سُجُودُ الْمَلائِكَةِ لِآدَمَ وَاعْتِرَاضُ إِبْلِيسَ وَعَدَمُ سُجُودِهِ وَطَرْدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ
أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْمَلائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَامْتَثَلَ الْمَلائِكَةُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَسَجَدُوا كُلُّهُمْ لِأَنَّ الْمَلائِكَةَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيْم/6]. وَأَمَّا إِبْلِيسُ فَقَدِ اسْتَكْبَرَ وَاعْتَرَضَ عَلَى اللَّهِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ لِأَمْرِهِ وَقَالَ: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/12] فَكَفَرَ وَظَهَرَ مِنْهُ مَا قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ مِنْ كُفْرِهِ وَاعْتِرَاضِهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَثَرِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ كُفْرِهِ يُسَمَّى عَزَازِيلَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِذَا قَرَأَ ابْنُ ءَادَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ، أُمِرَ ابْنُ ءَادَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ».
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ أَنَّهُ مَلْعُونٌ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُنْظِرَهُ أَيْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ أَيْ يَوْمِ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ بَلْ أَخَّرَهُ إِلَى النَّفْخَةِ الأُولَى لِيَذُوقَ الْمَوْتَ الَّذِي حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ إِبْلِيسَ: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [سُورَةَ ص] أَيْ إِلَى زَمَنِ نَفْخَةِ الإِهْلاكِ وَهِيَ نَفْخَةُ إِسْرَافِيلَ فِي الْبُوقِ فَيَمُوتُ كُلُّ حَيٍّ مِنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الصَّوْتِ.
ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ لَمَّا اعْتَرَضَ وَكَفَرَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا فَوْرًا بَلْ أَقَامَ فِيهَا مُدَّةً لِيُوَسْوِسَ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ بِعِصْيَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ سَبَبًا فِي إِخْرَاجِهِمَا مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/18]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ [سُورَةَ ص].
وقَدْ كَانَ إِبْلِيسُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا مِنَ الْجِنِّ يَعْبُدُ اللَّهَ مَعَ الْمَلائِكَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَكْفُرَ وَيَعْتَرِضَ عَلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ صَحِيحًا أَنَّهُ كَانَ طَاوُوسَ الْمَلائِكَةِ وَلا رَئِيسًا لَهُمْ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجُهَّالِ، قَالَ الْحَسَنُ الْبِصْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَقَالَ شَهْرُ بنُ حَوْشَبٍ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/50]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [سُورَةَ الْحِجْر/30]، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَلائِكَةِ لَمْ يَعْصِ رَبَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُمْ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهُ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيم/6].
وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ لَيْسَ مِنَ الْمَلائِكَةِ بَلْ هُوَ مِنَ الْجِنِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/12] فَفِي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، بِخِلافِ الْمَلائِكَةِ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ ءَادَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ».