مما لا يشكّ فيه عاقل أن الله تعالى العظيمَ الحكيم محال أن يتخذ رسولًا ويجعله رجلًا تزدريه الأعين وتحقره القلوب، يُسَلّط بسوء أخلاقه وحقارة نفسه وصغر همته ألسنةَ الناس عليه بالطعن والإزراء([1])، فكيف يَتأتَّى لمثل هذا المهان المرذول أن يكون قدوةً في مكارم الأخلاق، وإمامًا يهدي الناس إلى صراط ربهم العزيز الحميد، فحاشى لله الحكيم أن يُرسل رجلًا متهمًا في نسبه، أو ناقصًا مشوَّهًا في خلقه وجسمه ويجعل منه داعيًا إليه بإذنه، ذلك أن الدعوة تتطلّب أن تكون للداعي مهابةٌ في النفوس، وإجلالٌ في القلوب، ومنزلةٌ كريمة عند الناس، وظهورٌ لكماله الخُلُقِيّ والخَلْقِيّ بحيث تنجذب إليه أصحاب الفِطَر السليمة والقلوب المستقيمة.
ومِنْ أَجل هذا بعث الله تعالى أنبياءَهُ عليهم السلام من أحسن قومهم نسبًا، وبرّأهم من العيوب الجسمية المشوّهة، وأعطاهم أكمل صفات الرجولة من الشجاعة وصدق العزيمة، وقوة الإرادة وشدّة البأس، وسعة الصدر وحِدّة الذهن، وذكاء القلب وطلاقة اللسان، وحلاوة المنطق، وما إلى ذلك مما يكون به المختار لرسالة ربه أكمل الرجال في قومه وقبيلته وأملأهم للأسماع والأبصار.
وكان من بينهم صفوتُهم وأفضلهم وأكملهم سيدنا محمد ﷺ الذي أنشأه الله أطيب نشأة وأزكاها وأطهرها وأبرأها وأبعدها من كل نقيصة أو دَنِيَّة، حتى كان ﷺ زينة المجالس في قومه، ومرجع الأحكام، وموئل الكرم ومثال عزّة النفس؛ بل كان موضع سرّهم، وما كان يُدْعَى بينهم إلا بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، فقد قالت له السيدة خديجة([2]) قدّس الله سرّها العزيز حين جاءه الوحي أول مرّة: «إن الله لا يخزيك أبدًا، إنك لتحمل الكَلَّ([3])، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق»([4]).اهـ.
وفي بيان سلامة الأنبياء وصيانتهم من المعايب والمنفّرات يقول الحافظ النوويّ([5]) في شرح حديث مسلم([6]) في الكلام على حديث ضرب سيدنا موسى عليه السلام للحجر حين عدا بثوبه: «قال رسول الله ﷺ: كانت بنو إسرائيل يغتسلون عُراة ينظر بعضهم إلى سَوْءَة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر([7]). قال: فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففرَّ الحجر بثوبه – قال – فجمح موسى بأثره يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوءة موسى([8])، فقالوا: والله ما بموسى من بأس. فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربًا». قال أبو هريرة: «والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى عليه السلام بالحجر» ما نصّه: «ومن فوائد هذا الحديث ما قاله القاضي عياض([9]) وغيره: إن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين منزّهون عن النقائص في الخَلْق والخُلُق، سالمون من العاهات والمعايب، قالوا: ولا التفات إلى ما قاله من لا تحقيق له من أهل التاريخ في إضافة بعض العاهات إلى بعضهم،؛ بل نزّههم الله من كلّ عيب وكل شيء يبغّض العيون أو ينفّر القلوب»([10]).اهـ.
ولقد قصّ الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم المنزّل على خاتمهم وإمامهم محمد ﷺ من نبأ أولئك الأنبياء ما أبان عن جليل قَدْرهم، وسامي مكانتهم، وشريف مواقفهم في الذَّبّ عن دين الله الحق، والصبر على ما لَقُوا من أقوامهم من أذى لا يصبر عليه ولا يطيقه إلا الـمُؤَيَّدون الصادقون، فحلّوا من نفس رسول الله عليه الصلاة والسلام ونفوس أصحابه الكرام وأتباعهم العظام أكرم منزلة وأسمى مكانة، وكانت لهم بهم أحسن قدوة.
