الجمعة أكتوبر 18, 2024

ذِكرُ أحداثِ السّنةِ العاشِرةِ للهِجرةِ

ذِكرُ أحداثِ السَّنَةِ العاشِرةِ للهِجرةِ

وهذا هو العامُ ما قبلَ الأخيرِ مِن حياةِ النّبيّ ﷺ، وفيه حَجَّ رسولُ الله ﷺ حَجَّتهُ.

281-        

فِي العَشْـرِ كَانَتْ حَجَّةُ الوَدَاعِ

 

لَا يُحْصَـرُ الوَافُونَ بِاطِّلَاعِ


282-        

فَـقِـيـلَ كَـانُـوا أَرْبَـعِـيـنَ أَلْفَا

 

أَوْ ضِـعْـفَـهَا وَزِدْ عَلَيْهِ ضِـعْفَا


283-        

وَارْتَـدَّ فِـيـهَا وَادَّعَـى النُّـبُـوَّهْ

 

الأَسْـوَدُ العَنْـسِـيُّ حَـتَّـى مَـوَّهْ


284-        

لِبَعْـضِ قَـوْمِـهِ بِسَـجْـعٍ صَـنَعَهْ

 

فَقُتِلَ الشَّـقِيُّ مَـعْ مَـنْ تَـبِـعَـهْ


285-        

فِـيـمَا يَلِيهَا وَهْيَ إِحْدَى عَشْـرَهْ

 

قَضَـى نَبِيُّ اللهِ فِـيـهَـا عُـمْـرَهْ


286-        

عَاشَ ثَـلَاثًا بَـعْـدَ سِـتِّـيـنَ عَلَى

 

أَصَـحِّـهَا وَالخُلْفُ فِي هَذَا خَـلَا


 




















حَجّةُ الوَداعِ

(فِي العَشْرِ) أي سنةَ عَشرٍ مِن الهِجرةِ (كَانَتْ حَجَّةُ الوَدَاعِ) وسُمِّيَتْ بذلكَ لأنّه ﷺ وَدَّعَ فيها النّاسَ، وَسُمِّيَتْ أيضًا حَجَّةَ البَلاغِ لأنّه بَلَّغَ أُمّتَه فِيها ما تَضَمَّنَتْهُ خُطبَتُهُ، وَسُمِّيَتْ حَجَّةَ التَّمامِ لأنّهُ بَيَّنَ تَمامَها وَأَراهُم مَناسِكَها، وَسُمِّيَت حَجَّةُ الإِسلامِ لأنّه ﷺ لَم يَحُجَّ بعدَ فَرضِ الحَجِّ غيرَها وقد اعتمَرَ ﷺ عِدّةَ عُمَراتٍ.

وقد حَجَّ مع النّبِيّ ﷺ خَلْقٌ كثِيرٌ (لَا يَحْصُرُ) عددَهُم (الوَافُونَ) وهُم المُطَّلِعُونَ يعني أنّ أهلَ العِلمِ المُتمكِّنُونَ لا يُحصونَ الحاجِّينَ معَهُ ﷺ (بِاطِّلَاعٍ) مِنهُم عليهِم لِضَعفِ دليلِ القائلِينَ أو عدَمِه، واختُلِفَ في عدَدِهم اختلافًا كثيرًا، (فَقِيلَ كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا أَوْ) كانوُا (ضِعْفَهَا) هذه العِدّةِ أي كانوا ثمانِينَ ألفًا، وقيل: كانوا تسعينَ ألفًا([1])، وقيل: مائةَ ألفٍ وأربعةَ عشرَ ألفًا([2])، (وَ) في قولٍ خامِسٍ (زِدْ عَلَيْهِ) أي على الثَّمانِينَ ألفًا (ضِعْفًا) أي أربعينَ ثالثةً فيكونُ الحاصلُ مائةَ ألفٍ وعشرينَ ألفًا، وقيل: كانوا مائةً وثلاثينَ ألفًا([3]).

