درس ألقاه المحدث الشيخ الفقيه الأصولِيّ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق للحادي عشر من شهر شباط سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف رومية فِي بيان أن العناية بما افترض الله على عباده خير من العناية بالنوافل ومن ذلك تعلّم علم الدين الضروريّ. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد له ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى ءاله وأصحابه الميامين وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعدُ: فقد روينا فِي «صحيح البخاريّ»، و«معجم الطبرانيّ الكبير» بالإسناد المتصل من حديث أبي هريرة عند البخاريّ([i]) ومن حديث حذيفة بن اليمان عند الطبرانيّ([ii]) أن نبيَّ الله قال: قال الله تعالى: «مَن عادّى لِي وَلِيًّا فقد ءاذَنْتُهُ بالحرب وما تَقَرَّب إلَيَّ عبدِي بشيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مما افْتَرَضْتُ عليه».اهـ. هذا الحديث دليل على أن العناية بما افترض الله على عباده خير من العناية بالنوافل التي لم يفترضها عليهم فإهمال جانب الفرائض والانشغال بالنوافل من علامات الغرور لذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله فِي شرحه على البخاريّ قال بعض الأكابر من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.اهـ. من علامة المخلص أن يكون اهتمامه بما فرض الله عليه واعتناؤه بذلك فوق اعتنائه بالنوافل، ومما فرض الله على عباده تعلم العلم الديني الضروري، هذا الذي فرضه الله على كل بالغ عاقل، كلُّ من بلغ وكان بصفة العقل فهو مسؤول يوم القيامة عن تعلم علم الدين الضروري؛ لأن علم الدين قسمان؛ قسم: يجب على كل مكلف، أي: بالغ عاقل تعلمُهُ فمن لم يتعلمه فهو عاصٍ فاسقٌ والقسم الآخر: من علم الدين فهو فرض كفاية وهو القدر الزائد على ما يجب على كل مكلف الذي لا يسع مكلفًا جهله، أي: لا يجوز لأيِّ مكلف جهله وما زاد على ذلك من علم الدين فهو فرض كفاية، أيْ: أنه يجب على بعض المسلمين. وهذا القدرُ الذي هو فرضٌ على بعض المسلمين لا على جميع المكلفين هو العلم الذي يزيد على حاجات الشخص وهو القدرُ الذي يحتاج إليه للحادثات التي تحدث للناس هذا القدر إذا عَلِمَهُ بعضُ المسلمين سقط الحرج عن الآخرين، فيلزم بيان القسم الأول حتى يُعرف وهو ما يتعلق بمعرفة الله ورسوله وما يتعلق بالصلاة والصيام وما يتعلق بالقلوب من سائر أصول الدين أما أصول الدين على مرتبتين؛ المرتبة الأولى: ما لا يصح الإسلام والإيمان بدونه وهو معرفة الله ورسوله وهو المدخل إلى الإسلام والإيمان، بدونهما لا دخول فِي الإيمان والإسلام بدون معرفة الله ورسوله لا يكون المرء مسلمًا ولا مؤمنًا عند الله فلا يَكفِي لذلك مجرد الاعتراف بوجود الله وبوجود رسوله r لا يَكفِي ذلك؛ بل لا بد من المعرفة الكافية وهي بالنسبة للإيمان بالله اعتقادُ أن الله موجود وأنه لا يستحق أحدٌ أن يُعْبَدَ، أيْ: أن يُتذلل له نهاية التذلل إلا هو ويستلزم ترك تشبيهه؛ أي: لا تصح معرفة الله إلا بترك تشبيهه بشيءٍ من خلقه فمن يعتقد أنه تبارك وتعالى كشيء من خلقه فلم يعرفه ولم يؤمن به إنما عرف الله وءامن به مَن لم يشبّهه بشيْءٍ من خلقه لم يشبّهه بالنور الذي هو الضوء ولم يشبّهه بالظلام الذي هو خلق من خلقِه، فإن النور والظلام قَرَنهُما ربنا تبارك وتعالى فِي ءاية واحدة ليُفهِمنا أن النور مخلوق والظلمة مخلوقة فليس النور مشابهًا لله تعالى كما أن الظلمة ليست مشابهة له، الله تعالى قرن النور والظلمات فقال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [سورة الأنعام: 1]، أي: خلق الظلمات وخلق النور هذا لنبتعد من اعتقاد أن الله نور، أي: ضوء فمن اعتقد الله ضوءًا لو قال هذا الضوء أعظم من نور الشمس بمرات من الملايين فهو جاهل بالله غير عارف بربه فهو غير مؤمن. وكذلك لا تصح معرفةُ الله والإيمان به مع تشبيهه للإنسان فمن يعتقد أن الله كالإنسان له أجزاء نصف أعلى ونصف أسفل فهو جاهل بربه لا يصح له إسلام وأما ذِكر الوجه مضافًا إلى الله فِي بعض ءايات القرءان وذِكر العين وذكر اليد فليس على معنى الجوارح؛ بل فِي بعض المواضع فِي القرءان أضيف الوجه إلى الله بمعنى ذات الله ليس بمعنَى هذا الجزء الذي نعرفه من أنفسنا وكذلك العينُ أضيفت إلى الله فِي القرءان الكريم لا بمعنى هذه الجارحة التي نعرفها من أنفسنا؛ بل بمعنًى غير ذلك وكذلك اليد أطلقت فِي القرءان على الله لا بمعنى هذا الجزء الذي نعرفه من أنفسنا فقول الله تبارك وتعالى: {يَدُ اللَّهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح: 10] الله تبارك وتعالى ما أراد باليد التي أضافها إلى نفسه هذا الجزء الذي هو جسم إنما أراد على ما قال بعض العلماء عَهْدُ الله فوق أيديهم فالمعنى المأخوذ من الآية {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، المعنى: أن هؤلاء المؤمنين الذين يبايعونك يا أشرف الخلق يا محمد إنما يبايعون الله {يَدُ اللَّهِ}، أي: عهدُ الله فوق أيديهم هؤلاء بايعوا النبيّ r تحت شجرة الرضوان فِي الحديبية على أن لا يَفِرّوا هؤلاء مبايعتهم، أيْ: وضع أيديهم فِي يد النبيّ r للمعاهدة لِنَبِيِّهِ على ما يُرْضِي الله تبارك وتعالى وهو الثباتُ مع النبيّ r هذه المعاهدة التي يعاهدونها النبيّ r هي معاهدة لله تعالى لأن الله تعالى هو الذي أمر نبيّه بهذه المبايعة فالمؤمنون حين يبايعون نبيّهم إنما يُعْطُون العهد لله تعالى إنما يعطون العهد لربهم؛ لأن طاعة نبيّه طاعة له طاعة رسول الله r طاعة له، فالله تبارك وتعالى لا تصح معرفته مع تشبيهِهِ بشيء من خلقه لا تصح معرفته مع اعتقاد أنه نور، بمعنى: الضوء ولا مع اعتقاد أن له نصفًا أعلى ونصفًا أسفل فما أشنع كفرَ مَن يَدَّعِي الإسلام ويقول: إن الله يُدَنْدِلُ رأسه من السماء يومَ الجمعة يقول: عبادِي تعالَوا إلى الجامع.