الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ صِفَتِه) الخلْقِيّةِ (ﷺ) وشَرَّف وكَرَّم وَعظَّمَ

281-        

وَرَبْـعَـةً كَـانَ مِـنَ الرِّجَـالِ

 

لَا مِـنْ قِصَـارِهِـمْ وَلَا الطِّـوَالِ


 






(وَرَبْعَةً) فِي الطُّولِ (كَانَ)(مِنَ) بَينِ (الرِّجَالِ) أي مَربوعَ الخَلْقِ مِنَ الرِّجالِ (لَا) أي ولَم يَكُن (مِنْ قِصَارِهِمْ) أي الرِّجالِ (وَلَا) كانَ مِنَ الرّجالِ (الطِّوَالِ) طُولًا بائِنًا بل مُعتدِلٌ لا طويلٌ طُولًا مُفرِطًا ولا قَصيرٌ إلّا أنّهُ إلى الطُّولِ أمْيَلُ. والتأنيثُ في «رَبْعَة» هو باعتِبار النَّفْس، يُقالُ: رَجُلٌ رَبْعةٌ وامرَأةٌ رَبْعةٌ([1]). والرَّجُلُ البائِنُ ليسَ هوَ مجرَّدَ الرَّجُلِ الطويلِ الطُولَ المعهودَ بل هوَ المُفْرِط طُولًا الَّذِي بَعُدَ عن القَدْر المَعهودِ فِي الرِّجال الطِّوالِ.

282-        

بَعِـيْـدَ بَـيْـنَ الْمَنْكِبَيْنِ شَـعَرُهْ

 

يَـبْـلُـغُ شَـحْـمَـةَ الأُذُنْ يُوَفِّـرُهْ


283-        

مَـرَّةً اُخْـرَى فَيَكُـونُ وَفْـرَهْ

 

يَضْـرِبُ مَنْكِبَـيْـهِ يَعْلُوْ ظَـهْرَهْ


 












وكانَ ﷺ (بُعَيْدَ) أي بَعِيدَ ما (بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ) بُعدًا يَدُلّ على قُوّة البَدَنِ، والمَنكِبُ مُجتَمعُ رَأسِ العَضُدِ والكَتِف([2])، وهذا يَدُلُّ على سعَةِ الصَّدْر والظَّهْر منه ﷺ.

وكانَ (شَعَرُهْ) الشّريفُ المُبارَكُ ﷺ (يَبْلُغُ) في طُولِهِ (شَحْمَةَ الأُذُنْ) إذَا أخَذَ مِنهُ، وشَحْمةُ الأذُن الجزءُ الليِّنُ مِن أسفلِها، فكانَ (يُوَفِّرُهْ) أيْ يَجعَلُهُ وَفْرةً (مَرَّةً أُخْرَى فَيَكُونُ وَفْرَة) أي يَصِلُ إلى شَحْمةِ الأُذُن، وكان (يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ) في بعضِ الأحيانِ، ويطولُ فـ(ـيَعْلُوْ ظَهْرَهْ) في أحيانٍ أُخرَى، وقيل: الرِّوايَتانِ وَصفٌ لحالةٍ واحِدةً وهو أنّ ما يَلِي الأُذُن هو الذي كان يَبلُغُ مِنهُ شَحْمةَ أُذُنيه ﷺ وأمّا الَّذِي بَينَ أُذُنَيه وعاتِقِه وما خَلْفَه فكانَ يَضرِبُ مَنْكِبَيهِ.

وقد صرَّح القاضي عِياضٌ([3]) بذلك فقال إنّ الجمعَ بينَ هذه الرواياتِ بأنْ يُقالَ: إنّ ما يَلِي الأذُنَ هو الّذي يَبلُغ شَحْمةَ أذُنَيه وهو الّذي بين أذُنيه وعاتِقه، وما خَلْفَه هو الّذي يَضرِبُ مَنْكِبَيه، وقيل: بل ذلكَ لاختِلافِ الأوقاتِ، فإذا كانَ ﷺ ترَكَ تَقصيرَها بلَغَتِ المَنكِبَ، وإذا قصَّرها كانت إلى أنصافِ الأذُنَينِ، فكان شعَرُه يَقصُر ويَطُولُ بحسَب ذلكِ، والعاتِقُ ما بينَ المَنكِب والعُنُق.

تَفريقُ النّبِيّ ﷺ شعَرَه بينَ النّاسِ لِتبَرَّكوا بِه

تَفرِيقُ النّبِيّ ﷺ شَعَرَه بينَ النّاسِ لِتبَرَّكوا بِه

284-        

يَحْـلِـقُ رَأْسَـهُ لِأَجْـلِ النُّسُـكِ

 

وَرُبَّـمَـا قَـصَّــرَهُ فِـي نُـسُــكِ


وكانَ ﷺ يَفرِقُ شَعَرَ رأسِهِ ولَا 



(يَحْلِقُ رَأْسَهُ) أي شعرَهُ إلّا (لِأَجْلِ النُّسُكِ) أي الحَجِّ والعُمرةِ (وَرُبَّمَا قَصَّرَهُ) في بعضِ الأحيانِ وذلكَ (فِي نُسُكِ) العُمرة، وأمّا في الحَجِّ فقَد ثَبَتَ أنَّهُ ﷺ «لَمَّا رَمَى رَسُولُ الله ﷺ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ هَدْيَهُ نَاوَلَ الْحَلَّاقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا طَلْحَةَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا طَلْحَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَ النَّاسِ» وهوَ حديثٌ صحيحٌ رواهُ مُسلمٌ وابْنَا خُزيمةَ وحِبّانَ في صِحاحِهم وأحمدُ والتِّرمِذيُّ والبَغويُّ والبَيهقيُّ والحاكِمُ وكثيرٌ غيرُهُم، وهو دليلٌ لأهلِ السُّنّةِ على جوازِ التّبرُّكِ بآثارِ الأنبياءِ والصّالِحِينَ.

