#10
قال المؤلف رحمه الله: أو قال أنا بريء من الله أو من الملائكة أو من النبي (مريدا سيدنا محمدا ﷺ أو غيره من الأنبياء) أو (قال أنا بريء) من الشريعة (التي أنزلها الله على نبيه ﷺ) أو (قال أنا بريء) من الإسلام (فهو كافر).
الشرح أن قائل هذه الكلمات يكفر ولو لم يقصد المعنى (طالما هو يفهم ما يقول) ولو كان في حال الغضب لأن الغضب ليس عذرا كما تقدم ولكن من قال أنا بريء من النبي إذا قال أنا أردت الأرض المرتفعة ما أردت نبينا محمدا لا يكفر إن كان صادقا فيما يقول (نحن نحمل أمره على الظاهر). والشريعة هي ما شرعه الله للأنبياء وهي الأحكام التي تنزل بالوحي (ثم تختلف باختلاف مصالح العباد على حسب ما أراد الله، فهو تعالى يغيرها، أما الكليات الخمس [والكليات معناها قواعد شاملة] فلا تختلف فيها شرائع الأنبياء، وهي: حفظ المال، فلا يجوز أن يأخذ مال غيره بغير حق، والنسب، فلا يجوز أن يزني، والعقل، فليس له أن يتعاطى ما يفسد عقله، والدين، فليس له أن يكفر، والنفس، فليس له أن يقتل نفسا بغير حق. هذه الخمسة لم تختلف فيها الشرائع)، وأما الدين فهو العقيدة، ودين الأنبياء واحد هو الإسلام.
قال المؤلف رحمه الله: أو قال (بعد أن قال له شخص لم فعلت هذا الحرام ألا تعرف الحكم. قال) لا أعرف الحكم مستهزئا بحكم الله (فهو كافر مرتد، لأن معنى كلامه أن هذا الحكم الشرعي ليس له عندي اعتبار).
الشرح من قال لا أعرف الحكم بعدما حكم عليه قاض شرعي مثلا بحكم شرعي وكان قصده الاستخفاف بالشرع وأنه لا يعتبر هذا الحكم فإنه كافر مرتد (يعني يعرف أن هذا حكم شرعي، ومع هذا يريد أنا لا أعتبره).
قال المؤلف رحمه الله: أو قال وقد ملأ وعاء (بشراب) ﴿وكأسا دهاقا﴾ (بقصد الاستخفاف أو التكذيب بما وعد الله به المؤمنين في الجنة من الكأس الممتلئة شرابا هنيئا فقد كفر. إذا ملأ واحد شرابا فقال ﴿وكأسا دهاقا﴾ وأراد بذلك أن الشراب الهنيء هو هذا وليس الذي وعد الله به المؤمنين في الجنة كفر).
الشرح :أن من قال وهو يملا وعاء شرابا ﴿وكأسا دهاقا﴾ بقصد الاستخفاف بما وعد الله به المؤمنين في الجنة من الكأس الممتلىء شرابا هنيئا فقد كفر كأن يعني بكلامه أن ذاك الذي ذكره الله مثل هذا الذي أنا أملؤه (وكأن يعني مثلا هذا الذي أنا أملؤه هو الشراب الهنيء، ليس ما وعد الله به المؤمنين في الجنة، يكفر. أما إذا أورد الآية في غير محلها من غير أن يريد الاستخفاف أو تكذيب الشرع، لا يكفر). ومعنى ﴿وكأسا دهاقا﴾ أي كأسا ممتلئة بالشراب (الوعاء إذا كان فيه شراب يقال له كأس، وإذا لم يكن فيه شراب فلا يسمى كأسا بل يقال له قدح أو إناء).
قال المؤلف رحمه الله: أو أفرغ شرابا (بأن صبه من الإناء) فقال (مستخفا بالآية) ﴿فكانت سرابا﴾ (فإنه يكفر).
