إنَّ مضمون حديث الشفاعة أن سيدنا محمدًا ﷺ يختصّ بالشفاعة العظمى وهي للفصل بين الخلق، أي: لتخليص المسلمين من الاستمرار في حرّ الشمس في الموقف. وقد سُمّيت الشفاعة العظمى لأنها لا تختصّ بأمته فقط؛ بل ينتفع بهذه الشفاعة غير أمته من المؤمنين لأن العذاب أنواع، ليس العذابُ بدخول النار فقط؛ بل تسليط الشمس عليهم وهم في الموقف من جملة العذاب، والفضيحة هناك في ذلك المشهد عذاب أيضًا، فبعض المسلمين يُفْضحون، ينادي عليهم الملَك: هذا فلان ابن فلان عمل كذا لأنَّ الخلق يومئذٍ يكونون شاهدين، ويظلّون واقفين حتى يقضى بينهم بصرفهم إلى الجنة أو إلى النار حتى يقول الكافرُ من شدّة البؤس الذي يقاسيه من حرّ الشمس: يا رب أرحني ولو إلى النار.
وحديث الشفاعة مروي في الصحيحين، وفيه أن النبيّ ﷺ قال: «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينظرهم الناظر، ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا تنظرون من يشفع لكم؟ فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده([1]) – أي: أنه له عناية بك – ونفخ فيك من روحه – أي: الروح المشرّفة عنده – وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنّة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب([2]) بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض – أي: بعد أن انتشر الكفر في الأرض – وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي. ائتوا النبيَّ ﷺ، فيأتوني فأسجد تحت العرش([3])، فيقال: يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفّع، وسل تعطَهْ»([4]).اهـ.
وليُحذر مما ورد دسًّا وتحريفًا في بعض نسخ ابن حبّان السقيمة أنَّ كلًّا من هؤلاء الأنبياء الخمسة يقول عندما يُطلب منه الشفاعة: إن أخاف أن يطرحني الله في النار، لأن نسبة هذا لنبيّ من الأنبياء كفر والعياذ بالله، لأن النبيّ لا يظنّ بربه أنه يطرحه في النار، فما ذُكِرَ في كتاب الإحسان لابن بلبان باطل وهو دسّ وافتراء.
[1])) اليد لها أربعة عشر معنى كما قال الفيروزأبادي في القاموس المحيط (1/1347). وهنا معناها العناية.
[2])) قال العلامة المحدّث الشيخ عبد الله الهرريّ ما نصّه: «إن الله – تعالى – من صفاته الرضا والغضب، وهما صفتان أزليتان كعلمه وقدرته ومشيئته وسائر صفاته، ليس غضبه ورضاه كما يغضب المخلوق ويرضى، فإنَّ غَضَبَ المخلوق مخلوق لأن الصفة تتبع الذات، فنحن ذواتنا حادثة – أي: مخلوقة – فصفاتنا حادثة، فغضبنا حادث وكذلك رضانا حادث، وأما الله فليس كذلك؛ بل غضبه صفة أزلية ورضاه صفة أزلية، والله تعالى يغضب ويرضى لا كأحد من الورى كما جاء في القرآن بقوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ} [طه: 81]، وقوله أيضًا: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وغيرها من الآيات، والأصلُ أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في كتابه العزيز وبما صحّ أنّ الرسول ﷺ وصفه به من غير أن يكون لأحد شركة مع الله لا في ذاته ولا في صفاته. ثم الغضب بالنّسبة للخلق تغيّر يحصل عند غليان الدم في القلب بإرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه. والغضب إذا وصف الله به يكون بمعنى الغاية، أي: إرادة الانتقام، وإرادة الانتقام أزلية، هذا المعروف عند الأشاعرة في عباراتهم، وإذا وصف المخلوق بالغضب يوصف باعتبار المبدأ وهو التغيّر، أي: الانفعال النفسانيّ. والرضا من الله عبارة عن إرادة إنعامه على عباده أو عن نفس إنعامه عليهم وهذا هو معنى الرحمة أيضًا، وليست رحمته رقّة قلب. وأما ما ورد في حديث الشفاعة الذي رواه مسلم من أن آدم وغيره يقولون يوم القيامة: «إن الله قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يغضَب مثله قبلهُ ولا يغضَب بعدَهُ مثله» فهذا يُقصَدُ به أَثر الغضب ليس الغضب الذي هو صفة ذاتيّة. وقد كان السلف إذا أرادوا اختصار العبارة يقولون الله يغضب ويرضى بلا كيف، مالك ابن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوريّ والأوزاعيّ هؤلاء حين يذكرون الصفات التي وردت في حقّ الله تعالى ممّا يتوهّم بعض الناس أنها كصفات المخلوقين لقصر أفهامهم، كانوا رضي الله عنهم يقولون: «بلا كيف»، أي: بلا تشبيه ولا تجسيم، أما الخلف وبعض السلف أوّلوا فيقولون: رضا الله إرادته الرحمة وغضبه إرادته الانتقام، أَرجعوا الصفتين إلى الإرادة، وكِلا القولين صحيحٌ».اهـ. شرح العقيدة الطحاوية، الهرري، (ص296).
[3])) ليس المعنى أن الله يسكن العرش ويجلس عليه، فقد صحّ أن الله موجود بلا مكان. نقل الإمامُ أبو منصور البغداديّ إجماعَ المسلمينَ سلفِهِم وخلفِهِم على أن الله موجود بلا مكانٍ وجهةٍ في كتابه (الفرق بين الفرق) حيث قال ما نصّه: «وأجمعوا – أي: أهل السُّنَّة والجماعة – على أنه – أي: الله – لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان».اهـ. الفرق بين الفرق، البغدادي، (333).
[4])) صحيح البخاري، البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، (4/143). صحيح مسلم، مسلم، كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنّة منزلة فيها، (1/182).