الإثنين ديسمبر 23, 2024

العبادة فِي الـهَرْج ثوابها عظيم

درس ألقاه المحدثُ الصوفِي الشيخُ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى فِي الحادِي عشر من شهر المحرّم سنة أربع وأربعمائة وألف من الهجرة الموافق للثامن عشر من شهر تشرين الأول سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف رومية فِي مجلس للنساء وهو فِي شرح حديث العبادةُ فِي الـهَرْج كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله ربّ العالمين له النّعْمَةُ وله الفضل وله الثناء الحسن صلواتُ الله البَرّ الرحيم والملائكة الـمُقرَّبين على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمدٍ شفيع يوم الدّين.

هذا الحديث أوصيكُنَّ به أن تَحْفَظَهُ كُلُّ واحدةٍ منكن. قال r: «ليس الشديدُ مَن غَلَبَ الناسَ لكن الشديد مَن غَلَبَ نَفْسَهُ»([i]).اهـ. فعلينا أن نَكْسِرَ شياطِينَنَا لأنَّ الشيطانَ يَحُثُّ الإنسانَ على أن يكون هو الغالبَ إذا خاصَمَ أو شاجر إنسانًا يقول له كن أنت الغالبَ لا تكن أنت المغلوب، فالخيرُ للإنسان أن يخالفَ شيطانَهُ وهَوَى نفسِه، ومَن خالف شيطانَهُ وخالف هَوَى نفسِه فقد أفلح عند الله تبارك وتعالى. هؤلاء الأولياءُ ما صاروا أولياءَ إلا بمخالفة النفس. كان أحدُ الأولياء واقفًا بين السماء والأرض مُتَرَبّعًا فقال له شخص: أسألك بحقّ الحَقّ بِمَ نِلْتَ هذا الـمَقامَ قال بمخالفة الهوى.اهـ.

الذي يخالف الهوى يطيع اللهَ تبارك وتعالى فيؤدّي ما افترض الله عليه فِي جميع الحالات فِي حال الرضا وفِي حال العُسْر وفِي حال اليُسْر فيقومُ بطاعة الله تعالى كالصلوات الخمس، فإنَّ العبد التقِيَّ يُقِيمُها إن كان فِي حال اليُسْر وإن كان فِي حال العُسْر. الرسولُ r قال: «العبادةُ فِي الـهَرْج كهِجْرَةٍ إِلَيَّ»([ii]).اهـ. معنى الحديث: أنَّ الذِي يطيع الله تبارك وتعالى ولا يعصيه يُؤَدّي فرائضَ الله ولا يعصيه بترك فريضة ولا باقتراف معصيةٍ يطيع اللهَ يؤدّي ما فرض عليه ويجتنبُ ما حرَّم عليه فِي حال الـهَرْجِ، أي: القتلِ الكثيرِ، لما يكثرُ القتل كثيرٌ من الناس يُضَيّعُونَ الفرائضَ وكثيرٌ من الناس يَلْجَأُون إلى ارتكاب معاصٍ حرَّمَها الله تعالى، فالرسولُ r يقولُ الذِي يَثْبُتُ على عبادة الله تعالى، أي: على تَقْوَى الله، أي: يؤدّي فرائضَ الله من صلاة وغيرِ ذلك ويجتنب ما حرَّمَ الله فِي أيام الـهَرْج، أي: فِي الأيام التِي يكثُر فيها القتلُ والخوفُ والفَزَعُ والقَلَقُ هو كالمهاجرِ إليَّ، أي: كأنه تَرَكَ بلدَهُ لوجه الله تعالى لما كانت الهجرةُ إلى النبيّ فرضًا لما كان على المسلمين فرضًا أن يتركوا بلادهم ويهاجروا إلى رسول الله المدينة، وذلك أنه بعد أن هاجر الرسول إلى المدينة فَرَضَ الله تعالى على مَن استطاعَ مِن المسلمين مَن كان منهم بمكة أو غير ذلك أن يترك بلده ويَنْزَوِيَ إلى المدينة، لماذا لأنَّ فِي ذلك مُؤَازَرَةً للنبيّ r على تبليغ دعوة ربّه وتأييدًا.

