درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي بيروت فِي برج أبي حيدر قبل سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق لما قبل سنة خمسة وتسعين وتسعمائة وألف رومية فِي بيروت فِي برج أبي حيدر وهو فِي تفسير سورة العصر. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
أمَّا بعدُ: فقد كان من عادة أصحاب رسول الله إذا التقوا أن يقرأ بعضهم هذه السورة {وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر: 1 – 3]، وذلك لأن هذه السورة جامعة لما يكون به العبد ناجيًا مفلحًا فِي الآخرة.
أول خصلة ذكرت فيها هي خصلة الإيمان، الإيمان إذا أطلق يكون شاملًا للإيمان بالله ورسوله كما فِي هذه الآية أما إذا جُمع بين ذكر الله وذكر الرسول فيكون كل من اللفظين لمعنى خاص كقوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [سورة الصف: 11] فالإيمان بهما مُصَرَّحٌ به أما فِي سورة العصر فأُجملت العبارة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}. ثم ذكر الله تعالى الخصلة الثانية وهي عمل الصالحات، وعملُ الصالحات عبارة عن أداء ما افترض الله على عباده من الأعمال. ثم ذكر الخصلة الثالثة بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}، أي: نصح بعضهم بعضًا بالإرشاد إلى عمل الخير والبر، أي: لا يداهنون ولا يغش بعضهم بعضًا. ثم ذكر الخصلة الرابعة وهي ما فِي قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وذلك بمعنى التناهي عن المنكر وأن لا يداهن بعضهم بعضًا لأن المداهنة خلاف حال الصالحين. الله تبارك وتعالى أخبر فِي هذه الآية بأن الإنسان فِي خسر، أي: فِي هلاك إلا من جمع هذه الخصال المذكورة فِي هذه السورة الإيمان بالله، أي: ورسوله وعمل الصالحات والتواصِي بالحقّ؛ أي: يحث بعضهم بعضًا على عمل البر والتواصي بالانكفاف عما حرم الله تعالى؛ لأن الصبر إذا أطلق قد يكون شاملًا للصبر على الطاعات وللصبر عن المعاصي وللصبر على البلايا والشدائد والمشقات وهذا حال من اختارهم الله تعالى من المؤمنين بأن يكونوا من أحبابه وأصفيائه وأوليائه هذه حالتهم أما من ليس على هذه الحالة فلا يكون من أولئك.
أقل أحوال المسلم أن يكون مؤمنًا بالله ورسوله مجتنبًا للكفر هذا أقل أحوال المسلم أما الزيادة على ذلك بالعمل على الخصال المذكورة فِي هذه السورة فهذا شعار الصالحين المفلحين الناجين يوم القيامة من الخِزيِ والعذاب. والشرط فِي أن محبة الله تبارك وتعالى تثبت لمن يتناصحون فِي الله تعالى هو هذا، لا يكون الإنسان محبًّا لأخيه فِي الله تعالى إلا إذا عمل بهذه الآية يدله على الخير الذي يحبه الله من فعل الواجب وينهاه عما يكره الله تعالى من المحرمات هذه صفة المتحابين فِي الله الذين ورد فِي الحديث الصحيح الذي رواه البيهقي([i]) والحاكم([ii]) وابن حبان([iii]) وغيرهم «حَقَّتْ مَحَبَّتي للمتحابين فِيّ».اهـ. ثم أَتْبَعَ رسولُ الله r فِي هذا الحديث القدِسيِّ الذي يرويه عن ربه تعالى كلمات أخرى منها «وحَقَّتْ مَحَبَّتِي للمتناصحين فِيّ».اهـ. جعلنا الله مِن أهل ذلك اللَّهُمَّ حَقِّقْنَا بذلك اللَّهُمَّ حققنا بذلك اللَّهُمَّ حققنا بذلك.
عليكم بالعمل بهذه الآية وهذا الحديث لتكونوا من المفلحين الناجين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. انتَهَى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[i])) رَواه البيهقيّ فِي سننه الكبرى، باب: شهادة أهل العصبية.
[ii])) رَواهُ الحاكمُ فِي المستدرك، كتابُ البِرّ والصّلَة.
[iii])) رَواهُ ابنُ حبّانَ فِي صَحيحِه فِي ذِكْر إِيجَاب مَحبَّة الله لِلْمُتَناصِحينَ وَالْمُتَباذِلينَ فيه.