وأما أصحاب القلوب السقيمة من بعض المتأخرين فقد فتح عليهم الشيطان بابًا واسعًا من فنون الجدل وكثرة القيل والقال، والمماحكات([11]) اللفظية، وكذلك أهل الكتاب من اليهود الذين هم أشدّ الناس كراهية للأنبياء وتحقيرًا لهم ومشاقة لهم وكفرًا بهم وتقتيلًا، وغيرهم من الضالين كالفلاسفة كإرسطو وإخوانه الذين كانوا يعبدون الأصنام ويكفرون بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلمَّا فتح الشيطان هذا الباب وأُسقمت القلوب بهذه العلل، جرّهم ذلك إلى مناقشة القصص القرآنيّ مناقشات بعيدة عن الهدى والصواب، وخاضوا في ما لم يخض فيه الأنبياء وأتباعهم، وأخذوا يتخبّطون في سبيلهم تخبُّط الأعمى الأصمّ على غير هدى ولا نور، فضلُّوا وأضلّوا، أخزاهم الله، ويبقى كلام رسول الله ﷺ دواءً لهذا الداء، فهو الذي يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لِـمَا جئتُ به»([12]).
كما أنَّه قد غلا البعض ممن ادّعى الإسلام في وصف من ألصقوا أنفسهم بهم من أئمة أعلام، إذ نسبوا إليهم – جهلًا وغلوًّا – صفات الأنبياء الكرام، وزعموا العصمة لأئمتهم كعصمة الأنبياء أو أعظم، فضلّوا وهلكوا، فإنه من المقرَّر في الشريعة الغرَّاء أنَّ الأنبياء لا يشاركهم أحد في الرتبة وعلو القدر، كما نصَّ على ذلك أئمة التوحيد كالإمام النسفي([13]) رحمه الله حيث قال في عقائده: «ولا يبلغ وليٌّ درجة الأنبياء».اهـ. وكذا قال التفتازاني([14]) في المقاصد: «لا يبلغ الولي درجة النبي([15])».اهـ.
ومن المقرَّر أيضًا أنَّ الأنبياء معصومون من الكُفر([16]) والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النبوَّة وبعدها، قال الشيخ التلمسانيّ([17]) ما نصُّه: «لا يجوز عليهم – أي: الأنبياء – الكبيرة ألبتة، ويجوز تعمد الصغيرة بشرط عدم الإصرار، ولا يجوز منهم صغيرة تدل على خساسة النفس ودناءة الهمة كتطفيف([18]) حبة وسرقة باقة بقل»([19]).اهـ.
والواجب أن يُحفظ للأنبياء الكرام هذا المقام، وأن يُنَزَّهوا عن مدّ الألسن إليهم بالنقد والاتهام، غير أن نفوسًا قد غلبها الفسق والكفر والضلال، تطاولتْ وتجرَّأتْ من خبثها ووقاحتها إلى أَنْ رَمَت الأنبياء عليهم السلام بالعيب والتهم، فلم تدع نبيًّا – إلا ما ندر – لم ترمه بدعوى العيب والإثم، تريد بذلك انتقاصَهم، والحطّ من أقدارهم؛ بل والطعن في القرآن الكريم الذي بَيَّنَ أحالهم، فكان الذبُّ عن أنبياء الله عزَّ وجلَّ واجبًا، صونًا لدين الله، وحفظًا لحق أنبيائه الكرام عليهم السلام.
وسيتضمّن هذا الكتاب إن شاء الله العديد من الفصول والأبواب، أبتدئ بها ببيان معنى النبوّة ومقام الأنبياء عليهم السلام، والفرق بين النبيّ والرسول، والتعريف بالمعجزات التي هي سبيل إلى معرفة صدق النبيّ، ثم بيان عصمة الأنبياء عليهم السلام والصفات الواجبة لهم والصفات المستحيلة في حقّهم، وبيان عددهم عليهم السلام، ثم أشرع بعدها في الردّ المباشر على القصص والحكايات المفتراة على أنبياء الله تعالى صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.
[1])) «الإزراء: التهاون بالشيء».اهـ. مختار الصحاح، الرازي، مادة: (ز ر ي)، (ص289).
[2])) خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. زوج النبي وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النباش الأسديّ، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ، ولدت منه غلامًا اسمه عبد مناف. وولدت من أبي هالة هندّ بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه. ولم يتزوج رسول الله r على خديجة غيرها حتى ماتت. وهي أول امرأة آمنت به. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. قال حكيم بن حزام: «توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون».اهـ. الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (14/164).