الشرح :أن من أفرغ شرابا كأن كان في إناء ثم حوله إلى إناء ءاخر فقال ﴿فكانت سرابا﴾ استخفافا بالآية كفر. وهذه الآية فيها أن الجبال حين تسير يوم القيامة تكون كالسراب معناه تمر مرورا سريعا كما أن السراب كلما اقتربت منه يبعد فمن أورد هذه الآية عند إفراغ الشراب وقصد بذلك أن هذا الذي يحصل يوم القيامة ما له شأن يكفر (كأن يعني مثلا هذا الذي يحصل يوم القيامة شيء هين، ليس ذلك الشيء الذي له شأن، يكفر إن كان هذا مراده. أما إذا أورد الآية في غير محلها من غير أن يريد الاستخفاف أو تكذيب الشرع، لا يكفر)
قال المؤلف رحمه الله: أو (قال) عند وزن أو كيل ﴿وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون﴾ (بقصد الاستخفاف بالآية كأن أراد أنا لا منزلة في قلبي لقول الله ووعيده فهو كافر).
الشرح :أن من قال عندما يزن شيئا أو يكيل شيئا ﴿وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون﴾ بقصد الاستخفاف بمعنى الآية كفر (كأن يعني مثلا أنه إن أخسر الميزان أو لم يخسر الميزان لا يوجد فرق، يعني أن هذا الذي في الشرع من ذم الذي يخسر الميزان لا عبرة به، إن كان هذا قصده كفر بلا شك). وهذه الآية معناها ذم للذين إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصون عليهم.
قال المؤلف رحمه الله: أو (قال) عند رؤية جمع (أي جماعة من الناس) ﴿وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا﴾.
الشرح :أن الذي يقول عند رؤية جمع من الناس كثير ﴿وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا﴾ بقصد الاستخفاف بهذه الآية فقد كفر (كأن يريد أن هذا هو الحشر العظيم، ليس يوم القيامة، يكفر). وهذه الآية وردت في حشر الناس يوم القيامة. فقد أخبر الله تعالى أنهم يحشرون ولا يترك منهم أحد أي يحشرون كلهم بلا استثناء.
قال المؤلف رحمه الله: بقصد الاستخفاف في الكل بمعنى هذه الآيات (الأربعة فهو كافر) وكذا كل موضع استعمل (أي استعمل شخص) فيه (ءايات) القرءان بذلك القصد (أي بقصد الاستخفاف بالقرءان فإنه يكفر) فإن كان بغير ذلك القصد (بأن أوردها في هذه المواضع لا بقصد الاستخفاف) فلا يكفر لكن (هذا حرام فقد) قال الشيخ أحمد بن حجر لا تبعد حرمته (أي أن القول بأنه حرام قريب أي راجح لأن فيه إساءة أدب مع القرءان. قال أحمد بن حجر إذا قلنا حرام ليس بعيدا معنى ذلك أن تحريمه هو الراجح إن لم يكن بقصد الاستخفاف لأنه أورد الآية في غير موضعها).
الشرح :يقول الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي (في الإعلام بقواطع الإسلام) إيراد الآيات في هذه المواضع لو لم يكن على وجه الاستخفاف لا يبعد أن نحكم عليه بالحرمة أي هو حرام لأنه إساءة أدب مع القرءان فإن كان على وجه الاستخفاف فهو كفر.
قال المؤلف رحمه الله: وكذا يكفر من شتم نبيا أو ملكا (كجبريل أو عزرائيل وهو يعرف أن جبريل ملك وأن عزرائيل ملك أو منكر أو نكير أو غيرهم من ملائكة الله المكرمين ويدل لذلك قوله تعالى ﴿من كان عدوا لله وملآئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين﴾) أو قال أكون قوادا إن صليت (فإنه يكون مستخفا بالصلاة ومنقصا لها، والقواد هو الذي يجلب الزبائن للزانيات، كفر لأنه جعل الصلاة بمنزلة القيادة) أو (قال) ما أصبت خيرا منذ صليت (لأن فيه استخفافا بالصلاة) أو (قال بعد أن أمره شخص مثلا بالصلاة) الصلاة لا تصلح لي بقصد الاستهزاء (بخلاف ما لو قالت امرأة حائض ذلك بقصد أن الصلاة لا تصح مني وأنا حائض فلا تكفر).