اهـ. فلعنة الله على من يدجّل بمثله ذا الكلام ويجلس ببيت من بيوت الله ويقول هذا للناس ليعتقدوا كما هو يعتقد أن الله جسم له نصف أعلى ونصف أسفل، ما أكفره، وكذلك لا تصح معرفة الله مع تشبيه علمه بعلم غيره أو مشيئته بمشيئة غيره أو قدرته بقدرة غيره وذلك لأن عِلم الله وقدرتَهُ ومشيئتَهُ وجميعَ صفاته التي هي ثابتة له ليست كصفات غيره صفاتُ الله تبارك وتعالى قدرته وعلمه ومشيئته وغيرُ ذلك أزلية أبدية، أي: لا بداية ولا نهاية لها موجودة فِي الأزل كما أن ذات الله موجود فِي الأزل بلا ابتداء فلا تنقطع صفة من صفاته فعِلْمُهُ كما هو أزليٌّ أبديٌّ باقٍ كذلك قدرته أزلية أبدية باقية وكذلك مشيئته أزلية أبدية باقية لا يطرأ على علمه تغيّر كذلك لا يطرأ على مشيئته تغير كذلك لا يطرأ على قدرته تغير؛ لأن الذي تتغير صفاته لا بد أن يتغير ذاته والمتغير يحتاج إلى مُغَيّر له والمحتاج إلى غيره لا يجوز عقلًا أن يكون إلـٰهَ الخلقِ صانعَ الخلق مدبرَهُ خالقَهُ، لا يجوز فِي العقل أن يكون خالق العالم متغيرًا لأن المتغير يحتاج إلى مغيّرٍ له لذلك استدل إبراهيم u على أنّ الله تبارك وتعالى ليس هذه الكواكبَ التي يعبدها قومه ولا القمر ولا الشمس لتغير الشمس والقمر والكوكب قال: {لا أُحِبُّ الآفِلينَ} [سورة الأنعام: 76]، معناه: الشيءُ الذي يتغير لا يصلح أن يكون إلهًا مدبرًا للعالم كما كان قومه يعتقدون؛ لأن قومه كانوا على هذا الدين على هذا الاعتقاد أن الكواكب والشمس والقمر هي تدبر العالـمَ السُّفْلِي، أي: الأرض وما فيها كانوا ينسبون تدبير الأرض وما فيها إلى الشمس والقمر والكواكب فإبراهيم u كان عالـمًا بالله تبارك وتعالى وأنه لا يشبه شيئًا لكن قومه كانوا فِي جهل عميق كانوا يعتقدون أن الشمس والقمر والكواكب هي ءالهتهم التي تدبِّر الأرض وما فيها وما عليها فدلهم على غباوتهم حيث أعلمهم أنهم يعبدون هذه الأشياء التي تتغير والشيءُ الذي يتغير لا يصح أن يُعْبَدَ لا يصلح لأن يعبد لا يجوز فِي العقل أن يعبد. قوله: {لا أُحِبُّ الآفِلينَ}، معناه: كيف يجوز عبادة الشيء الذي يتغير، معناه: اتركوا هذا الرأيَ الذي أنتم عليه واعبدوا الموجود الأزليّ الأبديّ الذي لا يتغير لكنهم من فساد قلوبهم لم يفهموا؛ لأنّه طُبعَ الكفر على قلوبهم كانت قلوبهم بعيدة عن الفهم عن فهم الحق كانت بعيدة وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكان يعلم قبل ذلك قبل هذا الوقت أن الله تعالى موجود وأنه لا يشبه شيئًا وأنه هو خالق الكوكب والقمر والشمس؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [سورة الأنبياء: 51]، معناه: إبراهيم كان قبل ذلك، أي: قبل هذه المخاطبة لقومه كان إبراهيم عارفًا بربه مؤمنًا به، فمعنى معرفة الله التي لا يصح الإسلام بدونها: اعتقادُ وجوده من غير تشبيه له بشيء من خلقه.
أما معرفة الرسول r فمعناها: اعتقاد أن محمدًا r صادق فِي ما جاء به فِي كل ما يبلغه عن الله لا يخطئ فِي ذلك لا فِي حال غضب ولا فِي حال فرح لا يخطئ فِي ذلك فِي حال غضب ولا فِي حال رضا؛ لأن الله تبارك وتعالى عصمه من الخطأ فِي ذلك كيف لا يحفظه وهو الذي أرسله ليدعو عباده إلى الحق.