وقد استَخرَجَ ذلكَ مِن هذا الحديثِ جمعٌ مِنَ الحُفّاظِ والمُحَدِّثِينَ مِنهُم النّوويُّ والطِّيبيُّ والعَينيُّ والعَسقلانيُّ، وقال القاضِي عِياضٌ في «الإكمال»([4]): “وَقِسمَتُهُ شَعَرَهُ علَيهِ السَّلامُ على النَّاسِ تَبَرُّكًا بِه واستِشفاعًا إلى الله بأجزائِه هُو وما هو مِنهُ وتَقَرُّبًا بِذَلِكَ”، وقال محمد الخَضِر الشّنقيطيّ في «كوثر المعاني الدَّراري»([5]): “وفي هذا الحديث كِفايةٌ في الرَّدِّ على المَلاحِدة الذين يَمنَعُون التَّبَرُّك بآثارِه ﷺ” اهـ.

وأمّا ادِّعاءُ تخصيصِ جوازِ التّبرُّكِ بحياتِهِ ﷺ فهو ادّعاءٌ وتحكُّمٌ لا دليل عليه، بل الأصل أنّه ﷺ بَيَّنَ لأُمَّتِهِ جوازَ ذلك ولا ناسِخَ لِهذا الحُكمِ، فسقطَتْ دَعوَى المانِعِينَ. وليسَ التّبرُّك خاصًّا بشعَرِه ﷺ، بل الأمرُ أوسَعُ مِن ذلكَ، فقد قال أبو العبّاس القُرطبيُّ([6]) والقاضي عياضٌ([7]) بَدر الدّين العَينيُّ([8]):  “واستِيهابُ عمرَ بنِ عبد العزيزِ

القدَحَ مِن سَهلٍ إنَّما كانَ على جِهة التّبَرُّك بآثارِ النَّبِيّ ﷺ، ولم يَزَلْ ذلك دأبُ الصّحابةِ والتابعِينَ وأتباعِهم والفُضَلاءِ في كلِّ عَصرٍ، فكان أصحابُه يَتبَّركونَ بوُضوئِه وشَرابِه وبِعرَقِه، ويَسْتَشْفُونَ بِجُبّتِه ويَتبرَّكونَ بآثارِه ومَواطِنه ويَدْعُونَ ويُصَلُّون عِندَها، وهذا كلُّه عمَلٌ بمُقْتَضَى الأمرِ بالتَّعزيرِ والتّعظِيمِ ونَتِيجَةِ الحُبِّ الصّحِيحِ”.

ويُؤيِّد ما ذكَرْناهُ ما رواهُ مُسلِمٌ في «صَحيحِه» وبعضُ أصحابِ السُّنَنِ مِن حديثِ أسماء بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما أنّها أشارَتْ إلى جُبّةٍ أخرَجْتَها لِمَن عِندَها وقالتْ: «هَذِهِ كانَت عِندَ عائِشَةَ حَتَّى قُبِضَت، فَلَمّا قُبِضَت قَبَضتُها، وَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَلبَسُها، فَنَحنُ نَغسِلُها لِلمَرضَى يُستَشفَى بِها».

وكذلكَ الحديثُ الّذي رواهُ البُخاريُّ في «صَحيحِه» وابنُ راهوَيهِ عن عُثمانَ بن مَوهِبٍ قالَ: «أَرسَلَنِي أَهلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوجِ النَّبِيِّ ﷺ بِقَدَحٍ مِن ماءٍ فِيهِ شَعَرٌ مِن شَعَرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكانَ إِذا أَصابَ الإِنسانَ عَينٌ أَو شَىءٌ بَعَثَ إِلَيها مِخضَبَهُ، فاطَّلَعتُ فِي الجُلجُلِ فَرَأَيتُ شَعَراتٍ حُمرًا».

وفي «صحيحِ البُخاريّ» أيضًا عن ابنِ سيرينَ قالَ: قُلتُ لِعَبِيدةَ: «عِندَنا مِن شَعَرِ النَّبِيِّ ﷺ أَصَبناهُ مِن قِبَلِ أَنَسٍ أَو مِن قِبَلِ أَهلِ أَنَسٍ»، فَقالَ: «لَأَن تَكُونَ عِندِي شَعَرَةٌ مِنهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنيا وَما فِيها».

وروَى أبو نُعيمٍ في «الحِليةِ» عن عبد اللهِ بنِ أحمدَ بنِ حنبلٍ قالَ: «وَرَأَيتُ أَبِي ءَاخِذًا شَعرَةً مِن شَعرِ النَّبِيِّ ﷺ فَيَضَعُها عَلَى فِيهِ يُقَبِّلُها، وَأَحسِبُ أَنِّي رَأَيتُهُ يَضَعُها عَلَى عَينَيهِ وَيَغمِسُها فِي الماءِ ثُمَّ يَشرَبُهُ ثُمَّ يَستَشفِي بِها. وَرَأَيتُهُ قَد أَخَذَ قَصعَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ فَغَسَلَها فِي حُبِّ([9]) الماءِ ثُمَّ شَرِبَ فِيها».

