ادّعى الألباني في كتابه المسمّى «سلسلة الأحاديث الصحيحة»([1]) أنَّ حدّ شارب الخمر في المرة الرابعة القتل تعزيرًا. ثم ذكر من طريق ذكوان أبي عاصم عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله : «إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا الرابعة فاقتلوهم» وقال عقبة: «وقد قيل: إنه حديث منسوخ، ولا دليل على ذلك؛ بل هو محكم غير منسوخ كما حققه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على المسند، واستقصى هناك الكلام على طرقه بما لا مزيد عليه، ولكنا نرى أنه من باب التعزير إذا رأى الإمام القتل، وإن لم يره لم يقتل بخلاف الجلد فإنه لا بد منه في كل مرة وهو الذي اختاره ابن القيم».اهـ.
الرَّدُّ:
قال الترمذي في سننه([2]) بعد أن روى هذا الحديث بنحوه مختصرًا:
«سمعت محمدًا – يعني البخاري – يقول: «وإنما كان هذا في أوّل الأمر ثم نسخ بعدُ»، هكذا روى([3]) محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبيّ قال([4]): «إن شرب الخمرَ فاجلدوهُ فإنْ عاد في الرابعةِ فاقتلوهُ»، قال: ثم أُتي النبيّ بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله، وكذلك روى([5]) الزُّهري عن قبيصة بن ذُؤيب عن النبيّ نحو هذا، قال: فَرُفع القتل، وكانت رخصة، والعمل على هذا الحديث عند عامّة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث».اهـ.
وأورده أي حديث القتل النَّسائي في «السنن الكبرى»([6]) ثم عقبه بقوله: «باب نسخ القتل» وأورد حديث جابر بن عبد الله الدال على النسخ.
وكذلك البزَّار في مسنده([7]) وقال عقبه: «وهذا الحديث منسوخ في القتل» ثم ذكر حديث جابر رضي الله عنه.
وقال النووي في «شرح صحيح مسلم»([8]): «هو حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه».اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام»([9]) ما نصّه: «وذكر الترمذي ما يدل على أنه – يعني: حديث القتل – منسوخ، وأخرج ذلك أبو داود صريحًا عن الزُّهري».اهـ.
وقال أيضًا في كتابه «فتح الباري»([10]) بعد أن ذكر حديث قبيصة: «وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة وولد في عهد النبي ولم يسمع منه، ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله، لكنه أعل بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي عن الزهري قال: «بلغني عن قبيصة»، ويعارض ذلك رواية ابن وهب عن يونس، عن الزهري: «أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي ، وهذا أصح، لأن يونس أحفظ لرواية الزهري من الأوزاعي، والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي فيكون الحديث على شرط الصحيح، لأن إبهام الصحابي لا يضر، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق([11]) عن معمر قال: حَدثت به ابن المنكدر فقال: تُرك ذلك، قد أُتي رسول الله بابن نعيمان فجلده ثلاثًا ثم أُتي به في الرابعة فجلده ولم يزد»، ووقع عند النَّسائي([12]) من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر، عن جابر: «فأُتي رسول الله برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله» وأخرجه([13]) من وجه ءاخر عن محمد بن إسحاق بلفظ: «فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه فضربه رسول الله أربع مرات، فرأى المسلمون أنّ الحد قد وقع وأن القتل قد رُفع». قال الشافعي بعد تخريجه: «هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمه»، وذكره أيضًا عن أبي الزبير مرسلاً وقال: «أحاديث القتل منسوخة»، وأخرجه أيضًا من رواية ابن أبي ذئب حدَّثني ابن شهاب: «أُتي النبي بشارب فجلده ولم يضرب عنقه»، وقال الترمذي: «لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافًا في القديم والحديث». قال: «وسمعت محمدًا([14]) يقول: حديث معاوية في هذا أصح، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد»، وقال في «العلل» ءاخر الكتاب: «جميع ما في هذا الكتاب قد عمل به أهل العلم إلا هذا الحديث وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر»، وتعقبه النووي([15]) فسلّم قوله في حديث الباب دون الآخر، ومال الخطابي([16]) إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل فقال: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل فإنما يقصد به الردع والتحذير»، ثم قال: «وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبًا ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل». وأما ابن المنذر فقال: «كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به ثم نسخ بالأمر بجلده، فإن تكرر ذلك أربعًا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد [خلافه] خلافًا». قلت([17]): وكأنه أشار إلى بعض أهل الظاهر، فقد نقل عن بعضهم واستمر عليه ابن حزم منهم واحتج له وادعى أن لا إجماع، وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: «ائتوني برجل أقيم عليه الحد يعني ثلاثًا ثم سكر، فإن لم أقتله فأنا كذاب»، وهذا منقطع لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به ابن المديني وغيره فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله بن عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ، وعُدَّ ذلك من نزره المخالف، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال: «لو رأيت أحدًا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته». وأما قول بعض من انتصر لابن حزم فطعن في النسخ بأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح، وليس في شيء من أحاديث غيره الدالة على نسخه التصريح بأن ذلك متأخر عنه، وجوابه أن معاوية أسلم قبل الفتح وقيل في الفتح، وقصة ابن النعيمان كانت بعد ذلك لأن عقبة بن الحارث حضرها إما بحنين وإما بالمدينة، وهو إنما أسلم في الفتح وحنين، وحضور عقبة إلى المدينة كان بعد الفتح جزمًا فثبت ما نفاه هذا القائل، وقد عمل بالناسخ بعض الصحابة فأخرج عبد الرزاق([18]) في مصنفه بسند لَيّن عن عمر ابن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرار»، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأخرج حماد بن سلمة في مصنّفه من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمرَ جَلَدَ أبا محجن في الخمر أربع مرار، ثم قال له: أنت خليع، فقال: أما إذ خلعتني فلا اشربها أبدًا».اهـ.
وذكر الحازمي في كتابه «الاعتبار»([19]) بأن حديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة منسوخ. وقال السيوطي في «تدريب الراوي»([20]) ممزوجًا بمتن النووي: «(النوع الرابع والثلاثون: ناسخ الحديث ومنسوخه، هو فنّ مهم، ومنه ما عُرِف بدلالة الإجماع كحديث قتل شارب الخمر في الرابعة… قال المصنّف([21]) في «شرح صحيح مسلم»: «دلّ الإجماع على نسخه»، وإن كان ابن حزم خالف في ذلك، فخلاف الظاهرية لا يقدح في الإجماع».اهـ.
[1])) الألباني، الكتاب المسمّى سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/347).
[2])) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الحدود، باب: ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة فاقتلوه (4/48).
[3])) أخرجه النسائي في السنن الكبرى: كتاب الحد في الخمر، باب: نسخ القتل (3/257) ولفظه: «أخبرنا عبيد الله بن سعيد بن إبراهيم بن سعد قال: ثنا عمي قال: ثنا شريك عن محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن نبي الله قال: «إذا شرب الرجلُ فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد الرابعةَ فاقتلوه»، فأتي رسول الله برجل منا فلم يقتله، وفي رواية له (3/257): «أخبرنا محمد بن موسى الحَرَش قال: ثنا زياد قال: حدَّثني محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله : «مَنْ شربَ الخمرَ فاضربوهُ فإنْ عادَ فاضربوهُ فإنْ عادَ فاضربوهُ فإنْ عادَ الرابعةَ فاضربوا عنقَهُ».اهـ. فضرب رسول الله نُعَيْمَان اربع مرات، فرأى المسلمون أن الحدَّ قد وقع وأن القتل قد رُفع».اهـ. ورواه البزار في مسنده (12/235)، والبيهقي في سننه (8/314).
[4])) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الحد في الخمر، باب: نسخ القتل (3/257).
[5])) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب: إذا تتابع في شرب الخمر (4/281)، ولفظه: «حدَّثنا أحمد بن عبدة الضبي، حدَّثنا سفيان قال الزهري: أخبرنا عن قبيصة بن ذُؤيب أن النبي قال: «مَن شربَ الخمرَ فاجلدوهُ فإنْ عادَ فاجلدوهُ فإنْ عادَ في الثالثةِ أو الرابعةِ فاقتلوهُ»، فأُتي برجل قد شرب فجلده ثم أُتي به فجلده ثم أُتي به فجلده ثم أُتي به فجلده ورَفع القتل وكانت رخصة، قال سفيان: حدَّث الهري بهذا الحديث وعنده منصور بن المعتمر ومُخَوَّل بن راشد فقال لهما: كونا وافِدَي أهل العراق بهذا الحديث».اهـ. وأخرجه البيهقي في سننه (8/314).
[6])) أخرجه النسائي في سننه، كتاب الحد في الخمر، باب: نسخ القتل (3/257).
[7])) مسند البزار (12/235).
[8])) النووي، شرح صحيح مسلم (5/218).
[9])) ابن حجر العسقلاني، بلوغ المرام (ص279).
[10])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (12/80، 81).
[11])) مصنف عبد الرزاق (7/380 و245 – 246)، وأخرج من طريق ءاخر قال: «أخبرنا معمر عن يد بن أسلم قال: أُتي بابن النعيمان إلى النبي مرارًا أكثر من أربع فجلده كل ذلك» (7/381 و9/246).
[12])) تقدّم تخريجه.
[13])) تقدّم تخريجه.
[14])) هو: البخاري.
[15])) النووي، شرح صحيح مسلم (5/218).
[16])) الخطابي، معالم السنن (4/293).
[17])) أي: الحافظ ابن حجر العسقلاني.
[18])) مصنّف عبد الرزاق (7/381 و9/247)، وأخرج أيضًا (9/243) عن شيخه معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: «كان أبو محجن لا يزال يجلد في الخمر، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه».اهـ.
[19])) الحازمي، الاعتبار (ص365 – 368).
[20])) السيوطي، تدريب الراوي (ص361 – 363).
[21])) أي: النووي. النووي، شرح صحيح مسلم (5/218)، السخاوي، فتح المغيث (4/53 – 55).