الشرح :أن من شتم نبيا أو ملكا يخرج من الإسلام ولا فرق في سب الملك بين أن يكون ذلك الملك جبريل أو عزرائيل أو غيرهما (بعض الملائكة ليس أمرهم مشهورا كغيرهم، فقد يشتمه ولا يعرف أنه ملك مكرم عند الله لكونه غارقا في الجهل، فلا يكفر. ينبني على هذا أنه إذا سب واحد جبريل فشك آخر في كفره يكفر لأن منزلة جبريل معروفة عند الجاهل والعالم، أما إذا سب ملكا آخر فشك واحد في كفره لأنه قال في قلبه لا أدري، هذا يعرف أنه ملك مكرم أم لا يعرف أنه ملك مكرم، هذا الذي شك في كفره لا يكفر هنا. واحد سب عزرائيل فشك واحد في كفره من باب أنه لا يعرف إن كان هذا الشخص يعرف أن عزرائيل ملك من الملائكة له ذلك الفضل العظيم عند الله أم لا يعرف. يعرف أن عزرائيل هو ملك الموت أم لا يعرف؟ من هذا الباب شك في كفره فلا يكفر، أما إذا سب واحد عزرائيل فسمعه آخر، وكان هذا الآخر يعتقد أن الأول يعرف من هو عزرائيل، وأنه ملك الموت المكرم عند الله، إذا شك في كفره يكفر لأن ذاك يعرف أن عزرائيل ملك مشرف مكرم من خيار الملائكة مثل ميكائيل وجبريل، فهذا من شك في كفره يكفر). ومثله الذي يقول أكون قوادا إن صليت فإنه استهزأ بالصلاة واستخف بها ولذلك يكفر، والقواد هو الذي يجلب الزبائن للزانيات (أما رجلة النساء فهي التي تتشبه بالرجال، وأما الديوث فهو الذي يعرف الزنى في أهله ويسكت عليه مع استطاعته على منع ذلك). وكذلك الذي يقول ما أصبت خيرا منذ صليت. ومثل ذلك قول بعض العوام صم وصل تركبك القلة (إن أراد بذلك الاستهزاء بالصلاة وهذا حال أكثر من يلهج بهذه الكلمة هذه الأيام أما إن أراد أن المؤمن كلما اجتهد في العبادة يكثر عليه البلاء فهذا لا يكفر). وكذلك الذي يقول الصلاة لا تصلح لي بقصد الاستهزاء. أما لو قالت امرأة حائض الصلاة لا تصلح لي وقصدها أنه لا تجوز لها الصلاة في أيام الحيض فإن ذلك ليس ردة وكذلك لو قال ذلك إنسان مبتلى بسلس البول جاهل لا يعرف أحكام السلس يظن أنه لا يصلي في حكم الشرع حتى يذهب عنه السلس فلا نكفره.
قال المؤلف رحمه الله: أو قال لمسلم أنا عدوك وعدو نبيك (لما فيه من الاستخفاف بالنبي ﷺ ويدل لذلك قوله تعالى ﴿من كان عدوا لله وملآئكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين﴾) أو (قال) لشريف (وهو هنا من يرجع نسبه للنبي ﷺ) (قال له) أنا عدوك وعدو جدك مريدا (بقوله جدك) النبي ﷺ (بخلاف ما لو أراد جدا له أدنى من أجداد هذا الشخص فلا يكفر) أو يقول شيئا من نحو هذه الألفاظ البشعة الشنيعة (أي القبيحة حفظنا الله منها).