حَلْقُهُ ﷺ شَعَرَه وتَقصِيرُه إيّاهُ لأجلِ النُّسُكِ

حَلْقُهُ ﷺ شَعَرَه وتَقصِيرُه إيّاهُ لأجلِ النُّسُكِ

285-        

وَقَـدْ رَوَوْا لَا تُوْضَـعُ النَّوَاصِـيْ

 

إِلَّا لِأَجْـلِ النُّـسُـكِ الْمَحَّـاصِ


 






(وَقَدْ رَوَوْا) أي المُحدِّثونَ وأهلُ السِّيَرِ أنّهُ كانتْ (لَا تُوْضَعُ) أي لا تُسَلَّمُ (النَّوَاصِي) جمعُ ناصيةٍ وهي مُقَدَّم شعرِ الرأسِ والمرادُ هنا أنّ العادةَ جَرَتْ في ذلكَ الوقتِ أنَّ الشَّعَر لا يُسَلَّم للحلّاقينَ ليَحلِقوهُ كُلَّه (إِلَّا لِأَجْلِ النُّسُكِ الْمَحَّاصِ) للذّنوبِ أيِ المُزِيلِ لها، وهو الحَجِّ، فهو مَطْهَرةٌ مِنَ الذّنوبِ الكبائرِ والصّغائرِ كُلِّها إلّا التَّبِعاتِ للنّاسِ فإنّها لا تَسقُطُ كما أنّ قضاءَ الصَّلواتِ ونحوِها لا يَسقُط، أمّا العُمرة فهي تُكَفِّرَ الصّغائرَ ولا نقول إنّها تُكَفِّر الكبائرَ مطلَقًا لأنّه لَمْ يَرِدْ ذلك في شأنِها، ويجوزُ أنْ يَغفِرَ الله لِمُعتَمِرٍ جميعَ ذنوبِهِ الصّغائرَ والكبائرَ.

ثُمّ الحَلقُ لأجلِ الحَجِّ والعُمرةِ أفضلُ مِنَ التّقصيرِ كما دَلَّ عليهِ قولُه ﷺ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ»، قَالُوا: وَلِلْمُقَصِّرِينَ، قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: «وَلِلْمُقَصِّرِينَ». ونقَلَ النّوويُّ([10]) إجماعَ العُلماء على أنَّ الحَلْقَ أفضَلُ مِنَ التّقصيرِ وعلى أنَّ التّقصيرَ يُجزِئُ.

لَونُ بشَرَتِه المُبارَكةِ ﷺ

لَونُ بشَرَتِه المُبارَكةِ ﷺ

286-        

أَبْـيَـضَ قَدْ شُـرِّبَ حُـمْرَةً عَلَتْ

 

وَفِي «الصَّحِيحِ» أَزْهَرُ اللَّوْنِ ثَبَتْ


 







وكانَ ﷺ (أَبْيَضَ) لَونِ البشَرةِ (قَدْ شُرِّبَ) بَياضُ وَجهِه النَّيِّر (حُمْرةً) زاهيةً (عَلَتْـ)ـهُ،

فبَدا ﷺ أزهَرَ ﷺ اللَّونِ مُشرِقًا (وَ)هو الوَصفُ هو الّذي ورَدَ (فِي «الصَّحِيحِ») عندَ البُخاريُّ ومُسلمٍ وعِندَ غيرِهما مِن حديثِ أنسِ رضيَ الله عنهُ حيثُ قالَ في وَصفِهِ ﷺ: «(أَزْهَرُ) أي أنوَرَ (اللَّوْنِ) لَيْسَ بِأَبْيَضَ» أي شديدَهُ إلى حَدِّ أنْ يكونَ «أَمْهَقَ وَلَا هوَ ءادَمَ» أي ولم يَكُن يُخالِطُ لَونَه سُمرةٌ بلْ (ثَبَتْ) أنّ النّبِيَّ ﷺ أَزْهَرُ اللَّوْنِ وهوَ غايةُ المَلاحةِ والحُسنِ.

صِفَةِ عَينَيهِ المُبارَكتَينِ ﷺ

صِفَةِ عَينَيهِ المُبارَكتَينِ ﷺ

287-        

وَفِي «الصَّحِيحِ» أَشْـكَلُ العَيْنَيْنِ

 

أَيْ حُـمْـرَةٌ لَـدَى بَيَاضِ العَيْنِ


288-        

وَلِـعَـلِـيٍّ أَدْعَـجٌ وَفُـسِّــرَا

 

بِشِـدَّةِ السَّـوَادِ فِي العَـيْـنِ يُـرَى


 










(وَ)جاءَ أيضًا في وَصفِهِ ﷺ (فِي «الصَّحِيحِ») عِندَ مُسلمٍ وغيرِه أنّهُ (أَشْكَلُ العَيْنَيْنِ) وفيه تفسيرانِ: أحدُهما ما اختارَهُ النّظامُ وهو أنّه في عَينَيهِ شَكَلٌ (أَيْ حُمْرَةٌ) خفيفةٌ (لَدَى) أي فِي (بَيَاضِ العَيْنِ) ويُقالُ: أسَجَرُ العَينَينِ بمعنَى أشكَلَ، والتّفسير الآخَر هو ما جاءَ في «صحيح مُسلِم»: قال شُعبةُ: قُلتُ لِسِماكٍ: ما أَشكَلُ العَينِ؟ قالَ: «طَوِيلُ شَقِّ العَينِ»، ووصفُه بذلكَ ﷺ على التّفسيرَين محمودٌ محبوبٌ.

(وَ)ورَد أيضًا في وَصفِهِ ﷺ في بعضِ الرّواياتِ المُضافةِ (لِعَلِيٍّ) رضيَ الله عنهُ أنّه ﷺ (أَدْعَجٌ) بالتّنوينِ للوَزنِ أي كانَ في عَينَيهِ دَعَجٌ (وَفُسِّرَا) والألِف للإطلاقِ أيِ فُسِّرَ الدَّعَجُ (بِشِدَّةِ السَّوَادِ فِي العَيْنِ) مع سَعَتِها (يُرَى) فِيها، وقال بعضُهم([11]): هو شِدّةُ سَوادِ سوادِها وشِدّةُ بَياضِ بَياضِها.

