شيء من صفاته وسيرته عليه السلام
كان يحيى عليه السلام حسن الصوت حسن الوجه مثل جميع الأنبياء والمرسلين، وكان عليه السلام قويًا في طاعة الله منذ صباه وقد نشأ نشأة صلاح وتقى وطهر ونقاء كسائر الأنبياء، فقد كان بعيدًا عن مظاهر الترف والنعيم، وكان في شبابه يأوي إلى القِفار والبراري ويكتفي بما يسهله الله له من الرزق، وكان طعامه العشب، وكان عليه السلام كثير العبادة والتضرع والبكاء من خشية الله تعالى، وكان كثير العزلة عن الناس، يرد ماء الأنهار وكان عيسى ابن مريم يلبس الصوف ويحيى يلبس الوبر ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ولا عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان إليه، فأين ما جَنّ عليهما الليل أويا، فإذا أرادا الافتراق أوصى بعضهما بعضًا بطاعة الله تبارك وتعالى.
ءاتى الله تبارك وتعالى يحيى عليه السلام الحكم والنبوة والعلم صبيًا وعلمه الله عز وجل الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها فيما بينهم وقد كان سنه إذ ذاك صغيرًا، يقول الله تعالى: {يا يحيى خُذِ الكِتابَ بقوَّةٍ وءاتَيناهُ الحُكمَ صبيًّا} [سورة مريم/١٢] قيل أي تعلم التوراة بجد وحرص واجتهاد {وءاتَيْناهُ الحُكمَ صبيًّا} [سورة مريم/١٢] قيل: الفهم والعلم والنبوة وهو صغير حَدَثٌ، فقد قيل: إن الصبيان الذين كانوا في سن يحيى عليه السلام يقولون ليحيى عليه السلام: اذهب بنا نلعب فكان يقول لهم: ما للعب خُلقنا، وقال الله تعالى في وصف يحيى عليه السلام: {وحَنانًا مِنْ لدُنَّا وزكاةً وكانَ تَقِيًّا} [سورة مريم/١٣] قيل: أي جعلناه ذا حنان أي ذا رحمة وزكاة، فقد كانت صفة الحنان والرحمة من صفات نبي الله يحيى عليه السلام لتحننه عليه السلام على الناس ولا سيما على أبويه والشفقة عليهما وبره بهما، يقول تعالى أيضًا في وصف نبيه يحيى: {وبرًّا بوالِدَيْهِ ولمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا}[سورة مريم/١٤] فقد كان عليه الصلاة والسلام متواضعًا تقيًا بعيدًا عن المحرمات والشهوات ولم يكن جبارًا عصيًا.
فائدة: في قوله تعالى في حق يحيى عليه السلام: {مُصَدِّقًا بِكلمةٍ مِنَ اللهِ وسيِّدًا وحصُورًا ونبيًّا مِنَ الصالحين} [سورة ءال عمران/٣٩].
اعلم رحمك الله بتوفيقه أن معنى قوله تعالى في حق يحيى بن زكريا عليهما السلام: {مُصدِّقًا بكلمةٍ من الله} أي مصدقًا بعيسى ابن مريم عليه السلام لأن يحيى عليه الصلاة والسلام هو أول من صدق بعيسى ابن مريم عليه السلام في زمانه لأنه كان معاصرًا له وكان ابن خالته، وأما قوله تعالى: {وسيِّدًا} فمعناه إنه الحليم التقي، وقيل: هو الشريف، وأما قوله تعالى في وصف يحيى عليه السلام: {وحَصُورًا} فقد قال الفقيه المالكي “القاضي عياض” في كتابه الشفا: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان “حصورًا” ليس كما قاله بعضهم: إنه كان هَيوبًا، أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذّاق المفسرين ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه لا يأتي الذنوب كأنه محصور عنها، وقيل: مانعًا نفسه من الشهوات. والقول الصحيح أن معنى: “وحصورًا” أنه كان لا يأتي النساء ليس عجزًا بل ترك ذلك عن اختيار منه ولو أراد لاستطاع.
فائدة: في قوله تعالى في حق يحيى عليه السلام: {وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعَثُ حيًّا}[سورة مريم/١٥] فقد قيل: إن أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فهذه الأوقات الثلاثة هي أستر ما تكون على الإنسان فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم ءاخر فيفقد الأول بعدما كان ألفه وعرفه، ويصير إلى الآخر ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهلُّ الطفل صارخًا إذا خرج من بين الأحشاء وفارق لينها، وينتقل إلى هذه الدنيا ليكابد همومها وغمها، وإذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ وصار بعد الدور والعيشة التي ألفها في هذه الدار إلى عرْصة الأموات سكان القبور وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور فمنهم مسرور ومحبور ومنهم محزون ومبثور، فريق في الجنة وفريق في السعير لذلك يقول أحد الشعراء:
ولدتك أمك باكيًا مستصرخًا **** والناس حولك يضحكون سرورا
فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا **** في يوم موتك ضاحكًا مسرورا
ولما كانت هذه المواطن الثلاثة أشقّ ما تكون على ابن ءادم رخَّص الله تعالى لنبيه يحيى عليه السلام فيها بالكرامة والسلامة في هذه المواطن الثلاثة.