قال الله تعالى: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ… *} [سورة البقرة]
قال الإمام الحافظ اللغوي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الأشعري الشافعي في «فتاوى السبكي» ما نصه[(54)]: «الحمد لله الذي عصمنا من الفتن وصلى الله على سيدنا محمد الذي بيّن لنا ما ظهر وما بطن وعلى آله وصحبه الذين بيّنوا لنا معاني القرءان والسنن وسلم تسليما كثيرا على توالي الزمن، وبعد فإنا لا نحصي ما لله علينا من نعمة ومنة، وما حمانا به عن كل محنة وجعل بيننا وبينها وقاية وجُنة وأرشدنا إلى طريق السنة وجعل لنا على العدل قوة ومنة؛ وأنه جرى الكلام في تفسير الفتنة في قوله تعالى: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} وأطلقت فيه الأعنة وأغرى به بعض ذوي الضنة وتوهم أن مجرد الإلقاء بين الناس للقتل مظنة فخشيت من استباحة دم مسلم بالضغنة، فأردت ذكر تفسير الآية، وسميته «تأويل الفطنة في تفسير الفتنة» والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
قال ابن جرير الطبري: القول في تأويل قوله تعالى عزّ ذكره {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني بقوله جلّ ثناؤه {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} والشرك بالله أشد من القتل. وقد بينت في ما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار، فتأويل الكلام وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشد عليه وأضر من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا بملته محقا فيه، كما حدثني محمد بن عمرو ثنا أبو عاصم ثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال: ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل، حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يقول: الشرك أشد من القتل، حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة مثله، حدثنا المثنى ثنا إسحاق ثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك قوله {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يقول: الشرك أشد من القتل، حُدِّثتُ عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يقول: الشرك أشد من القتل، حدثنا القاسم ثنا الحسين حدثني الحجاج قال: قال ابن جريج أخبرني عبد الله ابن كثير عن مجاهد في قوله: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال: الفتنة الشرك، حُدِّثتُ عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال: انا عبيد بن سليمان قال سمعتُ الضحاك: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال: الشرك، حدثني يونس انا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال: فتنة الكفر. انتهى ما نقلته من تفسير الطبري المسمى بالبيان.
وقال أبو محمد عبد الرحمـن بن حاتم في تفسيره قوله: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} حدثنا عصام بن رواد ثنا آدم عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية: قوله {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} الشرك بالله أشد من القتل، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وأبي مالك وقتادة والضحاك والربيع بن أنس نحو ذلك؛ وقوله {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} حدثني أبي ثنا يحيى ابن المغيرة انا جرير عن حصين عن أبي مالك {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال الفتنة التي أنتم مقيمون عليها أكبر من القتل. انتهى ما نقلته من تفسير ابن أبي حاتم.
وقال الواحدي في البسيط: {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني شركهم بالله عزّ وجل أعظم من قتلكم إياهم في الحُرم والحَرم والإحرام وذكرنا معاني الفتنة عند قوله {…إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} ، وقال بعض أصحاب المعاني سمى الكفر فتنة لأن الكفر إظهار الفساد عند الاختبار وأصل الفتنة الاختبار». انتهى ما قاله السبكي.
وبعد هذا البيان الكافي الشافي من الحافظ السبكي في بيان معنى الفتنة في هذه الآية وأنها الفتنة في الدين أي الكفر الإشراك بالله أو بأن يترك المسلم دينَه، فلا عبرة بعد ذلك بقول مُحرِّفٍ جهولٍ يقول «إن مجرَّد الغيبة أو النميمة أو إن الإفساد بين اثنين أو بين أسرتين أشد من القتل» لأنه بذلك يُكَذِّبُ القرءان والحديثَ والإجماع، على أن الكفرَ بأنواعه هو أكبر الذنوب على الإطلاق وبعده قتلُ النفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحق وجاء ترتيب الكبائر في القرآن في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} ، وقد بيَّن ذلك الرسولُ صلى الله عليه وسلم أيضًا، كما في الصحيحين من حديث عبد الله «قيل يا رسول الله أيُّ الذنوب أكبر؟ قال أن تجعل لله ندًا وهو خلَقك» (أي أن تجعل له شريكًا)، «قيل ثم أي، قال أن تقتل ولدك خشية أن يَطعَم معك» ، وفي لفظ «خشية الفقر»، «قيل ثم أي، قال أن تُزاني بحليلة جارِك» ، ففي هذا الحديث بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن أكبر الذنوب بعد الكفر قتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، فمن جعل الفتنة هنا في هذه الآية التي تقدَّم ذكرها بمعنى الغيبة والنميمة أو الإفساد بين اثنين وجعله أشد وأكبر من القتل يكون قد كذَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذَّب شريعة الله، ومن قال ذلك فهو كافرٌ. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ *} [سورة البقرة] .
ثم لو سُئل هذا المُتَقَوِّل المُحرِّفُ لشريعة الله «شخصٌ يريد قتلَ ولدِك بذبحِه مثلا» وشخص يشتغل بغيبته، فأيُّ الفعلين أشد عندك؟ لقال «القتل»، فيُقالُ له «فكيف تُفسر هذه الآية {…وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} بالغيبة والنميمة؟! «ألستَ تكون متناقضًا في قولك»؟
ومن حصل منه ذلك فعليه أن يُقلِعَ عنه ويرجعَ للإسلام بالشهادتين.
ـ[54] فتاوى السبكي (ص/21 – 22 – 23).