الأحد ديسمبر 22, 2024

من حُدَّ فِي معصية لم يعاقب عليها
في الآخرة وبيان بعض أحوال التوبة

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي بيروت فِي الحادي والعشرين من جمادى الثانية من سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق للخامس من شهر نيسان سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف رومية وهو فِي بيان بعض أحوال التوبة وسقوط العقوبة عن المعصية فِي الآخرة عمن حُدَّ فيها فِي الدنيا. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى ءاله وصحبه الطيّيبين وسلم.

أمَّا بعدُ: فقد روّينا بالإسناد المتّصل فِي صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري أنّ رسولَ الله r قالَ لأصحابه الذينَ منهم راوِي الحديث عُبَادَةُ بنُ الصَّامِت t: «بايِعُونِي على أن لا تُشْركوا بالله شيئًا ولا تَسرقوا ولا تَزنُوا ولا تَقتلُوا أولادكم ولا تَأتُوا بِبُهْتانٍ تَفترُونَه بينَ أيْديْكم وأرجُلِكُم ولا تعصونِي فِي معروف فمَن وَفَى منكُم فأَجْرُهُ عَلى الله ومَن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقِب فِي الدُّنيا فهو كَفَّارةٌ ومَن أصاب من ذلك شيئًا فسترَهُ اللهُ فأَمرُه إلى الله إن شاءَ عاقبه وإن شاءَ عفا عنه»([i]).اهـ. قال فبايَعْناهُ على ذلك، أي: على ما ذَكَرَ لَنا رسولُ الله وهو أنّهُ أخَذ علَيهمُ العَهدَ أن لا يُشركوا بالله شيئًا ولا يَسرِقوا ولا يَزنُوا ولا يَقْتُلوا النَّفْس التِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بالحقّ وذكَر أمْرًا ءاخرَ وهو ألّا يأتُوا بِبهتانٍ يَفْتَرونَه بينَ أيْديهم وأرجُلِهِم ثم قال الرَّسول r: «فمن وَفَى منكم بذلك»، أي: مَن تجنّب هذه الأشياءَ، أي: تجنَّب الإشراكَ بالله إلى ءاخِر ما ذُكِرَ فأجْرُه على الله، أي: أنّ له أجْرًا عظيمًا وأخبرَهم أنّ من ارتكبَ شيئًا من ذلك فعُوقِب فِي الدّنيا، أي: عاقبَه مَن لهُ وِلايةُ العِقاب وهو الخليفةُ أو مَن يَقومُ مَقامَه فذلك كفّارةٌ له، أي: لا يُعِيدُ اللهُ عليه عقُوبَةً لذلكَ فِي الآخِرة لأنّ هذه الحدودَ التي وضَعَها اللهُ فِي شرع الإسلام إذا أُقِيمَت على مستَحِقّيها طَهروا بذلك منَ الذّنب فلا يُعادُ عليهم فِي الآخرة عقُوبةٌ، الزّنى والسّرقة والقتل العُدْواني هؤلاء الثلاثةُ إذا علِمَ الإمام بذلك أنّ فلانًا ارتكب واحِدةً من هذه باعتراف الشّخص أو بشهادة الشّهود فأقامَ عليه الحدَّ فذلكَ طُهْرَةٌ له، أي: لا يُعذبُ فِي الآخرة، وأخبرَهم أنّ من لم يُقَم عليه حَدٌّ فِي الدّنيا فأمرُه إلى الله إن شاء الله تعالى عذّبَه على تلك الجرائم وإن شاءَ غفَر له هذا إن لم يتُب، العبدُ إذا ندِم على ما فعَل وأَقْلع عن ذلكَ الذّنب فهو فِي الآخرة كأنّه لم يعمَل ذلك الذّنبَ حتّى إنّه لا يجدُ ذلكَ فِي كتابِه الذي يأخذُه يومَ القيامة إنما يجدُ فِي كتابه الذُّنوبَ التي لم يتُب منها. الزّنى التّوبةُ منه أنْ يَندَم الرّجُل على ما فعَلَ، أي: يندَم الشخصُ على ما فعلَ ويُقلِع، أي: يَترُك وينوِي أن لا يعُودَ إليه مَنْ فَعَل هذا فِي الدّنيا ولم يُقَدّمْ نفسَه للحاكم ليُقَام علَيه الحدُّ حَدُّ الزّنى لا يؤاخذه الله تبارك وتعالى لأنّ التّائبَ منَ الذّنب كمَن لا ذَنْبَ لهُ. أمّا السَّرقة فالتّوبةُ منها أن يسترضِيَ صاحب المال أو يرده له أو بدله، إن كانَ لا يَستطيعُ أن يرُدَّ عينَ المال يَرُدُّ بَدَلَه ويَنْدَم ويَعْزم أن لا يعودَ، هذه التّوبةُ منَ السّرقة، وإن كانَ لا مالَ له يُمكّنه مِن رَدّ البَدَل لصاحِب السّرقة فينوِي أنّه متى استَطاع يَرُدُّ ذلك ما دام على هذه النيّة مع النّدم قد حصَلت لهُ التّوبةُ، ولا عقُوبةَ عليه فِي الآخِرة إن ماتَ قَبْل أن يتَمكّن مِن ردّ البدَل أمّا إن تَرَك استرضاء صاحب المال وردّ البدل له واقتصَر عَلى النَّدم والصّدَقات صَدَقات التّطوّع والإكثار منَ الصّلاة فإنّ هذا ليسَ توبَةً.