وأما أصول الدين التي ليست شرطًا استحضارُها فِي القلب لصحة الإسلام والإيمان فهي ما بعد ذلك كالإيمان بالملائكة والكتب السماوية والقدر خيره وشره، معرفةُ هذه الأشياء من أصول الدين لكنها ليست شرطًا لصحة الإسلام والإيمان فلو لم يستحضر الشخص فِي قلبه معرفة الكتب السماوية والملائكة والقَدَر لو لم يستحضر فِي قلبه ذلك كان خالِيَ الذهن عن ذلك ما خطر له بالبال هذه الأشياء ما خطرت له بالبال إنما استحضر أن الله موجود وأنه لا يستحق أحدٌ أن يُعبد إلا هو وأن محمدًا نبيه صادقٌ فِي كل ما جاء به هذا استحضاره شرط لصحة الإسلام والإيمان.
الحاصلُ: أن علم الدين قسمان قسم يجب معرفته على كل بالغ عاقل وهو ما يتعلق بمعرفة الله ورسوله وسائر أصول الدين وما يتعلق بالصلاة، أي: الصلوات الخمس وصيام رمضان هذا فرض عين لا يستغنِي أحد من المكلفين عنه، كذلك معرفة أعمال القلوب؛ لأنّ القلب له أعمال منها ما هي عبادات تقرب إلى الله ومنها ما هي معاصٍ تبعد من الله. والإخلاص فِي العمل من واجبات القلب، أي: مما افترضه الله على الخلق أن يخلص العبد فِي قلبه فِي ما يعمله لله، أي: لا ينوِي فِي العمل الذي يعمله بقلبه من أعمال البر والخير من صلاة وقراءة قرءان وحج وغير ذلك أن يمدحه الناسُ فالإخلاص من واجبات القلب؛ أي: من الأعمال المفروضة التي فرضها الله على القلب وأما ما حرَّمه الله على القلب فمنه الرياء، أي: أن يقصد الإنسان بعمله الذي يعمله من أعمال الخير أن يمدحه الناس فمن قصد بعمل من أعمال الخير أن يمدحه الناس فقد عصى الله تبارك وتعالى ولا ثواب له فِي ذلك العمل الذي نوى به أن يمدحَه الناس.
ومن معاصي القلب الحسد وهو أن يتمنَّى زوال نعمة الغير، أي: أن تتحول نعمة الغير إليه هذا هو الحسد وهو من جملة معاصي القلب.
ثم مِنَ الذي هو فرض معرفته على كل مكلف المعاصي التي تتعلق بالعين واللسان والأذن واليد والرجل والبطن ونحو ذلك، ومن هنا فرض على كل مكلف أن يعرف المال الحلال من المال الحرام؛ لأن الإنسان قد يصل إليه مال حلال ومال حرام، فإذا لم يعرف ما هو المال الحلال فِي الشرع وما هو المال الحرام فِي شرع الله يقع فِي الحرام باستعمال المال الحرام هذا هو العلم الضروريّ الذي لا يجوز لأحد من البالغين العاقلين الجهلُ به وهذا الذي لم يتعلمه يكون مؤاخذًا فِي الآخرة معاقبًا لأن السؤال فِي الآخرة يوم القيامة كما فِي «جامع الترمذي» وغيره من كتب الحديث بالإسناد الصحيح عن نبيّ الله r أنه «لا تزول قَدَمَا عبد حتى يسأل عن أربعٍ عن عمره فِيمَ أفناه، وعن جسمه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه»([iii]).اهـ. المال فيه مسؤولية كبيرة فِي الآخرة من أين أخذتَ هذا المال من حلال أم من حرام وكيف صرفتَ هذا المال فِي حلال أم فِي حرام فحسبنا الله ونعم الوكيل، فحسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا. انتَهَى.
وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين.
[i])) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: التواضع.
[ii])) ذكر ابن حجر فِي الفتح أن الطبرانيّ رواه مختصرًا عن حذيفة.
[iii])) رواه الترمذيّ فِي سننه، باب: فِي القيامة.