ونَصُّ خُطبةِ النّبِيّ في حَجّةِ الوداع: «الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إلَيْهِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنا ومِنْ سَيِّئاتِ أعْمالِنا مَنْ‏ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وَأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أُوصِيكُمْ عِبادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ وَأحُثُّكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِطاعَتِهِ وَأسْتَفْتِحُ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. أمّا بَعْدُ أيُّها النّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي أُبَيِّنْ لَكُمْ فَإنِّي لا أدْرِي لَعَلِّي لا ألْقاكُمْ بَعْدَ عامِي هَذا فِي مَوْقِفِي هَذا([4]).

أيُّها النّاسُ، أيُّ يَوْمٍ هَذا؟ قالُوا: يَوْمٌ حَرامٌ، قالَ: فَأيُّ بَلَدٍ هَذا؟ قالُوا: بَلَدٌ حَرامٌ، قالَ: فَأيُّ شَهْرٍ هَذا؟ قالُوا: شَهْرٌ حَرامٌ، قال: إنَّ دِماءَكُمْ وَأمْوالَكُمْ وَأعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ إلَى أنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ([5]) كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذا فِي شَهْرِكُمْ هَذا فِي بَلَدِكُمْ هَذا، ألا هَلْ
بَلَّغْتُ([6])
، مَرَّتَين، اللَّهُمَّ فاشْهَدْ.

 فَمَنْ كانَتْ عِنْدَهُ أمانَةٌ فَلْيُؤَدِّها إلَى مَن ائْتَمَنَهُ عَلَيْها، ألاَ كلُّ شَىءٍ مِنْ أمْرِ الجاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ([7])، ودِماءُ الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ([8])، وَأوَّلُ دَمٍ أضَعُهُ دِماؤُنا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحارِث([9]) كانَ مُسْتَرْضَعًا بَنِي سَعْد فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَإنَّ رِبا الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَإنَّ أوَّلَ رِبًا أبْدَأُ بِهِ رِبا الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَإنَّ مَآثِرَ الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ غَيْرَ

السِّدانَةِ([10]) والسِّقايَةِ([11]).

أيُّها النّاسُ إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أيِسَ أنْ يُعْبَدَ بِأرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِأنْ يُطاعَ فِيما سِوَى ذَلِكَ فِيما تَحْقِرُونَ مِنْ أعْمالِكُمْ([12]).

 أيُّها النّاسُ، إنَّما النَّسِي‏ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ([13]) يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عامًا لِيُواطِؤُوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ([14])، وَإنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدارَ([15]) كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والْأرْضَ، وَإنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والْأرْضَ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوالِيَةٌ وَواحِدٌ فَرْدٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ والمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبانَ. ألا هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فاشْهَدْ.

أيُّها النّاسُ، إنَّ لِنِسائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقًّا، حَقُّكُمْ عَلَيْهِنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ([16]) وَلا يُدْخِلْنَ أحَدًا تَكْرَهُونَهُ بُيُوتَكُمْ إلّا بِإذْنِكُمْ وَأنْ لا يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ، فَإنْ فَعَلْنَ فَإنَّ اللهَ قَدْ أذِنَ لَكُمْ أنْ تَعْضُلُوهُنَّ وَتَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ‏ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبْرِحٍ، فَإذا انْتَهَيْنَ وَأطَعْنَكُمْ فَعَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ، أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمانَةِ اللهِ([17]) واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ([18])، فاتَّقُوا اللهَ فِي النِّساءِ واسْتَوْصُوا بِهِنَّ خَيْرًا. ألا هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فاشْهَدْ.

أيُّها النّاسُ، إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ وَلا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ مالُ أخِيهِ إلّا مِنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ. ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ فاشْهَدْ! فَلا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ فَإنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ ما إنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّه، وَعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، ألا هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فاشْهَدْ.

أيُّها النّاسُ، إنَّ رَبَّكُمْ واحِدٌ وَإنَّ أباكُمْ واحِدٌ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرابٍ إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ وَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إلّا بِالتَّقْوَى ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قالُوا: نَعَمْ. قالَ: فَلْيُبَلِّغِ الشّاهِدُ الْغائِبَ.