صِفَةِ شَعَرِ رأْسِه وبَدَنِه ﷺ

صِفَةِ شَعَرِ رأْسِه وبَدَنِه ﷺ

289-        

وَفِي «الصَّحِيحِ» أنَّه جَعْدُ الشَّعَرْ

 

لَا سَـبِـطٌ وَلَا بِـجَـعْـدٍ الخَـبَـرْ


290-        

وَعَـنْ عَلِـيٍّ سَـبِـطٌ لَـمْ يَثْبُـتِ

 

إِسْـنَادُهُ وَكَـانَ كَـثَّ اللِّحْـيَةِ


291-        

وَأَشْـعَرَ الصَّدْرِ دَقِيقَ الْمَسْـرُبَهْ

 

مِنْ سُـرَّةٍ حَتَّى يُحَـاذِيْ لَـبَـبَـهْ


 










(وَ)جاءَ في وَصفِ شَعَرِه الشّريفِ ﷺ (فِي «الصَّحِيحِ») عنِدَ مُسلمٍ (أنَّه)(جَعْدُ الشَّعَر) أي في شعرِهِ التِواءٌ خفيفٌ فـ(ـلَا) هوَ (سَبِطٌ) بتحريكِ الباءِ أي مُستَرسِلٌ شديدُ المَلاسةِ لا تَكَسُّرَ فيهِ (وَلَا) هوَ (بِجَعْدٍ) الجعودةَ المعروفةَ ومِن بابِ أولَى أنّه ليسَ قَطَطًا أي شديدَ الجعودةِ، فلا هو بَيِّنُ السُّبوطةِ ولا الجعودةِ بل بَينَهُما كما جاءَ (الخَبَر) في «صحِيحِ مُسلِمٍ».

(وَ)أمّا ما رواهُ ابنُ عساكِرَ رحمهُ اللهُ وغيرُه مِن طريقَينِ (عَنْ عَلِيّ) رضيَ الله عنهُ أنّ شعَرَه ﷺ (سَبِطٌ) سُبوطةً خالِصةً فـ(ـلَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادُهُ) مِن طَرِيقَيهِ لأنّ في إحداهُما مَجهولًا وفي الأخرَى ضَعِيفًا.

(وَكَانَ)(كَثَّ) أي غَزِيرَ شَعَرِ (اللِّحْيَةِ) وكَثِيرَ أَصلِها (وَأَشْعَرَ) أعلَى (الصَّدْرِ) أي كَثيرَ شعَرِ أعلاهُ. وأمّا ما ورَد عن عَلِيٍّ كَرَّمَ الله وَجْهَهُ على ما في حِسانِ «المَصابِيح» مِن أنَّهُ ﷺ كان أجرَدَ، والأجرَدُ هو الّذي لا شَعَر على بدَنِه، فمَحمولٌ على أنه أُرِيدَ بالأجرَد ضِدُّ الأشعَرِ والمعنَى أنّه لم يَكُن على جمِيع بدَنِه شَعَرٌ لا الأجرَدُ المطلَق، قاله المُلّا عَلِيّ القارِي([12]).

(وَكَانَ)(دَقِيقَ) شَعَرِ (الْمَسْرُبَة) بضمّ الرّاء وهوَ الشّعَر المُستَدِقُّ (مِنْ سُرَّةٍ حَتَّى) أي إلى ما (يُحَاذِي) أي يُقابِلُ (لَبَبَهُ) أيِ اللَّبَّةَ – بفتح اللّام وتشديد الباء – وهي موضِعُ القِلادةِ مِن صَدرِ الإنسانِ، لا أنّه كان يَلبَسَ القِلادةَ، فكان يَجرِي في هذا المَوضِعِ مِنهُ ﷺ الشعَرُ دقيقًا متَّصِلًا غيرَ عَريضٍ، ولَم يَكُن في بَطنِه ولا ظَهرِه ﷺ شعرٌ غيرُه.

صِفَةِ كَفِّهِ وقدَمِه الشَّرِيفتَينِ ﷺ

صِفَةِ كَفِّهِ وقدَمِه الشَّرِيفتَينِ ﷺ

292-        

وَكَـانَ شَـثْـنًا كَـفُّـهُ وَالقَـدَمُ

 

وَهْـوَ الغَلِـيـظُ قُـوَّةً يَسْـتَـلْـزِمُ


 





(وَكَانَ)(شَثْنًا) بإسكانِ الشِّينِ أي غلِيظًا (كَفُّهُ) أي مُمتَلِئًا (وَالقَدَمُ) منهُ ﷺ كانَ شَثْنًا مِن غَيرِ قِصَرٍ ولا خُشونةٍ كما يؤيِّدُه ما رواهُ الشَّيخانِ مِن قولِ أنسٍ رضي الله عنه: «مَا مَسِسْتُ([13]) حَرِيرًا وَلا دِيباجًا([14]) أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ ﷺ».

(وَ)إذا كانَ الشَّثْنُ هنا مُفسَّرًا بأنّه (هوَ الغَلِيظُ قُوَّةً) فإنّه (يَسْتَلْزِمُ) مِن غِلَظِ العُضوِ في خِلْقَتِهِ قُوّةً في القَبضِ والمَشيِ وهو مَحمودٌ في الرِّجال دُونَ النِّساء.