قال الرسولُ u الذِي يَلْتَزِمُ العبادةَ، أي: تَقْوَى الله تعالى فِي أيام الـهَرْج، أي: فِي الأيامِ التِي يَكْثُرُ فيها القتلُ والقَلَقُ والفَزَعُ والخوفُ كأنه مُهاجِرٌ إلَيَّ، أي: كأنه تَرَك بَلَدَهُ لله حُبًّا بالله ورسوله. هذا عند الله أجرُهُ عظيمٌ عظيمٌ عظيمٌ حتى إنَّ رجلًا من هؤلاء الذين تركوا بلادَهم حين كانت الهجرة فرضًا وانزوَوا إلى المدينة مَرِضَ مرضًا شديدًا فجَزع من شدة الألم وقَلِقَ فأخذ حديدةً فقطَعَ برَاجِمَهُ([iii]) فصار الدمُ ينْزِف ينزف ينزف وليس هناك طبيب يتداركه، فمات هذا الرجل، قتَلَ نَفْسَهُ، وقَتْلُ النفس أعظمُ الذنوب بعد الكفر، بعد الكفر بالله تعالى أعظمُ الذنوب قتلُ النفس. إنْ قَتَلَ الشخص نفسه أو نفسَ غيرِه ممن حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهُ هذا ارتكب أعظمَ الذنوب بعد الكفر، ثم رءاه صديقُهُ رفيقُهُ الذِي كان جاء مِن بلده فِي المنام على هيئةٍ حسنةٍ فقال له ما فَعَلَ بك رَبُّكَ قال غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي على نَبِيّه، أي: بسبب أنّي هاجرتُ تركتُ بلدِي بلدَ الكفر بلدَ الشرك وجئتُ المدينة، الله تعالى ما عاقبنِي بجريمة قتل النفس، بجريمة الانتحار؛ بل سامحنِي، ثم رفيقُهُ هذا ذهب إلى النبيّ r فأخبره بقصته فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْه فاغْفِرْ»([iv]).اهـ. وذلك لأن رفيقَهُ هذا كان رَءَاهُ مُغَطّيًا يَدَيْه ما أراد أَنْ يَرَى صاحبُهُ يدَيْه محلَّ الجرح الذِي جَرَحَهُ هو فقال لهم: وما لِيَدَيْك، قال: قيل لِي إنَّا لا نُصْلِحُ منك ما أفسدتَ، أي: الملائكةُ قالوا لي: إنَّا لا نُصْلِحُ منك ما أفسدتَ.

هذا فضلُ الهجرة إلى المدينة لَمَّا كانت الهجرةُ فرضًا على المؤمنين، ثم ارتفعَ الوجوبُ وجوبُ الهجرة ارتفعَ لـمَّا فَتَحَ الرسولُ r مكةَ وصارت مكةُ فِي يده تحت تصرفه وأولئك المشركون الذين كانوا يتصرفون فيها ويُؤْذُونَ المؤمنين الذين ءَاذَوُا الرسولَ والمؤمنين انكسروا، انتصر رسولُ الله r عليهم فصارت مكةُ فِي يده، بعد ذلك مَن شاء يهاجر إلى المدينة ومَن لم يشأ لم يهاجر يبقى فِي بلده أما قبل ذلك فكان فرضًا على من استطاع أن يَتْرُكَ بلدَهُ وأهلَهُ إن لم يذهبوا معه ومالَهُ ويلتحق بالمدينة فلما فُتِحَتْ مكة صارت الهجرةُ سُنَّةً ليست فرضًا إن شاء هاجر إلى المدينة وإن شاء بَقِيَ فِي أرضه.

هذا فضلُ الهِجْرَة. وهذه الخصلةُ وهِيَ التزامُ العبادة، أي: طاعة الله تعالى بعدم تضييع الفرض وارتكابِ المعصية من أجل القَلاقِلِ والقتل والخوف الرسولُ عليه الصلاة والسلام قال: «العبادةُ فِي الـهَرْج كهجرة إلَيَّ»([v]).اهـ. احْذَرْنَ، كثيرٌ مِن الناس يتركون الفرائض فِي أيام القلق وكثرة القتل والضرر والتخريب يضَيّعُونَ الفرائضَ فلا تَكُنَّ مثلَهم فإنه لا يكون إلا ما شاء الله تعالى لا يموتُ أحدٌ إلا بِأَجْلِه ولا يُصابُ أحدٌ إلا بتقدير الله أحيانًا يُصابُ بسبب قصف المدفعية الذِي فِي الـمَلْجأ ويَسْلَمُ الذِي فِي البيت، هذا على أيّ شيءٍ يَدُلُّ، يَدُلُّ على أنه لا أحدَ يُصابُ بمصيبةٍ إلا على حَسَب مشيئة الله الأزلية، مَن كان اللهُ كَتَبَ أنه يُصابُ بمصيبةٍ بقَتْلٍ أو بما دون ذلك يُصابُ مهما حاولَ أنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ أو يُنجِيَ نفسَهُ يُصابُ ولا بُدَّ. انتَهَى.

والله تعالى أعلم.

([i]) رواه ابن حبّان فِي صحيحه، باب: ذِكْر الإخبَار بأنَّ الشَّدِيدَ الذِي غَلَبَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَات والوَسَاوِس لا مَنْ غَلَبَ النَّاسَ بِلسَانِه.

([ii]) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: فضل العبادة فِي الهرج.

([iii]) البراجم جمع البُرجمة بالضم وهي رؤوس السلاميات من ظهر الكف إذا قبض كفه نشزت وارتفعت. مختار الصحاح.

([iv]) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر.

([v]) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: فضل العبادة فِي الهرج.