أيُّها النّاسُ، إنَّ اللهَ قَدْ قَسَمَ لِكُلِّ وارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيراثِ وَلا يَجُوزُ لِمُورِثٍ وَصِيَّةُ أكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. والْوَلَدُ لِلْفِراشِ وَلِلْعاهِرِ الحَجَرُ، مَنِ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أبِيهِ وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلًا والسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ».

ذِكرُ فِتنةِ الأسوَدِ العَنْسِيّ ومَقتَلِه

ذِكرُ فِتنةِ الأسوَدِ العَنْسِيّ ومَقتَلِه

(وَارْتَدَّ) أي عنِ الإسلامِ (فِيهَا) أي في هذا العامِ (وَادَّعَى النُّبُوَّةَ) كذِبًا (الأَسْوَدُ) بنُ قَيسِ (العَنْسِيُّ) الكذّابُ، وقيل: كان اسمُه عبْهلة وإنّما عُرِفَ بالأسودِ لكونِه أسودَ الوجهِ([19])، ولَم يَكْتَفِ بادّعاء النُّبُوّةِ (حَتَّى) إنّه (مَوَّه) أي أظهَرَ من الأمرِ ما ليسَ فيه (لِبَعْضِ قَوْمِهِ) مِمّن تَبِعَه مِن عَنْسٍ وغيرِهم تلبيسًا علَيهم (بِـ)ـكلامٍ (سَجْعٍ) بإسكانِ الجيم (صَنَعَهْ) والسَّجْع بسكُون الجِيم هو مُوالاةُ الكَلامِ على رَوِيٍّ واحِدٍ([20])، ومنه سَجَعَتِ الحَمامةُ إذا رَدَّدَتْ صوتَها، قاله ابنُ دُرَيد([21])، أو هو الكَلامُ المُقَفَّى مِن غيرِ مُراعاةِ وَزْنٍ، قالهُ الأزهريُّ.

ومِن جُملةِ تمويهِه على جماعَتِه وكُفرِه أنّه سمَّى نفسَه رَحْمانَ اليمَنِ([22]) كما تَسَمَّى مُسَيلِمةُ الكذّابُ رَحمانَ اليَمامةِ، وكان له حمارٌ مُعَلَّم يقول له: اسجُدْ لِرَبِّك، فيَسجُد له الحِمارُ، ويقول له: ابْرُكْ فيَبْرُك، فسُمِّيَ ذا الحِمار، وهذا نوعٌ مِن التّلبِيسِ منهُ على أصحابِه أيضًا، فشتّانَ بين هذا وبينَ ما حصلَ للنّبِيّ ﷺ حينَ شكا البعيرُ وخرَّ ساجِدًا بينَ يدَيه ﷺ يُحيِّيه ويشكُو إليه، والحديثُ بطُولِه عند أحمدَ والدّارمِيّ والبيهقيّ وغيرِهم.

واختُلِفَ في وقتِ مقتَلِ الأسوَدِ العَنسيّ، فقال كثِيرٌ([23]): إنّ قَتلَه كان قبلَ وفاةِ النّبِيّ ﷺ بخمسةِ أيّامٍ، مستدلِّين لذلكَ بما رواهُ عددٌ مِن الحُفّاظ، وهو الّذي جرَى عليه النّوويُّ فقال([24]): “وفَد فَيرُوزُ على رسولِ الله ﷺ وأسلَم، وهو قاتِلُ الأسود العَنْسِيّ الكذّابِ الّذي كان ادَّعَى النُّبُوّةَ باليَمَنِ، قتلَه في ءاخِر حياةِ النَّبِيّ ﷺ، وقَد أخبرَ ﷺ عن مَقتَلِه في اللَّيلةِ الّتي قُتِل فيها الأسوَدُ حال مرَضِه الّذِي تُوُفِّي فيه، فقالَ ﷺ: «قَتَلَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَيْرُوزُ الدَّيلَمِيُّ»، وفي روايةٍ: «قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مُبَارَكِينَ»، هذا قول كثيرِينَ أو الأكثَرِينَ أنّ فَيروزَ قتلَ الأسوَدَ في حياة رسولِ الله ﷺ. وقالَ خَلِيفةُ بنُ الخيّاطِ والواقدِيُّ وءاخَرُونَ مِن أهل المغازِي: إنَّما قتَلَه في خِلافةِ أبي بَكرٍ رضي الله عنه سنةَ إحدَى عَشْرةَ”.

