الأحد ديسمبر 22, 2024

قال الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [سورة البقرة]

إن كثيرًا من الجهال أخذوا هذه الآية حجة وذريعة لهم في كثير من أمور التكاليف، فمثلاً الواحد منهم إن كان مريضًا يشق عليه أن يُصليَ قائمًا، يقول (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) ويترك الصلاة بالمرة، وليس هذا معنى الآية، فإنَّ من كان عاجزًا عن الصلاة قائمًا يصلي قاعدًا ولا يجوز له أن يترك الصلاة، ومن كان عاجزًا عن الصلاة قاعدًا يجب عليه أن يصليَ مستلقيًا بشروط ذكرها الفقهاء ولا يجوز له أن يترك الصلاة، وهكذا من كان مسافرًا في الطائرة أو في السيارة لا يجوز له أن يصلي الفرض قاعدًا وهو قادرٌ على القيام، في الطائرة، يصلي مستقبلا القبلة لا كيفما كان، ومن في السيارة أو في الباص ينزل ويستقبل القبلة ويصلي، ولا يجوز له أن يترك الصلاة أو أن يصلي إلى غير جهة القبلة محتجًا بهذه الآية {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، ومن فعل ذلك لم تصح منه الصلاة ولم تبرأ ذِمَّتُه.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ، وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن الحصين (صلِّ قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فمضطجعًا)، وشاع استعمال هذه الآية في غير موضعها فإذا بكثير من الجهلة يتركون الواجبات ويتقاعسون عن الفرائض والطاعات وليست الآية حجة لهم ولا تعطي المعنى الذي زعموه، فترك هؤلاء الجهال كثيرًا من الأحكام كان سببًا في هلاكهم، وما ذلك إلا لتكبرهم عن طلب العلم والتعلم، ومن لم يتعلم ما فرض الله عليه من أمور الدين يكون تائهًا ضائعًا لا يضمن صحة صلاته وصيامه وعباداته، فنسأل الله السلامة والنجاة والمعافاة والتوفيق والسداد.

قال الحافظ ابن الجوزي في كتابه «زاد المسير» ما نصه[(99)]: «الوُسع الطاقة، قاله ابن عباس وقتادة». ثم قال: «فأما تكليف ما يستحيل من المكلف لا كفقد الآلات فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في علم الله القديم أنه لا يؤمن فالآية محمولة على القول الأول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية {…رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنِعًا – أي مستحيلا – كان السؤال عبثًا، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم {…وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا *} [سورة الكهف] . وقال ابن الأنباري: المعنى، لا تُحمّلنا ما يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له» اهـ.

وأما قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ… *} [سورة التغابن] .

فقد قال الإمام المفسر محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه[(100)]: «فاتقوا الله ما استطعتم فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه في ما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم، وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعون. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان أعذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} . فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا بالإقامة في دار الشرك؛ فكذلك معنى قوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} » عقيب قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} .

ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك؛ حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطبري. وقيل: فاتقوا الله ما استطعتم في ما تطوع به من نافلة أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: {…اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى تخفيفا عنهم (فاتقوا الله ما استطعتم) فنسخت الأولى؛ قاله ابن جبير. قال الماوردي: ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها» اهـ.

قال الإمام المفسر السلفي محمد بن جرير الطبري في تفسيره ما نصه[(101)]: «قوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يقول تعالى ذكره: واحذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم وبلغه وسعكم» اهـ.

ـ[99]    زاد المسير (طبع المسمى المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة 1407هـ الجزء الأول ص346).

ـ[100]       الجامع لأحكام القرءان (طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى الجزء الثامن عشر ص144 – 145).

ـ[101]       طبعة دار الجيل – بيروت، المجلد الثاني عشر (28/82).