درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي العشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق للأول من شهر تموز سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف رومية فِي سويسرة وهو فِي شرح حديث إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالـمِينَ لهُ النِّعْمَةُ ولهُ الْفَضلُ وله الثناءُ الحسن. أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلـٰه إِلَّا الله وحْدهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسُولهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ اللهَ تباركَ وتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيز الْقُرءان الْكَرِيم {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [سورة الطلاق: 1] وَرُوّينَا فِي «جَامِع التّرمذيّ» أنّ رَسُولَ الله r قَالَ: «إِنَّ الله فَرَضَ فَرائض فَلَا تُضَيّعُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ([i]) رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»([ii]).اهـ. أمُورُ الدين مَبْنيَّةٌ على شَيئين؛ أحدُهُما: أداءُ الفرائض والآخَرُ اجتنابُ المحرمات، فمن أَهْمَلَ هذا طَلَبَ الدّينَ بالعكس فضَلَّ وأهلكَ نَفْسَهُ، فليكن اعتناءُ المسلم بهذين الأمرين أكثَرَ وأقوى من اهتِمامِه بغيرِهما، لا يجعل المسلمُ النوافِلَ بمنزلة الفرائض ولا يَجْعَل المحرَّمات بمنزلة المكروهات فإنّ أُنَاسًا لا يهتمّون ولا يبالون إن فاتتهم فرائضُ أو ارتكبوا محرَّماتٍ إنما هَمُّهُمْ أن يتعلَّقوا بأشياءَ ليست من قَبيل الفرائض ولا من قَبيل اجتناب المنهيات المحرّمات، فهؤلاء يقضون أعمارهُمْ وهم فِي الغُرور، يقضون أعمَارهم وهم تائهون. والسَّبيلُ إلى ذلك، أي: إلى التّمسُك بالأمرين اللَّذَيْن هما أَهَمُّ أمور الدين أداء الفرائض واجتناب المحرّمات هو تلقّي العلم الشرعِيّ من أهل المعرفة ولو مشافهةً بالمجالسة من غير قراءةٍ ودراسةٍ فِي كتاب نَظَرًا. ليس الشّرطُ قراءةَ كتابٍ من كتب العلم الشرعي يُبَيّنُ ما فَرَضَ اللهُ وما حَرَّمَ الله، إنّما الأصلُ الذِي لا يُسْتَغْنَى عنه وعليه الْمُعَوَّلُ والاعتمادُ تَلَقِّي هذا الْعلْم مِنْ أهل المعرفة إن كانَ نَظَرًا فِي كتابٍ وإن كانَ بدون نَظَرٍ فِي كتاب. فقد وصفَ الله تبارك وتعالى أَصْحابَ نَبِيّه بأنّهم أُمِّيُّونَ، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [سورة الجمعة: 2] قالَ: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} معَ وصفه لهم بأنهم أميّونَ، أي: لا يقرؤونَ نَظَرًا، قالَ ووصفَ نَبِيَّهُ بأنّه أُمِّيّ أيْ لا يَعْرِفُ الْـخَطَّ وقراءةَ ما اخْتُطَّ ومَعَ ذلك كان الصَّدْرُ الأَوَّلُ وهم أصحابُ رسول الله r مِن بين أمّة محمدٍ r خَيْرَ القُرون، أيْ: أنَّهم أفضلُ ممّن يأتون بعدَهم إلى يوم القيامة، هو الرسولُ r قال: «خَيْرُ الْقُرُون قَرنِي ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»([iii]).اهـ. مَع أنّ الكتابةَ والخَطَّ، أيْ: تَعَلُّمَها كان فيمن بعدَ الصّحابة أكثرَ بكثيرٍ، نِسبةُ الذين يَقْرَؤُونَ المكتوبَ نَظَرًا فِي الصحابة أقلُّ بكثيرٍ من نِسْبَتِهِمْ فيْمن بعدَهم، لم يَمْنَعْهُمْ كونُهُمْ أمّيين من كونِهِم فقهاءَ فِي دين الله، لأنهم كانوا يُعَوّلُونَ على التّلقّي الشفَوِيّ، كانوا يعتمدون على التّلقي الشّفويّ الذِي هو الأصْلُ.
فالحاصِلُ: أن أهَمَّ الأمور فِي الدّين هو معرفةُ الواجبات التِي افترضَها الله على خَلْقِه، وتَعَلُّمُ المحرَّمات التِي افترضَ الله على عبادِه تَجَنُّبَهَا، هذا الأصْلُ، فمن حَصَّلَ هذا الأصْلَ إن كان بطريق النظر فِي كتابٍ على وجه التَّلَقِّي مِنْ أهل المعرفة وإن كان بطريق المشافهة، أي: التلَقِّي الشّفوي فقد حَصَلَ على المطلوب، وأمّا مَنْ فاتَهُ هذا فقد خَسِرَ خُسْرانًا كبيرًا، لأن الذي لا يتلقى الْعِلْمَ من أهل المعرفة الذين تَلَقَّوْا عمَّن قَبْلَهُمْ من أهل الْعلْم إلى أن ينتهِيَ التّسلسلُ إلى أصحاب رسول الله r الذين تَلَقَّوْا منه مشافهةً فإنَّه لا يكون على بَصِيْرةٍ فِي أمْر الدّين، وَلا يَكُونُ الْمَرْءُ فَقِيْهًا وَلَا عَالِمًا فِي الدّين إلا بِالتَّلَقِّي مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَة إن كَانَ عَنْ نَظَرٍ فِي كتابٍ ليستَفيدَ حَلَّ مَعَانِيَ هذا الكتاب من ذي مَعرِفةٍ وكفاءَةٍ وثِقةٍ، أو بمجرّد التّلقي الشّفوي من غير نَظَرٍ فِي كتابٍ من كتُب العِلْم الشّرعي، فقد ذَكَرْتُ لكم فيما مَضَى أكْثَرَ من مرّةٍ أنّ عَبْدَ الله بنَ عباس رَضِيَ اللهُ عنهما ابْنَ عم رسول الله r الذِي أخَذَ من الرّسول r من عِلْم الدّين ما كتبَ اللهُ لَهُ مشافهةً ولِمَا رأى فيه رسول الله r من النّجَابَة والإقْبال التّام على تعلُّم الدين التزمَهُ ودعا لَهُ بأن يعطيه الله فهم القرءان والحديث وكان من شدّة حِرْصِه على تعلُّم أمور الدين كان يَبيتُ فِي بيت رسول الله حينَ يكونُ رسولُ الله r فِي بَيْت ميمونَةَ التِي هِيَ زَوْجَةُ رسول الله وخَالَةُ عبد الله بْنِ عباس، مِنْ شدّة حِرْصِه كان يَبِيتُ لِيَعْلَمَ ما يَفْعَلُ الرسولُ r فِي الليل من أمور العِبادة وماذا يَسْمَعُ منه، هذا عبد الله بن عباس رضِيَ الله عنهما بعد أن تُوُفِّي الرسولُ r ما قالَ أنا يكفِيْني أنّي كنتُ حضرتُ للرسول مجالسَ كثيرة ولُغَتِي لُغَةُ القرءان التِي أُنْزلَ القرءانُ بها؛ بل كان يذهَبُ إلى هذا وإلى هذا من أصحاب رسول الله r الذين هم أكبرُ منه سنًّا وأكثرُ ملازمةً للرّسول r كَزَيْد بن ثابتٍ t مَعَ تواضُعٍ وإجْلالٍ وإعْظامٍ لمن يتلقَّى منهم.
