الإثنين ديسمبر 8, 2025

#6

وأما قول الله تعالى في سورة هود ﴿خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد﴾ فليس معناه أن الله قد يخرج الكافرين من نار جهنم. ليس هذا معنى الآية. ليس معناها أنه ربما يخرج الله الكفار من نار جهنم بعدما ينالوا عذابهم أو يطول عقابهم، لا. ليس هذا معنى الآية. نحن لا يحق لنا أن نفسر القرءان تفسيرا يؤدي إلى ضربه ببعضه. ءايات القرءان توافق بعضها. وإن أي تفسير يؤدي إلى ضربه ببعضه يكون مهلكا للذي أقحم نفسه فيه. لأن هذا يؤدي إلى إلغاء ءايات أخرى، والعياذ بالله تعالى. وماذا نفعل بقول الله تعالى ﴿خالدين فيها أبدا﴾؟! وماذا نفعل بقول الله تعالى ﴿كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها﴾؟! وماذا نفعل بقول الله تعالى ﴿لا يجدون وليا ولا نصيرا﴾؟! يجب علينا أن نفسر قول الله تعالى ﴿خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك﴾ تفسيرا توافق عليه الآيات المذكورة كي لا ننسب التناقض إلى القرءان. ولقد أجمع المفسرون على أن الآية معناها أن الكفار في نار جهنم يخلدون فيها زمنا يزيد على مدة بقاء السماوات والأرض. يزيد على هذه المدة بأحقاب وراءها أحقاب وراءها أحقاب وراءها أحقاب لا نهاية لها. فقول الله تعالى ﴿إلا﴾ معناه مع. ﴿إلا ما شاء ربك﴾ أي مع ما شاء الله لهم من الخلود. معناه هم في النار ما دامت السماوات والأرض مع الفترات الزمنية المتعاقبة في المستقبل إلى ما لا نهاية. أليس يقول الله تعالى في سورة النبإ ﴿لابثين فيها أحقابا﴾. والحقب، بضمتين، الدهر. وجمع الحقب أحقاب. فالكفار يلبثون في جهنم دهورا متواصلة لا تنتهي أبدا. صحيح أن ربنا فعال لما يريد ولكن ليس معنى ذلك أن الله يفعل ما أخبر في القرءان أنه لا يفعله. وكيف يجوز على الله الكذب؟! الله عز وجل أخبر في القرءان أن الكفار لا يخرجون من جهنم وأنهم خالدون فيها أبدا، فكيف يقبل صاحب عقل سليم أن يقول بعد ذلك إن الله ربما يخرجهم من النار لأنه فعال لما يريد! وهل يفعل الله ما أخبر في القرءان أنه لا يفعله؟! وهل على زعم هؤلاء الجهال أن الناس يوم القيامة يقولون لربهم يا ربنا أنت كذبت علينا في الدنيا لما أخبرتنا أنك لن تخرج الكافرين من النار وها أنت اليوم تخرجهم منها؟! ما هذا الكلام؟! هذا كفر والعياذ بالله وخروج من دين محمد ﷺ وتجويز الكذب على الله.

وأما قول الله تعالى ﴿فمن يجير الكافرين من عذاب أليم﴾ فليس معناه أن الله يجيرهم يوم القيامة من عذاب أليم. ومن من المفسرين قال بذلك؟! ومن من المفسرين تجرأ على القول بأن الله يجير الكافرين من عذاب أليم؟!! وهل يتجرأ مسلم يخاف الله تعالى على أن يقول لربه أنت يا ربنا تخبرنا في القرءان بشيء ثم تخبرنا بخلافه؟! وماذا نفعل بقول الله تعالى ﴿خالدين فيها أبدا﴾؟! وماذا نفعل بقول الله تعالى ﴿كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها﴾؟! وماذا نفعل بقول الله تعالى ﴿لا يجدون وليا ولا نصيرا﴾؟!

لا شك أن الله فعال لما يريد، ولكنه لم يشأ ولا يشاء أن يخرج الكفار من نار جهنم، ولن يكون هذا أبدا. ﴿فمن يجير الكافرين من عذاب أليم﴾ معناه لا أحد يجير الكافرين يوم القيامة من عذاب أليم. والأمر كما قال الله تعالى وهو أصدق القائلين ﴿لا يجدون وليا ولا نصيرا﴾. وأما قول الله ﴿قل هو الرحمٰن ءامنا به﴾ فليس معناه أن الرحمٰن هو الذي ينجيهم من عذاب أليم. وإنما الآية فيها أمر من الله لنبيه محمد ﷺ أن يدعو الكفار في الدنيا إلى الإيمان بالله ونبيه قبل أن يموتوا كي يظفروا برحمة الله عز وجل في الآخرة الذي هو الرحمٰن أرحم الراحمين.

ابن تيمية هو من الذين يقولون بأن جهنم تفنى بعد أن يدخلها الكفار يوم القيامة بزمان، وهذا كفر. وكان ابن تيمية هذا الفيلسوف المجسم قبل أن يصرح بعقيدته هذه قد كفر جهم بن صفوان لقوله بفناء الجنة والنار ثم شاركه في نصف عقيدته أي شاركه في القول بفناء النار. ولم يرد عن ابن تيمية أنه قال بفناء الجنة. نقل ابن القيم الجوزية في كتابه حادي الأرواح عن ابن تيمية أنه قال إن جهنم تفنى بعد أن يدخلها الكفار يوم القيامة بزمان ولا يبقى فيها أحد. وكان ابن تيمية قبل أن يشذ قد قال في كتابه منهاج السنة النبوية اتفق المسلمون على بقاء الجنة والنار وخالف في ذلك جهم بن صفوان، فكفره المسلمون. وللإمام السبكي رد على ابن تيمية سماه الاعتبار ببقاء الجنة والنار.

  * والإيمان بملائكة الله أي بوجودهم وأنهم عباد مكرمون وهم أجسام نورانية لطيفة ألطف من الهواء ذوو أرواح مشرفة (إبليس من الجن ويدل على ذلك قوله تعالى ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه﴾. ومما يدل أيضا على أن إبليس ليس من الملائكة بل هو من الجن قوله تعالى ﴿قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾. ففي هذه الآية دليل أن إبليس مخلوق من نار، بخلاف الملائكة فإنهم خلقوا من نور، كما جاء في صحيح مسلم وغيره عن رسول الله ﷺ أنه قال خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار (أي من لهيب النار الصافي الذي لا دخان معه) وخلق ءادم مما وصف لكم. وإبليس كان مسلما وكان مع الملائكة في السماء يتعبد الله معهم وذلك قبل أن يكفر باعتراضه على الله. قال الله تعالى ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين﴾. ولن يعود إبليس إلى الإسلام لقوله تعالى ﴿وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين﴾. ثم بعد أن عرف إبليس أنه ملعون طلب من الله أن ينظره أي يؤخره إلى يوم البعث أي يوم الخروج من القبور ولكن الله لم يجبه إلى ذلك بل أخره إلى النفخة الأولى ليذوق الموت الذي حكم الله به على خلقه. قال تعالى مخبرا عن إبليس ﴿قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال فإنك من المنظرين . إلى يوم الوقت المعلوم﴾.

والجن ليسوا نارا وإنما أصلهم النار ونار الدنيا هذه التي نعرفها تحرقهم. والجن فيهم الكفار وفيهم المسلمون الصالحون وفيهم المسلمون الفساق. والجن فيهم الذكور وفيهم الإناث. وقد خلق الله في الجن شهوة الأكل وشهوة الشرب وشهوة جمع المال وشهوة النساء، ولذلك هم يتزوجون ويتكاثرون. والجن لا ينامون، والملائكة) ليسوا ذكورا ولا إناثا (قال تعالى ﴿إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى﴾ وقد يتشكلون بصور الرجال من غير ءالة الذكورية) لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتوالدون مكلفون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (قال تعالى ﴿عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ سيدنا جبريل عليه السلام، له ستمائة جناح. وهناك ملائكة أعظم خلقة من جبريل إنما من حيث الفضل فهو أفضلهم عند الله. منزلته أعلى من منزلة سائر الملائكة، وهو أعلاهم درجة. أما إبليس فليس من جنس الملائكة، والدليل على ذلك قوله تعالى ﴿أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني﴾ فدل ذلك على أن له ذرية، والملائكة لا يتوالدون. اهـ.

 

قال ابن حجر العسقلاني في الفتح في باب ذكر الملائكة، وقد جاء في صفة الملائكة وكثرتهم أحاديث، منها ما أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعا خلقت الملائكة من نور الحديث. ومنها ما أخرجه الترمذي وابن ماجه والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد الحديث. ومنها ما أخرجه الطبراني من حديث جابر مرفوعا ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد، وللطبراني نحوه من حديث عائشة. وذكر في ربيع الأبرار عن سعيد بن المسيب قال الملائكة ليسوا ذكورا ولا إناثا، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون ولا يتوالدون. ا.هـ.

ابن تيمية يقول عن الملائكة “أعوان الله” والعياذ بالله، وهذا كفر لأن الله منزه عن الأعوان. ذكر ذلك في كتابه مجموع الفتاوى، الجزء الخامس، ص٥٠٧).

  * والإيمان برسله أي أنبيائه من كان رسولا ومن لم يكن رسولا (المقصود هنا بالرسل من أرسلهم الله سواء من أرسل بشرع جديد أم لا، النبي الرسول والنبي غير الرسول، كل هذا مشمول بقوله ورسله) فالنبي غير الرسول هو إنسان أوحي إليه لا بشرع جديد بل أوحي إليه باتباع شرع الرسول الذي قبله وأن يبلغ ذلك، والنبي الرسول من أوحي إليه بشرع جديد وأمر بتبليغه. ومن الغلط الشنيع ما ذكره بعض العلماء أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه وهذا كلام شنيع كيف ينبأ ثم لا يؤمر بالتبليغ (إذ لا معنى للإرسال بدون الأمر بالتبليغ) وكيف يصح أن ينبأ النبي لنفسه فقط فما أشنع هذه الغلطة وهذه الغلطة موجودة في تفسير الجلالين وفي كتب عديدة (من نحو كشف النقاب في شرح ملحة الإعراب وغير ذلك). وأول من أرسل إلى الكفار سيدنا نوح عليه السلام وقد صح (أي في الحديث) أنه أول الرسل إلى أهل الأرض أي بعد حدوث الكفر بين البشر وليس معناه أنه لم يكن قبله نبي ولا رسول بل كان ءادم نبيا رسولا كما يشهد لنبوته حديث الترمذي (ما من نبي يومئذ ءادم فمن سواه إلا تحت لوائي) حسنه الترمذي وأجمع المسلمون على ذلك (ونقل إجماعهم أبو منصور التميمي البغدادي المتوفى سنة أربعمائة وتسع وعشرين هجرية في موضعين في كتابه الفرق بين الفرق فقال ما نصه أجمع أصحاب التواريخ من المسلمين على أن عدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف واربعة وعشرون ألفا كما وردت به الأخبار الصحيحة أولهم أبونا ءادم عليه السلام وآخرهم نبينا محمد اهـ) وعرف هذا الأمر بينهم بالضرورة فمن نفى نبوته فهو كافر بالإجماع كما في مراتب الإجماع، فالذي يشك في نبوة ءادم أو في كفر الشاك فيها كافر والذي يشك في رسالته أيضا كافر. (بيان الدليل الشرعي على نبوة سيدنا ءادم:

ظهر في هذا العصر جماعة من الناس وهم الوهابية أنكروا نبوة ءادم الذي أجمع العلماء سلفهم وخلفهم على نبوته ورسالته. وسلفهم في ذلك زعيمهم محمد بن عبد الوهاب في كتابه المسمى الأصول الثلاثة / ص٥، فزعم أن أول الرسل والأنبياء نوح عليه السلام. وقال مثل ذلك أحد دعاة طائفتهم أبو بكر الجزائري في كتابه الذي سماه زورا منهاج المسلم. وهاكم نصوصا من التفاسير والأحاديث وأقوال العلماء فيها أن ءادم نبي، وأن من أنكر نبوته كافر.

