#34 7-9 سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام
الحمد لله مكوّن الأكوان الموجود أزلا وأبدًا بلا مكان أما بعد رجَعَ إخوةُ يوسفَ عليه السلامُ إلى مصر ودخلوا من أبوابِها المتفرقة كما أمرَهم أبوهم يعقوبُ عليه السلام ثم دخلوا على يوسفَ الصدّيق عليه السلام فأنزلَهم منزلا رحْبًا وأكرَمهم وأحسنَ ضيافَتهم وقدّمَ لهمُ الطعامَ والشرابَ وأجلسَ كلَّ اثنينِ من إخوتِه على مائِدةٍ واحدة، فبقيَ بنيامينُ وحيدًا وقال بِحُزنٍ ورأفة: لو كان أخي حيًا لأجلسني معه، فسمِعَ يوسفُ عليه السلام كلامَ أخيه من أبيهِ وأمِه فضَمَّه إليه وقال لإخوتِه الحاضرين: إني أرى هذا وحيدًا فأجلَسَه معه على مائدته، فلمّا جاءَ الليلُ جاءَهم بالفُرُش فنامَ كلُّ اثنينِ من إخوتِه على فراش فبَقيَ بنيامينُ وحيدًا، فقالَ يوسفُ الصديق: هذا ينامُ معي. فلمّا خَلا وانفردَ به قال له: هل لكَ أخٌ من أمِك؟ فقال له بنيامين: كان لي أخٌ من أمي فمات، فقال له: إني أنا أخوكَ يوسف فلا تَبتئس أي لا تحزن ولا تبأس بما كانوا يَعملونَ فيما مضى من حَسَدِنا وما حَرِصوا على صَرفِ وجهِ أبينا عنّا ولا تُعلِمهُم بما أعلمتُك. أكرمَ يوسفُ عليه الصلاة والسلام إخوتَه وأحسنَ ضيافَتهم، ثم أوفى لهمُ الكيلَ من الطعامِ وحمّلَ بنيامينَ بعيرًا باسمِه كما حمّل لهم، ثم لَمّا وفّاهُم كيلَهم وقَضى حاجَتهم جَعلَ السِقاية -وهو الإناءُ الذي كان يشربُ فيه الملِكُ ويَكيلُ بهِ الطعامَ وقيل: كان مُرَصَّعًا بالجواهِرِ ثمينا- جعلهُ في رَحلِ أخيهِ ومَتاعِه وإخوتُه لا يشعرون، فعلَ يوسفُ عليه السلام ذلك لمصلحةٍ دينية حتى يَحصُلَ على استِبقاءِ أخيهِ بنيامينَ عنده، فلمّا ارتَحلوا مسافةً قصيرةً أرسلَ الطلَبُ في أَثَرِهم فأدركوهم ثم نادى منادٍ فيهم قائلا: أيتها العيرُ – أي القافلةُ التي فيها الأحمال- إنكم لسارقون قِفوا، قيل: ثم وصَلَ إليهم رسولُ يوسفَ ووكيلُه وأخذَ يُوبِخُهُم ويقولُ لهم: ألم نُكرِم ضِيافتَكم ونُوَفِّكُم كيلَكم ونُحسِنُ مَنْزِلَتَكُم ونفعلُ بكم ما لم نفعلْ بغيرِكم وأدخلناكم علينا في بيوتنا وأنتم تَسرُقون؟ وهنا فائدة: فإن قيل: كيف نادى المنادي بأنهم سارقون وهم في الحقيقةِ لم يسرِقوا؟ أُجيب: أنّ المنادي نادى وهو لا يعلمُ أنّ يوسفَ عليه السلام أمرَ بوضعِ السِقايةِ في رحلِ أخيه، أو يكونُ المعنى إنكم لسارقونَ فيما يظهرُ لمن لا يعلمُ حقيقةَ أخبارِكم. ولَمّا أقبلَ المنادي ومن معه على إخوةِ يوسف يتّهمُهم بالسرقة قال إخوة يوسفَ عليه السلام: ماذا تَفقِدون؟ أي ما الذي ضَلَّ عنكم وضاع؟ فقالوا لهم: نَفْقِدُ صُواعَ الملك ولمن جاء به ودَلّ عليه فله حِمْلُ بعيرٍ من الطعام وأخبرَهُمُ المنادي أنّه الكفيلُ بالوفاءِ بالحِملِ لمن رَدّه. فلما سمع إخوةُ يوسفَ عليه السلام ما قالَه المنادي ومن معه من حاشيةِ الملِك قالوا لهم: ما جئنا لنُفْسِدَ ولسنا سارقين فحلَفوا بالله وقالوا: أنتم تعلمونَ أننا ما جئنا للفَسادِ والسَرِقة، ونَفَوا أن يكونوا سارقين، وهنا ردَّ عليهم منادي الملِك وأصحابُه: فما جزاءُ من توجدُ في متاعِه سِقايةُ الملك إن كنتم كاذبين في قولِكم: وما كنا سارقين، فأجابهم إخوةُ يوسف: إنّ جزاءَ من توجدُ في متاعِه ورحلِه سقايةُ الملِك أن يُستعبدَ بذلك. ولَمّا قالَ إخوةُ يوسفَ عليه السلام مقالتَهم وأنَّ جزاءَ مَن توجَدُ معه سِقايةُ الملِك أن يُؤخَذَ ويُستعبد فتّشَ رسولُ الملكِ الأوعية وبدأ بأوعيتِهم قبلَ وِعاءِ أخيهم بنيامين مُبتدِئًا بالكبير ومُنتهيًا بالصغير، فوجَد سِقايةَ الملِك في وِعاءِ أخيهم بنيامين فاستَخرجَها منه، فأخذَ بنيامينَ وانصرَفَ به إلى يوسفَ عليه السلام، ولما شاهدَ إخوةُ يوسفَ عليه السلام رسولَ الملِك ومُناديَه يَستخرِجُ سِقايةَ الملِك وصُواعَه من مَتاعِ بنيامين مُلِئوا غيظًا على بنيامين لِما وقعوا فيه مِن الورطةِ والغمِ والهم. ولَمّا أرادَ يوسفُ عليه السلام أن يحبِسَ بنيامينَ عندَه ووجدَ إخوتَه أنه لا سبيلَ لهم إلى تخليصِه منه، سألوه أن يُطْلِقَهُ ويُعطوهُ واحدًا منهم بديلًا عنه وقالوا ليوسف: يا أيها العزيزُ إنّ له أبًا شيخًا كبيرًا مُتَعَلِّقٌ به مُغرَمٌ بحبِه فخُذْ أحدًا منّا بدلًا من بنيامين وأخلِ سبيلَه إنّا نراكَ منَ المحسنين، لكنَّ يوسفَ الصديق رفضَ إخلاءَ سبيلِ أخيهِ بنيامين. ولما استيأسَ إخوةُ يوسفَ عليه السلام من أخذِ أخيهِم من يوسف بطريقِ الْمُبادَلة وأن يُجيبَهم إلى ما سألوه، خَلا بعضُهم ببعض واعتزَلوا الناسَ ليسَ معَهم غيرُهم وصاروا يتناجَوْنَ ويتناظَرون ويتشاورون ثم قالَ كبيرُهم وهو روبيل: لقد أخذَ أبوكم عليكم ميثاقًا وعَهدًا في حِفظِ أخيكم بنيامين وردِّه إليه إلا أن تُغلَبوا كلُكم عنِ الإتيانِ به، وها أنتم تُفرِّطونَ فيه كما فرَّطتم في أخيهِ يوسفَ من قبله، فلن أزال مُقيمًا ها هنا في بلادِ مصر لا أفارقُها حتى يأذنَ لي أبي في القدوم أو يَقدُرَني الله على ردِّ أخي إلى أبي، ثمّ أشارَ إليهم وطلبَ منهمُ الرجوعَ إلى أبيهم يعقوب وإخبارَه بما كان من سرقةِ أخيهِم بنيامين لصُواعِ الملِك، وأنهم ما شهِدوا عليه بالسرقةِ إلا بما علِموا من مشاهدةٍ إذ وجدوا الصُواع في أمتعته، والله أعلم وأحكم نقف هنا ونكمل ما قد بدأناه إن شاء الله في الحلقة المقبلة من سلسلة قصص الأنبياء فتابعونا وإلى اللقاء.