ثَبَتَ بالإسناد الصحيح أنَّ عبدَ الله بنَ عباسٍ ذهبَ إلى بيت زيْد بن ثابتٍ رضي اللهُ عنهم فأخذ بِرِكَاب دابَّته احترامًا وإجْلالًا، ثم قابلَ هذا الإكرامَ زيدُ بنُ ثابتٍ بتقبيلِ يدِ عبد الله بن عباس، وهذا ثابتٌ بالإسناد الصحيح عند أهل الحديث أنّ عبدَ الله بْنَ عباسٍ أخذ بِرِكابِ دابَّة زيد وأن زَيْدًا قَبَّلَ يَدَ عَبْد الله بن عباس لأنّ كِلَيْهما من أهل الفضل، هذا من أهل الفضل وهذا من أهل الفضل، فإذا أكرَمَ هَذَا هذا بالأخذ برِكاب دابَّته، وأكرمَ هذا عبدَ الله بتقبيلِ يدِهِ فذلك يَرْجِعُ مَعْنًى إلى تعظيم الدّين، لأن هذا أي عَبْدَ الله بنَ عباس وإن كان أصغَرَ سِنًّا من زَيْدٍ لكنّه من أهل بيت رسول الله r لأنّه ابنُ العبّاس عَمّ الرسول r الذي كانَ الرسولُ يَرَى لهُ مِثْلَمَا يَرَى الوَلَدُ لوالدِه ولأنّه كانَ شديدَ الحِرْص على تلقّي علم الدّين، لَوْلَا حِرْصُهُ وقوّةُ هِمّتِهِ ما جَاءَ إلى بيت زيدٍ ووقفَ عند الباب انتِظارًا لخروجِه، فمِن هنا يُعْلَمُ أن تقبيل يِدِ أهل الفضل فِي الدين أمرٌ كان عليه الصحابةُ ومَنْ جاءَ بعدَهم إلى يومنا هذا، فمن أنكر هذا فإنّما إنكارُهُ إمّا عن جَهلٍ وإمّا عن مكابرةٍ لِخُبْثٍ فِي طَوِيَّتِهِ وليست هِيَ من ءاثار الوثنيّة والعياذُ بالله تعالى من الوثنيّة، فإن أناسًا يَزْعُمُونَ أنهم مُوَجّهُونَ دِينِيُّونَ دعاةٌ قادةٌ إلى الدين يزعمون أن هذا التقبيلَ من ءاثار الوثنية ويحتجُّونَ بحديثٍ اتّفقَ علماءُ الحديث على أنّه سَاقِطُ الإسناد لا يُحْتَجُّ به ولا يُعْمَلُ به وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ بيد رسول الله r لِيُقَبّلَها فَاجْتَذَبَهَا رسولُ الله r، هذا الحديثُ متّفَقٌ على أنه غيرُ ثابتٍ ولا يُعْمَلُ به لأنه خلافُ ما أجمعَ عليه الأُمّةُ سَلَفُهَا وخَلَفُهَا. وهؤلاء الذين ذَكرتُهُمْ الآن هم من الفريق الذي يعتمِدُ على المطالعات، أحدُهم يطالعُ منشوراتِ حِزْبِه ويَضُمُّ إلى ذلك مطالعةَ بعض كتُب السّيرة والتاريخ ويَظنُّ بنفسِه أنه صار فَاهِمًا بعلم الدين، وهيهاتَ هيهاتَ. أهلُ العلم ولا سِيَّمَا المحَدّثون لا يعترفون بمن يكتفِي بالمطالعة والنّظر فِي الكتب من غير تَلَقّ من أهل المعرفة. قالَ الحافظُ السِّلَفِي رحمه الله:
بَادِرْ إِلَى عِلم الْحَدِيث وَكَتْبِه |
| |
| وَاجْهَدْ عَلى تَصْحيحِه مِنْ كُتبه | |
وَاسْمَعْهُ مِنْ أَشْيَاخِه نَقْلًا كَمَا |
| |
| سِمَعُوهُ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ تَسْعَدْ بِهِ | |
وفِي كُتُب مصطلح الحديث أن الذِي يَشْتَغِلُ بالنّظر والمطالعة يُسمَّى صَحَفِيًّا لا يُسمَّى مُحَدّثًا، أي: ليس مُحَدّثًا ولا مُسْنِدًا فإيّاكم والميلَ إلى دأب هؤلاء الْكُسَالى الْمَغْرُورِينَ الْمُغْتَرينَ، يقتصِرون على مطالعة منشورات حزبِهِمْ ثم يزعمُونَ بأنفُسِهِمْ أنّهم صاروا أهلًا ليقودوا أمّةَ محمدٍ r، وما أكْثَرَ ما يأتينا من الْفِتَن من قِبَل هؤلاء.