كتب التفاسير:

١) جاء في جامع البيان في تفسير القرءان المجلد ٣/ص١٥٧ لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ما نصه حدثني محمد بن سنان، قال ثنا أبو بكر الحنفي، قال ثنا عباد عن الحسن في قوله تعالى ﴿إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين﴾، قال فضلهم الله على العالمين بالنبوة على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المطيعين لربهم. ا.هـ.

۲) وجاء في لباب التأويل ج١/ص٣٢٩، وهو كتاب في التفسير لعلاء الدين علي بن محمد البغدادي المعروف بالخازن، عند ذكر قوله تعالى ﴿إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين﴾ ما نصه ﴿على العالمين﴾ أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم من النبوة والرسالة ا.هـ.

٣) وجاء في الدر المنثور في التفسير المأثور ج٢/ص١٨٠، وهو كتاب في التفسير لجلال الدين السيوطي، ما نصه وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى ﴿إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين﴾ قال فضلهم الله على العالمين بالنبوة على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المطيعين لربهم. ا.هـ.

وفي الصحيفة نفسها يقول وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين﴾، يعني اختار من الناس لرسالته ﴿ءادم ونوحا وءال إبراهيم﴾ يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴿وءال عمران على العالمين﴾ يعني اختارهم للنبوة والرسالة على عالمي ذلك الزمان. ا.هـ.

كتب الحديث:

١) جاء في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ج١/ص١٦٧ لأبي نعيم الأصبهاني، ذكر حديث أبي ذر وفيه ما نصه قلت يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال ءادم. قلت يا رسول الله، أنبي مرسل؟ قال نعم ا.هـ.

٢) وجاء في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، المجلد ١/ص٢٨٨/حديث رقم ٣٦٢، ذكر حديث أبي ذر، وفيه ما نصه قلت يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: ءادم. قلت يا رسول الله، أنبي مرسل؟ قال نعم ا.هـ.

٣) وجاء في مسند الإمام أحمد، المجلد ٥/ص١٧٩، ذكر حديث أبي ذر، وفيه ما نصه قلت يا رسول الله، فأي الأنبياء كان أول؟ قال ءادم. قلت أونبيا كان يا رسول الله؟ قال نبي مكلم ا.هـ.

٤) وجاء في كشف الأستار عن زوائد البزار، ج١/ص٩٣، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، ذكر حديث أبي ذر، وفيه ما نصه قلت يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول؟ قال ءادم. قلت ونبي هو؟ قال نعم، نبي مكلم ا.هـ.

٥) وجاء في تهذيب تاريخ دمشق الكبير، المجلد ٦/ص٣٥٦، لابن بدران، ذكر حديث أبي ذر، وفيه ما نصه ثم قلت يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال ءادم. قلت يا رسول الله، أنبي مرسل؟ قال نعم ا.هـ.

٦) وجاء في الفتح الرباني، ج١٩/ص٣٢، لابن بدران، ذكر حديث أبي ذر أيضا، وكذلك في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ص١٦٠ وهذا الحديث صححه ابن حبان، وسلم له في ذلك ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري.

٧) وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله أنا سيد ولد ءادم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ ءادم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر. رواه الترمذي في سننه كتاب تفسير القرءان عن رسول الله، وقال حديث حسن. ووافقه الحافظ السيوطي.

  * والإيمان بالكتب وهي كثيرة لكن أشهرها هؤلاء الأربع التوراة (أنزلها الله تبارك وتعالى على موسى عليه السلام باللغة العبرية ويقال العبرانية، وكان أكثر ما فيه أحكام شرعية حلال، حرام، وهكذا) والإنجيل (أنزل على عيسى عليه السلام باللغة السريانية) والزبور (أنزل على داود عليه السلام، قيل بالعبرانية وقيل بالسريانية، وأكثر ما كان فيه مواعظ وحكم مثل ذكر الآخرة، والحث على العمل لها، والتحذير من النار. وكان داود عليه السلام عندما يقرأ الزبور، من شدة حسن وجمال صوته، الجبال تسبح والوحوش والطيور والبهائم والغزلان تأتي وتقعد أمامه وتسبح الله معه وهو يتلو الزبور بصوت جميل رخيم عليه السلام. وكان يعالج الحديد بيديه من غير نار كالإسفنج، الله تعالى ألانه بين يديه، وهو أول من صنع الترس والدرع للجيوش) والفرقان أي القرءان (أنزل على سيدنا محمد ﷺ. فائدة: إذا قيل التوراة وحدها من دون قيد، معناه التوراة الأصلية. وإذا قيل الإنجيل وحده من دون قيد، معناه الإنجيل الأصلي الذي أنزله الله تبارك وتعالى على عيسى. فإذا أردنا الكلام عن المحرف نقيد، فنقول التوراة المحرفة). (عدد الكتب السماوية مائة وأربعة كما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر قال قلت يا رسول الله كم كتابا أنزله الله قال (مائة كتاب وأربعة كتب. أنزل على شيث خمسون صحيفة وأنزل على أخنوخ – إدريس – ثلاثون صحيفة وأنزل على إبراهيم عشر صحائف وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والقرءان) اﻫ الإنجيل والتوراة مزقا وحرفا لا يقال رفعا. ويوجد كتب رفعت) قال وهب بن منبه (وهو أبو عبد الله وهب بن منبه اليماني الصنعاني، أصله من خراسان، من أهل هراة، أخرج كسرى والده من هراة إلى اليمن فأسلم في عهد النبي ﷺ فحسن إسلامه. ولد وهب في زمن عثمان رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين. قال العجلي وغيره تابعي ثقة) قرأت سبعين كتابا مما أنزل الله.

