الحمدُ للهِ الذي جعلَ الدنيا دارَ ممرّ والآخرةَ دارَ مقرّ فقالَ تعالى: {وَللْأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ منَ الْأُولى} [سورة الضحى: 4]، وقالَ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى} [سورة الأعلى: 16، 17]، والصلاةُ والسلامُ على أزهدِ الناسِ في الدنيا، وأرغبِهم فيما عندَ اللهِ، القائلِ لعمرَ : «أما ترضى أن تكونَ لهمُ الدنيا ولنا الآخرةُ» صلَّى اللهُ عليهِ وعلى ءالِهِ وسلَّمَ.
ليُعلمْ أنَّ عِزَّ الدنيا وسعادةَ الآخرةِ في طاعةِ اللهِ، ومن شأنِ الطائعينَ أنهم يُقبلونَ على الطاعاتِ فيغتنمونَ ساعاتِ حياتِهم ليتزودوا منها للدارِ الباقيةِ لأنَّهم علموا أنَّ الدنيا مزرعةُ الآخرةِ كما قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما رواهُ الطبرانيُّ.
فلا ينبغي أن يشبعَ الإنسانُ مهما كان عندَهُ من حسناتٍ؛ بل ينبغي أن يزدادَ من الحسناتِ ويبذُلَ جُهدَهُ. مَنْ زرعَ هُنا خيرًا يحصدُهُ في الآخرةِ لأنَّ الإنسانَ في حياتهِ الدنيويةِ حالهُ كحالِ إنسانٍ يزرعُ زرعًا ليحصلَ على ثمرِ هذا الزرعِ، كذلكَ هذه الدنيا دارُ عملٍ ليست دارَ جزاءٍ؛ لأنَّ الإنسانَ يعملُ فيها من أجلِ ما سيلقاهُ في الآخرةِ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [سورة الحشر: 18].
ففي هذه الآيةِ حثٌّ للمؤمنينَ بالتفكرِ في أمرِ الآخرةِ، وتفسيرُها لينظُرِ المرءُ ما يُعِدُّ ويقدِّمُ لآخرتهِ مِنَ العملِ الصّالحِ، والآخرةُ ينفعُ فيها خيرُ الزادِ تقوى اللهِ، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [سورة البقرة: 197].
فمَنْ عرفَ اللهَ وءامنَ برسولهِ صلى الله عليه وسلم وأدَّى الواجباتِ واجتنبَ المحرماتِ هذا فازَ في الآخرةِ، أخذَ زادًا عظيمًا منَ الدنيا. أما مَنْ فاتهُ ذلك فهوَ على خطرٍ، الذي ماتَ من غيرِ أن يعرفَ اللهَ ويؤمنَ بنبيّهِ هذا ليسَ لهُ شيءٌ في الآخرةِ إلا النكدُ والعذابُ.
الدنيا طريقٌ للآخرةِ، وسبيلٌ لنيلِ الجنةِ، فلولا الحياةُ والعملُ الصالحُ فيها لَما نالَ العبدُ ما ينالُ في الآخرةِ.. الدنيا سببٌ لإعمارِ الآخرةِ وهكذا يجبُ أن تكونَ، لا سببًا في خرابِ الآخرةِ.
فمن أحبَّ دنياهُ أضرَّ بآخرتهِ، ومن أحبَّ ءاخرتَهُ أضرَّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى. فمن جدَّ فيها بالطاعةِ فازَ في الآخرةِ بالثوابِ، ومن أغرقَ نفسَهُ في التهاونِ والتقصيرِ فلا يلومنَّ إلا نفسَهُ.
هذه الدنيا زائلةٌ فانيةٌ كلُّ ما فيها مِنْ أحوالٍ دَالٌّ على فنائِها، فلو نظرنا مثلًا إلى الطعامِ نأكلُهُ شهيًا ثم بعدَ بضعِ ساعاتِ نخرجُهُ شيئًا تعافُهُ الأنفسُ. وأما الآخرةُ فمقبلةٌ وهي باقيةٌ لا تفنى ولا تزولُ، فالفطنُ الكيسُ مَنْ عملَ في دنياهُ لآخرتهِ فحازَ رضى اللهِ. قالَ سيدُنا عليٌّ وكرّمَ وجهَهُ: «ارتحلتِ الدنيا وهي مدبرةٌ وارتحلتِ الآخرةُ وهي مقبلةٌ فكونوا من أبناءِ الآخرةِ ولا تكونوا من أبناءِ الدنيا اليومَ العملُ ولا حسابَ وغدًا الحسابُ ولا عملَ» رواهُ البخاريُّ في كتابِ الرقاقِ.
فالدّنْيَا سائِرَةٌ إلى الانْقِطَاعِ إلى الزَّوالِ، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ الدُّنْيا كالشَّمْسِ إذا تَدَلَّتْ نحوَ الغُروبِ، مَعْنَاهُ ما مَضَى أكْثَرُ مِمَّا بَقِيَ.
فَكُونُوا مِنْ أبناءِ الآخِرَةِ واتَّقُوا رَبَّكُمْ، فقَدْ قالَ رَبُّنَا عزَّ مِنْ قائلٍ: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [سورة ءال عمران: 15].
اللَّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ
غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ
اللَّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا
واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنَا شَرَّ ما نتخوَّفُ