِ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتاكَ الـمُفتُونَ» فيه تشْجيعُ العوامِ على ترْكِ العمَلِ بما عليه أهْلُ الاجْتهادِ وعلى العمَلِ بما يَمِيلُ إليه قَلبُه، ولا يَخفَى أنَّ العامِّيّ قد يَمِيلُ قلبُه إلى ما يُخالفُ الشّرْع، فكيف يَترُكُ فتوَى الـمُجْتهِدين الـمُعتَبرِين ويَعملُ بما تَمِيلُ إليه نَفسُه، وهذا الحديثُ كان الخِطابُ فيه لِوابِصةَ بنِ مَعبَدٍ وهو مِن مُجْتهِدي الصَّحابةِ، فوابِصةُ ومَن كان مِثلَه مُجْتَهِدًا فهو الذي يأخُذُ بما يَنشرِحُ به قلبُهُ وليسَ أيُّ إنسانٍ، وإِلّا لأدَّى ذلك إلى الفوضَى، قال الأفْوهُ الأَوْدِيُّ: [البسيط]

لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ

 

وَلا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُم سَادُوا

 والسَّراةُ هُمُ الأشْرافُ أهْلُ الفهْم الذين يَصْلُحون لِلقيادة. ويُعلَمُ أنَّه ليس لِكُلِّ مَن سمِعَ حديثًا أهْليَّةُ الاجْتِهاد أي استنباطِ الأحكامِ من حديثِ الرَّسولِ r: «نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعاهَا، فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»، وفي روايةٍ: «فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقُهُ مِنْهُ»، وقد أفْهمَنا الرَّسولُ علَيه السَّلامُ بذلك أنَّه قد يَسمعُ منه الشَّخصُ الحديثَ الـمُتضَمِّنَ أحكامًا ولا يكون عندهُ أهْليَّةُ الاستِنباط ويحمِلُهُ إلى مَن هو أفْقَهُ منه أي إلى مَن له أهْلِيّةُ الاستِنباط.

وفي قوله عليه السَّلامُ: «فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ ليس بفقيهٍ» دلِيلٌ على أنَّ الّذِين لا يَستطِيعون أن يَستخرِجوا الفِقهَ مِن الحديث أكْثرُ مِن الّذِين يَستطِيعون، فمِن ثَمَّ كان بعضُ الصَّحابةِ مُقلِّدين وهذا موافِقٌ لِقولِ النَّحْوِيّين: «رُبَّ لِلتَّكْثيرِ كثيرًا».

وقوله: «فَرُبَّ حامِلِ فِقهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ» معناه: رُبَّ حامِلِ علم يَحوِيه حَدِيثِي لا يُدرِكُ معنى هذا الحديثَ حتَّى يَستنبِطَ منه الأحكامَ ويَجْتهِد. أمّا الأكْثر هذه حالتُهُم لا يَستطِيعون أن يستخرجوا الأحكامَ مِن حَدِيثي، إنَّما حظُّهُم أن يَروُوا لِغَيرِهم كما سمِعوا مِن غَيرِ تَغييرٍ. فإذا كان أصحابُ رسولِ الله r الّذِين يَسمَعون منه الحديثَ أكْثرُهُم ليسَ لهُم مَقدِرةٌ، ليس لهم فَهْمٌ بأن يجْتَهِدوا ويَستخرجُوا الأحكامَ مِن حَديثِهِ عليه الصّلاةُ والسّلامُ، فما بالُ مَن بَعدَهُم كأهْلِ عصْرنا هذا؟! لِتُحفَظْ هذه الجُملة «فَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ».اهـ. كلامُ شيخنا رحمه الله.

[5])) قال النوويّ في المجموع (8/129): «وأمّا مِنّى فبَكسرِ الـمِيم ويجُوز فيها الصَّرفُ وعدَمُه والتّذكِيرُ والتّأنِيثُ، والأجوَدُ الصَّرفُ».

وقال السِّندي في حاشيته على ابن ماجهْ (1/103): «الخَيفُ بفَتحِ فسُكونٍ الموضِعُ الـمُرتفِعُ عن مُجرَى السَّيلِ الـمُنحدِر عن غِلَظ الجبَلِ، ومَسجِدُ مِنًى يُسمَّى مَسجِدَ الخَيفِ لأنّه في سَفحِ جبَلِها».

[6])) قال الحافظ البُوصيريّ في مِصباح الزُّجاجةِ (3/206): «هذا إسنادٌ ضعِيفٌ لتَدلِيس ابنِ إسحاقَ».