  * والإيمان بالقدر خيره وشره (لفظة القدر أطلقت في هذه العبارة ويراد بها معنيان أحدهما تقدير الله والآخر المقدور من خير وشر، ذكر القدر أولا بمعنى تقدير الله ثم أعيد الضمير إليه بمعنى المقدور وذلك لأن تقدير الله حسن ليس شرا، والمقدور يشمل الحسن والقبيح والخير والشر. وهذا نوع من أنواع البلاغة معروف عند العرب اسمه الاستخدام، يذكرون اللفظ بمعنى ويعيدون الضمير عليه بمعنى ءاخر وذلك كقول الشاعر: [الوافر]. إذا نزل السماء بأرض قوم ¤¤¤¤ رعيناه وإن كانوا غضابا. وقوله (إذا نزل السماء) أي المطر، وقوله (رعيناه) أي المرعى الذي هو بسبب المطر يحصل) فالواجب الذي هو أحد أركان الإيمان الستة هو الرضا بقدر الله أي تقديره (الخير والشر والحلو والمر والرضا والحزن والراحة والألم كل ذلك دخل في الوجود بتقدير الله تبارك وتعالى) وأما المقدور فيجب الإيمان بأن كل المقدورات أي المخلوقات بتقدير الله تحصل ما كان خيرا وما كان شرا فما كان من المقدور خيرا يجب الرضا به وما كان منه شرا يجب كراهيته كالكفر والمعاصي (من غير أن يكره تقدير الله وقضاءه لذلك المقدور)، ومعنى ذلك أن كل ما دخل في الوجود من خير وشر هو بتقدير الله الأزلي فالخير من أعمال العباد بتقدير الله ومحبته ورضاه والشر من أعمال العباد بتقدير الله لا بمحبته ورضاه. (فرق بين الإيمان بالقدر وبين محبة الشر، لا نحب الكفر لا نحب الشر ولا نحب المعاصي لكن نؤمن بأن الخير والشر والكفر والإيمان والطاعة والمعصية كل دخل في الوجود بتقدير الله تبارك وتعالى) وقد ورد في حديث جبريل الصحيح المشهور لفظ (والقدر خيره وشره) رواه مسلم وفي لفظ (والقدر كله).

   * ويتضمن الإيمان برسالة النبي ﷺ الإيمان بأنه ﷺ خاتم النبيين (فلا نبي بعده أي لا يجوز أن ينزل الوحي بالنبوة على شخص بعد محمد لم ينبأ قبل محمد ﷺ ولا ناسخ لشريعته) لأنه أخبر بذلك قال ﷺ (وختم بي النبيون) رواه مسلم (أي أنا آخر النبيين، ولا يأتي الحديث إلا بهذا المعنى. وهذا ينقض قول القاديانية الذين يقولون زينة النبيين. وهذا كلامهم ليس فيه إظهار فضل النبي وزيادة شرفه، لأنه إذا قيل محمد زينة النبيين كما أن الخاتم زينة اليد، يكون هذا فيه إظهار زيادة فضل سائر الأنبياء، لأنك إذا زينت اليد بالخاتم، تكون زيادة الشرف لليد وليس للخاتم. أصلا النبي ﷺ ما قال وتختم بي النبيون). وقوله بأن سيدنا محمدا ﷺ سيد ولد ءادم أجمعين هذا متفق عليه عند العلماء وهو مأخوذ من حديث رواه الترمذي (أنا سيد ولد ءادم يوم القيامة ولا فخر) أي لا أقول ذلك افتخارا إنما أقول ذلك تحدثا بنعمة الله وفي ذلك جواز وصفه بأنه سيد البشر ﷺ.

 

   قال المؤلف رحمه الله: ويجب اعتقاد أن كل نبي من أنبياء الله يجب أن يكون متصفا بالصدق والأمانة والفطانة فيستحيل عليهم الكذب والخيانة والرذالة (وهي أخلاق الأسافل الدون قال في الصحاح الرذل الدون الخسيس اﻫ فليس في الأنبياء من هو رذيل يختلس النظر إلى النساء الأجنبيات بشهوة مثلا) والسفاهة (وهي التصرف بخلاف الحكمة قال في المصباح المنير والسفه نقص في العقل وأصله الخفة اﻫ وفي تهذيب اللغة وقال بعض أهل اللغة أصل السفه الخفة ومعنى السفيه الخفيف العقل اﻫ فليس فيهم من هو سفيه يقول ألفاظا شنيعة تستقبحها النفس كالذي يشتم يمينا وشمالا) والبلادة (قال في الصحاح والبلادة ضد الذكاء اﻫ قال في المصباح وبلد الرجل بالضم بلادة فهو بليد أي غير ذكي ولا فطن اﻫ) والجبن (قال في المصباح جبان أي ضعيف القلب اهـ أما الخوف الطبيعي فلا يستحيل عليهم كالنفور من الحية إذا تفاجأ بها الإنسان. قال تعالى ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى﴾. قال القشيري في تفسيره قوله تعالى إخبارا عن موسى ﴿ففررت منكم لما خفتكم﴾ يجوز حمله على الظاهر وأنه خاف منهم على نفسه والفرار عند عدم الطاقة غير مذموم عند كل أحد اﻫ ولا يقال عن النبي هرب لأن هذه الكلمة تشعر بالجبن أما كلمة فر من أذى الكفار فلا تشعر بالجبن وقد قال الله تعالى مخاطبا نبيه موسى عليه السلام ﴿خذها ولا تخف﴾. وقال تعالى ﴿فأوجس في نفسه خيفة موسى﴾) و(يستحيل على الأنبياء أيضا) كل ما ينفر عن قبول الدعوة منهم (كل ما ينفر الناس عنهم،كل ما يعزلهم عن الناس عصمهم الله تعالى منه).