وأمَّا القَتْلُ العُدْوانِي فتَوبتُه أن يُقدّمَ نفْسَه لأولياء القتِيل يقُولُ لهم أنا قتَلت فلانًا فخُذوا مِنّي حقّكُم، إن شِئتُم اقتلُوني وإن شئتُم خُذوا الدّيَةَ وإن شِئتُم أن تسَامِحوني مجَّانًا، إذا قال لهم أنا قاتل فلان فخذوا مني حقكم إن شئتم القِصاص فالقصاص وإن شئتم الدية فالدية وإن شئتم أن تسامحوني مجانًا فافعلوا، فإذا عرَض عليهم هذه الخصالَ الثّلاث واتّفَق معهُم على إحْداها فهذا قد تابَ فإن قتَلُوه قِصَاصًا فقَد طَهرَ وإنْ صالَحُوه على الدّية فقَد طَهرَ وإن سامحوه مجَّانًا لا أخذوا منه دية ولا اقتصُّوا منه بالقتل كذلك طَهرَ لأنّه نَدِم وعزَم أنه لا يعودُ، أما بدون ذلك فلا يكونُ تائبًا. بعض الناس يكونون قتلوا قتيلًا أو أكثر من قتيل ثم لا يفعلون ما جاء فِي الشرع؛ بل يقولون نحن نكثر الصلاة والصدقات ونحج بيت الله الحرام نكون قد طَهرْنا هؤلاء ليسوا تائبين، وهذا الصنف كثير فِي الناس يكونون قتلوا ظلمًا وعدوانًا ثم يختفون عن أعين أهل القتيل زمانًا ثم يعملون حسنات كأن يحج أحدهم فهؤلاء بعدُ فاسقون عصاة إن ماتوا وهم على هذه الحال فحالتهم خطيرة يعذبون فِي القبر ويوم القيامة أشد من عذاب القبر يعذبون أشد العذاب بعد عذاب الكفر، أمّا مَن قتَل قتِيلًا أو أكثرَ مِنْ واحِدٍ ولا يَعرفُ أهَاليَهم حتّى يُسَلّم نفسَه إليهم للقِصاص أو يتصالح معهم بالدّية برضَاهم أو يَطلُب منهم العَفْو المجّاني فَتَّشَ ما عرف سبيلًا لمعرفة أهل القتيل فهذا توبتُه أن يَندَم ويَعزمَ أنّه لا يَعودُ للقَتْل العُدواني ويَعزمَ أنّه إن عرَف أهلَه يتخَالَص معهم على حُكم شَرع الله تعالى، فهذا ندمُهُ وإقلاعُهُ وعزمُهُ على ما ذُكر يكفيه للتوبة يكون تائبًا بحيث إذا أدركه الموت قبل أن يعرف أهل القتيل ليتخالص معهم ليس عليه شيء من العذاب فِي الآخرة لكنه بقِي شيءٌ ءاخر وهو أن يؤدّي الكفّارةَ إن استَطاع، القاتلُ قَتْلًا عُدْوانيًّا أو غيرَ عُدواني عليه كفّارةٌ وهذه الكفّارةُ إعتاقُ رقبَة، أي: يُحرّرُ عبدًا مملوكًا أو أمَةً مملوكةً فإن لم يستَطع صام شهرين على التَّوالِي، أي: مِن غير أن يُفطِر يوما حتّى يُكمِلَ الشّهرَين، هذا كفّارةُ القَتل. القتل العدواني والقتل الخطأ كلاهما تجب فيهما الكفارة فإن لم يفعل هذه الكفارةَ وهو مستطيع يستحق العذاب؛ لأن هذه الكفارة حق الله يَكونُ كالإنسان الذِي لم يدفَع الزّكاةَ وهوَ يستَطيع. هذه الأحكام أكثر الناس اليوم جاهلون بها لا يعرفون، الله يرحمنا الله يرحمنا ويتوب علينا ويغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات.