صِفَةِ مَشْيِه وإقبالِه ببدَنِه ﷺ

صِفَةِ مَشْيِه وإقبالِه ببدَنِه ﷺ

293-        

إِذَا مَـشَــى كَـأَنَّـمـا يَـنْـحَـطُّ

 

فِي صَــبَـبٍ مِـنْ صُـعُدٍ يَـحُـطُّ


294-        

إِذَا مَـشَــى كَـأَنَّـمـا تَـقَـلَّـعَا

 

مِنْ صَخْرٍنَ ايْ قَوِيَّ مَشْيٍ مُسْرِعَا


295-        

يُـقْـبِـلُ كُـلُّـهُ إِذَا مَـا الْـتَـفَـتَا

 

وَلَـيْـسَ يَـلْـوِيْ عُـنُـقًا تَـلَـفُّـتَا


 













وكان (إِذَا مَشَى) مشَى مُسرِعًا (كَأَنَّما يَنْحَطُّ) أي يَنحدِرُ (فِي صَبَبٍ) أي صُبوبٍ، كما هو في روايةٍ عند أبي داودَ والتّرمذِيّ في «سُنَنِهما»، أي كأنّما يَنزِلُ انحِدارًا (مِنْ صُعُدٍ) أي مكانٍ مُرتَفِعٍ (يَحُطُّ) أي يَهبِطُ، والصُّعُد جَمعُ صَعُودٍ بفَتحِ الصّادِ ضِدُّ الهَبوطِ بفَتح الهاءِ، قاله ابنُ الأثيرِ([15]).

وكانَ ﷺ قَوِيَّ المَشيِ فـ(ـإِذَا مَشَى) بَدا (كَأَنَّما) هو قَد (تَقَلَّعَا) في مَشْيِه – والألِف للإطلاقِ – تقلُّعًا (مِنْ صَخْرٍ) أي كان مَشيُهُ كمَشيِ مَن يَرفَعُ رِجلَهِ مِنَ الأرضِ رفعًا قوِيًّا ذَرِيعًا شبِيهًا بِمَن يَقلَعُها (أَيْ) كانَ إذا مشَى (قَوِيَّ مَشْيٍ مُسْرِعَا) لا مُختالًا ولا مُقارِبًا خُطاهُ.

وكان (يُقْبِلُ كُلُّهُ) أي بكُلِّ جسَدِه (إِذَا مَا) “ما” زائدة أي إذا (الْتَفَتَا) إلى الوَراءِ فليسَ يُسارِقُ النَّظَرَ (وَلَيْسَ يُلْوِيْ) أي يَعطِفُ (عُنُقًا) أي عُنقَهُ (تَلَفُّتًا) أي مُلْتفِتًا إلى جِهةٍ، ولَا يُنافِي ذلكَ الْتِفاتَه ﷺ بِعُنُقِه يَمنةً ويَسرَةً في بعضِ الهيئاتِ كما ورَد ذلك مِن هيئَتِهِ ﷺ في التّسليمِ مِن الصَّلَوات.

صِفةُ عرَقِه المُبارَكِ ﷺ

صِفةُ عرَقِه المُبارَكِ ﷺ

296-        

كَـأَنَّـما عَـرَقُـهُ كَـاللُّـؤْلُـؤِ

 

أَيْ فِي البَيَاضِ وَالصَّـفَـا إِذَا رُئِيْ


297-        

تَـجْـمَـعُـهُ أُمُّ سُـلَـيْـمٍ تَـجْعَلُهْ

 

فِـي طِـيْبِهَا فَهْوَ لَعَمْرِيْ أَفْضَلُهْ


298-        

يَـقُـولُ مَـنْ يَنْعَتُهُ مَـا قَـبْـلَـهُ

 

أَوْ بَـعْـدَهُ رَأَيْـتُ قَـطُّ مِـثْـلَـهُ


وكان 
















ﷺ إذا عَرِقَ (كَأَنَّما عَرَقُهُ) في صِفَتِه (كَاللُّؤْلُؤِ) على بشَرَتِه المُبارَكةِ (أَيْ) تُشبهُ

اللُّؤلُؤَ (فِي البَيَاضِ) لونًا (وَ)في (الصَّفَا)ءِ مَظهَرًا، يظهَرُ ذلكَ للرّائي له (إِذَا رُئِي) منهُ عَرَقُهُ الطّيّبُ المُبارَكُ، وفي ذلكَ ءاثارٌ كثيرةٌ منها في «صحِيح مُسلِم» عن عائشةَ رضي الله عنها: «فَواللَّهِ ما رامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَجلِسَهُ وَلا خَرَجَ مِن أَهلِ البَيتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، فَأَخَذَهُ ما كانَ يَأخُذُهُ مِنَ البُرَحاءِ([16]) عِندَ الوَحيِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ([17]) مِنهُ مِثلُ الجُمانِ([18]) مِنَ العَرَقِ فِي اليَومِ الشّاتِ([19]) مِن ثِقَلِ القَولِ الَّذِي أُنزِلَ عَلَيهِ».

والكلامُ المارُّ في النَّظمِ وما بعدَه إنّما هو فيما يتعلَّق بلَونِ العرَقِ وشَكلِه، أَمّا فيما يتعلَّقُ بصفةِ رائحةِ عرَقِه ﷺ فمِمّا جاء فيه أنّه كانتْ (تَجْمَعُهُ) عنْ ظاهِرِ جسَدِ النّبِي ﷺ فِي بعضِ الأحيانِ (أُمُّ سَلِيْمٍ) والِدةُ أنسِ بن مالِكٍ رضيَ الله عنه وعنها، وذلك بسَلْتٍ([20])  للعرَقِ خفيفًا عن بدَنِه الشّريفِ أو بوَضعه في قارورةٍ إذا انقَطَعَ عن بدَنِه الشّريفِ وتقاطرَ، فإذا جَمَعتْهُ (تَجْعَلُهْ) بعد ذلِكَ (فِي طِيْب) لـ(ـهَا) ليزِيدَ طِيبُها بِعَرقِ النَّبيِّ المُبارَكِ طِيبًا (فَهْوَ لَعَمْرِي) تأكيدٌ لا يمينٌ حقيقةً (أَفْضَلُه) أي أطيَبُ الطِّيبِ، كما جاءَ في روايةٍ عنْ أُمِّ سُلَيمٍ.