   الشرح أن الأنبياء يجب لكل منهم أن يكون بهذه الأخلاق وهي الصدق فيستحيل عليهم الكذب لأن ذلك نقص ينافي منصب النبوة وأما قول إبراهيم عليه السلام عن زوجته سارة (إنها أختي) وهي ليست أخته في النسب فكان لأنها أخته في الدين فهو ليس كذبا من حيث الباطن والحقيقة إنما هو صدق. وكذلك ورد في أمر إبراهيم في القرءان الكريم أنه قال ﴿بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾. وليس هذا كذبا حقيقيا بل هذا صدق من حيث الباطن والحقيقة لأن كبير الأصنام هو الذي حمله على الفتك بهم أي الأصنام الأخرى من شدة اغتياظه منه لمبالغتهم في تعظيمه بتجميل هيئته وصورته فحمله ذلك على أن يكسر الصغار ويهين الكبير فيكون إسناد الفعل إلى الكبير إسنادا مجازيا فلا كذب في ذلك أي هو في الحقيقة ليس كذبا وأما حديث (كذب إبراهيم ثلاث كذبات) فقد اعترض عليه بعض العلماء (كالرازي في تفسيره. بعض العلماء اعترض عليه، فقال هذا ليس مرويا بطريق يحتج بمثله في أصول العقيدة، فما اشتغل بتأويله، قال لا نحتاج إلى الاشتغال بتأويل هذا الحديث، فهذا الحديث لا يحتج بمثله في أصول العقيدة. وبعض العلماء أوله، فقال كذب في لغة العرب يأتي بمعان، منها أن تكون صورته صورة الكذب وهو في الحقيقة صدق، بعض الناس قد يظنه كذبا وهو صدق) وأوله بعضهم (على نحو ما ذكرنا). (قال رسول الله ﷺ لم يكذب إبراهيم النبي، عليه السلام، قط إلا ثلاث كذبات: قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة، والحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي. معناه فيما يظهر للناس الذين لا يعرفون الواقع، فيظنون أن هذا كذب حقيقي. وهو في الواقع ليس كذبا حقيقيا، لأن الأنبياء معصومون من جميع أنواع الكذب، ومن زعم أن نبيا من أنبياء الله كذب الكذب الحقيقي فقد كفر وخرج من الإسلام.

فقول إبراهيم للجبار الكافر الذي سأله عن زوجته سارة إنها أختي، ليس كذبا حقيقيا، وإنما هو كذب صورة، هو تورية. والتورية جائزة في حق الأنبياء في مثل هذه الحال، وذلك لأن إبراهيم لم يرتكب قبيحا لما عمل هذه التورية، هو أراد أن سارة أخته في الإسلام. والتورية في مثل الحال التي كان إبراهيم عليها جائزة من الأنبياء وغيرهم.

وأما قول إبراهيم لقومه المشركين إني سقيم، فهو أيضا كذب صورة وليس كذبا حقيقيا فقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه يحتمل أن يكون إبراهيم أراد إني سقيم أي سأسقم، واسم الفاعل يستعمل كثيرا بمعنى المستقبل. ا.هـ.

معنى ﴿إني سقيم﴾ سأسقم قريبا، وأنا الآن لست سقيما، فأتى بتورية حيث أوهمهم بأنه سقيم الآن. وهذا من قبيل قول الله تعالى في سورة الزمر ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾ معناه أنت يا محمد ستموت وأصحابك أيضا سيموتون وهؤلاء الذين كذبوك سيموتون، وليس معناه أنت يا محمد الآن ميت وأصحابك هم الآن أموات والذين يكذبونك هم الآن أيضا أموات. ليس هذا معنى الآية. فاسم الفاعل ليس دائما يفيد الحاضر، إذ قد يأتي في مواضع بمعنى المستقبل، كقولك إني مسافر غدا.

فإن قيل وما بأدراه أنه سيسقم في المستقبل القريب؟ نقول كانت تأتي إبراهيم عليه السلام حمى تقلع عنه مدة من الوقت ثم تعود إليه، وفي ذلك الوقت لما خرج قومه لعبادة الأوثان طلبوا منه أن يخرج معهم فقال لهم ﴿إني سقيم﴾ أي جاء الآن وقت الحمى التي تصيبني، وكانت علامة اقتراب الحمى ظهور نجم معهود في السماء. يقول الله تعالى في سورة الصافات إخبارا عن سيدنا إبراهيم ﴿فنظر نظرة في النجوم . فقال إني سقيم﴾.

وأما قول إبراهيم لقومه ﴿بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾ فهذا ليس كذبا حقيقيا بل هذا صدق من حيث الباطن والحقيقة لأن كبير الأصنام هو الذي حمله على الفتك بالأصنام الأخرى من شدة اغتياظ إبراهيم من الصنم الكبير لمبالغة المشركين في تعظيمه بتجميل هيأته وصورته. فهذا الأمر هو الذي حمل إبراهيم على أن يكسر الصغار ويهين الكبير. فيكون إسناد الفعل إلى الكبير إسنادا مجازيا. فلا كذب في ذلك، وليس في هذه الأعمال الثلاثة جميعها ما يستقبح من إبراهيم. تنبيه: التورية ذكر لفظ ذي معنيين، قريب وبعيد، فيراد البعيد ويورى القريب)

   والأمانة (أي يجب للأنبياء الأمانة) فيستحيل عليهم الخيانة فلا يكذبون على الناس إن طلبوا منهم النصيحة ولا يأكلون أموال الناس بالباطل.

   والفطانة فكل الأنبياء أذكياء يستحيل عليهم الغباوة أي أن يكونوا ضعفاء الأفهام لأن الغباوة تنافي منصبهم لأنهم لو كانوا أغبياء لنفر منهم الناس لغباوتهم والله حكيم لا يجعل النبوة والرسالة في الأغبياء فإنهم أرسلوا ليبلغوا الناس مصالح ءاخرتهم ودنياهم والبلادة تنافي هذا المطلوب منهم. (البلادة لا تتوافق مع ذلك، البلادة تنافي ذلك. كيف يعلمك غبي مصالح دينك ودنياك؟ لا يكون هذا. إنما الذي يعرف مصالح الدنيا والآخرة لا يكون غبيا)

   ويستحيل على الأنبياء الرذالة (والرذيل هو الذي يعمل الأفعال الخسيسة. الأفعال التي تدل على انحطاط في حاله. الأفعال المشينة مثل أن يختلس النظر إلى النساء الأجنبيات بشهوة) و(يستحيل على الأنبياء أيضا) السفاهة والبلادة فليس في الأنبياء من هو رذيل يختلس النظر إلى النساء الأجنبيات بشهوة مثلا وليس فيهم من يسرق ولو حبة عنب (كل السرقة لا تجوز على الأنبياء) وليس في الأنبياء من هو سفيه (السفيه هو الذي يتصرف بخلاف الحكمة، كالذي يسب يمينا وشمالا. السفيه) يقول ألفاظا شنيعة تستقبحها النفس وليس في الأنبياء من هو بليد الذهن (أي غبي) عاجز عن إقامة الحجة على من يعارضه بالبيان ولا ضعيف الفهم لا يفهم الكلام من المرة الأولى إلا بعد أن يكرر عليه عدة مرات (أي لا يفهم بسرعة).