وكانَ قيسُ هُبيرةَ وفَيروزُ وأصحابُهم نَقَبُوا جِدارَ بَيتِه ودخَلوا عليهِ وهو سَكرانُ نائمٌ فذَبحَهُ فيروزُ فجعلَ الأسودُ يَخورُ خُوارَ الثَّورِ ثمّ حَزَّ قَيسٌ رأسَه بعدَ قَتلِ فيروزَ له (فَقُتِلَ) الأسودُ (الشَّقِيُّ) أي المختومُ له بالموتِ على الكُفرِ، ثُمّ عَلا قيسٌ أو فيروزُ سُورَ المَدِينةِ حِينَ أصبَحَ فقالَ: اللهُ أكبَرُ، اللهُ أكبَرُ، أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، وأنَّ الأسوَدَ كَذّابٌ عَدُوُّ اللهِ، فاجتَمَعَ أصحابُ الأسودِ، فألقَى إليهِم رأسَه فتَفرَّقُوا إلّا قلِيلًا، وخرجَ أصحابُ فيروزَ وقَيسٍ ففتَحُوا البابَ ووَضَعُوا في بَقِيّةِ أصحابِ العَنْسِيِّ السَّيْفَ، فقُتِلَ (مَعْ) الأسودِ في هذه اللَّيلةِ بعضُ (مَنْ تَبِعَهْ)  ولم يَنْجُ إلّا مَن أسلَمَ مِنهُم.

وروَينا بالإسنادِ إلى الحافِظ أبي طاهرٍ السِّلَفِيّ عن شُرَحبيلَ بنِ مُسلِمٍ أنّ الأسوَدَ بنَ قَيسٍ العَنْسِيَّ الكذّابَ لَمّا ادّعَى النُّبوّةَ باليمَنِ بعَثَ إلى أبِي مُسْلِمٍ عبدِ اللهِ بنِ ثَوبٍ الخَولانِيّ مِن ساداتِ التّابعِينَ، فلما جاءه قال: أتشهَدُ أنّي رسولُ الله؟  قال: ما أسمَعُ([25])، قال: أتشهَدُ أنّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ؟ قال: نعَم، فرَدَّد ذلك عليه، فأمَرَ بنارٍ عَظِيمةٍ فأُجِّجَت فأَلقَى فيها أبا مُسلِمٍ فلَم تَضُرَّه، فقيل: انْفِه عَنكَ وإلا أَفسَدَ عليكَ مَن تَبِعَك، فأمرَه بالرّحِيل، فأتَى أبو مسلِمٍ المدينةَ وقد تُوُفّي رسولُ الله ﷺ واستُخلِفَ أبو بكرٍ رضي الله عنه، فأناخَ أبو مُسلِمٍ راحِلَته ببابِ المَسجِد فقام يُصَلِّي إلى ساريةٍ، فبَصُرَ بِه عُمَرُ فقام إليه فقال: مِمّنِ الرَّجُل؟ فقال: مِن أهلِ اليمَن، قال: فلَعلَّك الذي حَرَّقَه الكذّابُ بالنّار؟ قال: ذلك عبدُ الله بنُ ثَوبٍ، قال” نَشَدتُكَ اللهَ أنتَ هو؟ قال: اللهم نعَم، فاعْتَنَقه ثمّ بكَى ثم ذَهَب به حتى أجلَسَه فيما بَينَه وبينَ أبي بَكرٍ فقال: الحمدُ لله الّذي لَم يُمِتْنِي حتّى أراني في أُمّةِ مُحمَّدٍ ﷺ مَن فُعِلَ بِه([26]) كما فُعِلَ بإبراهيمَ ﷺ خليلِ الرّحمنِ([27])، وقبَّلهُ بينَ عينَيه([28]).



([1])  المواهِب اللَّدُنِّيّة، شهاب الدين القَسْطلّانيّ، (1/435).

([2])  التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن المُلَقِّن، (1/302).

([3])  شرح الزّرقاني على المواهِب اللَّدُنِّيّة، عبد الباقي الزّرقاني، (4/84).