فعَن أنسٍ رضيَ الله عنهُ قال: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ([21]) عِنْدَنَا فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي

بِقَارُورَةٍ فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟» قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ. وفي روايةٍ: قَالَتْ: «عَرَقُكَ أَدُوفُ بِهِ طِيبِي» أي أخلِطُه بِه.

وفي هذا دليلٌ لأهلِ السُّنّةِ على جوازِ التّبرُّكِ بآثارِ الأنبياءِ عليهمُ الصّلاة والسّلام.

وعَن أنسِ رضيَ الله عنهُ قال: «كَانَ رَسُولُ الله إِذَا مَرَّ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وُجِدَ مِنْهُ([22]) رَائِحَةُ الْمِسْكِ».

ما رواهُ الطّبرانيُّ في «الأوسَط» والهَيثميُّ في «مَجْمَع الزّوائِد» عَن أبي هُريرةَ رضيَ الله عنه: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي زَوَّجتُ ابنَتِي وَإِنِّي أُحِبُّ أَن تُعِينَنِي بِشَىءٍ فَقالَ: «ما عِندِي مِن شَىءٍ، وَلَكِن إِذا كانَ غَدٌ فَتَعالَ فَجِئَ بِقارُورَةٍ واسِعَةِ الرَّأسِ وَعُودِ شَجَرَةٍ، وَءايَةُ بَينِي وَبَينَكَ أَنِّي أُجِيفُ([23]) ناحِيَةَ البابِ». فَأَتاهُ بِقارُورَةٍ واسِعَةِ الرَّأسِ وَعُودِ شَجَرَةٍ فَجَعَلَ يَسْلِتُ العَرَقَ مِن ذِراعَيهِ حَتَّى امتَلَأَت فَقالَ: «خُذْ وَمُرِ ابنَتَكَ إِذَا أَرادَتْ أَنْ تَطَّيَّبَ أَنْ تَغْمِسَ هَذا العُودَ فِي القارُورَةِ وَتَطَّيَّبَ بِهِ». قالَ: فَكانَت إِذا تَطَيَّبَت شَمَّ أَهلُ المَدِينَةِ رائِحَةَ الطِّيبِ فَسُمُّوا بِبَيتِ المُطَّيِّبِينَ.

وقد كان ﷺ يخرُج مِنه العرَقُ الطّيِّبُ لعارِضٍ وعادةٍ، فأمّا العارِضُ فمثالُه تعرُّقُه ﷺ عندَ نزولِ الوحيِ عليهِ وفي بعضِ مرَضِه كالحُمَّى، وأمّا العادةُ فمِثالُه تعرُّقُه ﷺ في نَومِه. ومِن سِرِّ خُروجِ العرَقِ مِن جسَدِه الشّريفِ الطّيِّب ﷺ:

     سَلامةُ بدَنِه الشّريفِ بخُروجِ الرُّطوباتِ مِنهُ.

     وبقاءُ ما يَنتفِعُ النّاسُ بهِ مِن أثَرِ بدَنِه الشّريفِ ﷺ، ويدُلُّ على اتّخاذِ الصّحابِة لذلكَ أحاديثُ، مِنها حديثُ البُخاريّ عن أنَسٍ أنَّ أُمَّ سُلَيمٍ كانَت تَبسُطُ لِلنَّبِيِّ ﷺ نِطَعًا([24])، فَيَقِيلُ عِندَها عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ، فَإِذا نامَ النَّبِيُّ ﷺ أخَذَتْ مِن عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتهُ فِي قارُورَةٍ ثُمَّ جَمَعَتهُ فِي سُكٍّ([25]). قالَ ثُمامةُ: فَلَمّا حَضَرَ أنَسَ بنَ مالِكٍ الوَفاةُ أوصَى إِلَيَّ أنْ يُجعَلَ فِي حَنُوطِهِ([26]) مِن ذَلِكَ السُّكِّ، فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ.

وكانَ (يَقُولُ مَنْ يَنْعَتُهُ) أي يَصِفُ النَّبِيَّ ﷺ مِنَ النّاعتِينَ: (مَا قَبْلَهُ)(أَوْ بَعْدَهُ رَأَيْتُ) في الكَمالِ والجَمالِ (قَطُّ مِثْلَهُ) وهذا ليسَ قولَ واحِدٍ مِنَ الصّحابةِ فقط بل رُوِيَ في «صحيح البُخاري» عن أنسٍ رضي الله عنه، وفي «مُسنَدِ أحمدَ» وغَيرِهِ عن عليّ رضي الله عنه، وفي «السُّنَن الكُبرى» للنَّسائيّ عن البَراءِ بن عازِبٍ رضيَ الله عنه، ومَن له عِنايَةٌ بسِيرَتِه وأَحوالِهِ وأوصافِهِ ﷺ لا يَشُكُّ ولا يرتابُ في ذلك.

تنبيه: ما اشتَهر على ألْسِنةِ بعض العوامّ مِن أنَّ الوَرد خُلِقَ مِن عَرَقِ رسول الله ﷺ فقال الحُفّاظ ابن عساكرَ والنّووي والعسقلانيُّ والسُّيوطيُّ وغيرُهم: إنه باطِلٌ لا أصلَ لَهُ، والخبَرُ الباطِلُ في ذلكَ رواه الدَّيلِمُّي في «مُسنَد الفِردَوس» مِن طَرِيق مَكِيِّ بنِ بُنْدارٍ وقد اتَّهَمَه الدارَقطنيُّ بوَضْعِ الحديث.