   ويستحيل على الأنبياء سبق اللسان في الشرعيات والعاديات (لأن سبق اللسان يفتح بابا لمن يريد التشكيك فيما يقولون) لأنه لو جاز عليهم لارتفعت الثقة في صحة ما يقولونه ولقال قائل عندما يبلغه كلام عن النبي ما يدرينا أن يكون قاله على وجه سبق اللسان لذلك لا يصدر من نبي كلام غير الذي يريد قوله ولا يصدر منه كلام وهو لا يريد الكلام بالمرة كما يحصل لمن يتكلم وهو نائم. وكذلك يستحيل عليهم الأمراض المنفرة كخروج الدود من الجسم (قال رسول الله ﷺ ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت وإن نبيكم أحسنهم وجها وأحسنهم صوتا. رواه الترمذي. فالأنبياء كلهم كانوا ذوي حسن وجمال فلا يجوز عليهم المرض الذي ينفر الناس منهم. الله تعالى لا يسلط عليهم هذه الأمراض، أما المرض المؤلم الشديد حتى لو كان يحصل منه الإغماء أي الغشي يجوز عليهم، وأما الأمراض المنفرة فلا تجوز على الأنبياء، لا تجوز على أيوب أو غير أيوب. هذا أيوب عليه السلام (نسبه عليه السلام يرجع لإسحاق بن إبراهيم الخليل، وحكي أن أمه بنت نبي الله لوط عليه السلام. وأما زوجته فقيل إن اسمها رحمة بنت يوسف بن يعقوب، وقيل غير ذلك) الذي ابتلاه الله بلاء شديدا استمر ثمانية عشر عاما (الرسول ﷺ قال كان بلاء أيوب ثمانية عشر عاما، رواه ابن حبان وصححه) وفقد ماله وأهله ثم عافاه الله وأغناه ورزقه الكثير من الأولاد، بعض الناس الجهال يفترون عليه ويقولون إن الدود أكل جسمه فكان الدود يتساقط ثم يأخذ الدودة ويعيدها إلى مكانها من جسمه ويقول يا مخلوقة ربي كلي من رزقك الذي رزقك.  نعوذ بالله، هذا ضلال مبين. فهذا تكذيب للدين وكفر، لأن هذا لا يليق بنبي من الأنبياء، وكيف يرد الدود إلى جسمه ليتأذى به، والله تعالى يقول ﴿وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين﴾، ويقول تعالى ﴿ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما﴾.

قصة سيدنا أيوب عليه السلام: كان سيدنا أيوب عليه السلام قبل أن ينزل عليه البلاء، من الأنبياء الأغنياء، يسكن في قرية له اسمها “البثنية” وهي إحدى قرى حوران في أرض الشام بين مدينة دمشق وأذرعات في الأردن، وقد ءاتاه الله تعالى الأملاك الواسعة والأراضي الخصبة والصحة والمال وكثرة الأولاد، وكان عليه السلام شاكرا لأنعم الله، مواسيا لعباد الله، برا رحيما بالمساكين، يكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف ويصل المنقطع.

   ثم إنه أصابه بلاء شديد وعناء عظيم، وليس ذلك لأنه هين على الله، إنما ابتلاء من ربه له ليعظم ثوابه وأجره، فقد قال رسول الله ﷺ “أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل“. وهكذا صار الناس إذا ذكروا بلاء سيدنا أيوب وصبره على مر السنين مع كونه أفضل أهل زمانه، عودوا أنفسهم على الصبر على الشدائد كما فعل سيدنا أيوب. إذ إنه ابتلي كما قيل بأن جاءت الشياطين إلى أمواله فأحرقتها وفتكت بأغنامه وإبله وعبيده، وخربت أراضيه، فلما رأى سيدنا أيوب ما حل به لم يعترض على الله تعالى بل قال “لله ما أعطى ولله ما أخذ فهو مالك الملك، وله الحمد على كل حال“. وعادت الشياطين إلى أفاعيلها وفسادها فسلطت على أولاد سيدنا أيوب الذين كانوا في قصر أبيهم ينعمون برزق الله تعالى فتزلزل القصر بهم، حتى تصدعت جدرانه ووقعت حيطانه، وقتلوا جميعا ولم يبق منهم أحد. وبلغ سيدنا أيوب الخبر فبكى لكنه لم يقابل المصيبة إلا بالصبر.

   امتلأ إبليس وأعوانه غيظا مما صدر من سيدنا أيوب عليه السلام من صبر وتسليم لقضاء الله وقدره. وأصيب سيدنا أيوب بأمراض شديدة عديدة، لكنه لم يخرج منه الدود كما يذكر بعض الناس الجهال، وإنما اشتد عليه المرض والبلاء حتى جفاه القريب والبعيد ولم يبق معه إلا القلة القليلة، لكن زوجته بقيت تخدمه وتحسن إليه ذاكرة فضله وإحسانه لها أيام الرخاء.

   ثم طالت مدة هذه العلة ولم يبق له شىء من الأموال البتة. وكان يزوره اثنان من المؤمنين فارتد أحدهما وكفر، فسأل سيدنا أيوب عنه فقيل له وسوس إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، وأنك لست نبيا فاعتقد ذلك. فحزن سيدنا أيوب لهذا الأمر وتألم لارتداد صاحبه عن الإسلام فدعا الله أن يعافيه ويذهب عنه البلاء كي لا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه. رفع الله تعالى عن نبيه أيوب عليه السلام البلاء بعد مرور ثمانية عشر عاما، كان فيها سيدنا أيوب صابرا شاكرا ذاكرا مع شدة بلائه، وأوحى إليه أن يضرب الأرض برجله فضربها فنبعت عينان شرب من واحدة فتعافى باطنه واغتسل بالأخرى فتعافى ظاهره، وأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض، وأبدله بعد ذلك صحة ظاهرة وباطنة وجمالا تاما ولما اغتسل من هذا الماء المبارك أعاد الله لحم أيوب وشعره وبشره على أحسن ما كان، وأنزل له ثوبين من السماء أبيضين، التحف بأحدهما من وسطه، ووضع الآخر على كتفيه ثم أقبل يمشي إلى منزله، وأبطأ على زوجته حتى لقيته من دون أن تعرفه فسلمت عليه وقالت يرحمك الله، هل رأيت نبي الله المبتلى وقد كان أشبه الناس بك حين كان صحيحا. قال أنا هو، ورد الله إلى زوجة سيدنا أيوب شبابها ونضارتها فولدت له سبعة وعشرين ذكرا عوضا عن الذين ماتوا سابقا، وأقبلت سحابة وصبت في بيدر قمحه ذهبا حتى امتلأ، ثم أقبلت سحابة أخرى إلى بيدر شعيره وحبوبه فسكبت عليه فضة حتى امتلأ.