([4])  الذي أقِفُه خاطِبًا فيكم بِمنًى يوم النَّحْر.

([5])  أي إلى أن تَموتُوا.

([6])  سؤاله ﷺ لهم استِفهامٌ تَقرِيريٌّ بمعنَى “قَد” وذلك أبلَغُ وأَوْقَع في النَّفسِ، وكأنّه ﷺ قال: قَد بَلَّغْتُكم ما أُمِرتُ بِتَبلِيغه لَكُم فَلا عُذرَ لَكُم بعد ذَلِك إن خَالَفْتُم فإنّي لا يَقَعُ مِنِّي تَقصِيرٌ في التَّبلِيغ.

([7])  أي كالشىء الموضوع تحت القَدَم وهو مَجَازٌ عَن إبطاله وإسقاطِه، وفي رواية: «قَدَمِيْ» بالإفراد، ومعناهُ قد عَفَوتُ عن كل شىءٍ فَعَلَهُ رَجُلٌ قبل الإسلام وتَجافَيتُ عنه حتى إنّه صار كالشىء الموضوع تحتَ القَدَمِ، فإنّ العرب تقول في أمرٍ لا تكاد تُراجِعُه وتَذكُرُه: “جَعَلتُ ذلك دُبُرَ أُذُنِي وتحتَ قَدَمِي”.

([8])  أي مَترُوكةٌ مَحطوطَةٌ لا قِصاصَ ولا دِيةَ فيها ولا كَفَّارةَ اليومَ على مَن أسلَمَ بعدَما قتَلَ في الماضي أحَدًا حِين كان على كُفرِه الأصليّ.

([9])  قال الطِّيبيُّ رحمهُ اللهُ: “ابتَدأ في وضع القتل والدِّماء بأهل بَيتِه وأقارِبِه ليكون أمْكَن في قلوبِ السامِعِينَ وأَسَدَّ لِباب الطَّمَعِ بِتَرخُّصٍ فيه”.

وربيعةُ بنُ الحارث بنِ عبد المطلب هو ابنُ عَمِّ رسول الله ﷺ، كان أسَنَّ مِن العَبّاس بِسَنَتَين، فَلَمَّا خرَج المشركون إلى بَدْرٍ كان ربِيعةُ غائِبًا بالشامِ فلَم يَشْهَدْهَا معَهُم، فلَمَّا خرَج العبّاسُ ونَوفَلٌ مهاجِرَين إلى رسول الله ﷺ أيّامَ الخَنْدَقِ شَيَّعُهَما رَبِيعةُ، فلَمَّا أرادَ الرُّجُوعَ قالا له: أين نَرْجِعُ وقد عَزَّ رسولُ الله وكَثُرَ أصحابه؟! فأَقْبَل مَعَهُم حتى قَدِمُوا على رسول الله ﷺ مُسلِمَينَ مُهاجِرَين، وشَهِدَ ربيعةُ معَ رسولِ اللهِ ﷺ فَتْحَ مَكَّةَ والطائِفِ وَثَبَتَ مَعهُ يومَ حُنَينٍ.

([10])  أي سِدانة الكَعبة بِتَوَلِّي حِفْظِها وقَبْضِ مِفتاحِها، وكانت أَوَّلًا في بَنِي عَبدِ الدّار ثم في بَنِي شَيبةَ.

