أحبابَنا الكرامَ كلامنا عن كنزٍ يأتي ولا يعودُ، عن كنزٍ يُحافِظُ عليهِ العقلاءُ والفطناءُ من بني ءادمَ ويعتنونَ بهِ غايةَ العنايةِ ويَعدُونَهُ مِنْ أثمنِ الأشياءِ التي ينبغي أن يُعتنى بها ويُحافَظَ عليها، يَعدُّونَهُ أثمنَ مِنَ المالِ ومِنَ البيوتِ ومِنَ الطعامِ ومِنَ الشرابِ، قالَ تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [سورة المنافقون: 10].
مَنْ جاءَ أجلُهُ وانتهى وقتْهُ لو طلبَ أن يُمَدَّدَ لهُ في وقتِهِ دقيقةٌ لا يُمدَّدُ لهُ، قالَ اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُم لا يَستَأخِرونَ ساعَةً وَلا يَستَقدِمونَ} [سورة الأعراف: 34].
فمن تفكَّرَ في الدنيا قبْلَ أنْ يوجَدَ رأى مدةً طويلةً، فإذا تفكّرَ فيها بعدَ أن يخرجَ منها رءاها مدةً طويلةً وعَلِمَ أنَّ اللُبثَ في القبورِ طويلٌ. فإذا تفكَّرَ في يومِ القيامةِ عَلِمَ أنّهُ خمسونَ ألفَ سنةٍ، فإذا تفكّرَ في اللُبثِ في الجنّةِ أو النارِ عَلِمَ أنّهُ لا نِهايةَ لهُ. فإذا عادَ إلى النظرِ في مقدارِ بقائهِ في الدنيا على فرضِ أنهُ ستونَ سنةً مثلًا فإنّهُ يُمضي منها عشرين سنةً في النومِ ونحوًا من خمسَ عشرةَ سنةً في الصِّبا، فإذا حسبَ الباقي كانَ أكثرُهُ في الشهواتِ والمطاعمِ والمكاسبِ الدنيويةِ. فإذا خلصَ إلى ما للآخرةِ وجدَ فيهِ مِنْ تضييعِ الوقتِ والغفلةِ الكثيرَ. فبماذا تُشترى الحياةُ الأبديةُ؟ وإنَّما الثمنُ هذه الساعاتُ مِنَ العمرِ السريعِ.
فكنزُنا المقصودُ اليومَ هو «الوقتُ»، الوقتُ الذي يقولُ فيهِ ابنُ الجوزيِّ:
«ينبغي للإنسانِ أن يَعرفَ شرفَ زمانِهِ وقدرَ وقتهِ، فلا يُضَيِّعُ منهُ لحظةً في غيرِ قربةٍ، ويُقدِّمُ فيهِ الأفضلَ فالأفضلَ مِنَ القولِ والعملِ، ولتكن نيتُهُ في الخيرِ قائمةً مِنْ غيرِ فتورٍ بِما لا يعجزُ عنهُ البدنُ مِنَ العملِ».
ورُوِيَ عن الإمامِ الحسَنِ البِصْرِيِّ أنهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يا ابنَ ءادمَ يا ابنَ ءادمَ طَإِ الأرضَ بِقَدَمِك فإنها عن قليلٍ قبرُك إنك لم تَزلْ في هدمِ عُمرِك منذ أن خُرَجتَ من بَطنِ أمَّك، يا ابنَ ءادَمَ يا ابنَ ءادمَ إنما أنتَ كَعَدَدٍ فإذا ذَهَبَ يومٌ فقد ذهبَ بعضُك»، أي: كلّما مضى يومٌ من عُمُرِكَ اقتربتَ ودَنَوْتَ مِنَ الموتِ أكثر.
وقامَ الحسنُ البِصريُّ رحمهُ اللهُ مرةً على جنازةٍ وكانَ إلى جنبهِ صاحبٌ لهُ فقالَ الحسنُ لصاحبهِ بعدَ الدفنِ: «لو كنتَ مكانَ هذا الرجلِ المدفونِ ماذا تتمنى؟» قالَ: «أتمنى أن يعيدني اللهُ تباركَ وتعالى إلى الدنيا مرةً ثانيةً لأعملَ صالحًا غيرَ الذي كنتُ أعملُهُ». فقالَ لهُ الحسنُ: «وأنتَ الآن فيما تتمناهُ فاعملْ». وذلكَ مصداقُ قولهِ صلى الله عليه وسلم: «نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناسِ الصحةُ والفراغُ» رواه البخاري في صحيحه. كثيرٌ مِنَ الناسِ هذا شأنُهم مع الصحةِ والفراغِ لا يُقدرونَ قيمتَهما بل ويُسيئونَ استغلالَهما فتذهبُ أوقاتُهم سدًى بلا فائدةٍ.
قالَ بعضُ الصوفيةِ: «الوقتُ أعزُّ الأشياءِ عليكَ فاشتغلْهُ بأعزٌ الأشياءِ اللهِ ربِّ العالمينَ»، الوقتُ شيءٌ عزيزٌ واللهُ أعزُّ الأشياءِ فاصرفْ أوقاتَك في طاعة اللهِ.
اللَّهُمَّ اقسِم لنا من خشيتِكَ ما تحولُ بهِ بيننا وبين معاصيِك
ومن طاعتِكَ ما تبلِّغُنا بِهِ جنّتك