الشرح :أن من ألفاظ الكفر المثبتة للردة أن يقول شخص لمسلم أنا عدوك وعدو نبيك والاستخفاف في هذا ظاهر فلذلك يكفر قائله. وقد قال العلماء منهم أبو يوسف القاضي بكفر من سب رسول الله ﷺ قال ابن سحنون المالكي (من شك في كفره وعذابه كفر) فإن كان هذا في ساب النبي ﷺ فكيف في ساب الله تعالى. وكذلك يكفر الذي قال لشريف أي لإنسان حسني أو حسيني أي منسوب إلى الحسن أو الحسين اللذين هما سبطا رسول الله ﷺ أي ابنا بنته فاطمة أنا عدوك وعدو جدك، هذا إذا أراد النبي ﷺ بقوله جدك عندئذ يكون قوله هذا كفرا أما إذا أراد جدا له أدنى ولم يرد النبي ﷺ فلا نكفره. وكذلك كل لفظ يدل على الاستخفاف بالنبي أو إلحاق نقص به عليه الصلاة والسلام أو بالله كالألفاظ التي تدل على تغير مشيئة الله الأزلية كأن تدل على أنه شاء في الأزل حدوث شىء ثم غير تلك المشيئة وكأن يعتقد بأن الله كان علم أن هذا الأمر كذا ثم علمه على خلاف ذلك فهذا كله كفر فمن الألفاظ الكفرية قول بعضهم كان الله يريد أن يخلق فلانة ذكرا ثم خلقها أنثى وعكسه فإن في ذلك نسبة الجهل إلى الله ونسبة تغير المشيئة الأزلية والله لا يجوز عليه التغير في ذاته أو في صفة من صفاته لأن التغير علامة الحدوث والحدوث ينافي الألوهية. وما يوهم ظاهره من النصوص خلاف ذلك هو متأول لا يراد به ذلك الظاهر (وذلك كقوله تعالى ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا﴾ فليس مراد الله به أنه لم يكن يعلم في الأزل أنه سيلحقهم ضعف إنما حدث له بعد ذلك علم ذلك لأن هذا فيه نسبة الجهل إلى الله، إنما قوله ﴿وعلم أن فيكم ضعفا﴾ أي لأنه علم بعلمه الأزلي أن فيكم ضعفا فقوله (وعلم) ليس مرتبطا بالآن الذي هو الوقت الحاضر، فمعنى الآية أنه نسخ ما كان واجبا عليهم من مقاومة واحد من المسلمين عشرة من الكفار بإيجاب مقاومة واحد اثنين من الكفار رحمة بهم للضعف الذي فيهم الآن. وهكذا كل ءاية ظاهرها يوهم حدوث صفة لله تعالى لم تكن في الأزل ليس المراد بها ظاهرها. أي ليس المعنى أن الله علم الآن فخفف عنكم لضعفكم كما قد يتوهم متوهم من ظاهر اللفظ إنما ﴿الآن﴾ مرتبط بـــ ﴿خفف﴾ فيكون المعنى أن الله علم بعلمه الأزلي أنكم تضعفون عن المثابرة أي عن المداومة على مقاتلة الواحد عشرة من الكفار وجوبا فخفف الآن ذلك فصار الواجب مقاومة الواحد لاثنين من الكفار وجوبا وفرضا. والحكم إلى الآن على هذا، المسلم في أرض القتال يحرم عليه أن يفر من اثنين من الكفار بشرط أن يكون معه من السلاح ما يقاوم به الاثنين (يعني إذا كان معه سكين، ومعهما بنادق تضرب بالرصاص ونحو ذلك، لا نقول إذا ذهب وقع في المعصية، لأنه لا يستطيع أن يقاومهما) أما الثلاثة فما فوقهم يجوز للمسلم أن يفر منهم أما إذا لم يكن مع هذا الواحد من السلاح ما يقاوم به الاثنين من الكفرة فلا يجب عليه الثبات في قتالهما).
قال المؤلف رحمه الله: وقد عد كثير من الفقهاء (من المذاهب الأربعة) كالفقيه الحنفي بدر الرشيد والقاضي عياض المالكي (في كتابه الشفا) رحمهما الله أشياء كثيرة (من الاعتقادات والأفعال والأقوال الكفرية بعد أن ظهرت في أزمانهم تحذيرا للناس منها) فينبغي الاطلاع عليها (أي على هذه المسائل التي ذكروها وذلك حتى يحذرها الشخص) فإن من لم يعرف الشر يقع فيه.