   ثم حدثت له معجزة أخرى إذ أرسل الله تعالى سحابة على قدر قواعد داره فأمطرت ثلاثة أيام بلياليها جرادا من ذهب. وقد رفع الله عن سيدنا أيوب الشدة وكشف ما به من ضر رحمة منه ورأفة وإحسانا، وجعل قصته ذكرى للعابدين، تصبر من ابتلي في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة في نبي الله أيوب الذي ابتلي بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه. وعاش سيدنا أيوب عليه السلام بعد ذلك سبعين عاما يدعو إلى دين الإسلام، ولما مات غير الكفار الدين وعبدوا الأصنام والعياذ بالله تعالى).

   وكذلك يستحيل على الأنبياء الجبن أما الخوف الطبيعي فلا يستحيل عليهم بل الخوف الطبيعي موجود فيهم (لأن الإنسان مجبول عليه) وذلك مثل النفور من الحية فإن طبيعة الإنسان تقتضي النفور من الحية وما أشبه ذلك (لما انقلبت عصا موسى ثعبانا أوحي إليه أن خذها ولا تخف). ولا يقال عن النبي ﷺ هرب لأن هرب يشعر بالجبن (لا يقال هرب من الكفار مثلا، عند الناس إذا قيل هرب من الكفار هذا يشعر بالتنقيص) أما فر من الأذى مثلا فلا يشعر بالجبن يقال هاجر فرارا من الكفار أي من أذى الكفار هذا جائز ما فيه نقص وعلى هذا المعنى قول الله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال ﴿ففررت منكم لما خفتكم﴾ (أي فررت من أذاكم، ابتعدت عنكم).

 

   قال المؤلف رحمه الله: وتجب لهم العصمة (أي الحفظ التام بلا انخرام، بحيث لا يحصل منهم خلاف ذلك ولو مرة واحدة، بلا استثناء. هذا معنى بلا انخرام. فإذا تجب لهم العصمة) من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها (مسئلة: ما ذكر في حديث فترة الوحي من أن الرسول ﷺ كان أراد أكثر من مرة أن يطلع على رأس جبل من جبال مكة فيلقي بنفسه فيبدو له جبريل فيقول يا محمد أنت رسول الله حقا، فمن زعم أنه كان أراد أن ينتحر جهلا منه بمعنى الحديث فهذا كافر. وهذا الحديث من مرسلات الزهري وليس معناه أن الرسول ﷺ كان يريد أن يقتل نفسه بإلقاء نفسه من ذروة الجبل إنما مراده أن يخف عنه الوجد الذي لحقه بفتور الوحي عنه تلك المدة وهو يعلم أنه لا ينضر بذلك الإلقاء؛ فمن رأى هذا الحديث في كتاب من الكتب مؤولا على هذا التأويل الفاسد المذكور ءانفا فليحذر، فقد نقل ذلك التأويل الفاسد الحافظ ابن حجر عن بعض المحدثين، واعتقاد هذا المعنى الفاسد كفر وإلحاد لأن الانتحار أكبر المعاصي بعد الكفر فلا يتصور حصوله من الرسول ﷺ لا سيما وأن جبريل يقول له يا محمد أنت رسول الله حقا. حصل من شاب يسكن فرنسا كان يتردد إلى بعض مجالس العلم أياما قلائل ثم صار يطالع في بعض الكتب من غير تأهل لذلك فوجد هذا الحديث ففسره بالانتحار فقال لبعض جماعتنا كيف تقولون الانتحار حرام والرسول أراد أن ينتحر؟ تهوره أوقعه في الكفر والعياذ بالله. الانتحار من غير استحلال له معصية من الكبائر، لا تجوز على أنبياء الله. فمما يجب التحذير منه قول بعض الناس “إن الرسول لما انقطع الوحي عنه مدة كان يريد الانتحار” ونسبة هذا لنبي من الأنبياء كفر فإن الأنبياء معصومون أي محفوظون من الوقوع في الكفر وكبائر الذنوب وصغائر الذنوب التي فيها خسة ودناءة ومحفوظون من الهم بذلك، والذي ورد في البخاري أن الرسول حين انقطع عنه الوحي برهة ذهب من شدة الشوق إلى بعض ذرى (أعلا) جبال مكة وهم أن يلقي بنفسه أي مع اعتقاده الجازم أنه لا ينضر بذلك أي من باب خرق العادة وذلك تخفيفا للشوق الحاصل له من انقطاع الوحي فأتاه جبريل وصار يقول له “يا محمد أنت رسول الله حقا” للتخفيف عنه، كما أن يونس بن متى حين ألقى نفسه في البحر كان يعتقد أنه لا ينضر بالمرة وليس في ذلك معصية ولكن وقع في بعض شروح البخاري قول إن الرسول هم أن يلقي بنفسه من ذروة الجبل أي أعلا الجبل لينتحر وهذا كفر والعياذ بالله)

 

هذه آيات من القرءان الكريم فيها بيان أن أنبياء الله كانوا كلهم أجمعون على الإسلام:

١. سورة آل عمران:

  • ﴿ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين﴾ (٦٧)

٢. سورة البقرة:

  • ﴿ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين . إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين . ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون . أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون﴾ (١٣٠-١٣٣)

٣. سورة آل عمران:

  • ﴿فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون﴾ (٥٢)

٤. سورة المائدة:

  • ﴿وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون﴾ (١١١)

٥. سورة آل عمران:

  • ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ (٨٥)

٦. سورة يونس:

  • ﴿وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾ (٨٤)

٧. سورة يونس:

  • ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين﴾ (٩٠)

فرعون لم يقبل إسلامه لأنه قال كلمة التوحيد بعد أن أدركه عذاب الاستئصال. وفي الآية دليل على أن موسى كان يدعو إلى الإسلام.   الشرح الأنبياء معصومون أي محفوظون من الكفر قبل أن يوحى إليهم بالنبوة وبعد ذلك أيضا (قال تعالى ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين﴾. الرسول معصوم من الشرك. ﴿ولقد أوحي إليك﴾ أي يا محمد ﴿وإلى الذين من قبلك﴾ أي من الرسل الذين جاءوا بعد إدريس ﴿لئن أشركت﴾ أي لئن أشرك واحد من أمتك ﴿ليحبطن عملك﴾ أي عمله ﴿ولتكونن من الخاسرين﴾ يعني هو الذي أشرك يكون من الخاسرين. وليس معناه أنك أنت يا محمد يجوز عليك أن تشرك، وليس معناه أنه من كان قبلك من الأنبياء يجوز أن يشرك)

(تنبيه: قال ربنا حكاية عن إبراهيم ﴿وأنا أول المسلمين﴾، معنى ذلك أنه أول المسلمين في عصره ولا خلاف في ذلك البتة. والله تعالى قال لنبيه محمد ﷺ ﴿قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين . وأمرت لأن أكون أول المسلمين﴾، فمعنى الآية أن سيدنا محمدا ﷺ هو أول مسلمي هذه الأمة، وإلا فإن لم يكن تفسير الآيتين كذلك لوقع التناقض في القرءان، وهذا مستحيل)

(ليس في الأنبياء من يحصل منه كفرية واحدة لا قبل النبوة ولا بعدها. حتى إبراهيم عليه السلام الذي حاج قومه لم يكن مشركا، لم يكن بوذيا، لم يكن وثنيا، لم يكن يهوديا، لم يكن نصرانيا، لأن الله تعالى قال ﴿ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين﴾. هذا ليس خاصا بإبراهيم عليه السلام، بل هو في سائر الأنبياء والرسل) وأما قول سيدنا إبراهيم عن الكوكب حين رءاه ﴿هذا ربي﴾ (ليس إثباتا لربوبية الكوكب عليه، لا. إنما معنى قول إبراهيم هذا ربي أنكم يا قوم تعبدون الكوكب وتثبتون له الربوبية أي الألوهية وهو لا يصلح لذلك. لكن بما أن هذه العقيدة متمكنة فيهم، أراد أن يستدرجهم إلى تفهيمهم أن هذا الكوكب لا يصلح أن يكون ربا لهم لأنه شيء يتغير. ففي أول الأمر قال لهم هذا ربي!؟ معناه: على زعمكم هذا ربي!؟ كيف يصلح أن يكون ربا لي!؟  فهو على تقدير الاستفهام الإنكاري فكأنه قال أهذا ربي كما تزعمون (ثم لم يقل لهم في اللحظة هذا يأفل والشيء الذي يأفل لا يصلح أن يكون إلها، بل سكت وانتظر حتى أفل، أي غاب) ثم لما غاب قال ﴿لا أحب الآفلين﴾ (معناه أن هذا الكوكب الذي تعبدونه وتعتقدون أنه ربكم شيء يغيب) أي لا يصلح أن يكون هذا ربا (لأن كل شىء يطرأ عليه التغير لا يصلح أن يكون إلها) فكيف تعتقدون ذلك. ولما لم يفهموا مقصوده (الذي هو أن يخرجهم من عبادة الكوكب إلى عبادة رب الكوكب وخالقه) بل بقوا على ما كانوا عليه قال حينما رأى القمر مثل ذلك فلما لم يجد منهم بغيته أظهر لهم أنه بريء من عبادته وأنه لا يصلح للربوبية (لا يصلح أن يكون إلها لأنه شيء يتغير ويتطور، أي يحصل له حال غير الحال الذي كان عليه. وكل شيء يطرأ عليه حال غير الحال الذي كان عليه فهو متغير، وكل متغير يحتاج إلى مغير. إذا، الله تبارك وتعالى لا يجوز عليه التطور والتغير، لأن المتطور يحتاج إلى من يغيره، والمحتاج إلى غيره لا يصلح أن يكون إلها) ثم لما لم ير منهم بغيته قال حينما ظهرت الشمس ﴿هذا ربي هذا أكبر﴾ أي على زعمكم (معناه إنكار عليهم وتسفيه لرأيهم الفاسد، وإلا فإن إبراهيم عليه السلام لم تمر عليه فترة أو لحظة اعتقد فيها أن شيئا غير الله يستحق أن يعبد، بل كان من أول نشأته عارفا كسائر الأنبياء) فلم ير منهم بغيته أيضا فأيس منهم من عدم انتباههم وفهمهم للمراد أي أن هذه الثلاثة لا تصلح للألوهية فتبرأ مما هم عليه من الشرك (لما رآهم لا ينتبهون، لا تنتبه أفكارهم إلى إدراك الحقائق الصحيحة، تبرأ منهم) ثم لم يمكث فيهم بل (ترك تلك البلاد، بابل العراق، و) ذهب (أي هاجر) إلى فلسطين فأقام هناك وتوفي فيها وأما إبراهيم في حد ذاته فكان يعلم قبل ذلك أن الربوبية لا تكون إلا لله بدليل قوله تعالى ﴿ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل﴾ والأنبياء عليهم السلام معصومون من الوقوع في المعاصي الكبيرة وكذلك عصمهم الله من التلبس بالذنوب الصغيرة التي فيها خسة ودناءة كسرقة حبة عنب فإن هذه صغيرة لكنها تدل على دناءة نفس.

والله تعالى أعلم وأحكم، والحمد لله رب العالمين

لمشاهدة الدرس: https://youtu.be/6TTW-TBUVoM

للاستماع إلى الدرس:    https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-6