فصلٌ في طهارةِ شَعرِ وفضَلاتِ النَّبِيّ

فصلٌ في طهارةِ شَعرِ وفضَلاتِ النَّبِيّ

لا شَكَّ أنّ شعَر النّبيّ ﷺ المنفصِلَ عنه طاهرٌ فيه برَكةٌ، وكذا القولُ في شعورِ سائر

الأنبياءِ عليهمِ الصّلاةُ والسّلامُ، أمّا القَولُ في فضَلاتِهم فالصّوابُ فيهِ والمُعتمَد أنّها طاهرةٌ، والقولُ بنجاستها ضعيفٌ لا يُعَوَّلُ عليه، والصّوابُ هو الّذي عليه كثيرٌ مِن الحُفّاظ والفقهاء والمحقِّقِّين ولهم عليه شواهد وأدِلّة.

قال ابن العماد الأَقْفَهْسِيُّ([27]) الشافعيُّ([28]): “وإذا انفصَلَ شعرُ ءادمِيّ في حياتِه فطاهِرٌ في أصَحّ القولَين، هذا كلُّه في غيرِ شعرِ رسولِ الله ﷺ، فإذا قُلْنا بطهارةِ شَعرِ غيرِه فشعَرُه أولَى بالطّهارة. قال أبو جعفرٍ([29]) رحمه الله: هو طاهِرٌ لعُظمِ مَرتبَتِه ﷺ ولأنّ النّبِيّ ﷺ ناولَ أبا طلحةَ شعرَه فقسمَه بينَ النّاس، وقال غيرُه: هو نَجِسٌ، قال النووي رحمه الله: وهذا الوَجهُ غلَط، والمذهبُ الصحيحُ القَطْعُ بطَهارةِ شعرِ رسولِ الله ﷺ”.

وقال الشَّمسُ الرملي في الكلام على فضَلاتِ النبيّ ﷺ([30]): “جزَم البغويُّ وغيرُه بطهارتها، وصحَّحه القاضي وغيرُه، ونقلَه العمرانيُّ عن الخُراسانيِّين، وصحَّحه السُّبكي والبارِزيُّ والزَّركشي. وقال البُلقينيُّ: إنّ به الفتوَى، وصحَّحه القاياتِيُّ وقال: إنّه الحَقُّ، وقال الحافظ ابن حجَرٍ: تكاثَرَتِ الأدِلّةُ على ذلك، وعدَّه الأئمَّةُ في خصائِصه فلا يُلتفَتُ إلى خلافِه وإنْ وقعَ في كتُبِ كثيرٍ مِن الشّافعيّة فقَدِ استقَرَّ الأمرُ مِن أئِمّتِهم على القولِ بالطَّهارة انتهى. وأفتَى به الوالدُ رحمه الله تعالى وهو المُعتمَد، وحمَلَ تنزُّهَه ﷺ مِنها على الاستحِبابِ ومَزِيدِ النَّظافة([31]).

قال الزركشِيُّ: ويَنبَغِي طَرد([32]) الطّهارة في فضَلاتِ سائرِ الأنبياء” انتهَى النّقلُ عن الرّمليّ.

وقال البُجَيرِميّ نقْلًا عن بعض حواشي التحرير ما نصُّه([33]): “تنبيه: فَضَلاتُ الأنبياءِ طاهِرَةٌ علَى المُعتَمَد”، وكذلك قال الشهاب القَليوبيُّ في «حاشيته»([34]) والنَّواوي الجاوي في «نهاية الزَّين»([35])  والبَكري الدِمياطي في «الإعانة»([36]) بطهارة فضلاتِ الأنبياء جميعًا.

وليُتَنبَّه إلى أنّ القولَ بطهارةِ فضلاتِ الأنبياءِ ليس مِن الغُلُوّ في الدِّين ولا مِن الشَّطَح عن الحقِّ طَمَعًا في تَعظيم الأنبياء، فقد أخطأ القائِلون بنَجاسة فضلات الأنبياء وليس هذا القول هو اللائقَ بأنبياء الله عليهم السلام.

قال البدر العَينِيّ الحنفيُّ في «عُمدة القاري»([37]): “والأَليَقُ الطَّهَارَةُ، وَذَكَر القَاضِي حُسَينٌ فِي العَذِرَة وَجهَين، وَأنكر بَعضهم على الغَزالِيّ حكايتهما فِيهَا وَزعم نجاستها بالِاتِّفَاقِ. قلت: يَا لَلْغَزالِي مِن هَفَواتٍ حَتَّى فِي تَعَلُّقَات النَّبِي عَلَيهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

وَقد وَردت أَحادِيثُ كَثِيرَةٌ أَنّ جماعَة شَرِبُوا دَمَّ النَّبِي عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام، مِنهُم أَبُو طَيبَة الحَجّامُ، وَغُلامٌ من قُرَيش حَجَمَ النَّبِي عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام، وَعَبدُ الله بنُ الزُّبَيرِ شَرِبَ دَمَ النَّبِي ﷺ، رَواهُ البَزّار والطَّبَرانِيّ والحاكِم والبَيهَقِيّ وَأَبُو نعيم فِي «الحِلية».

ويُروَى عَن عَليّ رَضِي الله تَعالَى عَنهُ أَنه شَرِبَ دَمَ النَّبِي عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام، وَرُوِيَ أَيضًا أَنَّ أُمَّ أَيمَنَ شَرِبَت بَول النَّبِي ﷺ، رَواهُ الحاكِم والدّارَقُطنِيّ والطَّبَرانِيّ وَأَبُو نَعيم.

وَأخرج الطَّبَرانِيّ فِي الأَوسَط فِي رِوايَة سَلمَى امرَأَة أَبِي رافع أَنَّها شَرِبَت بَعضَ ماءٍ غُسِلَ بِهِ رَسُول الله عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام فَقالَ لَها: «حَرَّمَ الله بَدَنَكِ علَى النّار».