الشرح :أن بعض الفقهاء من شافعيين ومالكية وغيرهم ذكروا كثيرا مما هو ردة وأكثرهم تعدادا الحنفية. أما بدر الرشيد فهو فقيه حنفي من أهل القرن الثامن الهجري ألف رسالة في ألفاظ الكفر وأما القاضي عياض فهو مالكي توفي في القرن السادس. (وقال الحافظ الفقيه اللغوي الحنفي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ما نصه وقد ألف فيها (أي في الألفاظ المكفرة) غير واحد (أي أكثر من واحد) من الأئمة من المذاهب الأربعة رسائل وأكثروا في أحكامها اهـ) كل من المذاهب (أي كل واحد من المذاهب) الأربعة ألف بعض فقهائه رسائل في بيان الكفريات لأنه كان ظهر في عصورهم كلمات بين الناس هي كفر فأرادوا إنقاذ الناس من خطرها فألفوا تلك الرسائل وهذا من أفضل الأعمال لأن في ذلك إنقاذا لمن حصلت منه تلك الكلمات من الكفر إلى الإيمان وتحذيرا لمن لم يقع فيها حتى لا يقع فيها. (وقد أكثر يوسف الأردبيلي الشافعي في كتابه (الأنوار لأعمال الأبرار) من تعداد الألفاظ المكفرة بعضها بالعربية وبعضها بالفارسية لأن كثيرا من الشافعية فارسيون. وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن حبان لو كان العلم معلقا بالثريا لناله رجال من فارس. فأكثر الفقهاء والمحدثين ممن سوى العرب هم من فارس، وظهر فيهم في الماضي شموس علم وبدور)
قال المؤلف رحمه الله: والقاعدة (التي بنى عليها العلماء كلامهم في هذه المسائل) أن كل عقد (أي اعتقاد) أو فعل أو قول يدل على استخفاف بالله أو كتبه أو رسله أو ملائكته أو شعائره أو معالم دينه (جمع معلم وهو بمعنى الشعيرة أي ما كان ظاهرا أنه من أمور الدين كالصلاة والأذان والمسجد) أو أحكامه أو وعده (بالجنة والثواب) أو وعيده (بالنار والعذاب) كفر فليحذر الإنسان من ذلك (أي من الكفر بأنواعه) جهده على أي حال (أي ليعمل الشخص على تجنب ذلك غاية مستطاعه وليحذر منه نهاية الحذر فإن من مات على الكفر خسر الدنيا والآخرة).
الشرح :أن ما كان دالا على الاستخفاف والاستهزاء بالله وأمور الدين هو كفر أما ما كان فيه إخلال بالتعظيم والأدب مما هو دون الاستخفاف فإنه حرام كمس المصحف من غير وضوء (هذا الإخلال بالتعظيم والأدب كمس المصحف بلا وضوء يسمى عند بعضهم استهانة، وهو دون الاستخفاف، أي لا يصل إلى حد الاستخفاف. وهذا المذكور هنا من التفريق بين الاستخفاف والاستهانة لا يتمشى مع تفسير صاحب القاموس الفيروز آبادي للاستهانة وكذلك شارحه الزبيدي بأنها الاستخفاف فهما مترادفان على قولهما (فلذلك يقولون عن حمل المصحف بلا وضوء إخلال بالتعظيم، ولا يقولون عنه إنه استهانة، لأن الاستهانة عندهم هي الاستخفاف، وهو كفر) لكنه يتمشى مع قول بعض كالنووي (يعني النووي فرق بين الاستهانة والاستخفاف كما فعل الشيخ رحمه الله) فليعلم ذلك)
والعقد معناه الاعتقاد. والمعالم جمع معلم والشعائر جمع شعيرة والمعلم بمعنى الشعيرة وهو ما كان مشهورا من أمور الدين كالصلاة والحج والزكاة والأذان والمساجد وعيد الأضحى وعيد الفطر، كل ذلك يسمى شعيرة من شعائر الدين ومعلما من معالمه.