لنرجع إلى ما يَتَعَلَّقُ بالحديث الذي رَويْنَاهُ وهو قولُهُ r: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيّعُوهَا»([iv]).اهـ. هذِه الفرائضُ تَشمَلُ الْفَرْضَ الْعَمَلِيَّ الذِي هو يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَن والْفَرْضَ الاعتقاديَّ الذِي هو مُتَعَلَّقٌ بالقلب، الذِي هُوَ من أعمال القلوب، وهو عِلْمُ ما يتَعَلَّقُ بمعرفة الله ورسولِه وما يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَادِ والْحَشْر والثّواب والعِقَاب فِي الآخرة والجنّة والنّار وما يَتَعَلَّقُ بأعْمال القلوب من إخلاص النيّة لله تعالى للخلاص مِنَ الرّياء والْعُجْب وَالْحَسَد وسوء الظّن بعباد الله تعالى وما يَتَعَلَّقُ بالأعمال البدنيّة كالصّلوات الخمْس وصيام رمضانَ والزّكاة والحج وما فِي معنى ذلك من الأعمال البدنيّة الأخرى، فإنّ كلَّ ذلك يجبُ معرفةُ حكمِه الشّرعي. وأمّا القسمُ الآخرُ وهو قسمُ المحرَّمات فمعرفتُهَا فَرضٌ على المكلَّف لأنه إذا لم يتعلّمْ ما هو الحَرامُ على الجوارح وعلى اللّسان والعين والسَّمْع والرّجْل والْفَرج والبطن، فإنَّه لا يَأْمَنُ على نفسِه من الوقوع فِي ذلك المحرم.
وأمَّا ما سوى ذلك مما يتعلَّقُ بفضائِل الأعمال والنّوافل فَمعرفتُهُ ليس فَرْضَ عَيْنٍ على المكلَّف إنّما يُكَلَّفُ بذلك على طريق فرض الكفاية الذي إذا قامَ به بعضُ المكلَّفين سَقَطَ الْحَرَجُ عن الباقين. ونوافِلُ الأعمال من العبادات والصّلوات التِي هِيَ رواتبُ الفرائض مَن فَعَلها وقامَ بها فلَهُ أجرٌ جزيلٌ يَزِيدُهُ زُلْفًا وقُرْبًا إلى الله ومن لم يأتِ بها، أي: لم يَفْعَلْها فليس عليه عقابٌ فِي الآخرة.
ثم من أرادَ أن يَبْدأَ فِي الصّلَاة وكانَ قبلَ ذلِكَ تاركًا للصّلاة لا يقومُ بهَا ولا يؤدّيْها كانَ مُهْمِلَهَا وتاركَهَا وكانَ من المكلَّفين، أيِ: البالغين العاقلين فيجبُ عليه الإسراعُ فِي الْبَدْء بالصّلاة من غير أن يَفُوتَهُ فرضٌ واحِدٌ، عليه تعلّم الضّروريات للصلاة فقط من غير أن يُضِيفَ إليها سُنَنَهَا، فإنّ مِن النّاس مَن يريدون أن يتعلّموا فرائضَ الصلاة فهَؤلاء يجبُ نُصْحُهُم، يقالُ لهم اقتصروا على تعلم الفرائض فِي الوقت الحاضر، على تعلم ضروريات الصلاة ثم تبدؤون وبعد ذلك تتعلمون سُنَنَ الصلاة. كذلك الأمْرُ فِي الوُضوء فيمن يَجْهلُهُ، وكذلك الأمْرُ فِي الْغُسْل بالنسبة لمن يَجْهَلُهُ، أي: يَجْهَلُ كيفيةَ الْغُسْل.