([11])  هي سَقيُ النّاسِ الشَّراب، ماءً كان أو غَيرَهُ، كانتْ بِيَدِ عَبدِ مَنافٍ فيَسْتَقِي الماء مِن بئر كَرادمَ وبِئر خُمّ على الإبل في الْمَزاوِد والقِرَب ثم يَسكُب ذلك الماء في حِياضٍ مِن أَدَمٍ بفِناء الكعبة فيَرِدُهُ الحاجُّ في الجاهليّة حَتَّى يتفرّقوا، ثَمّ وَلِيَها مِن بَعدِه ابنُه هاشِمُ بنُ عَبدِ مَنافٍ، ولم يَزَل يَسْقِي الحاجّ في الجاهليّة حتى تُوُفّي، فوَلِيَها ابنُه عَبدُ المطَّلِب، ولَمّا مَضَتِ الجاهلية وصَدْرٌ مِن الإسلام أقَرَّ النبيُّ ﷺ السِّقايةَ في يَدِ العَبّاس يومَ الفتح، ثُمّ لم تَزَل في يَدِ العَبّاس حتى تُوُفِّي فَوَلِيَها بَعدَه ابنُه عبدُ اللَّه بنُ عَبّاسٍ رَضِي اللَّه تعالى عَنهُما فكان يَفعل ذَلِكَ كَفِعله ولا يُنازِعُه فِيها مُنازِع، حتَّى تُوُفِّي فكانت بِيَدِ ابنِه عَلِيِّ بنِ عبد اللهِ يَفعَلُ كفِعل أبِيهِ وَجَدِّه، يَأتِيه الزَّبِيبُ مِن الطائِف فيَنبِذُه فيه حتَّى تُوُفِّي فكانت بِيَدِ وَلَدِه بَعدَهُ.

([12])  أي ما تَروَنهُ هَيِّنًا مِن السيّئات.

([13])  النّسِيءُ هو تأخيرُ تحريمِ شَهرٍ إلى ءاخَر، وذلك أنّ العرَب كانتْ تَعتقِد تعظيمَ الأشهُر الحُرُم، وكان عامّة مَعايشِهم في الجاهليّةِ مِن الصّيد والغارة فكان يَشُقّ عليهم الكَفُّ عن ذلك ثلاثةَ أشهُرٍ على التوالي، فكانوا يؤخِّرُون تحريمَ المحرَّم إلى صفَر فيُحرِّمُون صفَر ويستحِلُّون المحرَّم، وهكذا شهرًا بعد شَهر حتى استدارَ التّحرِيمُ على السَّنةِ كلها، قال تعالَى: ﱡﭐ     .

([14])  أي ليوافِقُوا مِن حيثُ العِدّةِ فقَط وهي الأربعةُ.

([15])  أي دارَ على التّرتيبِ الذي شاءَه اللهُ تعالى وأوجدَه.

([16])  أي وأنْ لا يُجلِسنَ على فرُشِكُم أحدًا تكرهونَه.

([17])  أي بإباحةِ اللهِ لَكُم ذلكَ بعَقدٍ.

([18])  أي ما أنزلَه اللهُ عزّ وجلّ: ﱡﭐ    ﱿ .

([19])  فتوح البُلدان، أحمد بن يحيى البَلاذريّ، (ص/109).

([20])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلانيّ، (11/139).

([21])  جَمهرة اللُّغة، أبو بكر بن دُرَيد، (1/474).

([22])  الرّحمنُ مِن أسماءِ الله الخاصّةِ، فلا يجوزُ أنْ يُسمَّى به غيرُ الله، نصَّ على ذلك غيرُ واحِدٍ مِن المتكلِّمين كالفخرِ الرّازيّ في «اللّوامِع» والشَّمس القُرطبيّ في «الأسنَى»، فمَن سمَّى غيرَ اللهِ رحمانًا أو الرَّحمنَ وهو يفهَمُ المعنَى فقد كفَرَ.

([23])  فتوح البُلدان، أحمد بن يحيى البَلاذريّ، (ص/111).

([24])  تهذيب الأسماء واللُّغات، محيي الدّين النّووي، (2/52).

([25])  قال الحافظ النّوويُّ «بُستان العارِفين» (ص/71): “يَحتمِلُ وجهَين: أحدُهما معناه لا أقبَلُ، الثاني أنّه على ظاهرِه وأنَّ الله تعالى سَدَّ مسامِعَه عن هذا الباطِل الشَّدِيد الفُحْشِ. وقد اقتَصَر بعضُ الأئِمّةِ على الاحتمالِ الأوَّلِ، والاحتمالُ الثّانِي عِندي أظهَرُ”.

([26])  أي نُجِّيَ مِن نارِ الظّالِم فلَم تُحْرِقْهُ ولا ثيابَه.

([27])  أي صَفِيِّه الّذي بلَغَ دَرجَة الخُلّةِ وهي الغايةُ في حُبِّ الله.

([28])  بُستان العارِفين، محيي الدّين النّووي، (ص/71).