وقال الفقهاء يستثنى من الكفر القولي:
حالة سبق اللسان أي أن يتكلم الشخص بشىء من ذلك من غير إرادة بل جرى على لسانه ولم يقصد قوله بالمرة،
وحالة غيبوبة العقل أي عدم صحو العقل (فالمجنون الذي ينطق في حالة جنونه بكلمة الكفر لا يؤاخذ بها)،
وحالة الإكراه فمن نطق بالكفر بلسانه مكرها بالقتل ونحوه (أي ما كان مفضيا إلى الموت عادة) وقلبه مطمئن بالإيمان غير شارح صدره بالكفر الذي يجري على لسانه فلا يكفر،
وحالة الحكاية لكفر الغير فلا يكفر الحاكي كفر غيره (ومستندنا في هذا أي في استثناء مسئلة الحكاية قول الله تعالى ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله﴾). ثم الحكاية المانعة لكفر حاكي الكفر إما أن تكون في أول الكلمة التي يحكيها عمن كفر أو بعد ذكره الكلمة عقبها أي وكان في نيته أن يؤخر أداة الحكاية من الابتداء فلو قال الله ساكن السماء قول المجسمة أو قالته المجسمة فهي حكاية مانعة للكفر عن الحاكي. وإن قدمت أداة الحكاية لكلمة الكفر فهي أحسن. (فمن كتب كلاما فيه كفر مع أداة الحكاية قبل الكلام الذي هو كفر أو بعده متصلا به وكان ناويا قبل أن يكتب كلام الكفر أن يتبعه بالحكاية فلا يكفر. وقد تكون أداة الحكاية تقديرية كالذي يقول ماذا تقول اليهود في عزير؟ فقال ابن الله. فلا يشترط أن يقول يقولون ابن الله لأن الحكاية هنا تقديرية)
وتستثنى حالة كون الشخص متأولا باجتهاده في فهم الشرع فإنه لا يكفر المتأول أي في غير القطعيات كتأول الذين منعوا الزكاة في عهد أبي بكر بأن الزكاة وجبت في عهد الرسول ﷺ لأن صلاته عليهم عند دفع الزكاة إليه كانت سكنا لهم وطهرة وأن ذلك انقطع بموته (هكذا ظنوا. بعضهم فهم من الآية أن الآية معناها خذ يا محمد، فهموا أن هذا خاص بالنبي، فلما أراد أبو بكر أن يأخذ منهم الزكاة، قالوا إن الذي كان يصلي علينا مات، فبأي شيء يأخذها أبو بكر؟! هكذا فهموا. ظنوا أن ذلك انقطع بموت النبي. فلأنهم تأولوا نوعا من التأويل لا يوقعهم في الكفر، لم يكفروا بذلك. وهم بلغتهم هذه الآية وما بلغتهم آيات أخرى تفيد وجوب الزكاة حتى بعد موت النبي ﷺ. ما بلغتهم الأدلة الأخرى، فتأولوا الآية على هذا الوجه، ظنوا أن هذا معنى الآية، فلذلك لم يكفروا. وليس كل تأويل ينجي من الوقوع في الكفر، بل من التأويل ما لا ينجي صاحبه من الوقوع في الكفر، كالذي يتأول في القطعيات، كالذي يتأول فيما دليله قطعي، يتأول النص والنص لا يحتمل مثل هذا التأويل وهو عارف به) فإن الصحابة لم يكفروهم لذلك (أي لم يكفروا مانعي الزكاة الذين تأولوا إنما كفروا الآخرين الذين ارتدوا عن الإسلام لطاعتهم لمسيلمة الكذاب الذي ادعى الرسالة، فمقاتلتهم لهؤلاء الذين تأولوا منع الزكاة على هذا الوجه كان لأخذ الحق الواجب عليهم في أموالهم، فقد كان لهم شوكة ولجأوا إلى القتال، فاضطر أبو بكر إلى أن يقاتلهم ليأخذ الزكاة من أموالهم لا لأنه كفرهم، وذلك كقتال البغاة فإنهم لا يقاتلون لكفرهم بل يقاتلون لردهم إلى طاعة الخليفة كالذين قاتلهم سيدنا علي في الوقائع الثلاث وقعة الجمل ووقعة صفين ووقعة النهروان، على أن من الخوارج صنفا هم كفار حقيقة مثل الخوارج الذين أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن مثلا، أو الخوارج الذين كفروا كل من سواهم، هؤلاء كفار حقيقة، أما بقية الخوارج فاختلف في تكفيرهم، فأولئك لهم حكمهم الخاص).
وليس كل متأول يمنع عنه تأويله التكفير لأن التأول مع قيام الدليل القاطع لا يمنع التكفير عن صاحبه وإلا للزم ترك تكفير المجوس وعبدة الأوثان وغيرهم من طوائف الكفار لأنهم على حسب زعمهم اجتهدوا فالذي يعتقد أن كل متأول يعذر مهما كان تأوله فقد كذب الشريعة. ومعنى (فليحذر الإنسان من ذلك جهده على أي حال) أي ليعمل الإنسان على تجنب ذلك كله غاية مستطاعه.
