بَعد أن اتهمت امرأةُ العزيز يوسف عليه السلام بأنه حاول الاعتداء عليها بالفاحشة وبرَّأت نفسها ردّ يوسف عليه السلام هذه التُّهمة عنه: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] في هذا الموقف أنطقَ الله القادر على كل شيء شاهدًا من أهلها، وهو طفل صغير في المهد فكانت هذه المعجزة تأييدًا من الله لتندفع التهمة عن يوسف عليه السلام وتثبت الحجة على المرأة التي اتهمته زورًا ولتِظهر براءةُ يوسف عليه السلام واضحة أمام عزيز مصر ووزيرها، فنطق الطفل بقدرة الله قائلًا: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26]، أي: لأنه يكون قد راودها فَدَفَعَته حتى شَقّتْ مُقَدَّمَ قميصه فتكون التُّهَمة بذلك على يوسف عليه السلام، ثم قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27]، أي: لأنه يكون قد تركها وذهب فتبعته وتعلقت به من خلف فانشقَّ قميصه بسبب ذلك، وتكون التهَمة بذلك على امرأة العزيز، فلمَّا وجد العزيز أنَّ قميصَ يوسف قد انشق من خَلف خاطَب زَوجتَه وقال لها: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]، أي: هذا الذي جرى من مَكركُنَّ، أنت راودته عن نفسه ثم لتدفعي التُّهَمة عن نفسِك اتهمته بالباطل والبهتان. ثم قال زوجها لسيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام بعد أن ظهرت براءته جلية واضحة: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، أي: لا تذكرْه لأحد لأن كتمان مثل هذه الأمور في ذلك الحين أحسن، ثم أمر زَوجته بالاستغفار لذنبها الذي صَدَر منها والتوبة إلى ربها وقال لها: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29]، يعني: من المذنبين الآثمين.
وبذلك ظهرت براءةُ يوسف عليه السلام ظهورَ الشمس في وضح النهار من تلك السَّوْءَة والعار، وظهر للعزيز عفة يوسف عليه السلام، وأنه نزيه العِرض سليمُ القصد مأمون الجانب، وأنه منزّه عن التهمة التي اتهمته بها امرأته زورًا وبُهتانًا.
ومن الأدلة الصريحة أيضًا على براءة يوسف عليه السلام ما أخبر الله تعالى في القرآن الكريم حكاية عن إبليس أنه قال: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83] وقوله أيضًا: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 39 – 42]، فاستُثْنيَ من الوقوع في الغواية العباد المخلصون، أي: لا يتسلط عليهم إبليس فيُزيّنَ لهم الفواحش والمنكرات؛ بل يَسلمُون من ذلك بعصمة الله وحفظه، وقد أخبر الله تعالى عن سيدنا يوسف ووصفه بأنه من جملة العباد المخلصين بقوله: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، أي: أن يوسف عليه السلام من عباد الله المخلَصين، فليس لإبليس سلطان عليه، وهذا من أقوى الأدلة على براءة سيدنا يوسف عليه السلام.
وبالرجوع إلى تفسير الهمّ الوارد في قصة مراودة امرأة العزيز لسيدنا يوسف عليه السلام يقول القرطبيّ: «لا خلاف أن همَّها كان المعصية، وأما يوسف فهمَّ بها { لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف: 24]، ولكن لـمّا رأى البرهان ما همَّ، وهذا لوجوب العصمة للأنبياء، قال الله سبحانه: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]، فإذًا في الكلام تقديم وتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} الآية [يوسف: 24]، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير كأنه أراد: ولقد همَّت به ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها»([1]).اهـ.
وكان الفخر الرازي في التفسير الكبير قد كفَّر من يُفسّر {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] بأنه همٌّ بالزنا، وفسّر بأنه لم يحصل منه هذا الهمّ لأنه علم أن هذا الأمر غير لائقٍ بالأنبياء، لذلك امتنع. هذا على أحد التفسيرين. والتفسير الثاني: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] همّ بدفعها ثم قال: والتفصيل في التفسير الأول: أن امرأة العزيز همّت بالزنا، وأن سيدنا يوسف لم يحصل منه همٌّ لذلك ألبتّة. وجعلوا {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا} [يوسف: 24] مقدّمًا عليها و{لَوْلَا} جوابها ممتنعٌ لوجود المبتدأ الذي يليها، والتقدير: «ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها وهذا القول الأقوى، فجواب لولا ليس حاصلًا»([2]).اهـ. أي: لم يحصل منه همٌّ بالمرة لأنه رأى البرهان، أي: أُلهم أن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الشيء، والتقديم والتأخير في لسان العرب سائغ، فحمل النص على هذا التأويل موافق لسنن العرب وما تعارفوه من فصيح الكلام. إذا عرفتَ ذلك فاحذرْ مـمّا دُسَّ افتراء في تفسير الجلالين وغيره من أن يوسف قصد الزنا بامرأة العزيز. فقد تبيَّنْتَ فحش هذه المقالة وماذا جمعَتْ من الاجتراء والافتراء على أنبياء الله، مع صفاقة الوجوه وعدم الحياء فوق التهاون الحاصل بذكر المصطَفَيْن الأخيار.
[1])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (9/165، 166).
[2])) مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، (18/440 – 444).