الذّنوبُ التي لا تعَلُّقَ لها بحقُوق ابن ءادَم أسهَلُ للانِفكاك منها، كالزّنى وشُرب الخمر وما أشبَه ذلك كأكل لحم الخنزير فمَن أكلَ لحم خنزيرٍ عمدًا توبتُه أن يندَم على ما فعل وينوي أن لا يعودَ يَعزم على عدم العود وينقطع عنه هذا توبته فإذا فَعَلَ ذلك صار كأنه لم يأكلْ قَطُّ لحمَ خِنزير، محا الله عنه، وهكذا الزّنى وشربُ الخمر كل هذه الذنوب التِي لا تعلق لها بحقوق ابن ءادم توبتها الندم والإقلاع والعزم على ترك العود هذا توبتها.

أما الذي يتعدى على امرأة يُكرِهُها بالضّرب والسّلاح ليزني بها فهذا لا يكفي النّدمُ لتَوبَته؛ بل يستَسمِحُها ويقول لها: سامحِيني منَ الأذى الذي ءاذَيتُك أمّا إن كانَ بطَواعيةٍ منها ليسَ عليه أن يستَسمحَها ولا أن يَستَسمِح زوجَها أو أهلَها.

هذه المسألة مسألة القتل العدواني يجب تبيينها للناس؛ لأن كثيرين وقعوا فيها وهم جاهلون لا يعرفون الأحكام فليبين لهم أنه يجب أن يُسلّم نفسه لأهل القتيل وأن عليه كفارةً أما أن يظل هاربًا فهذه ليست توبة لو حج عشر مرات أو عشرين مرة بعد ذلك لا يكون تائبًا لو لازم المساجد صار يتردد الليلَ والنهارَ إلى المساجد لا يصير تائبًا.

ثم من مات على الإسلام على موجب العقيدة لا إلـٰه إلا الله ما وقع فِي كفرية حفظ نفسه من الكفريات كلها لا بد أن يدخل الجنة يومًا من الدهر لو عُذب قبل ذلك ولو أصابه عذاب لا بد أن يدخل الجنة وقد يدخل بلا عذاب لو كانت له ذنوب لو كانت له ذنوب كثيرة وكان زَنى وسرق ومات قبل أن يتوب، الله تعالى يدخل من شاء منهم الجنةَ بلا عذاب.

حديث أبي ذر الذي فيه وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال: «وإن زَنَى وإن سرق»([ii]) ثلاث مرات صحيحٌ ثابتٌ، معنى الحديث: أنه إن مات مسلمًا لا بد أن يدخل إما قبل عذاب أو بعد عذاب لا بد أن يدخل الجنة. الزنى أكبر الذنوب بعد القتل الذي هو أكبر الذنوب بعد الكفر.

الزنى ذنبه أقوى من الربا. سئل رسول الله r أيُّ الذنب أشد يا رسول الله قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك»، أي: أن تعبد غير الله قيل ثم أي قال: «أن تقتل ولدك مخافة الفقر» العرب الجاهلية كانوا يقتلون الأولاد البنات يقتلونهن مخافة الفقر ومخافة العار بعضهم مخافة العار يقول هذه ربما إذا كبرت وعاشت تجلب لنا العار فيدفنونها حية وأحيانًا يقولون أنا من أين أتحمل نفقة هذه وتربيتها فيدفنونها حية. قيل: ثم أي قال: «أن تُزاني بحليلة جارك»([iii]).اهـ. أي: زوجة جارك الزنى بزوجة الجار أشد من الزنى بغيرها عشر مرات ذنبه مضاعف عشر مرات. انتهى.

وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين.

والله أعلم وأحكم.

[i])) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: وفود الأنصار إلى النبيّ بمكة وبيعة العقبة.

[ii])) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: الثياب البيض.

[iii])) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].