(أخبار عن وقعة الجمل ووقعة صفين ووقعة النهروان:
وقعة الجمل ٣٦هـ:
ليعلم أن عليا رضي الله عنه خليفة راشد واجب الطاعة على المؤمنين، وهذا الذي فهمه الصحابة من كان منهم بدريا أو أحديا وكذا كل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلذلك فإن الذين قاتلوا عليا خرجوا عن طاعة الإمام، وهو أي سيدنا علي كان مأمورا بقتال من خرج عليه، فقد روى البزار والطبراني أنه قال “أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين” والناكثين هم أهل الجمل لأنهم نكثوا بيعته أي نقضوا بيعته وأفسدوا، والقاسطين هم أهل الشام لأنهم جاروا عن الحق في عدم مبايعته، والمارقين أي الخوارج أهل النهروان لثبوت الخبر الصحيح فيهم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
كانت معركة الجمل بين سيدنا علي رضي الله عنه ومن معه وجماعة تحمسوا للمطالبة بدم عثمان فيهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعائشة زوجة رسول الله ﷺ ورضي الله عنها وعن أبيها وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها خرجت من المدينة بعدما بويع سيدنا علي رضي الله عنه بالخلافة إلى مكة للحج، ثم التقت بأناس متحمسين للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه فحمسوها فخرجت معهم، ثم وصلت إلى أرض سمعت فيها نباح كلاب فقالت ما اسم هذه الأرض، فقيل لها: الحوأب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، فقيل لها: تذهبين معنا، الله يصلح بك بين المسلمين، فقالت: ما أظنني إلا راجعة فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: “أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبح عليها كلاب الحوأب انظري يا عائشة أن لا تكوني أنت” فأصروا عليها فذهبت معهم للإصلاح ولم تذهب للقتال فوصلت إلى البصرة حيث معسكر سيدنا علي رضي الله عنه ثم حصل ما حصل من القتال فكسرهم سيدنا علي وقتل جمل عائشة وكان أعطاها إياه شخص من المطالبين بدم عثمان اشتراه بأربعمائة دينار، ثم أعادها سيدنا علي معززة مكرمة إلى المدينة. وكانت رضي الله عنها وعن أبيها معصيتها وقوفها في معسكر الذين تمردوا على علي الخليفة الراشد. وكانت وقعة الجمل سنة ست وثلاثين في جمادى الآخرة.
وقعة صفين ٣٧هـ:
دعا سيدنا علي رضي الله عنه بعد معركة الجمل معاوية ومن معه من أهل الشام إلى البيعة فرفضوا، فخرج يريدهم فبلغ ذلك معاوية فخرج فيمن معه من أهل الشام، والتقوا في صفين في صفر سنة سبع وثلاثين فاقتتلوا فقتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت وكانوا مع علي، فلما أحس أهل الشام باقتراب هزيمتهم رفعوا المصاحف يدعون بزعمهم إلى ما فيه مكيدة من عمرو بن العاص، أشار بذلك على معاوية وهو معه، فحكم الحكمان وكان حكم علي أبا موسى الأشعري وحكم معاوية عمرو بن العاص، فاتفقا على أن يخلع كل منهما صاحبه، ثم قدم عند التحكيم عمرو أبا موسى، فتكلم أبو موسى فخلع عليا، ثم تكلم عمرو فأقر معاوية وبايع له، فتفرق الناس على هذا.
وقعة النهروان ٣٨هـ:
وأما الخوارج فخرجت على سيدنا علي وكانوا أولا يقاتلون معه معاوية، وكفروا سيدنا عليا وقالوا لا حكم إلا الله، وعسكروا بحروراء فبذلك سموا الحرورية، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس وغيره فخاصمهم وحاجهم فرجع منهم قوم كثير وثبت قوم على رأيهم، وساروا إلى النهروان فعرضوا للسبيل وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، فسار إليهم علي فقتلهم بالنهروان وقتل منهم ذو الثدية سنة ثمان وثلاثين.
والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين
لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/-v6_EZemri8
للاستماع إلى الدرس: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-10