وهنا أَمْرٌ مهمّ معرفةُ معناهُ على الوَجه الصّواب فِي هذا الحديث وهو قولُهُ r: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهُ».اهـ. معنى هذه الجملة أنَّ ما لم يذْكُرهُ اللهُ فِي القرءان ولا على لسان نَبِيّهِ r ما لم يذكره الله فِي القرءان ولا أَوْحَى به إلى نَبِيّهِ لِيُبَلّغَ أمتَهُ فهو عَفْوٌ عفَا اللهُ عنهُ، أَي: أنّ اللهَ تباركَ وتعالى لم يَذكُرْ ذلك فِي كتابِه ولا أَوْحَى به إلى نَبِيّهِ ليبلّغَكُمْ رحمةً بكم غَيْرَ نِسْيَان؛ لأن النّسْيَانَ الذي هو الذُّهُولُ مستحيلٌ على الله تبارك وتعالى، ليس معنى الحديث أنّ اللهَ تعالى يتكلَّمُ ثم يسكُتُ يتكلَّمُ بذاتِه ثم يَسْكُتُ كما يحصُلُ للواحد من الخَلْق يَبْدَأُ بالكلام ثم يَقْطع ثم يفْتَتح ثم يَخْتَتِم ثم يَفتتح ثم يَخْتَتِم من وقتٍ إلى وقتٍ هذه عادةُ الخلق واللهُ تعالى لا يجوز عليه هذا، إنما كلامُ الله يُطْلَقُ على وجهين، الكلامُ الذاتيُّ الأزليُّ الأبديّ الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، والكلامُ، بمعنى: اللّفْظ الـمُنَزَّل على النبيّ r. هذا يقالُ له كلامُ الله وهذا يقالُ لَهُ كلامُ الله، لكنَّ الكلامَ الذّاتيّ الذِي هو صفةُ الله تعالى هو الكلامُ الذِي هو أزَلي أبدي لا يُبْتَدَأُ ثم يُخْتَتَمُ؛ بل هو موجودٌ أزلًا وأبدًا كما أنّ قُدرَتَهُ موجودةٌ أزلًا وأبدًا وعلمَه موجودٌ أزلًا وأبدًا، ذلك الكلامُ هُوَ الذي يقالُ له الكلامُ الذاتي الأزلي الأبدي فذلك يستحيلُ عليه أن يكونَ فيه تقطُّع، أي: ابتداءٌ ثم اختتام ثم ابتداءٌ ثم اختتام هذا مستحيلٌ على الكلام الذّاتيّ إنّما هذا من وصف اللّفظ المنزَّل على سيّدِنا محمد r، فإيّاكم أنْ يَظُنَّ أحدُكم من هذا الحديث أنّ الله يتكلَّم ثم يَسْكتُ كما هو صِفَةُ أحدِنا، هذا ليس من صفة الله، لا يجوزُ على الله. القرءانُ لَهُ أساليب والحديثُ كذلك فيه أساليب فمَن فَهِمَ هذه الأساليبَ انتفعَ بذلك ومَنْ جَهِلَهَا زَلَّ فِي الْخَطَر، فِي الْخَطَر العَظيم.
وسُبْحانَ الله والْحَمْدُ لِلَّهِ ربّ الْعَالَمِين.
والله تعالى أعلم.
([i]) قوله: (وسكت عن أشياء)، أيْ: لم يوحِ بحكم بعض الأشياء صراحة.
([ii]) رواه الحاكم فِي المستدرك والبيهقيّ فِي السنن الكبرى، باب: ما لم يذكر تحريمه ولا كان فِي معنى ما ذكر تحريمه مما يؤكل أو يشرب ورواه الدارقطنيّ فِي باب الخراج بالضمان.
([iii]) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: فضائل أصحاب النبيّ r
([iv]) رواه الحاكم فِي المستدرك والبيهقيّ فِي السنن الكبرى، باب: ما لم يذكر تحريمه ولا كان فِي معنى ما ذكر تحريمه مما يؤكل أو يشرب ورواه الدارقطنيّ، باب: الخراج بالضمان.