[3])) «الكّلّ الثقيل، والكلّ أيضًا اليتيم والذي لا ولد له ولا والد».اهـ. مختار الصحاح، الرازي، مادة: (ك ل ل)، (ص586).
[4])) صحيح البخاري، البخاري، كتاب بدء الوحي، (1/3)، رقم3. عيون الأثر، ابن سيد الناس، (1/114، 115).
[5])) يحيـى بن شرف بن مري بن حسن الحزاميّ الحورانيّ، النوويّ، الشافعيّ (ت676هـ)، أبو زكريا، محيي الدين، علّامة بالفقه والحديث. مولده ووفاته في نوا (من قرى حوران، بسورية)، من كتبه: (تهذيب الأسماء واللغات)، و(منهاج الطالبين)، و(حلية الأبرار) ويعرف بـ(الأذكار النووية)، و(رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين). الأعلام، الزركلي، (8/148).
[6])) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الفضائل، باب: فضائل موسى عليه السلام، (7/99)، رقم 6295.
[7])) الآدر من أصيب بالأُدرة، قال الزبيدي: «الأُدرة بالضم مرضٌ تنتفخ منه الخصيتان ويكبران جدًّا».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ مادة: (أ د ر)، (10/40). وهذا لا يليق بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
[8])) سيدنا موسى عليه السلام لم يتعمّد أن يظهر أمامهم بلا ثياب.
[9])) عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبيّ السبتيّ (ت544هـ)، أبو الفضل، من علماء الغرب، من تصانيفه: (مشارق الأنوار)، و(ترتيب المدارك وتقريب المسالك في معرفة أعلام مذهب الإمام مالك)، و(شرح صحيح مسلم). الأعلام، الزركلي، (5/99).
[10])) المنهاج في شرح صحيح مسلم، النوويّ، باب: من فضائل موسى r، (7/99)، رقم 6295.
[11])) «مَحَكَ، كمَنَعَ يَمْحَكُ محكًا، لَـجَّ في الأمر فهو مَحِكٌ، والمحْكُ: المشارَّةُ والمنازَعَةُ في الكَلامِ».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ، مادة: (م ح ك)، (27/329).
[12])) الأربعون النووية، النوويّ، الحديث 41، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. فتح الباري، ابن حجر، (13/289).
[13])) عمر بن محمد بن أحمد أبو حفص نجم الدين النسفي، عالم بالتفسير والأدب والتاريخ، من فقهاء الحنفية، ولد بنسف وإليها نسبته، وتوفي بسمرقند، قيل: له نحو مائة مصنف، منها: (التيسير في التفسير)، و(تاريخ بخارى)، و(طلبة الطلبة) في الاصطلاحات الفقهية، و(العقائد) ويُعرف بعقائد النسفي، (توفي سنة 537هـ). الأعلام، الزركلي، (5/6).
[14])) مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، سعد الدني، من أئمة العربية والبيان. ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) وأقام بسرخس، وأبعده تيمورلنك إلى سمرقند، فتوفي فيها، ودفن في سرخس. من كتبه: (المطول) في البلاغة، و(المختصر). الأعلام، الزركلي، (7/219).
[15])) شرح المقاصد، التفتازاني، (5/77).
[16])) المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية، الهرري، (ص214).
[17])) عبد الله بن محمد بن أحمد التلمساني، ابن الشريف (ت792هـ)، من علماء المالكية. اشتهر في تلمسان. صنف كتبًا منها: (شرح معالم أصول الدين)، و(شرح لمع الأدلة)، للجويني. الأعلام، الزركلي، (4/127).
[18])) «طَفَّفَ: نقَصَ الـمِكْيالَ».اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة: (ط ف ف)، (1/1976). وقال الزبيدي: «المطَفّفُون: الذين يَنْقُصُونَ الـمِكْيالَ والـمِيزانَ، وإنما قِيلَ للفاعِلِ: مُطَفّفٌ، لأنه لا يكادُ يَسْرِقُ في الـمِكْيالِ والـمِيزانِ إلا الشيءَ الخَفِيفَ الطَّفِيفَ».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ، (24/94).
[19])) شرح لمع الأدلة، التلمسانيّ، (ص197).