الأحد ديسمبر 22, 2024

#33  6-9 سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام

الحمد لله مكوّن الأكوان الموجود أزلا وأبدًا بلا مكان أما بعد موضوعُ حلقةِ اليوم خروجُ يوسفَ عليه السلام من السجنِ وقدومُ إخوتِه عليه. لَمّا ظهر وتبيّنَ للملِك براءةُ يوسفَ عليه السلام ونزاهةُ ساحتِهِ عمّا كانوا نَسبوه إليه رأى يوسفُ الصديقُ عليه السلام أن ليسَ هناك مانِعٌ من الخروجِ من السِجن، فخرجَ وجاءَ يوسفُ عليه السلام الملِكَ وكلمَهُ فقالَ له الملِك: إنّك من اليوم لدينا ذو مكانةٍ وأمانة. وطلبَ يوسفُ عليه السلام من الملِك أن يُوَلِّيَهِ النَظَرَ فيما يَتَعَلَقُ بخزائِنِ الأرض، قيل: هي خزائنُ الطعام وذلك لِما يعلمُ من عدلِه ولما يتوقعُ من حصولِ الخللِ في خزائنِ الطعامِ بعد مُضيِ السنين التي يكونُ فيها الخَصْبُ لينظرَ فيها ويحتاطَ فيها للأمر، وأخبرَ ملِكَ البلاد أنه قويٌّ على حِفظِ ما لديه وأمينٌ على خزائِنِ الأرض وما يَخرجُ منها من الغَلاتِ والخَيراتِ عليمٌ بوجوهِ تَصريفِها وضَبطِها. ولما سمِع الملكُ ما يريدُ يوسفُ عليه السلام وما يطلُب، استجابَ طلبَه واستعملَه وولاهُ على خزائنِ الأرضِ في مِصر،  هذا وإنَّ يوسفَ عليه السلام بعدما مَكَّنَهُ الله في الأرضِ وفوضَه الملِكُ أمرَ مصرَ وخزائنَ الأرض كان يدعو أهلَ مصرَ إلى دينِ الإسلامِ وعبادةِ الله وحدَه وأن لا يُشرَك به شىء بالحكمةِ والرِفق، فآمن بهِ من ءامن من أهلِ مصر وأحبوه لما وجدوا في دعوتِه من خيرٍ وسعادة ولِما وجدوا فيه من تَلَطُّفٍ معهم في المعاملةِ وحسنِ الخلُق. ومرتِ الأعوامُ السبعُ الْمُخصِبةُ وأعدَّ يوسفُ عليه السلام عُدتَه فيها، واتَخَذَ الخزائن وخزَنَ الغلاتِ في غُلفِها، ثم جاءتِ السبعُ سنينَ الْمُجدِبَة واشتدَّ الجَدبُ والقحطُ في أنحاءِ الأرض، فأما أهلُ مِصرَ فصارَ يوسفُ عليه السلام يَبيعُهم من الطعامِ ما يَكفيهم، وأحسَّ أهلُ فلسطينَ في بلادِ الشامِ بالجوعِ والبلاءِ الذي عمَّ في كثيرٍ من البلادِ وعلِموا أنَّ الطعامَ بمصر، وذاعَ أمرُ نبيّ الله يوسفَ عليه السلام الموكلِ على خزائنِ الأرضِ في الآفاق، وانتشرَ عدلُه ورحمتُه ورأفتُه، فقالَ يعقوبُ عليه السلامُ لأولادِه: يا بَنِيّ إنَهُ قد بَلَغني أنَّ بمصرَ ملِكًا صالحًا فانطلقوا إليه وأقرئوهُ مني السلام وانتَسبوا إليه لعلَه يَعرِفُكم، فانطلقَ أولادُه ومعَهُم الجمالُ والحميرُ لحملِ الطعامِ ومعَهُم الثمنُ إلى مصر لشراءِ قوتِ أهلِهم، وقدِموا مِصرَ ودخلوا على يوسفَ عليه السلام فرءاهُم فعرَفَهم وهم لم يَعرفوه، لأنهم شاهدوا من لِباسِه وَزِيّه ما لم يعرِفوه في أخيهم من قبل، فجَهّزَ يوسفُ عليه السلام إخوتَهُ بِجَهازِهم واعطاهُم من الطعامِ ما جرت به عادتُه من إعطاءِ كلِ انسانٍ حِملَ بعير بعد أن أكرمَهم وأحسنَ ضِيافَتهم وأظهرَ لهمُ السماحةَ والكرم، قال لهم: ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم وكانَ قد سألَهم عن حالِهم وكم هم؟ وذلك أنه رأى اخوتَه جميعًا إلا شقيقَه بنيامين وهو أصغَرُ منه، فأخذَ عليه السلامُ في استِدراجِهم حتى علِمَ منهم حياتَه وأنه عندَ أبيهِ لم يسمَح بمُفارقتِه لشدةِ تعلّقِ قلبِه بمحبتِه فقالوا له: كنّا اثني عشرَ رجُلًا فذَهبَ منّا واحدٌ وبَقِيَ شقيقُه عندَ أبينا، فقالَ لهم عليهِ السلام: اذا قَدِمتُمُ العامَ المقبِل فأتوني بهِ معَكم وقد أحسنتُ نُزُلَكُم وضِيافَتَكم ثم رَغَبَهُم ليأتوهُ بهِ ثم رَهَبَهُم وأخبرَهم أنهم إن لم يأتوهُ به فلن يُعطِيَهُمُ الطعام، فأخبروه بأنهم سيطلُبونَه من أبيه ويَجهدونَ في طلبه.  وخَشِيَ عليه السلام ألا يكونَ عندَ إخوتِه البِضاعةُ التي يُبادلونَ بها الطعام لَمّا يرجِعونَ بهِ مرةً ثانية، فأمرَ فِتيانَه أن يَضعوا بِضاعَتَهُمُ التي جاءوا بها ليُبادِلوا بها الطعام وغيرَه في أمتعتِهم من حيثُ لا يشعرون لعلَهم يرجِعونَ إليه مرةً ثانية، وقد جعلَ يوسفُ عليه السلام ذلكَ ليكونَ وسيلةً ليعودَ إخوتُه إليه. وعادَ إخوةُ يوسفَ عليه السلام إلى أبيهم يعقوبَ عليه السلام وجِمالُهم مُحمّلةٌ بالطعام وقالوا له: يا أبانا إنّ عزيزَ مصَر قد أكرَمنا إكرامًا زائدًا وقال: ائتوني بأخيكمُ الصغير من أبيكم، فإن لم تأتوني به فلا كَيْلَ لكم عندي ولا تَقربوا بلادي، فأرسِل معنا أخانا بنيامين يكتَلْ لنفسِهِ كيْلَ بعيرٍ ءاخرَ زيادةً على كيْلِنا وإنّا لَحافِظون له من أن ينالَه مكروهٌ معنا في سفَرِهِ. ثم إنّ إخوةَ يوسفَ عليه السلام فتَحوا مَتاعَهم لاستِخراجِ الطعامِ الذي أتَوا بهِ من مِصر فوجَدوا بِضاعَتَهم أي فِضَتَهم التي كانوا دَفعوها ليوسفَ عليه السلام في مُقابِلِ ما أخذوهُ من الطعام بِحالِها لم تُمَس، فكان ذلك ممّا قوّى عزائِمَهم في الكلامِ معَ أبيهم فقالوا له: يا أبانا ما نَبغي! معناه أيَّ شيءٍ تُريدُ بعد هذا وهذه بِضاعتُنا رُدّت إلينا! فإذا سمحتَ بأخينا ليذهبَ معنا فإنّنا نَجلِبُ لأهلِنا طعامًا ونحفظُ أخانا ونزدادُ بسببِه على أحمالِنا من الطعام حِملَ بعيرٍ من الطعامِ يُكالُ لنا وهذا شيءٌ يسيرٌ عندَ الملِك الذي طلَبَ منّا أخانا. وكان نَبِيُ الله يعقوبُ عليه السلام شديدَ التَعلُّقِ بولدِه بِنيامين لأنه كان يَشُمُّ فيه رائحةَ أخيهِ يوسفَ عليه السلام ويتَسلّى به عنه، والظاهِرُ أنَّ القَحطَ والجَدبَ في بلادِ يَعقوبَ كان شديدًا وقاسيًا ممّا جَعلَ يَعقوبَ يَسمَحُ بسفرِ ابنِه بنيامين معَ إخوتِه إلى مِصر ولولا حاجتُه وحاجةُ قومِه إلى الميرةِ والطعامِ لما كان ليبعثَ ولدَه العزيزَ على قلبِه معَهم، وأخبرَهم أنّه لن يُرسِلَ أخاهم إلى عزيزِ مصرَ حتى يُعطوه ميثاقًا وعهدًا من الله أي حتى يَحلفوا بالله بأنهم يأتونَه بأخيهم إلا أن يُغلَبوا جميعُهم عنِ الإتيانِ به. ولَمّا أعطى أولادُ يعقوبَ عليه السلام أباهُم عهدَهم وميثاقَهم على الوفاءِ بما اشترَطه عليهم قال: الله على ما نقولُ وكيل أي شهيد، ثم بيّنَ لهم أنّه لا يستطيعُ أن يدفَعَ عنهم شيئًا مما قدَّرَه الله عليهم وشاءَه لهم، لأنّه لا رادَّ لما قضى ولا مانِع لما حَكَم، فمشيئةُ الله تعالى نافِذَةٌ في كلِ شيء، يفعلُ ما يريدُ ويَحكُم في خلقِهِ بِما يشاء. والله أعلمُ وأحكم.