وَقَالَ بَعضهم: الحقُّ أَنَّ حُكمَ النَّبِي عَلَيهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَحكم جَمِيع المُكَلّفين فِي الأَحكَام التكلِيفِيّة إلَا فِيمَا يُخَصُّ بِدَلِيل. قلتُ: يَلزَمُ مِن هَذَا أَن يكون النَّاس مُساوِينَ للنَّبِي عَلَيهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا يَقُول بِذَلِك إلَا جَاهِلٌ غَبِيٌّ، وَأَينَ مَرتَبَتُه مِن مَرَاتِب النَّاس؟! وَلَا يلزم أَن يكون دَلِيل الخُصُوص بِالنَّقلِ دَائِمًا، وَالعقلُ لَهُ مَدخَلٌ فِي تَميِيز النَّبِي عَلَيهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مِن غَيره فِي مثل هَذِه الأَشيَاء، وَأَنا أعتَقِدُ أَنه لَا يُقَاس عَلَيهِ غَيره، وَإِن قَالُوا غير ذَلِك فَأُذُنِي عَنهُ صَمَّاءُ” انتهَى كلامُ العَينيّ.

وللعَينِيّ كلامٌ زيادةً على ذلكَ أورَدَه في «شرح الهِداية» ونصُّه([38]): “وأما شعَرُ النَّبِيّ ﷺ فالقولُ بنجاسَتِه مِن إساءةِ الأدب والجرأة في الإقدام بهذا الذِّكر الشَّنِيع في حقِّ هذا الجنابِ الرَّفِيع، وفي اعتقادي أنَّ مثل هذا كاد يكون كُفرًا([39])، وأنا كنتُ أنَزِّهُ نفسي عن إيرادِ هذه القَضِيّةِ السَّخِيفةِ([40]) في هذه المَواضِع، ولكنّي ذكَرْتُه لِيَقِفَ عليه مَن لم يَخْطُرْ عِلمُه به ويَعلمَ أنَّ المذهَب الحَقَّ منه هو الدِّينُ الحَنِيفيُّ والّذي رسَّخَ في قُلوبِهم قواعِدَ الدِّين إجلالُ قَدرِ هذا النَّبِيّ الكريمِ حكَمُوا بطهارةِ فضَلاتِ النَّبِي ﷺ فكيفَ بشَعَرِه الطّاهِر المُطهَّر، فنسألُ الله البُعْدَ عن الزَّيغِ والضَّلال”.



([1])  المصباح المنير، أبو العبّاس الفيّومي، (1/216).

([2])  المصدر السّابق، (2/624).

([3])  المِنهاج شَرح صحيح مسلِم بنِ الحَجّاج، محيي الدِّين النَّوويّ، (15/91).

([4])  إكمال المُعْلِم بفوائِد مُسلِم، القاضي عِياض، (4/368).

([5])  كوثر المعاني الدَّراري، محمد الخَضِر الشّنقيطيّ، (4/397).

([6])  المُفهِم لِمَا أشكَل مَن تلخيص كتاب مسلم، أبو العبّاس القُرطبي، (5/276).

([7])  إكمال المُعْلِم بفوائِد مُسلِم، القاضي عِياض، (6/474).

([8])  عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدِّين العَينِيّ، (21/205).

([9])  بالضّمّ الإناءُ.

([10])  المِنهاج شَرح صحيح مسلِم بنِ الحَجّاج، محيي الدِّين النَّوويّ، (9/49).

([11])  الشافي في شرح مسنَد الشافعي، مجد الدّين بن الأثير، (9/49).

([12])  شرح الشِّفا، الملّا علي القاري، (1/345).

([13])  الرّوايةُ بكَسرِ السِّين الأُولَى.

([14])  هو نوعٌ مِن الحريرِ غلِيظٌ.

([15])  النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدّين بن الأثير، (3/30).

([16])  أي المَشقَّةِ وشِدّةِ الأمرِ.

([17])  أي يَنصَبُّ.

([18])  اللُّؤلؤ الصِّغارِ.

([19])  أي زمنَ الشِّتاءِ.

([20])  أي مَسْحٍ وتتَبُّعٍ.

([21])  أي نامَ وقتَ القَيلولةِ.

([22])  أي وُجِدَ مِن الطّريقِ لمُرورِ النّبيّ ﷺ فيه.

([23])  أي أُغلِقَ.

([24])  بوَزنِ عِنَب وهو بِساطٌ مِن الأدِيم.

([25])  هو نوعٌ مِن الطِّيبِ.

([26])  هو ما يُطَيَّب بهِ الميِّتُ.

([27])  نِسبة إلى أقْفَهْسَ مِن صعيدِ مِصرَ.

([28])  دفع الإلباس عن وهم الوسواس، ابن العماد الأقْفَهْسي، (ص/84-85).

([29])  هو أبو جعفرٍ التّرمذيُّ تلميذُ البُويطيّ وشيخُ الشافعية بالعراق قبل ابنِ سُرَيج.

([30])  نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدّين الرَّملي، (1/242).

([31]) ولتعليم الأمّة الاستنجاء مِن البول والغائط.

([32])  أي إجراءُ القول بذلك.

([33])  تحفة الحبيب على شرح الخطيب، سليمان بن محمد البُجَيرمي، (1/181).

([34])  حاشية القليوبي على كنز الراغبين، شهاب الدّين القَليوبي، (1/81).

([35])  نهاية الزين في إرشاد المبتدئين، محمد نواوي الجاوي، (ص/45).

([36])  إعانة الطالبِين على حل ألفاظ فتح المُعِين، البكري الدِمياطي، (1/99).

([37])  عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العينيّ، (3/35).

([38])  البناية شرح الهداية، بدر الدين العينيّ، (1/424).

([39])  أي هو في حقّ مَن قال ذلكَ وفَهِمَ حقيقةَ مقالَتِه فقد كفر، ولذلك فلا نُثبِتُ على الغزاليّ قولَه بنجاسةِ شعَر النّبيّ ﷺ.

([40])  يعني كلامَ المُخالفِينَ الّذي لا وزنَ له.